الدين بين الجمالية والحرفية

أشرف الجمَّــــال

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وسلم

ستظل معرفة الله وفهمه والقرب منه هو أهم ما يطمح إليه الإنسان في هذا العالم سواء وقفت هذه المعرفة وهذا السعي الدءوب للعقل الإنساني من الإلوهية موقف الإثبات أم موقف النفي فأيًا ما كانت نتيجة التجربة فسيظل الله هو الحضور الأقوى في التجربة العرفانية للإنسان عبر عصوره وهو أهم القضايا التي شغلت العقل الجمعي للنوع البشري وتموهت بتجليات الروح وطبيعة الطرح الواقعي والمجتمعي والتاريخي لهذا العقل في ظل الدوائر التي تحكم هذه الجدلية الدائمة بين الأنا والآخر والظاهر والباطن والعقل والمادة والفكرة والحدس إن فكرة الإلوهية كانت الأطروحة الأكثر تداولاً في العقل الإنساني والشاغل الأكبر لكل روح تستلهم الغيب الحاضر والكامن في غيهبها وفي نداءات تجلياتها وإلهاماتها الفطرية والعميقة فهذا التساؤل والنداء الخفي للروح حنينًا موجهًا نحو أنا عليا تتسم بالكمال والرحمة والحب والقدرة ويمنحها الاستتار غموضها وسحرها الأخاذ وتنوع ونسبية التعرف إليها دفع العقل ليبحث عن مصدر هذا النداء إذ أن من طبيعة العقل البحث عن تفسير وتأويل يصوغ به التجربة الروحية والشعور القلبي صياغة منطقية تسمح بفهم التجربة وتعقلها وإثرائها ونقلها للآخر وهذا بدوره يمد التجربة بمصداقية وقدرة على إعلان ذاتها فينعكس ذلك في الواقع الداخلي للفرد وعالم الباطن فكرًا وفنًا فلسفة أو قصيدة، وفي العالم المعيش نظامًا وقانونًا أخلاقيًا يحكم العلاقات ويؤطر لها ويمنهجها مستمدًا صحتها بطيف من إشارات النقل وتصديق العقل وجماليات الروح وأي دين مهما بلغت حجته لدى معتنقيه يتهاوى منطقيًا أو شعوريًا داخل الجماعة أو باطن الفرد إذا ما فقد أحد أركان هذه المعادلة صحة النقل تصديق العقل جماليات الروح وبتجل آخر للمعادلة الله الإنسان فردية التجربة والذوق ، إذ يمثل النص الإلهي سندًا ومرجعًا يستلهم منه العقل منظومة معرفته ومصداقية استنتاجه وإطارًا عامًا للبحث عن الحقيقة يحول بين التجربة وأن تكون عدمية أو وهمًا أو كدحًا عبثيًا يضني بغير فائدة أو التباسًا بهوى
ويمثل الإنسان الغاية التي جاء من أجلها النص فالنص المقدس إنما جاء وجاءت الأديان من أجل أن يسموا بإنسانية الإنسان ليتخلق بأخلاق الله ليكون إلهيًا وليس إلهًا يحاكم ويصادر ويقتص ويقمع وليصبح صورة مصغرة للكمال والرقي المتناهي الذي يظل انعكاسًا لمرآة اللا متناهي وإذا كان اللا متناهي جميل يحب الجمال وإذا كان سوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فسيبقى دائمًا وأبدًا الجمال والحب هما محورا العلاقة بين المطلق والنسبي فالجمال يعطي للأشياء طعمًا تعتنقه الروح فيصبح العالم المنتسخ في مذاق حكمتها جزءًا من تكوينها يمنحها رحابة هذا العالم وتنوعه وثراءه وقبول اختلافاته المذهبية والجنسية والدينية ويمدها بقوة تستطيع أن تصل المرئي باللا مرئي إذ الروح هي البرزخ الجامع بين البشرية والإلهية وهي تستند لأدلة خاصة قد لا تتوفر للعقل الذي يعقل ولا يتذوق وإذا كان العقل قادرًا على إثبات الشيء ونقيضه فلا يمكن إثبات القدرة على الوصول ليقين تقر به الأعين وإن تم ادعاء غير هذه الحقيقة وتصور يقين عقلي اطمأنت إليه الفرق والمذاهب الدينية واللا دينية وممثلوها فإنه يترتب على ذلك اليقين المزعوم رفض الآخر وأحيانًا احتقاره وقمعه أما الروح فإنها تدرك وتتفهم لكن بأدلة ذوقية والذوق حاسم في تفريقه بين الفاسد والصالح والحلو والمر والعذب والملح الأجاج لكن مع هذا الحسم تفترض خصوصيتها ولا تنكر على الأرواح المغايرة حقها في أن تستعذب المالح أو تستحلي المر والذوق ليس مفهومًا ساذجًا يعني تمثلاً سطحيًا للمعاني الوجودية للأشياء وإنما هو مفهوم إبستمولوجي تتموج فيه الفكرة والحدس والإلهام ويتداخل به خيال الواقع وواقع الخيال
أما الحب فهو الوحيد القادر على إسقاط التكليف والمشقة بين المكلََّف والمكلِّف وهو الذي يطوي الأزمنة والأمكنة ويختزل لغات النجوى بين العاشق والمعشوق ويمتط اللحظة لتصير ساعة والساعة لتصبح يومًا واليوم ليكون عمرًا وهذا ما يهب المعنى عند المحبين خلودًا والعشاق العشاق وحدهم هم من يقهرون غمرات الموت بسكرات العشق فلا يعدو الموت عندهم كونه انتقالاً وسفرًا من وإلى وهم وحدهم من يملكون لغة التواصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب لأن لهم لغة أخرى غير التي يتكلمها سائر البشر وهم وحدهم أيضًا من يقرأون في سطور الكلم المقدس السويداء والمهجة لا الرسوم والحروف فالمحب يعرف متى تكون لاء المحبوب نعم ومتى تكون نعمه لا ولا ينكرون على سواهم ومن هنا يمكن أن نتذوق وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا والنظر للقاعدة الفقهية القائلة إنما جعلت الحدود زواجر ، أما الذين لا يعرفون الحب فإنهم ينظرون للسطور بأعين باصرة وقلوب كفيفة فتنعكس ظلمة أفئدتهم على العالم حاكمية مظلمة وعوضًا عن أن يكون الحسن ظالمًا يكون الظلم حسنًا
الجمال والحب نزل به على قلبك إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ما كذب الفؤاد ما رأى أم لهم قلوب لا يفقهون بها ولماذا القلب ؟ لأنه موطن الحب والجمال وبغير الجمال والحب تنتفي الغاية والأصل الذي جاءت من أجلهما الأديان وأنزلت الكتب السماوية على قلوب الأنبياء فبدلاً من أن يكون الإنسان هو غاية النص ومطلوبه فنلمح لمَ لم تحرم الخمر إلا بعد أعوام وأعوام من نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ولم جعلت الضرورات تبيح المحظورات ولم تنتفي الحدود بالشبهات ولم استمع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد لـ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول وهي التي استهلت معانيها بشكوى الهجر والعشق وأروع ما قيل في جمال الأنثى ولم لم يرجم زان إبان العصر النبوي إلا باعترافه وإصراره ولم لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الطرف الثاني الذي شارك المخطئ خطيئته ولم قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق من اقترفا الخطيئة هلا سترتهما كل ذلك ما حدث ولم يحدث إلا لمراعاة النص للإنسان وبشرية الإنسان

أقول بدلاً من أن يكون الإنسان هو غاية النص ومطلوبه سيصبح النص هو غاية الإنسان وقد يؤدي ذلك الفهم المعكوس إلى سحق الإنسان من أجل النص ويصبح التدين إما انكفاء على طبيعة الفرد ومحوًا لها وإما انسلاخًا وهروبًا مكبوتًا لهذه الطبيعة وتعاليًا على الواقع والفطرة والمطالب الروحية والعقلية والجسدية للفرد ومن ثم ولهذا السبب تحديدًا تتحول الأديان لعبء يكرس الخوف من العقاب والجحيم والخضوع بالنظر إلى السلطة والقدرة المطلقتين للا متناهي بعيدًا وبعيدًا جدًا عن إدراك الجمال والحب والرحمة الذي يفيض بها الله وحدد لها الشروط التي تقتضيها علاقة الإنسان به قوم يحبهم ويحبونه وفي ظل هذا المناخ القائم على الخوف والرهبة تنحرف الأديان عن مسارها الذي يتوخى حرية التدين باعتباره حالة حب عميقة وأخلاقية بين الإنسان وخالقه فتتلوى النصوص المقدسة عبر التفسير الحرفي الأصولي لتدعم ثقافة الخوف والعقل إذ يرتعد يسهل عليه تبني ما لا يصدقه والتسليم المطلق لما لا يفهم أو يدرك حتى وإن كان مناقضًا لقوانينه فيندحر التدين الصادق الذي يعكس يقين الذوق الروحي والإيمان العقلاني لصالح التدين الشكلاني الذي يعكس انضباط الخارج وفوضى وتناقض الداخل وتشتت الضمير المعرفي والذوقي للفرد الإنسان ويفقد الخطاب الديني فعاليته في تدشين الوعي الإنساني الجمالي رغم التركيز على مفهومي الحرام والحلال والتذكير بالوعد والوعيد ورغم الإعلان الظاهري لتدين المجتمع بينما الباطن منه يضمر الظلم الطبقي والرشوة والسرقة والخيانة والقتل والفحش والكراهية وذلك لغياب مفهومي الجمال والحب في الفعل الإنساني الذي يملي على الضمير عدم فعل هذا لأنه قبيح وليس جميلاً أو لأنه يخلو من الرحمة والحب حتى وإن كان نفعيًا أو برجماتيًا في الوقت الذي نتهم فيه شعوبًا بلغت حدًا من الإبداع وخلق مناخ من الحرية ينال فيه أفرادها على اختلاف عقائدهم كرامتهم الإنسانية غير منتقصة وحظًا وافرًا من العدالة والتحقق والحياة الكريمة بالانحلال واللادينية فيما هم أكثر اتساقًا مع بشريتهم والتعبير عن أفكارهم بشفافية تعكس توافق الظاهر مع الباطن
أيضًا يمكننا أن ندرك تحت ظلال هذه الأطروحة لماذا تجتمع العقول والقلوب على اختلاف أديانها وأفكارها على كراهية الإرهاب الذي يتذرع بجهادية تزعم إعلاء راية الحق وتعاليم الرب وينعكس ذلك بأثره من محيط الفرد إلى واقع الجماعة التي هي في حقيقتها مجموعة أفراد فيتحول النص الذي هو بالأساس حوار بين الله والإنسان ورسالة تعارف بين العبد والرب إلى سلطة مطلقة تتخطى تنوع الطبيعة الإنسانية واختلاف الزمان والمكان وتتعالى على التاريخ وإشكالات الذات التي تطمح إلى الأمن والحرية والإبداع حتى وإن كان إبداعًا داخل الدائرة التي أقرت الشرائع حرية الحركة فيها فالخوف واللامعقولية وسلخ الوجه الجمالي للدين تدفع هذه النوعية من معتنقيه لتبني مواقف دفاعية مرتعدة ومضطربة تفتقر للدليل والحجة وتستند إلى غيرة هوجاء تزايد على حرية الآخر في أن يفهم ربه كما يحس ويشعر ويعقل ويزداد الأمر كارثية بأن يتحول هذا المنزع الدفاعي إلى سلوك يتجلى في المصادرة على حرية الفكر والنظر لكل قراءة جديدة للمقدس على أنه بدعة ومعاقبة أي خروج عن الفهم الحرفي الأصولي للنصوص بالحبس أو التكفير بل والقتل في كثير من الأحيان فيصبح الإنسان ضحية النص وأقصد بالحقيقة ضحية هذا الفهم العقيم والعدواني المجرد من الحب والجمال للنص
ومن ثم يمكننا أن نفهم لم تتصارع الجماعات وتتنازع وتتناحر وتتقاتل لتشتت وتفرق وتثير الإحن والضغائن والكراهية والحروب من أجل النص بينما النص بريء من هذا وهو الذي جاء ليجمع ويؤلف ويفتح الأفق أمام التأمل بحرية وحب وأمن حافظًا للمرء دينه وعقله وعرضه وماله فالنص جاء من أجل الإنسان وللإنسان وبلغة الإنسان التي تفهم وتدرك وفق النظام اللغوي الكامن في عقل الإنسان والملتبس بتجليات روحه وشعور قلبه وإلهامات حدسه فيتم المصادرة لدى أصحاب هذه النزعة الحرفية السلطوية وفق قراءتها التي تدعي يقينية الفهم وثبات الدلالة والمعنى المتغير بتغير الواقع والذات وفعل القراءة وتاريخ القراءة والظروف التي أنتجتها أقول يتم المصادرة وفقًا لهذا النظرة ليس على النص وحده وإنما على مفهوم الربوبية وكأن الله هو رب هؤلاء فقط وهم أحق الناس بفهمه والدفاع عن قداسته وحاشا للعلي القدير أن يحتاج من يدافع عنه أو أن يضن بكرم معرفته وهداه إلا على فئة دون فئة فالله رب الجميع وهو الجمال الفياض الملهم كل روح وعقل وقلب ومن حق كل إنسان أن يناجيه ويتعرف إليه بما يراه هو أقرب الطرق لمعرفته وبما يمن عليه هو من تجل يختلف من إنسان لإنسان فالمدد الإلهي لا ينقطع أبدًا ولا ينتهي بنهاية نبي أو ولي أو عابد كُلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا وإن انقطع المدد الإلهي فمعنى هذا أنه ليس على الأرض إنسان يستحق أن يعرف الله أو أن يمن الله عليه بمعرفته وهذا بدوره يعني نهاية العالم الإنسان وانتفاء الغاية أو انتهاءها وزوال الجمال والحب والرحمة بلا رجعة إذ انقطع المستقبل عن إمداد الأصل والمصدر ولا يمكن لهذا المدد أن ينقطع لأن ذلك يتنافى مع مفهوم العدل الإلهي، فإذا كانت النبوة حضورًا ميزة اختص بها أهل عصرها لوجود المرشد الهادي فما ذنب العصور التي خلت من هذا الحضور ؟ ومن ثم فلا ضمانة متاحة لاستمرار الحوار بين الله والإنسان تأويلاً أو بحثًا أو تجليًا إلا في تدفق هذا المدد بلا انقطاع الذي يتيح عبر تأويل المقدس أو التفاعل معه حركة الحياة والتواصل المدعوم بحرية الاجتهاد والإبداع والاستقلالية
ومن هنا فإن الرسول هو القدوة التي تجسد المطلوب الإلهي والمطلوب البشري حيث إنما أنا بشر إنساني وحيث يوحى إليَّ إلهي فوجه من الرسالة إلى الحق ووجه آخر للخلق وبين الوجهين تتجلى الذات الإنسانية المرهفة بين ما هو إلهي وما هو بشري عبر وسيط التجربة المعيشة ورهان الواقع المتغير فيتحقق المطلق من خلال النسبي دون إغفال لطبيعته النسبية ويتحقق النسبي من خلال المطلق دون محو أو سحق تحقق اتصال ووصال دون إغفال للمبادئ العريضة التي يتوخاها المطلق الذي هو بالأساس قصد النسبي مجيئًا وتنزيلاً واستحضارًا من أجل مساعدته وسعادته يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله إنما يريد الله بكم اليسر
إن فهمًا كهذا خليق بأن يعيد النظرة في طبيعة التأويل للكلم المقدس باعتباره الحوارية الخلاقة بين الله والإنسان الأصل والفرع الصورة والمثال تلك الحوارية القائمة على الحب والجمال والرحمة، حيث المصدر الإلهي لقاء المتلقي الإنساني كل منهما يضفي على الآخر من تجلياته فالمقدس منطوقًا ومكتوبًا يلهم الروح والعقل فكرًا ومشاعر وخيالاً مجسدًا الحقائق كقيم شعورية جمالية قابلة للتذوق وكمعارف إيحائية معقولة غير تقريرية وتقنينية مادية لا تسمح بحرية الفهم واختلاف التأويل لأن الله لا يخاطب في الإنسان العقل وحده الذي يستمد من المنطق والقياس والتجربة أدواته ويقيناته وإنما يخاطب فيه أيضًا القلب والروح ما كذب الفؤاد ما رأى يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي نعم فالروح لا تحتاج لوسيط وإنما من أراد علمها فليذهب إلى ربه وصالاً وحبًا لأنها عنديته وفي هذا يظل الأفق الروحي بين الله والإنسان مفتوحًا والعلم به ثريًا متنوعًا باختلاف طالبيه واستعداداتهم وإذا صح أن المعنى العقلي يمكن الاتفاق عليه وهو ما لم يصح إلا مقاربة في الكليات الإيمانية الكبرى كالاعتراف بوجود الله وصدق النبوات والعالم الآخر وفي الإطار العام للمقاصد العامة للشريعة من ابتغاء العدل والخير والفضيلة فإن المعاني القلبية والروحية من المستحيل تصور أنها ستؤدي لدى كل من يتمثلها ويمتثلها إلى حقيقة وحيدة لأن الروح إطلاقية وخاصة وملتبسة بالهوية الفردية والحقيقة الوجودية لأحادية الذات
وربما لهذا الافتراض الوجودي لم يقم المبلغ الرسول بوضع تأويل أو تفسير جازم لمحتوى رسالته مكتفيًا بإيضاح كلياتها وأهدافها العامة التي تنتظم تنوع الذوات البشرية واختلاف مدارج الفهم والتلقي وربما لهذا أيضًا تنوع الخطاب المقدس بين الترغيب والترهيب متأرجحًا بين الجمال والجلال مراعاة لخصوصية الروح المتلقية والتي منها ما لا يستوي على عرشها إلا جمال الجمال ومنها ما لا يخضع إلا لجلال الجمال وليس من الضروري ولا من العلمية ولا من الرحمة إلزام الإنسانية في عمومها دائرة استواء واحدة قد تقبلها سجايا وقد تأباها أخرى وفي هذا الصدد نظل في حاجة لدراسة مفصلة بالنظر إلى التباس النص بالواقع لإدراك طبيعة دائرتي الاستواء هاتين والتي أدت إلى مواجهات اضطرارية تفرضها الجدلية المادية للتاريخ على الأرض وعلى الروح الإنسانية معًا وإن كانت مغلفة بغاية جمالية كبرى تبتغي إقرار الجمال الإلهي معرفة وتعبدًا في شغاف المتلقي النسبي إلا أنه يظل أمرًا مؤرقًا ومحيرًا يحتاج لجهد جهيد لإدراك الخيط الرفيع الذي يفصل بين ضرورة الجمال وجلال الضرورة ، فقد تملي الضرورة التاريخية إلزامية تصادمية الجمال والجلال خاصة إذا تخندق الجمال مضطرًا كرد فعل دفاعي حرصًا على بقاء القيمة وحفظًا لحياتها إذا ما تعرضت للزوال أو القمع أو الحصار ليكون ذلك بمثابة اختبار عصيب للقيمة الجمالية التي هي مطالبة تناقضيًا بالحفاظ على جماليتها والتأكيد عليها عبر صور الرحمة والمسالمة والتسامح وفي الوقت ذاته بالتسلح لاكتساب القدرة على رد العدوان وتهديد وجودها ولا سيما في بؤر الحرب التي تنتج خسارة روحية فادحة على كل المستويات لكن انتصار الجمال مصحوبًا بالحرص على سمو الهدف والغاية والشرط والمبدأ تحت وطأة آليات الضرورة مع خروجه بأكبر قدر من جماليات قيمه رغم كل الظروف المؤهلة لنسفها نسفًا يمكن أن يكون بوجه من الوجوه انتصارًا للمعنى وللإنسان ولم تخل الأديان جميعها بل وكثير من الفلسفات الكبرى من هكذا مواجهات اضطرارية ليصبح الخيط الواهي غير الملاحظ بين الدفع و الدفاعية جرحًا ينكأ الضمير ويخدش نقاء المفهوم ويختصم من رصيد القيمة التي تنطوي عليها رسالتها بالرغم من إمكان تسويغه وفق منطق الضرورة وحتمياتها التي تفرض أحيانًا التضحية الموجعة ببتر القدم المعطوبة حفظًا لحياة الجسد كله وإن كانت الأمنية بأنه لو لم نكن مضطرين للتضحية ستظل صرخة في حنايا الروح وفي أروقة الضمير يخايلنا صداها
وإلى جانب تحديد مفهومي الرسول والرسالة تجدر الملاحظة هنا أن القرآن ككتاب مقدس لم يفصح عن ذاته تحديًا ماديًا أو علميًا أو تاريخيًا أو تشريعيًا أو بلاغيًا فحسب في تصوري لأن ذلك قد لا يكون بوجه من الوجوه ملزمًا إلا لمن يتحدث العربية وإنما أعلن خصوصيته كتحد جمالي نسقي يراهن على تجلياته الجمالية في الروح والقلب والعقل في ديمومة التأمل والجدلية الحميمة بين الذات والموضوع وهو فعل جمالي ممتد لا ينقطع بانقطاع العصر أو الرسول المبلغ باعتباره التجربة الفردية الأعمق والأوفر حظًا واجتهادًا وشفافية واتصالاً ناصعًا بمصدر الجمال والحب ومن ثم الأكثر خصوصية لفهم محتوى التجربة ونقل حقائقها من المطلق إلى النسبي إنما على رسولنا البلاغ من الحق إلى الخلق يرسم الغاية ويعبد الطريق إليها دون أن يفرض أو يلزم أي طرائق التواصل ينبغي للسالك أن يسلك محددًا الأهداف العامة والمبادئ العريضة التي يتوخاها الخالق في خلقه من قيم الحب والجمال والخير والرحمة والتسامح والعدل والمساواة دون أن يلزم طريقة أو كيفية تحقق هذه المبادئ في الواقع المعيش لاختلاف صور الواقع وأعراضه باختلاف الزمان والمكان واختلاف الطباع الإنسانية من فرد لآخر ودون إكراه أو جبر لأنه لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ولكن أنى لفعل الإيمان الحب أن يكون إنزالاً فوقيًا وقد أريد له أن يكون شراكة وحوارًا يصقلهما البحث والمناجاة والإخلاص والتفكر ومواجهة العالم بالتساؤل وآلاف من صور الوحي والإلهام ألحانًا وقصائد وأنغام قدسية تأتي من محاريب الأفئدة معاني إنسانية ومشاعر متدفقة تواقة بالحنين وترحالاً للعقل والروح بين الله والطبيعة والناس ذكرًا وأنثى أمومة وأبوة وبنوة حبيبا وحبيبة فالحب يتشخص مذهبيًا في العلاقات الإنسانية انتقالاً من المحسوس إلى المجرد صعودًا نحو معرفة المطلق ومن المجرد إلى المحسوس فيضًا إلهيًا منزلاً على القلب المؤمن ينعكس تبادلاً في عالم المحسوسات ليشمل أطياف الخلق على اختلافهم وليشمل الحيوان والنبات ومفردات الطبيعة فتتأصل في الفرد نزعة جمالية تعيد صياغة الأحكام والقيم وتشكل طبيعة الوعي وطبيعة التأمل والنظر إلى الأشياء فينصبغ بها الفكر والذوق لينتج العقل معطياته محض خير ورحمة تمتد لتستغرق حقائق الوجود من الجزئي إلى الكلي ومن الخاص إلى العام ومن التلقي إلى التأويل فتتجلى وحدة الشعور التي تمزج حب المطلق الغيبي في النسبي الشهودي وصولاً إلى شهود الفناء أو فناء الشهود فلا يمكن أن نتصور في قلب اجتماع حب الله وكراهية خلقه ومن ثم يكون للإيمان المؤنسن معنى السعي والبحث والتضحية العاشقة للفهم وليس مجرد تكريس لوراثات تفض معنى الحوار بين الإنسان وربه
ويرتبط بهذا الفهم أن الإيمان بالمطلق هو في معناه الجوهر مدى استلهام وتمثل النسبي له وحجم المساحة الروحية والفكرية والشعورية التي يستغرقها الله من كيان الفرد وهو استغراق جمالي محض قد تترجمه الروح تمثلاً للعالم أو فكرًا أو سلوكًا أخلاقيًا ويقره العقل اعتقادًا قابلاً للجزم أو للحيرة والتساؤل بلا نهاية ويقره اللسان شهادة بصدق الرسالة والرسول وهو هنا شهود وشهادة وقد يكون الإيمان شهودًا فقط يومئ بوجود حلقة مفقودة بين الروح والعقل والإنسان والعالم تحول دون التئام شطري المفهوم الإيماني وهو ما يندرج تحته ملايين من البشر وعلى رأسهم كثير من المفكرين والفلاسفة والخواص الذين يسعون بإخلاص وصدق وشفافية لمعرفة الله ويملكون الدوافع ذاتها للرغبة في الخلاص لكن تعوز أرواحهم الأدلة وتحار عقولهم في خضم الحقائق الملتبسة بتناقضات العالم والنسبية وضيق العمر وعدم سطوع التجلي على مرآة وجودهم وكذلك ينطبق هذا على كثير من العوام والبسطاء الذين يحول بينهم وبين المعرفة ظروف كالجهل والساذجية والكدح خلف الرزق والمرض والفقر المدقع حيث يلعب الظرف المكاني والأنثربولوجي والاجتماعي على طمس ذواتهم الخاصة لتتلون وفق ثقافة القطيع وبناء على ما تقدم أستطيع أن أتصور أن الإيمان هنا هو حالة وجودية وفعل قلبي وتمثل روحي وليس فعلاً شكلانيًا مصحوبًا باعتراف لساني، وإنما هو أشبه ما يكون بحالة حب وصدق مع الذات والآخر وتساؤل وجودي ربما أدى في النهاية لإجابة الحقيقة
وتداخل مفهوم الجمال وتبادله في حوارية النسبي والمطلق هو ما يفسر من زاوية معنى الجبر والاختيار فحيثما سطع تجلي المطلق كان حضوره أقوى وأمضى وهو حضور الجمال المثالي الذي يتوخى الخيرية المحضة وحيثما كان تجلي النسبي ظاهرًا برز حضوره إلى السطح لكنه حضور الجمال غير المثالي فتتشكل الصورة النسبية بفعل المحاكاة للمثال غير منفلتة من تأثرها بلا نهائية الجمال المصدر دون أن يمحو ذلك خصوصيتها في محيط المثال الذي يتيح الحرية النسبية كشرط من شروط حقيقته لأن الجبر المطلق يتعارض ومفهوم الجمال كسمة جوهرية من حقائق الإطلاق ومن ثم فإن وجود الشر في العالم يرتبط ديناميًا بتلك الجدلية بين الحضورين إذ تحاول الصورة التعالي على طبيعتها ومنازعة المثال أو استقطاب صلاحياته الحاكمية المهيمنة فتسيء توظيفها على مستوى الذات ومستوى الجماعة لتشمل الأنواع الأخرى من الكائنات لأنها لا تفهم من الحاكمية إلا سلطتها وجلالها بينما تتجاهل عمدًا أو عجزًا جوهرها الجمالي المطلق والذي هي مطالبة بتلمس سريانه في كل المخلوقات لنسبتها للمصدر مما ينتج جروحًا عميقة في جسد العدالة أو شروخًا مؤلمة في بنية المجتمع وقد يتدخل المثال لإعادة تشكيل القيمة في موقف ما أو فترة ما أو شخص معين أو جماعة محددة وقد لا يتدخل موكلاً الأمر لتراكمية القانون السببي والإرادة الفردية والجمعية لأن تعيد ترتيب ذاتها ومناقشة مواقفها وإنتاج القيمة مرة أخرى إعلاء لشأن التجربة الوجودية للإنسان ونفيًا للجبرية واحترامًا لقانون الاجتهاد البشري وهو ما يشكل فعل الحضارة في العالم وفاعلية دور الإنسان واكتسابه قيمة ومقامًا صانعًا تاريخ المعنى ورقي الصورة مع توفر شرط التعويض الإلهي لضحايا التجربة والجزاء للمخطئين بها وهو لا يعدو كونه تعويضًا وجزاء جماليين في كنهه لا يخرج عن حقيقة استواء المطلق على عرش النسبي بالرحمة الرحمن على العرش استوى .

ويؤسس على ذلك الفهم تصور قد يبدو مناقضًا ظاهرًا إلا أنه متوافق باطنًا فالشريعة في بعدها الجماعي تراعي وضع نظام عام يتفق عليه جميع الأفراد وهذا النظام كي يكون ممكنًا تحققه وتطبيقه يراعي المشترك الجمعي لاختلاف الذوات المفردة وتنوع هوياتها وهو ما ينتج عنه النظام الإلزامي في كلياته التصورية والأخلاقية والمعاملاتية بيد أن لهذا النظام معيش آخر وهو العالم الباطن للفرد حيث يتماهى المشترك الجمعي الإلزامي مع الخاص الوجودي الفردي فيأخذ تجليات أخرى بالغة الذاتية والخصوصية في المفرد الأخلاقي والتصوري معًا يسمح بلمح زاوية إنسانية هامة تتماس مع دوائر الحل والتحريم فما يعده المشترك الجمعي حرامًا مثلاً قد يقره الباطن الفردي وقد يكسبه تحت ظرف جمالي ما وتجل معين صفة الحل وما تعده شراكة المجموع حلالاً قد لا يقبله الباطن الفردي مدعمًا بقيم جمالية تشكل له ضميرًا خاصًا لا يحله له وإن سمح به للمجموع ولم ينكره عليه ولنا في موسى والخضر مثال وإن كان بعيدًا لكنه يومئ بخصوصية تجلي الباطن الفردي ومفارقته نسبيًا للمشترك الجمعي والفعل الداخل في دائرة الجمعية يتولى القانون الأخلاقي العادل الإنساني والتشريعي الحساب عليه أما فعل الباطن الفردي فلا ينبغي ولا يمكن أن يحاسب عليه إلا الله لأنه الوحيد القادر على الإحاطة بفهم الظروف والتجليات التي استولت على الفرد في إنتاجه للقيمة والمعنى تصورًا أو فعلاً بل ولا أبالغ إذا قلت إنه ربما كان الفرد نفسه جاهلاً أو غير عارف بالكلية طبيعة هذه الظروف التي تحكمها مشاعر وأفكار ووراثات وخبرات روحية واستلهامات متداخلة غير جلية ديناميًا إذا صح هذا فإنه لا يمكننا أبدًا أن ندعي كيف يكون الحساب الإلهي ولمن سيكون الثواب ولمن العقاب والمتدين الحقيقي هو من يدخل هذا الحوار المفتوح بينه وبين الله محترمًا لقانون الشريعة الجمعي حرًا بقانون الباطن الفردي فلا تنسحق التجربة الدينية العرفانية الذاتية تحت سندان المعاني الحرفية التقريرية لثقافة الإلزام والتي أراها ضرورة لحفظ النظام ولا يمكن الاستغناء عنها بشرط حسن توظيفها لتضيف للفرد وتؤكده لا لتسلبه ذاته وإنسانيته وتسحل حريته التعبدية والإبداعية والتسامحية واحترامه لمن خالفه دينًا أو مذهبًا فإنه إذا تم تقييد حرية الباطن الفردي فقد الدين كثيرًا من معناه بطمس مفهوم الجمال والحب المتحقق من خلال جدلية الأنا والآخر قربًا وبعدًا هجرًا ووصالاً سؤالاً وجوابًا في معارج السلوك وإذا تم هذا التقييد فلا شك أن الدين بقصد أو بغير قصد يتحول إلى دولة وكان ذلك إرهاصًا بأفول شمسه في قلوب معتنقيه لأن الدين حي في حوار الإنسان مع الله والدولة لا محالة زائلة في جدل الظرف التاريخي وتبدل الواقع والوقائع .

المصدر:http://www.gocp.gov.eg/Thkafa/newsd.aspx?NewsId=517

الأكثر مشاركة في الفيس بوك