التاريخ الإسلامي بين الخطابين الديني والسياسي

عيسى محمد الأنصاري

تشكل العودة إلى التاريخ منطلقا موضوعيا لرؤية الحاضر.
ولا يمكن للرؤية المنهجية أن تتجاهل الجوانب السلبية
والإيجابية للأحداث التاريخية, إذا كانت تريد أن تصل إلى عين الحقائق
التي تكمن خلف الظواهر والأحداث التاريخية. لو غادرنا ساحات النظرة الروحية للإسلام وسحر طاقاته الإنسانية الخلاقة, وحاولنا أن نتقدم لرؤية هذه الحضارة الإسلامية في ضوء المعايير التاريخية لتوجب علينا أن نقول: إن الوهج الأول للرسالة النبوية, بكل ما ينطوي عليه هذا الوهج التاريخي من قيم أصيلة, ومن ممارسات نبيلة وخلاقة هو الذي أطبق على الكون حكم الحضارة الإسلامية ومهد لانتشار الرسالة في قلوب البشر ومكنها من عقولهم

لقد تأصلت الأسرار الحقيقية لحضارة الإسلام في قيم السلام والمحبة والإخاء والمساواة, واستطاعت هذه القيم أن تجد من يتمرس بها, ومن يحققها ويجسدها بصورة عيانية واقعية, لا تقبل الشك والجدل. فعمر, وأبوبكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم والخليفة الراشدي الخامس عمر بن عبدالعزيز, جسدوا قيم الإسلام ومباديء الحق, لقد أدهشوا الأمم والشعوب بقدرتهم الهائلة على تمثل قيم الإسلام وتجسيد نظريته إلى واقع حقيقي, فانتشرت قيم العدل والتسامح والحرية والحق في أرجاء المعمورة

وإذا كانت العقيدة الإسلامية قد جاءت نموذجا حضاريا تسعى إليه الشعوب وتشد في طلبه الأمم وتناضل في أثره طلبا للحرية وللمساواة والعدالة الاجتماعية, فإن الحضارة العربية الإسلامية, قد ازدهرت مقاماتها على أساس هذه الخلفية التاريخية للممارسة الإسلامية الصادقة. وعندما بدأت الممارسة الحقيقية للقيم الإسلامية بالانحسار بدأت مرحلة التراجع الحضاري وعندما خبا وهج الممارسة الحقيقية لقيم الإسلام ولمباديء تشريعه العظيم سرعان ما بدأت مرحلة الانحسار التاريخي للوهج الحضاري الإسلام

غياب الحضارة

وما إن انتشرت المظالم الاجتماعية, وغابت قيم الشورى في الممارسة السياسية, وظهر الاستبداد السياسي, وغابت قيم العقل والاجتهاد, حتى تشتت طاقات المسلمين وبدأت شمس الحضارة العربية بالغروب, وانطلقت رحلة الظلام التي يؤرخ لها في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي, حيث ساد الظلم والقهر وتراجعت قيم الحب والسلام, التي نادى بها الإسلام.

فبدا أن التراجع الحضاري, والانحسار التاريخي للمد الثقافي الإنساني الإسلامي, قد ترافق بانحسار الحضور الحقيقي لحقوق الإنسان, التي تجسدت في القيم الإسلامية وفي مباديء الدين الحنيف. حيث حلت قيم الاستغلال والظلم والاستبداد والتعصب فغابت الحضارة لغياب الروح القيمية التي نادى بها الإسلام وعمل من أجلها نبي الإسلام وأفذاذ المسلمين وقادتهم.

بدأت شرارة حركة التراجع الحضاري منذ اللحظة التاريخية التي ثار فيها نفر من المسلمين على ولاية عثمان بن عفان رضي الله عنه, وتأججت نار الفتنة بمقتله فدارت رحى الحروب, وبدأ التاريخ الإسلامي يسجل المأساة تلو المأساة, والفاجعة بعد الفاجعة, ورغم هذه المحطات المأساوية في تاريخنا الإسلامي, نهض رجال عظماء أفذاذ حاولوا أن يعيدوا للرسالة الإسلامية وهجها وأن يعيدوا للعرب والمسلمين مفاخر وأمجاد العطاء الإسلامي والروح الإسلامية الخلاقة, مثل عمر بن عبدالعزيز, وهارون الرشيد, والأمين, والمأمون, والمعتصم, الذين حاولوا أن يعطوا دفعة حيوية للممارسات الإسلامية الصادقة.

وفي زحمة الصراع على السلطة ظهرت إلى الوجود فرق سياسية ودينية متنازعة فانتقل المسلمون من حالة التجانس المطلق, في الفكر والعقيدة والمذهب, إلى حالة التنوع والتعدد والاختلاف, ومن حال التوافق الكلي إلى حالة من الاصطراع في مختلف المجالات السياسية والمذهبية والدينية, حيث أهرقت دماء المسلمين, وأزهقت أرواحهم ظلما وعدوانا وقهرا. وبدأت الغيوم السوداء الكالحة تخيم بظلالها القاتمة على عالم المسلمين, حاجبة شمس الحضارة الإسلامية, مغيبة معاني الحرية والإخاء الإنسانية, فعاشت الأمم الإسلامية ولاسيما في العصر العباسي الثاني (عصر الضعف والقهر السياسي) حالة غياب كامل للقيم الحضارية وحقوق الإنسان التي وهبها الله للمسلمين والبشر. وبدأ الظلم يحل مكان العدل, والقهر مكان الرحمة, والتعصب مكان التسامح, وإزهاق الأرواح في كل مكان حصانتها. ويعلمنا التاريخ أن الحضارة تزدهر وتورق وتثمر كلما تأصلت قيم العدالة والحب وحقوق الإنسان ووجدت من يغدق عليها ماء الحياة ونور الشمس. فلا حضارة مع التعصب والجهل والظلم والتسلط وغياب الحرية, وهذا يعني أن حقوق الإنسان التي تتمثل في الحرية والديمقراطية والتسامح هي مقومات الوجود الحضاري لأي حضارة عرفها التاريخ الإنساني.

اغتيال العمالقة

لقد أثبت التاريخ أنه يمكن للإرادات الإنسانية الصادقة أن تأخذ دورا جوهريا في صنع الحضارة, وأن تحافظ على مقومات وجودها (حالة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) ولكن هذا التاريخ يؤكد أن المجتمعات الإنسانية تنطوي على قوى تاريخية واجتماعية, تسعى إلى ملذات الحياة الدنيا ومكاسبها, وتضحي بالمباديء والعقائد والقيم من أجل وضعية دنيوية تمتلك فيها القوة والمقدرة فتعيث في الأرض ظلما وجورا وفتكا. ولكم هي المفاجأة التاريخية أن ثلاثة من أهم عمالقة الفكر والقيادة في صدر الإسلام, ومن أكثرهم صدقا وحمية للخير ومباديء الإسلام, قد تعرضوا للاغتيال السياسي, سقط الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه (دعامة الإسلام) شهيدا, ويعتقد أغلب المحللين في التاريخ, أن عمر بن الخطاب ذهب ضحية مؤامرة سياسية طبقية خفية, يكمن أصلها في أنه أقام حق الله, ومنع الفساد ووقف في وجه طبقات أرستقراطية كانت تسعى إلى السلطة والقوة والحكم. لقد سجل في النزع الأخير من حياته, منظومة من الفعاليات والمقولات التي هددت مصالح شريحة من الفئات الاجتماعية الساعية إلى السلطة. واشتهر عنه قوله المأثور: (والله لو أنني استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضل أموالهم ورددته إلى الفقراء فلا يبقى هناك فقير أو غني). وهذه العبارة التاريخية كانت من أندر وأعظم المقولات في تاريخ الوجود الإنساني. والتي ألبت عليه أغنياء المسلمين وغير المسلمين الذين أرهبهم قول الفاروق رضي الله عنه. ويضاف إلى ذلك كله أنه كان صارما في حبه للعدالة والمساواة, وهذا بالطبع لم يرق لطبقة تجارية وعسكرية إسلامية طموح إلى المجد والسلطة والقوة.

وفي شخص علي بن أبي طالب الخليفة الرابع تتمثل مآسي الصراع بين الحق والباطل, بين إرادة الإسلام المتمثلة في طهارة الغاية وقيم الحب والخير والسلام, .. إرادة الحياة الدنيا المتمثلة في الظلم والفساد وزينة الحياة الدنيا, حيث حمل على تركة ثقيلة جدا, ودخل في سلسلة من الصراعات التاريخية المدمرة, صونا لحقوق المسلمين وحرياتهم, انتهت باغتياله, وباغتياله خرج المسلمون من دائرة الشرعية, التي تمثلت بالشورى والبيعة والحق, إلى دائرة الحكم العرفي الذي فرض بالقوة والدهاء. ولا يستطيع أحد أن يغض الطرف عن حمامات الدم, ومقاصل الموت, التي حصدت جموع المسلمين والمؤمنين, على مر المراحل التاريخية السابقة, وذلك في أتون حروب طاحنة من أجل السلطة, وحروب مذهبية, وحركات سياسية, أزهقت فيها أرواح المسلمين وأهدرت دماؤهم وسلبت حقوقهم وأهدرت إنسانيتهم.

قلنا إن إرادات الأفذاذ والعظماء, من رجال المسلمين, وعظمة إيمانهم بدين الإسلام, ووهج عبقريتهم التاريخية في إدراك المعاني السياسية والغايات الكبرى للوجود الإنساني, كلها أمور شكلت المنطلقات التاريخية التي نافحت عن قيم الإسلام والقوى التي رسخت مفاهيمه, والحصون التي عنيت بحماية مكاسبه التاريخية.

ولكن هذه المكاسب التاريخية للإسلام تبددت وتلاشت تدريجيا مع وصول قوى سياسية دنيوية متباينة بغاياتها وأصولها إلى سدة السلطة والحكم, وبدأت تقرر مصير الدولة والمسلمين, فعملت على توظيف العقيدة لخدمة مصالحها, بدلا من أن توظف وجودها لخدمة العقيدة أسوة بالسابقين من الخلفاء الراشدين.

وفي هذه المعادلة السياسية الجديدة, فقدت القيم الإسلامية جوهر أصالته (طبعا في مجال الممارسة), وتم تزييف كثير من مفاهيم وتصورات الإسلام لتنسجم مع مصالح الحكام وتعبر عنها وتجسد في الآن الواحد مصالح وأغراض طبقة اجتماعية سياسية وعسكرية رفعت مصلحتها فوق القيم وفوق كل عطاءات الإسلام الحقوقية والإنسانية.

وفي هذا التوجه الدنيوي تحولت العقيدة إلى خادم للسياسة (...) فحين يقول أبوجعفر المنصور عندما خاطب الناس بقوله: (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة, وعنكم زاده, نحكمكم بحق الله الذي أولانا, وسلطانه الذي أعطانا, وإنما أنا سلطان الله في أرضه, وحارسه على ماله, جعلني عليكم قفلا, إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وإن شاء يقفلني), فإن في هذا القول يتجسد مطلق الاستبداد السياسي والاجتماعي ويظهر ذلك بمقارنته بقول عمر رضي الله عنه (والله لو تعثرت ناقة في العراق لكنت مسئولا عنها) وهذا كلام يرى صاحبه في الحكم مسئولية مقدسة, وحملا ثقيلا, ورسالة تنوء تحت أثقالها الجبال حبا بالله والإسلام, بينما هي بالنسبة لأبي جعفر المنصور عطاء ونعمة من الله, ينعم بها على الحكام, ويدين لهم, عبر هذا العطاء, رقاب العباد وعطايا البلاد. وقد وحد الحكام بظلاماتهم من يشرع لهم ويبرر قبح أفعالهم, ويزين لهم بؤس أعمالهم. ومع سيادة تيار فقهاء السلطان وشعرائه طمست معالم حقوق الإنسان وغاب القبس الروحي الذي تمثل في الحقوق الكلية التي شرع لها الإسلام في قرآنه وفي سنته.

الإيمان والعزيمة

لنقارن من جديد بين مفهومين للسلطة أحدهما في صدر الإسلام والثاني في عهد معاوية ولننظر بإمعان إلى الكيفية التي انقلب فيها الخطاب الديني السياسي من خدمة العقيدة إلى خدمة السلطان. يقول عمر رضي الله عنه: (إن رأيتم اعوجاجا فقوموني. ما أنا إلا كأحدكم, فأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإحضاري النصيحة (الشورى) فيما ولاني الله من أمركم, ومنزلتي من مالكم كمنزلة ولي اليتيم من ماله). وأين هذا القول من قول أحد الخطباء المسلمين مشيرا إلى الخليفة معاوية: (إن هذا هو أمير المؤمنين فإن مات فهذا هو خليفته (مشيرا إلى يزيد), ومن تحدى فالحكم لهذا ـ مطوحا بسيفه ـ فهتف أتباع معاوية استحسانا, ومن ثم أومأ معاوية واعتبر هذا موافقة اجماعية أو بيعة. لقد تجمد العقل على قوالب صاغها فقهاء السلاطين وأصبحت فيما بعد كل محاولة للتحرر بدعة وبمثابة الخيانة العظمى التي تؤدي إلى القتل والبتر والتعذيب.

وتأسيسا على ما سبق يمكن القول إن مجرد الإرادات الطيبة والقلوب العامرة بالإيمان لم تكن كافية لحماية المكاسب الإسلامية بطابعها الروحي, الممثلة في حقوق الإنسان المتجسدة في قيم العدالة والمساواة والحرية والتسامح والكرامة.

وهذا يعني أن الأساس الديني الخالص ليس كافيا وحده لحماية المكاسب التاريخية لحقوق المسلمين التي تمثلت في كل القيم والمباديء النبيلة. فما يمكن أن يكرسه الإيمان يمكن أن ينزوي تحت تأثير همم فاترة وإيمان ضعيف أو حماس ديني ضعيف. وهذا ما حدث تاريخيا فلا نستطيع أن نقارن بين عهدين لخليفتين أمويين هما يزيد بن معاوية وعمر بن عبدالعزيز.

لقد نال الناس الشقاء في عهد الأول, بينما نعموا بأعظم عطاءات الإسلام في عهد الثاني. والسؤال هو كم خليفة اسلاميا كان في مستوى عدل عمر بن عبدالعزيز الذي يحلو لبعض المفكرين أن يطلقوا عليه تسمية الخليفة الخامس الراشدي تعبيرا عن مدى أصالته الإسلامية والتاريخية?

والسؤال الأكثر أهمية هو: هل يجب أن تترك الحقوق الإنسانية للإرادات الطيبة, والقلوب المفعمة بالإيمان? أم أنه يجب على المسلمين أن يبحثوا عن صيغة مؤسساتية وقانونية تجعل حقوق الإنسان في مأمن من الطغاة والقاهرين الذين يفترض وصولهم المحتمل دائما إلى سدة السلطة والحكم?

يؤكد بعض المفكرين العرب أن القرآن والسنة النبوية يشكلان دستورا لحقوق الإنسان, وهناك منظمات سياسية إسلامية ترفع شعارا قوامه أن القرآن الكريم هو دستور المسلمين. ومع ذلك فإن هذا ليس كافيا أبدا لكي تتم المحافظة على القيم, ولكي يتم العمل وفقا للدستور القدسي. فالقرآن لا يحقق نفسه بنفسه, والسنة لا تجد طريقها بنفسها إلى ساحات العمل, وكلاهما, السنة النبوية الشريفة والقرآن الكريم, يقتضيان سواعد المسلمين الصادقين القادرين على تجسيد هؤلاء الذين تتشبع قلوبهم بالإيمان, وتفيض إرادتهم بقوة النهوض الدائم, والذين يجب عليهم أن يكونوا في موقع المسئولية, لكي يتاح لهم أن يسهروا على تحقيق القيم الإنسانية الشاملة للإسلام سنة وقرآنا.

والسؤال: هل يجب أن تترك مقاليد الأمور للإرادات الطيبة والحكام في السهر على حقوق غالبا ما استلبت وتستلب من قبلهم?

(إن أبسط معرفة بالتاريخ الإسلامي بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم, وجزء قصير من تاريخ الخلفاء الراشدين, تؤكد أن دولة القانون, التي تشكل أساس حقوق الإنسان لم تتحقق بالفعل. فالنصوص المقدسة التي تفيض بقبسات نورانية من حقوق الإنسان لم تجد تاريخيا ضمانات تجسدها, والضمان الذي تقر به بعض الاتجاهات الدينية لهذه الحقوق, يدور في فلك الإيمان وتشعباته, وهذا يعني أن المجتمع الذي يختفي فيه الإيمان, أو يضعف يستطيع بسهولة أن يتنكر لحقوق الإنسان وبعبارة أخرى, فالمجتمع الذي تراعى فيه حقوق الإنسان هو ذلك الذي يخبو فيه, أصلا, وهج المصالح الدنيوية, وتتراجع فيه أطماع الحكام, وتنحسر شهوتهم إلى مزيد من القوة والسيطرة والمال.

ولو تتبعنا تاريخنا الإسلامي باحثين عن مجتمع الإيمان الخالص والمتجرد من الأطماع الدنيوية, لما وجدنا أثرا لهذا المجتمع وإن كان بعض الباحثين عن تحقيق حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي القديم يتلمسونها في بعض ممارسات الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبدالعزيز).

علما بأن العهد الراشدي برمته كما يؤكد التاريخ لم يخل من الصراعات الدامية والأطماع الدنيوية والممارسات المجافية لحقوق الإنسان. فالنصوص الدينية لا تحكم ذاتها بذاتها ولا تطبق نفسها بنفسها وإنما تحتاج إلى ممارسة البشر.

ويمكن القول إن الثقة الموضوعة في قواعد وقيود الإسلام وفي قدرته على فرض العدالة الإسلامية بواسطة قضاة ذوي (ضمائر حرة) ينسون أحيانا أن تعيينهم في وظائفهم كان نتيجة تسامح نفس الحكام الذين يمكن أن يكونوا موضع مساءلة هؤلاء القضاة على أعمالهم, ومن الصحيح أن تاريخ الإمبراطورية العثمانية يمتليء بأمثلة مدهشة لشيوخ الإسلام الذين كانوا يقفون في وجه السلطان, ولكن نفس هذا التاريخ يمتليء أيضا بأمثلة كانت الوظيفة الأساسية لهم هي صبغ الصفة الشرعية على الأفعال المخزية التي كان يقوم بها هؤلاء الحكام.

وإذا كان الباحث الإسلامي المؤمن يزهو اليوم ويفاخر بما جاء به الإسلام سنة وقرآنا من حقوق سامية للإنسان, فإن هذا يجب ألا ينسيه أبدا هذه المفارقات التي تقوم بين علياء النظرية الإسلامية لحقوق الإنسان والممارسة والتطبيق, ويجب أيضا ألا يتجاهل لحظات من التاريخ تعرض فيها المسلمون لمواسم التعذيب والقهر, كما يجب عليه أن ينظر ويرصد الواقع المعيش لما يعانيه الإنسان العربي الإسلامي المعاصر من قهر وتنكيل وظلم واغتراب, في ظل أنظمة شمولية تسعى إلى تبديد كل المحاولات التي تعمل على بناء حقوق فعلية للإنسان. فالممارسات المنافية لحقوق الإنسان تسطر حضورها في بعض المجتمعات العربية المعاصرة وجميعها يتنافى مع الحقائق القرآنية والسنن النبوية التي رسمها الإسلام. فأين هو الإنسان العربي المعاصر بين مقولة تكريم الإنسان كخليفة الله في أرضه وواقع القهر الذي يجلد فيه هذا الإنسان علنا لإبدائه رأيا يخالف فيه رأي السلطان? وهل يمكن هنا للنصوص الدينية أن توقف هذا المد السرطاني لانتهاكات حقوق الإنسان الجارية على قدم وساق في البلدان العربية والإسلامية? وإذا كانت هذه الانتهاكات قد دونت في كتب وفصول في تقارير المنظمات الدولية التي تتابع وضعية حقوق الإنسان?

لقد فقد الإنسان العربي الإحساس بحقوقه تحت تأثير هزيمة داخلية شاملة أفرزتها مراحل تاريخية مديدة من الشقاء الإنساني والممارسات التي تتنافى مع مباديء الحق والوجود. فالقمع المستمر الذي شهده تاريخنا العربي الإسلامي استطاع أن يجرد الإنسان من القدرة على الإحساس بقيمته كإنسان يمتلك حقوقا تاريخية في الوجود الإنساني المتحرر من كل أشكال الظلم والاضطهاد. ولأنه لم يعد قادرا على المطالبة بحقوقه إزاء هذا المد التاريخي البائس فإنه يلتمس في النص القدسي ما يعوضه هذا الإحساس الشامل بالهزيمة التاريخية.

يميز محمد عمارة بين ميراثين فيما يتعلق بالشورى: ميراث أصيل يتصف بالغنى ويجعل من الشورى فلسفة للحكم والحياة والسلوك, وهو ميراث قد عرف طريقه إلى التطبيق في الفترات الزاهرة في تاريخنا الإسلامي هذا من جهة, أما الميراث الثاني فهو الميراث الذي استبدل الفردية والاستبداد بالشورى.. فسادت فيه مقولات (الشرعية لمن غلب)! و(الإمامة ـ في السياسة والصلاة ـ لمن تغلب).. و(ما على الرعية إلا أن تشكر الحاكم إذا عدل, وتصبر عليه إن هو جار وظلم). وفي هذا السياق يبين عمارة أن هذه الآراء التي جاءت ثمرة لواقع تاريخي استثنائي تنسب إلى أئمة وفقهاء مثل أحمد بن حنبل وغيره

لقد تميز عصر الازدهار الحضاري بانتشار الاجتهاد والاستنباط العقلي الهادف إلى معالجة الواقع المتغير في ضوء النصوص الشرعية الثابتة بأهدافها وغاياتها أما في عصر التخلف الحضاري فقد تراجع نشاط العقل وانحسرت سلطته وشاع التقليد وحل الجدل مكان المناظرات العلمية الحرة, وضعف التسامح بين المجتهدين, وانقسم الكثير من العرب والمسلمين إلى طوائف وفرق شتى.

المصدر:http://www.thakafamag.com/index.php?option=com_content&view=article&id=4...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك