السياسة الإسرائيلية تجاه الثورات العربية: سورية نموذجاً

   
   

أمجــد أحمــد جبـــريل

 
   

بعد مرور أكثر من عامين على بداية الربيع العربي الذي انطلق أواخر 2010، باتت إسرائيل تستشعر قلقاً كبيراً من انعكاسات هذا التغيير في المحيط العربي على مستقبل وجودها في المنطقة، وإذا كان صحيحاً أنها ترى في كل الثورات العربية خطراً محتملاً على المدى البعيد، فإنها تتخوّف من الثورتين السورية والمصرية بخاصة، كونهما الأقرب جغرافياً إليها، والأكثر تأثيراً عليها.

بيد أن ثمة عوامل متداخلة جعلت الأزمة السورية تمثل حالة مختلفة عن الثورات العربية الأخرى في تداعياتها الإستراتيجية والأمنية على إسرائيل، ومنها: الموقع الإستراتيجي لسورية بالنسبة لدول الشام الأخرى، واستمرار الجولان تحت الاحتلال لأكثر من أربعة عقود، مما يجعلها قضية ملتهبة وجاهزة للتوظيف من أي نظام جديد يخلف الأسد، وبروز دور أساسي للجماعات الجهادية في مقارعة نظام الأسد، وطول مدة الثورة السورية مقارنة بالحالات العربية الأخرى، والتشابكات الإقليمية لدمشق مع طهران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، مما يجعل التغيير في سورية مدخلاً لتداعيات أكبر على محور "المقاومة"، علماً بأن حزب الله كان مؤثراً طيلة العقدين الماضيين على الأمن الإسرائيلي، فهو حجر الزاوية في الطريقة الإيرانية-السورية لإزعاج إسرائيل.

ليس غريباً في هذا السياق أن تُطرح التساؤلات عن حقيقة السياسة والدور الإسرائيلييْن في خضم هذا التغيير العربي؛ فهل سيؤدي ذلك إلى تغيير في السياسة الإسرائيلية الإقليمية أم أنها ستحافظ على ثوابتها المعروفة؟ وهل ستكتفي تل أبيب بالمراقبة عن بُعد؟ أم ستحاول أن تعيد توجيه المشهد العربي الجديد نحو وضع لا يشكّل خطراً أمنياً أو إستراتيجياً عليها؟ أم ستجتهد للجمع بين هاتين السياستين، أي التزام دور المراقب غالباً، ودور المتدخل أحياناً من وراء الستار؟ وما هي الأدوات المختلفة التي ستستخدمها لبلوغ أهدافها؟ وما موقع الأداة العسكرية منها؟.

إن هذه التساؤلات توجب العناية بثلاث ملاحظات منهجية في رصد جديد السياسة الخارجية الإسرائيلية في مرحلة الثورات العربية؛ أولها قلة الكتابات العربية في هذا الصدد، بما يتناقض مع خطورة دور الفاعل الإسرائيلي في التأثير على حرف الثورات العربية عن مسارها. وثانيها غلبة منطق أن "إسرائيل تخسر كثيراً ولا تربح شيئاً (ولو آنياً) من الربيع العربي"، في حين أن واقع المراحل الانتقالية في دول الثورات العربية، وفي الوطن العربي إجمالاً، قد ينطوي على فرص لإسرائيل أيضاً، خصوصاً أن الدبلوماسية الإسرائيلية عُرفت بقدرتها على استثمار الأزمات الإقليمية والدولية، وعملت مراراً على تصدير أزماتها الداخلية إلى خصومها. وثالثها أهمية الربط بين السياسة الإسرائيلية وطبيعة السياسات الدولية تجاه ثورات الربيع العربي والمنطقة العربية عموماً ورغم أن ثمة خلافات جزئية بين هذين المستويين، فإن الروابط قائمة على المستويات الكلية.

أولاً- سياسة الفاعل الإسرائيلي في التأثير على الثورات العربية

أبرز عدد من الدراسات العربية – بحق - أوجه الخسارة التي تلحق بإسرائيل نتيجة الثورات العربية، ومنها:

1- تزايد العزلة الإقليمية لإسرائيل سواء بسبب خسارة علاقتها مع مصر الرسمية، بعدما خسرت سابقاً كلاً من إيران (1979)، وتركيا (2009-2010)، أو بسبب المسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة (2011-2012)، أو بسبب احتمالات اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة تفضح الوجه العنصري لدولة الاحتلال وتشعر إسرائيل بالقلق بشأن كيفية الإبقاء على المستوطنات في الضفة الغربية، وكيفية منع إيران من الحصول على سلاح نووي.(1)

2- لم يعد بإمكان إسرائيل التصرف بحرية للحفاظ على سياسات الاحتلال لأجل غير مسمى، فظهور القوى الشعبية في أي دولة عربية يضمن التحوّل إلى سياسات عربية أكثر تشدداً ضد إسرائيل التي تمنع الفلسطينيين من نيل حريتهم.(2)

3- إبراز التحديات التي تواجه إسرائيل في البيئة الأمنية الإقليمية الجديدة، ومنها: سقوط أنظمة حكم صديقة لإسرائيل وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وتزايد احتمالات سيطرة نظم حكم ذات توجهات إسلامية معادية لإسرائيل، وتحوّل ميزان القوة والنفوذ في المنطقة لصالح دول غير عربية، وتراجع نفوذ الولايات المتحدة على نظم الحكم الجديدة في المنطقة، وتزايد احتمالات تحوّل بعض دول المنطقة إلى دول فاشلة.(3)

بيد أن هذه الدراسات على أهميتها، أهملت خطورة ما يمكن أن تفعله إسرائيل في المديين القريب والمتوسط لعرقلة هذه الانعكاسات الخطيرة على أمنها ودورها ومكانتها في المنطقة والنظام الدولي؛ فالأمر المؤكد أن إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين إزاء هذا الواقع الجديد؛ إذ اعتادت منذ نشأتها على مواجهة كثير من التحديات المتعلّقة بالعداء العربي والإقليمي لها، وكانت تتغلّب عليها بالدعم الأمريكي-الأوروبي، وإعادة تقديم نفسها بوصفها المدافع المخلص عن مصالح القوى الدولية النافذة في المنطقة.

 ولذا فإن السياسة الإسرائيلية (وهي تواجه واقعاً عربياً/إقليمياً جديداً) لا تبدأ عملها من الصفر، وإنما تستند إلى نموذج للتعامل الدولي أفلح في مرات سابقة في التغلب على التحديات بسبب تمتعه بخصائص عديدة منها: التخطيط طويل الأجل، والتحديد الدقيق للأهداف، والثبات على الأهداف الإستراتيجية ومرونة الوسائل والتكتيكات، والمأسسة، والقدرة اللافتة على بناء التحالفات الخارجية دولياً وإقليمياً، وتوزيع أدوات تنفيذ السياسة الخارجية وتنويعها، والمرحلية والتدرّج ومراكمة المكاسب والإنجازات، وتعدد أدوات التعامل مع المواقف المختلفة (الدبلوماسية، الضغط الاقتصادي، استخدام الإكراه النفسي عبر الإعلام والحرب النفسية والتسميم السياسي، توظيف المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية .. الخ).(4)

ومع التحديات التي تفرضها الثورات العربية على إسرائيل، قد يبرز تقييمان مختلفان؛ أحدهما أن حالة الارتباك التي تعيشها أقطار الوطن العربي في ظل الثورات العربية، قد تدفع إلى مرحلة من انعدام الوزن أو التخبط العربي، وهنا يشير البعض إلى أن إسرائيل لم تشعر منذ تأسيسها قبل 65 عاماً بهذا الارتخاء في التهديدات المفترضة لأمنها، بل إن هناك من يرى أن الكيان الإسرائيلي لن يواجه مخاطر جديّة خلال العقدين المقبلين.(5)

وفي مثل هذه الحالة قد تكتفي إسرائيل بمراقبة تطورات المنطقة وثوراتها، دون أن تتدخل بشكل مباشر، بناءً على أن هذه الثورات تضعف من قوة الكيانات العربية المركزية، وتجبرها على الانكفاء الداخلي والتراجع عن أي مواقف عدائية لإسرائيل. ولا يكون على دولة الاحتلال في هذه الحالة إلا حراسة حدودها بقوتها الذاتية، ثم العمل لإفشال أي محاولات لتشكيل محاور إقليمية لعزل إسرائيل (مثل اتصالات قادة مصر وتركيا وقطر أثناء حرب غزة 2012، أو محاولات تدعيم العلاقات المصرية-الإيرانية.. الخ). وذلك عبر تقوية العلاقات الإسرائيلية مع اليونان وبلغاريا وقبرص وأذربيجان وروسيا، ودعم التحركات الانفصالية للأكراد في تركيا.(6)

أما التقييم الآخر فهو يصل بإسرائيل إلى السيناريو الأسوأ أو سيناريو الكابوس، الذي يمكن مواجهته عبر اعتمادها على قدراتها العسكرية المتطوّرة للردع والرد العنيف على أي استهداف لها أو لحدودها.

وفي مثل هذه الحالة تتحوّل السياسة الإسرائيلية إلى مستويات من الهجوم والضغط على الخصوم عبر استخدام محدود أو موسّع لأدوات "الدبلوماسية الإكراهية"(7)، وذلك بالتوازي مع العمل لاستعادة الردع عبر خمس آليات: حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وإعادة النظر في تنظيم الجيش الإسرائيلي وتسليحه، ومراجعة العقيدة العسكرية مع تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي، وتصاعد التركيز الإسرائيلي على الحرب الناعمة بدفع قدرات الخصم للتآكل والتشتت، والعمل على الخروج التدريجي من سياسة الغموض النووي.(8)

وبعيداً عن هذين التقييمين، فإن المهم في هذا السياق هو أن إسرائيل تسعى بعد الثورات العربية لإعادة الاعتبار لفكرة تماهيها مع الغرب وأنها أفضل حليف يضمن مصالحه في المنطقة(9) وقد حدث هذا في أغلب الأزمات الإقليمية والدولية السابقة، وأهمها أحداث 11 سبتمبر 2001، التي جرى التركيز فيها على أن إسرائيل تتعرض للإرهاب (أي الانتفاضات الفلسطينية) تماماً مثل الولايات المتحدة، بسبب انتماء إسرائيل إلى المنظومة الغربية وقيم الحرية والديمقراطية التي يرفضها العرب.(10)

السؤال الآن، في ضوء ما هو معروف عن الدور الوظيفي لإسرائيل في السياسات الدولية تجاه المنطقة العربية، كيف تتعامل إسرائيل مع الثورة السورية، وهل يكفي دور المراقب؟

ثانياً- إسرائيل والثورة السورية

أشرنا آنفاً إلى أن الأزمة السورية تمثل إشكالية حقيقية أمام إسرائيل؛ إذ لا يمكنها تجنّب تداعياتها الإقليمية من جهة، كما يصعب عليها التدخل فيها بشكل علني أو سافر، لأن ذلك قد يؤثر على السياسات الدولية تجاه الثورة السورية. وهكذا تقع السياسة الإسرائيلية بين مأزقين؛ إتباع سياسة انتظار حتى تتبلور المواقف الدولية، أو محاولة التأثير منفردة على الوضع السوري قبل أن يتشكل واقع جديد يؤثر سلبياً على المصالح الإسرائيلية، خصوصاً في مسائل أمن الحدود مع سورية، ونمو نفوذ الجماعات الجهادية هناك، ونقل أسلحة متطورة إلى حزب الله، واحتمال إعادة بناء المحور السوري – الإيراني بصورة جديدة (كأن تتحالف طهران مع دولة علوية على شاطئ المتوسط).

وباستثناء سيناريو بقاء الأسد ونظامه، وهو احتمال ضعيف جداً، فإن كافة المشاهد الأخرى المتوقعة لحلّ الأزمة السورية تصب في غير صالح إسرائيل، مما يزيد من مضاعفات تأثير الربيع العربي في الدور والأمن الإسرائيلييْن، ويمكن أن يقلّل مستقبلاً من التعويل الأمريكي والغربي على الدور الإسرائيلي في إدارة تفاعلات المنطقة برمتها.(11)

ورغم أن بعض المسئولين الإسرائيليين دعوا إلى موقف دولي متشدد من نظام الأسد، إلا أن "النخبة الإسرائيلية منقسمة حول الموقف الأكثر ملائمة لإسرائيل، هل سيكون بسقوط نظام الأسد أم بقائه؟ وبينما يقر اتجاه من الساسة الإسرائيليين (ومنهم إفرايم سينيه نائب وزير الدفاع السابق) بأنه صحيح أن الأسد يدعم حزب الله وحركة حماس، إلا أنه لم يحاول استعادة الجولان، بل حافظ على هدوء الحدود مع إسرائيل. إلا أن اتجاهاً ثانياً (يمثله مئير داجان رئيس الموساد السابق) يعتقد أن مصلحة إسرائيل تكمن في سقوط الأسد ونظامه لقطع طريق الإمدادات عن حزب الله، وكسر المحور الإيراني-السوري. في حين يرى اتجاه ثالث (يمثله ألون لئيل مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية السابق وأحد الباحثين في الشؤون العربية) أنه بغض النظر عن النتائج التي قد تسفر عنها الثورات العربية، فإن إسرائيل ستواجه عزلة شديدة في المنطقة في السنوات المقبلة، بسبب أن الحكومات الجديدة المنتظر تشكيلها في مصر وسورية والأردن لن تجرؤ على إقامة علاقات صداقة مع إسرائيل، بغض النظر عن ميولها الأيديولوجية. والتقدير الإسرائيلي النهائي أن الوضع في سورية لا يمكن التنبؤ بمساراته المستقبلية، التي تحمل فرصاً ومخاطر بالنسبة لإسرائيل، سواء بالنسبة لأمن حدودها مع سورية، أو التأثيرات الإقليمية المترتبة على هذه المسارات، أو المحاور الإقليمية المحتمل تشكيلها في المنطقة لاحقاً، والتي ستكون خطرة على إسرائيل".(12)

هذه الأزمة السورية بأبعادها المتداخلة على الصعيدين الإقليمي والدولي، دفعت إسرائيل إلى اعتماد سياسة الحذر والحيطة في التعامل معها، مع مطالبة الحليف الأمريكي بأن يدير التطورات العربية، وأن يعيد تفعيل دوره في المنطقة لامتلاك زمام الأمور، في مواجهة تصاعد نفوذ تيارات الإسلام الجهادي. والفرضية الضمنية هنا أن هذا النفوذ يهدّد المصالح الأمريكية والغربية بقدر تهديده للأمن الإسرائيلي.

وحتى منتصف عام 2012، يمكن القول إن الكيان الإسرائيلي اكتفى بالفعل بدور المراقِب للتطورات السورية، وحاول التأثير فيها أساساً عبر الأداة الدبلوماسية والتواصل مع مختلف القوى الدولية، بما في ذلك روسيا التي زارها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مارس 2011. وكان هدف الزيارة إقناع الروس بعدم تزويد الأسد بصواريخ مضادة للسفن مخافة أن تصل إلى حزب الله اللبناني، لكن الطلب الإسرائيلي تم رفضه.(13)

وفي الوقت ذاته ساندت إسرائيل عبر اتصالاتها الدبلوماسية مع الدول الغربية خيار إطالة الأزمة السورية وعرقلة تسليح المعارضة السورية، مع تكرار إطلاق تصريحات إسرائيلية تحذيرية حول مصير الأسلحة الكيماوية ومنصات الصواريخ بعيدة المدى ومضادات الطيران، حتى لا تقع في أيدي قوى تصعب السيطرة عليها، مما أثّر كثيراً على الموقف الأمريكي، وبعض المواقف الأوروبية أيضاً.

 إلا أن بروز البعد الجهادي (وجبهة النصرة تحديداً) في المشهد دفع إسرائيل للتدخل بأدوات أخرى مثل الزج بعناصر استخبارية في سورية، وتوجيه ضربة عسكرية إسرائيلية خاطفة في الغارة على جمرايا شمال غربي دمشق 30/1/2013. الأمر الذي قرأ فيه المحللون بداية مرحلة جديدة من الصراع على سورية، واحتمالات لتوسيع الأمر باستهداف لبنان وحزب الله بحرب جديدة.

وبهذا المعنى قد توسّع إسرائيل من ضرباتها الجوية الموضعية على سورية تحت أسباب معينة، ومنها: منع نقل أسلحة كيماوية إلى حزب الله،(14) أو الشعور بالحاجة إلى تأكيد أحقية إسرائيل في المساهمة في رسم المشهد الإقليمي القادم،(15) أو أن تقوم بتوجيه رسائل لأطراف الصراع الداخلي السوري من النظام والمعارضة والجماعات الجهادية، حتى تبعد الأخطار الأمنية عن المناطق المجاورة مباشرة للحدود الإسرائيلية والجولان المحتل، خصوصاً مع وجود ضوء أخضر أمريكي وروسي للضربات الإسرائيلية الموضعية.(16)

وبناء على هذا كله، يمكن القول إن السياسة الإسرائيلية ستركز في المرحلة الراهنة على: الحفاظ على أمن إسرائيل، وتوزيع الأدوار وتقاسم العمل بين واشنطن وتل أبيب إزاء السلاح التقليدي وغير التقليدي السوري والإيراني، وعودة نتنياهو إلى السلطة عبر تضخيم المخاطر الأمنية المحيطة ببلاده وتصدير أزماته الداخلية إلى الجيران أو الإقليم، وإبقاء إسرائيل فاعلاً أساسياً في المعادلة الإقليمية حتى في ظل الثورات العربية، التي تؤكد بالنسبة للأمريكيين والإسرائيليين على أهمية تجديد تحالفهما العضوي كما ظهر في مناسبتين على الأقل؛ إحداهما خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي في مايو 2011، والأخرى زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإسرائيل ربيع 2013، خاصة أن بعض الرؤى الإسرائيلية ترى أن مآل الثورات العربية هو التحوّل إلى حروب أهلية ومزيد من التفكيك والانقسامات في الدول العربية.

والواقع أن زيارة أوباما لإسرائيل في 20 و21 مارس 2013 أكدت مدى محورية الأمن الإسرائيلي بالنسبة للسياسة الأمريكية، وأظهرت تراجعه عن فكرة الضغط على إسرائيل بشأن وقف الاستيطان، وارتداده الكامل عن وعوده في خطابه في جامعة القاهرة يونيو 2009.

أما بالنسبة للموضوعين السوري والإيراني، فقد تردد أن أوباما توافق مع المسئولين الإسرائيليين حول موضوع الحدود الآمنة في حال انهار النظام السوري فجأة، وأشار إلى أن استخدام "الأسد السلاح الكيماوي سيغيّر قواعد اللعبة".(17) وطالب أوباما بعدم توجيه تهديدات إسرائيلية ضد إيران قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية (يونيو 2013)، ودعا الإسرائيليين إلى الانتظار حتى أكتوبر 2013 قبل إعادة النظر بالخيار العسكري ضد إيران.(18)

 ولاشك أن زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ثم وزير الدفاع تشاك هاغل إلى إسرائيل ربيع 2013 حملت رسائل أمريكية إضافية للمنطقة؛ إذ شدد الأخير على تقاسم البلدين مصالح وقيماً مشتركة في ثلاثة ملفات هي: أمن إسرائيل، محاربة الإرهاب، ومنع الانتشار النووي في المنطقة (وخصوصاً إيران)، فضلاً عن دعم واشنطن لمنظومة القبة الحديدية بقيمة 600 مليون دولار.

 وهذا يؤكد أن إدارة أوباما باتت تركز على دائرتين مصلحيتيْن؛ دائرة إسرائيل ودائرة النفط، و"محاولة جعل كل دائرة تنتج إمكانيات بقائها واستمرارها ذاتياً، أو عبر أقل قدر من التدخل الأمريكي، وبهذا تتحوّل قضية إيران إلى مجرد ملف يتم اختزاله في برنامجها النووي ومدى تأثيره في أمن دائرتي إسرائيل والنفط، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من تأثير حزب الله في لبنان أو الإخوان المسلمين في مصر. وبنفس المنطق لا تمثل الأزمة السورية حرجاً لإدارة أوباما مادامت لم تؤثر بشكل حاد على الأمن الإسرائيلي، ومادامت تستنزف الخصمين الروسي والإيراني وتشغلهما عن تطوير الملفات المؤذية لواشنطن، وهذا الأمر يأتي في إطار ترشيد الموارد الأمريكية، حيث يُستنزف الخصوم بدون أدنى تكاليف أو نفقات".

إن هذا التأني الأمريكي في معالجة الأزمة السورية يكشف أن أوباما مهتم بالدرجة الأولى بالحيلولة دون وقوع الأسلحة الكيماوية السورية في أيدي الجماعات الجهادية، ومنع استخدامها ضد إسرائيل. فهو لا يريد أن يتكرر السيناريو الليبي، أي تتحول سورية إلى دولة فاشلة، وتشكل منطقة جذب للمتشددين المسلمين من مختلف أنحاء العالم، وتتحول إلى قاعدة لمحاربة إسرائيل.(19)

وبناءً على كل ما تقدم، وفي سياق السلوك الإسرائيلي المحتمل ضد الثورات العربية يُتوقع أن تحاول "إسرائيل وحلفاؤها استغلال حالة الاضطراب الناشئة عن الثورات العربية، والاحتكاكات بين الشعوب وأنظمتها الجديدة، ثم استغلال الاجتهادات المتعددة ضمن مكونات الثورة وعناصرها، لحرف مسارات التغيير عن وجهتها الحقيقية، عبر إثارة العداوات والنعرة العرقية والطائفية، بشكل يؤدي إلى مزيد من التفتيت والانقسام في المنطقة العربية. وقد كتب المحلل الإسرائيلي ألوف بن (هآرتس 25/3/2011) أن الثورات العربية ستعيد صياغة المنطقة، وأن الوضع يبشر بنهاية الحدود والترتيبات الناشئة عن اتفاقية سايكس – بيكو، على اعتبار أن هذه الاتفاقية لم تمزّق المشرق العربي بما فيه الكفاية، وأن السنوات المقبلة ستشهد دولاً جديدة. وتوقّع ألوف بن انفصال إمارات الخليج عن اتحاد دولة الإمارات، وتقسيم السعودية وسورية وليبيا والسودان واليمن، وظهور دولة كردستان، وانفصال الصحراء الغربية. وأكد أن هذا الانقسام سيسهّل الأمر على إسرائيل".(20)

ولذا فإن إسرائيل وحلفاءها الغربيين يريدون تطبيق مفهوم جديد للأمن القومي الإسرائيلي يمتد من فلسطين حتى إيران بحيث تخلو هذه المساحة من أي قدرة صاروخية على استهداف إسرائيل أو القوات الأمر



(1) بول سالم، مستقبل النظام العربي والمواقف الإقليمية والدولية من الثورة، المستقبل العربي، العدد 398، أبريل 2012، ص154-155، وص161.

(2) ماجد كيالي، بعد الثورات العربية: إسرائيل في مواجهة تغيّرات إستراتيجية في محيطها، شؤون عربية، العدد 149، ربيع 2012، ص77.

(3) عماد جاد، التقييم الإسرائيلي للأوضاع في المنطقة، شؤون عربية، العدد 152، شتاء 2012، ص92- 99.

(4) محمد خالد الأزعر، الحركة الصهيونية .. خبرة التعامل الدولي، مجلة البحوث والدراسات العربية، العدد 28، ديسمبر 1997، ص53-56.

(5) عبد الوهاب بدرخان، هل أخلّت الثورات العربية بتوازنات القوى في المنطقة؟ شؤون عربية، العدد 150، صيف 2012، ص23.

(6) سعيد عكاشة، المراقب: إسرائيل في مواجهة الواقع الجديد في الشرق الأوسط، السياسة الدولية، العدد 185، يوليو 2011، ص73. ولمزيد من التفاصيل راجع: أحمد دياب، محاور الاستقطاب وملامح التحالفات في شرق المتوسط، شؤون عربية، العدد 152، شتاء 2012،  ص142-160.

(7) حول هذا المفهوم راجع: عدنان البكري، الوجه الإكراهي للدبلوماسية: تجربة إسرائيل في مواجهة العرب، المستقبل العربي، العدد 53، يوليو 1983، ص18-28.

(8) أمين محمد حطيط، انهيار الردع الإسرائيلي، سلسلة أوراق عربية (20)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، فبراير 2012، ص25- 32.

(9) د. محمد السعيد إدريس، اتجاهات معاكسة: مواقف الفاعلين الإقليميين غير العرب تجاه الثورات العربية، السياسة الدولية، العدد 188، أبريل 2012، ص 79.

(10) ماجد كيالي، قراءة تحليلية في توظيف الإعلام الإسرائيلي للحدث الأمريكي، شؤون عربية، العدد 108، ديسمبر 2001، ص45-54. ولمزيد من التفاصيل حول سياسة إسرائيل بعد 11/9/2001 انظر: أميرة أبو سمرة، "إسرائيل: إستراتيجية ناجحة في توظيف الأزمة وتداعياتها"، في: أمتي في العالم: حولية قضايا العالم الإسلامي، ج 1، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2003، ص305-374.

(11) علاء سالم، إسرائيل والمسألة السورية .. إشكاليات الدور والمصلحة، السياسة الدولية، العدد 190، أكتوبر 2012، ص77.

(12) سعيد عكاشة، مرجع سابق، ص72- 73.

(13) Janine Zacharia, Israel, long critical of Assad, may prefer he stay after all, Washington post, 29 March 2011.

(14) Joel Greenberg and Babak Dehghanpisheh, Israeli strike in Syria might be first in series, Washington post, Feb 9, 2013.

(15) عبد الوهاب بدرخان، تقسيم سورية: هدف يجمع إيران وإسرائيل، الحياة 31/1/2013.

(16) هدى الحسيني، أميركا سلمت مفاتيح الأزمة السورية إلى الروس!، الشرق الأوسط 21/2/2013.

(17) أوباما: الكيماوي في سورية يغير اللعبة، الحياة 21/3/2013.

(18) سليم نصار، أوباما يدشن "دولة اليهود" من عاصمتها القدس!، الحياة 23/3/2013.

(19) رأي القدس، أوباما والتحديان الإيراني والسوري، القدس العربي 21/3/2013.

(20) محسن محمد صالح، السلوك الإسرائيلي تجاه الثورات العربية، شؤون الأوسط، العدد 138، ربيع 2011، ص45-46.

المصدر: http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=30a965e0-8f21-4db9-bb...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك