النَبِيُّ مُحَمَّدُ(ص) شَخْصِيَّةٌ مُشّتَرَكَةٌ بَيّنَ الإِسّلاَمِيّينَ وَالعِلّمَانِيّينْ

والبحث في تلك البنى، هلّ توجد محددات فكريّة، تحول دون التّواصل بيّن الخطيّن الإسلامي والعلماني؟. وهلّ توجد مشتركات بيّن الطرفيّن، يمكن توظيفها لصالح مجتمعنا؟. وهلّ تَعَصُّب كُلّ طرف إزاء الطّرف الآخر، أدى إلى إصابة جميع الأطراف المعنيّة، بحالة من العمى المؤقت، فأضحى كلّ طرف لا يَرى الطّرف الآخر في السّاحة؟. أو أنْ يراه بصورة العدوّ، الذي يريد تدميره والقضاء عليه؟. هلّ المشتركات بيّن الإسلاميّين والعلمانيّين، معدومة بالقدر الذي يعجز الطرفان، من التّعاون لتقديم الخيّر والسعادة للمجتمع؟.   

إنّ الوصولَ لتحقيقِ أهدافٍ نبيلة، مبنيّة على أُسسِ المُسَاواةِ والعدلِ والحقِّ، لِتَعُمَّ جميع شرائح المجتمع، فتُلبي متطلباته الروحية والماديّة، أمْرٌ لا يتحققّ، (حسب المنظور الإسلامي)،  إلاّ بوجود مُرْسَلْ من الله تعالى. و(حسب المنظور العلماني)، إلاّ بوجود مصلح أو قائد، يناضل مِنْ أجْل تحقيق تلك الأهداف.

لنَبْدأ البَحثّ عن نقطة محدّدة، تشكّل مرجعيّة فكريّة وحضارية وثقافيّة، يُجمع عليها الطرفيّن. وبتصوري لا أجد مرجعيّةً مشتركةً، تقعُ ضمن دائرة الإجماع المطلوب، أفضل من النَبي محمّد(ص). فهو الرَسُول من وجهة نظر الاسلاميّين، وهو القائد المُصّلح والمُنقذّ، مِنْ وِجهة نَظَر العلمانيّين. فالنَبي(ص) ناضل من أجل الدّفاع، عنْ حُقوق الكادحين، وحقوق المرأة والطّفل، وحتى حقوق الحيّوان والمحافظة على البيئة أيضاً.

فهذه الشَخصِيّة الرّسَاليّة (إسلامياً) / القياديّة (علمانياً)، استطاعت أنْ تُدير كلّ الملابسات الاجتماعيّة القديمة. بافرازاتها المريضة والشاذّة، والهمجيّة المنافية لأصل الفطرة الآدميّة السليّمة. وكانت إدارة تلك الشَخصِيّة حكيمة، لأنّها مدعومة بالتّسديد الإلهي(حسب تعبير الاسلاميّين). و(حسب وصّف العلمانيّين)، أنّها شخصيّة عبقريّة براغماتيّة (واقعيّة). لقدّ نجَحت هذه الشخصيّة، باستخدام أضعف أدوات المجتمع، (الفقراء والعبيد) لصنع حضارة أثَّرَتْ إيجابياً، بالحضارات الإنسانيّة الأخرى، التي سَبقتها في العالم. عنّدما أقول ذلك، ليّس انعاكساً لنظرة ثيوقراطيّة، تتمحّوَر حول نمط عقائدي معيّن. وإنّما هي قِراءة علميّة لمسار تاريخي، لمرحلة انتشار الإسلام، ومقارنَتُها بالفترة التاريخيّة، التي كانت تعيشها البشريّة آنذاك.

فكانَتْ حَركَةُ النّبي الإصلاحيّة، بمثابَةِ نَهضَةٍ مِنْ نمطٍ خَاصّ. هذه النّهضة تحرّكتْ في المجتمع الجّاهلي، بطريقَةٍ عَقلانيّةٍ سَلميّةٍ مُتَّئِدَةٍ. تُحرِّكُ جَماهِيرَها مِنَ المَظلوميّنَ والمُسّتضعفيّنَ والمَحروميّنَ، باتجاهِ تحريّرِ ذَواتِهم وعَتّقِها، مِنْ أسْرِ أفكارِ الجاهليّةِ، والإنقلابِ عليّها أيضاً. نَجح محمّد(ص) النبي/ المصلح، بإقناعِ جمَاهيرهِ الشعبيّةِ، (فقراء، عبيد، فلاحين، رعاة ماشية، أرباب حرف سائدة). وحسَبْ المُصّطَلحات الحديثة، فهذا النّوع مِنَ الجَماهير يُطّلق عليها(البروليتاريا الرَثّة)، (الطبقة المغلوب على أمرها، وهي ساكنة لا تحاول ممارسة العمل الثوري، على عَكْسِ البروليتاريا الثوريّة).

استطاعَ هذا الإنسان المُنقذّ، اقناع جماهيره بأنَّ العقيدة الإسلاميّة، تَطلب منّهم التَحرّر مِنَ الخَوّف حيّثما كانَ مصدره، سوى الله تعالى. فالإنسان خلقه الله حرّاً، ولكنَّ البَشر أخذوا يستعبدون بعضهم لبعضّ. كما أراد الله تعالى مِنَ البَشَر، التّحَرر مِنْ كلّ الإرادات، سوى إرادته سُبحانَه. فكانَتْ هذه المبادئ، أمضى الأسلِحَةِ بيَدِّ الرّسول(ص)، لتدّميرِ الإستكّبارِ وكَسّرِ هيّمَنَةِ الظُلْمِ والتَّعَسُفِ الجَاهلي.

كانَ النّمط الطبقي الإجتماعي، السَائد في الجزيرة العربيّة، وَبقيّة أصقاع العالم الأخرى، لا يَختلفُ بعضه عن البعض الآخر كثيراً.

فكانَتْ أوربا بحدودها القديمة، تعيش فترة القرون المُظلمَة. وهذه الفترة كانَتْ متأثرة شيئاً مّا، بمرحلَةٍ تاريخيّةٍ سَابقةٍ لها، هي مرحلة اللاهوت البدائيّة. التي تؤمن بالسّحر والشعوذة، وتأثير الأرواح والكواكب، على حياة الإنسان، وتَنظُر للمرأة نظرةً دونيّة، لا يمكن مساواتها بالرجل. صحيح أنّ المسيحيّة ديانة سماويّة، موجودة قبل الإسلام، لكنْ رجالَ الدّين في هذه الدّيانة، تمّ توظيفهم ليكونوا تَبَعاً لإرادة السلطة الحاكمة. فشكّلوا مؤسّسات تَتَكلّم، بإسم الدّين وحتى بإسم الرّبْ، لتؤسّس سلطة داعمة لهيّمنة الملك.

وهي لا تعارضُ استعبادَ الإنسانِ واسترقاقهِ. مثّلما كانَتْ تَسكتُ عَنْ تَراكم رأس المال، عنّدَ التّكوينات الطبقيّة، وهي الإقطاعيّة الزراعيّة، والطبقة الاحتكاريّة التجاريّة، التي تَجمع ثرواتها، عن طريق استغلال جهود الطبقات الأخرى، بطريقةٍ تشبَهُ البرجوازيّة الصناعيّة. وظلّت هذه الأفكار سائدة بصرامة، في المجتمع الأوربي، حتى جَاءَ القَسّ الألماني (مارتن لوثر 1483 – 1516م)، ليطرح أفكاراً جديدة، مخالفة لتوجهات الكنيّسة الكاثولوكيّة البابويّة.

لقد وُلِدَ النّبي محمّد(ص) في عام 560 م، وما أنْ بُعِثَ (ص) في عام 600م، حتى تأسّستْ بقيَادة هذا المصلح العظيم، حركةُ التّغيّيرِ الأمميّة الشّاملة، التي احتضنتْ المحرومينَ والمُستَعبَدينَ والفقراءَ، وغَذّتهم بقيم الفضيلة والتّسامح والإحترام، والجُود بالنَفّس والإيثار والتضحية، مِنْ أجل الآخرين.

وفي غضون قرن مِنَ الزمن بعدَ بِعْثَةِ النّبي محمّد (ص)، تأسّست حَضارة لها هويّتها ومرتكزاتها القيميّة. أسهمت في إثراء العالم على مستوى العلوم والفنون والإبداع. (إنّ الوسيلة إلى الحَضارة متوفرة، ما دامت هناك فكرة دينيّة تؤلف بين العوامل الثلاثة (الإنسان والتراب والوقت)، لتُرَكّب منها كتلة تسمى في التاريخ حضارة.)(شروط النهضة / مالك بن نبي).

إذَنْ أصبحتْ هناك مُمَيّزات في شخصيّة النّبي محمّد (ص)، تُحَقِقُ أهداف كلٍّ مِنَ الإسلاميّين والعلمانيّين، كوّنَهُ الإنسان المُصّلح للواقع، والمُنقِذ للبشريّة. وبدون كثيرٍ من العناء، يستطيعُ أيّ شخص من مراجعة المصادر، التي تُثبِتُ فضلَ الحضارة الاسلاميّة، على الحَضارات الإنسانيّة عامّة، والأوربيّة خاصّة، والتي لولا وجود النّبي المَبعُوث(ص) رحمةً للعالميّن، لمْ يكُنْ لها وجود أصلاً. يقول(صاحب كتاب قصّة الحضارة / ول ديورانت):

(ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسرة فقيرة في إقليم ثلاث أرباعه صحراء  مجدية قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة (أيا صوفيا). ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى أسبانيا.

والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى ...... لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة. وفي العمارة أسلم مكانته الأولى في القرن الثاني عشر إلى الكنائس الكبرى الأوربية، ولم يجد فن النحت القوطي منافساً له في بلاد الإسلام التي كانت تحرم صنع التماثيل.)(قصة الحضارة ص813 ج 4).

بَعدَ كُلِّ منجزات الحَضارة الإسلاميّة، التي أشرَقَتْ على العَالم، وكانَتْ سَبباً مباشراً في إنتاج عصّر النّهضة الأوربيّة، أصبح الدّين الإسلاميّ مادّة للصّراع والتناحر، بيّن فريقيّن مهمّيّن من أبناء هذه الحَضارة، وهم الإسلاميّين والعلمانيّين. وهذا التّناحر والخِصَام، أنتجَ تيّارات فكريّة وثقافيّة وأحزاباً سياسيّة، تبنّت آيديولوجيّات أو مواقف معيّنة تحصنّت بها، لدعم وجهة نظرِ العلمانيّين أمام الإسلاميّين. ومنذُ قرن تقريباً، أصبح كلّ طرف يجنّد جلَّ طاقاته الفكريّة، مِنْ أجل الحاق الهزيمة بالطّرف الآخر. مؤسّسين بذلك قطيعة فكريّة وثقافيّة ونفسيّة بيّنهما. ولو عرضنا حَرب الكراهيّة المسّتعرة بيّن الاسلاميّين والعلمانيّين، على مصلحي الاسلام بقيادة النّبي محمّد(ص)، وعلى صنّاع الفكر الإصلاحي العلماني، فبالتأكيد لا أحد منهم، يقبل هذا الصّراع والتّسقيط بيّن الطرفيّن، لأنّه صراع يدمّر الإنسانيّة.

والطّامّة الكُبرى، أنْ يقوم بعض الإعلاميّين المنتفعين المتكسبين، بإذّكاء نَار الكراهيّة بيّن الطرفيّن، تَحتَ مُسميَات صِراع الحَداثة معَ التُراث. فيا ترى هل المتديّن والآخر العلماني في الغرب، يمارسان نفس هذه الممارسات عندنا ؟. أمّ إنّهُما يسعيان معاً للعمل المُشترك من أجل إسعاد مجتمعهما؟.

(إن العجز عن استيعاب درس الديمقراطية يكمن في العجز عن استيعاب الذات واحترام الهوية والخصوصية الفكرية للأنا ثم الآخر. حتى الآن لم يستوعب معنى الدين ولا معنى الاشتراكية ولا معنى القومية ولا معنى الاستقلالية الحزبية. هل يستطيع اليساري العلمي أو الملحد أن يعتبر الدين حالة انسانية وروحية وجمالية ونفسية تمنح الانسان الاستقرار والاطمئنان إلى قوة جبارة تحميه وتمنحه الثقة بنفسه وبالوجود؟ هل يستطيع المتدين أن يعتبر العلم والحداثة والأفكار غير المؤمنة تعبيراً عن ميل إنساني وتلبية لحاجة الشك والتساؤل عن ماهية الوجود والبحث عن أجوبة جديدة واكتشافات في الطبيعة والفكر قد تخدم بالنتيجة الفكر الديني نفسه؟.)(الذات الجريحة/ سليم مطر/ ص 346).  

لِتَكُنْ ذكرى مَوّلد الرَسول محمّد(ص)، مناسبةً نستذّكِرُ فيها صلابة النّضال وقوّته، مِنْ أجلِ تحريرِ الإنسانِ، وحصوله على حقوقه الطبيعيّة. وكذلك أنْ تكونَ هذه المناسبةُ، مناسبةً لتوّحيدِ أفكارنِا وإراداتِنا، لنتوجّهَ جميعاً لخدمة مُجتمعنا. ونُسّهِمُ بمشاركةِ العالم، بتجربَةٍ ثقافيّةٍ وفكريّةٍ، تَعكِسُ رُوحَ التّعاونِ والإحترامِ مِنْ أجلِ إسّعادِ الإنسان.  

المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/70935.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك