بين الفن والدين .. قراءة في موقف الحركات الإسلامية

ابعت؛ مؤخرا؛ حدثا فنيا لا يخلو من شحنة سياسية؛ كما تابعت كذلك ما أثاره هذا الحدث الفني من نقاش اتخذ؛ في الغالب؛ بعدا سياسيا. وبما أن الحدث الفني يرتبط بتوجه الحركات الإسلامية؛ في العالم العربي؛ فإنه اتخذ أهمية واهتماما اكبر؛ خصوصا وأن الحركات الإسلامية تعيش على وقع مخاضات قوية بعد وصول بعضها إلى الحكم.

في الحقيقة؛ ولدت لدي هذه المتابعة الكثير من الإشكالات؛ التي يمكن أن تشغل باحثا من خارج إطار الحركات الإسلامية؛ من قبيل:

• ما هي نوعية العلاقة التي تربط الحركات الإسلامية؛ في العالم العربي؛ بمحيطها السوسيولوجي المتحرك والمنفتح ؟

• هل تنظر الحركات الإسلامية؛ لتوطين مشروع بديل مغاير لما ساد/يسود العالم العربي؛ في علاقة بالانفتاح الذي تحقق على العالم؛ شرقا وغربا؛ منذ البوادر الأولى للنهضة العربية خلال مرحلة القرن التاسع عشر؟

• ما هو موقف الحركات الإسلامية من المشهد الثقافي؛ بشكل عام؛ والمشهد الفني (إبداعا أدبيا وموسيقيا وسينمائيا) بشكل خاص؟ هل تحمل مشروعا لتقويمه من الداخل عبر تخليصه من الأمراض التي تنخره؟ أم تحمل مشروعا بديلا يسعى إلى ربط الإبداع الفني بتصور مختزل عن الدين من قبيل ما أصبح يروج من شعارات (الأدب الإسلامي؛ السينما الإسلامية؛ الأناشيد الإسلامية ...)؟

• هل يعي فاعلو الحركات الإسلامية؛ أن العالم العربي يمتلك رصيدا ثقافيا غنيا؛ ساهم في رسم صورة العرب على الصعيد العالمي؛ موسيقيا عبر أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم حافظ ومحمد عبده ومرسيل خليفة وعبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني .. وروائيا عبر نجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف .. وشعريا عبر محمود درويش وأدو نيس ... وسينمائيا ساهمت السينما المصرية والسورية في خلق حوار فني فاعل بين مختلف الشعوب العربية . ما هو موقف الحركات الإسلامية من هذه الحركة الثقافية وكذلك ما هو تقديرها لرموز الثقافة والفن ؟

لقد تولدت لدي هذه الأسئلة وأنا أتابع مشاركة الفنان الإسلامي (رشيد غلام) في برنامج تقدمه الفنانة السورية ( أصالة نصري). وقد أثارت هذه المشاركة نقاشا بين القاعدة الشعبية للحركة الإسلامية؛ وصل إلى حدود تدخل القيادي النقابي (محمد يتيم) على خط الحدث معتبرا أن الأمر خروج عن مألوف الحركة الإسلامية؛ وما تلا ذلك من رد فعل الفنان (رشيد غلام) الذي وجه نقدا حادا للأستاذ محمد يتيم .

بين هذا الأخذ والرد؛ يبدو أن الفنان رشيد غلام قد رمى بالحجرة الأولى في البركة الراكدة؛ ويبدو أن الأحجار ستتوالى مستقبلا حتى تتحرك مياه هذه البركة وتتحول إلى جداول جارية. وما يؤكد ذلك؛ هو أن خروج الحركات الإسلامية من فضاءاتها؛ المغلقة لعقود؛ إلى الجو السوسيولوجي الفسيح؛ حيث حركة الناس وتحولاتهم؛ تفكيرهم وإحساسهم ؛ هذا الخروج لن يحافظ؛ بالتأكيد؛ على وضع السطاتيكو الذي ساد المشهد الإسلامي لعقود.

و لعل تاريخ الحركات الاجتماعية والسياسية؛ عبر العالم؛ ليؤكد هذا التوجه. فأغلب الحركات مرت بهذا التطور؛ حيث تنغلق؛ في البداية؛ على نفسها بدعوى عدم التلاؤم مع الواقع الاجتماعي (المنحرف) لكن بعد دخولها إلى المجال الاجتماعي والسياسي تنخرط؛ بشكل متدرج؛ ضمن الدينامية الاجتماعية؛ وتتحول إلى خيار اجتماعي وسياسي ينافس خيارات أخرى مغايرة؛ من منظور ديمقراطي يؤمن بالتعددية والاختلاف.

إن ما أثارني؛ في الحقيقة؛ من خلال متابعة هذا الفنان؛ هو كونه يمتلك قدرات إبداعية خارقة ( صوتا وإحساسا وتجسيدا) يمكنها أن تنافس كبار فناني العالم العربي؛ وهذا ما تم الاعتراف له به من طرف الفنانة أصالة نفسها؛ لكن هذه الإبداعية لم تستثمر؛ لوقت طويل؛ رغم أن المشهد الفني العربي يعاني جدبا إبداعيا يكرسه فنانو الكباريهات (ذكورا وإناثا) الذين لا يمتلكون من الفن سوى قدرتهم الخارقة على إثارة الغرائز. لكن؛ موقفا إيديولوجيا منغلقا كان بإمكانه إخراس هذا الصوت الأسطوري؛ الذي يعود بك إلى لزمن الأول للغناء؛ حيث كانت التراتيل تتلى أمام الآلهة وترمي بالروح الإنسانية في أتون مخاض وجودي عميق؛ أقل ما يمكن أن يثيره هو الخشوع .

لقد نسج بعض فقهاء الحركات الإسلامية؛ في العالم العربي؛ موقفا ذاتيا منغلقا من الفن؛ ولتحقيق ذلك عملوا على لي أعناق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ لإصدار فتاوى فضفاضة تحرمه ولا تبيح منه سوى الإنشاد؛ الذي لا يوظف من الآلات الموسيقية إلا الدفوف. لكن؛ عودة إلى التاريخ المجيد للحضارة الإسلامية تدحض هذا الموقف الإيديولوجي المنغلق.

فقد ساهمت الحضارة الإسلامية في تطوير اللغة الموسيقية؛ من منظور علمي؛ حينما تم اكتشاف علم العروض مع (الخليل بن أحمد الفراهيدي) خلال عصر تدوين العلوم العربية/الإسلامية الذي ارتبط بالقرن الثاني الهجري؛ وما ارتبط بذلك من تنظير/ممارسة موسيقية جسدها (زرياب) هذا الموسيقي الذي يؤكد تاريخ الموسيقى؛ أنه كان مساهما؛ بشكل كبير؛ في تطوير الموسيقى الكلاسيكية الغربية؛ على مستوى الآلات الموسيقية والأنغام؛ فقد انتقل من العراق (مركز الحضارة الإسلامية خلال العصر العباسي) إلى الأندلس وساهم في تنشيط الحركة الموسيقية فيها؛ وقد ارتبط اسمه بتأسيس (دار المدنيات) للغناء والموسيقى؛ باعتبارها أول مدرسة ظهرت لتعليم الموسيقى والغناء كعلم يمتلك أساليبه وقواعده الخاصة به؛ ووظيفته الارتقاء بالذوق الفني العام .

إن النقاش الحقيقي حول الفن والإبداع؛ يجب أن يتجاوز ثنائية الحلال والحرام؛ ذات البعد الفقهي؛ لأن روح الدين الإسلامي لا تستجيب لهذه الخنادق؛ سواء قرآنا أو سنة أو ممارسة تاريخية خلال عصور الازدهار الأولى؛ بل إن ذلك كله ثمار مرة وسامة لعصر الانحطاط؛ حيث تراجع الفكر ومعه تراجع الإبداع تحت مسميات دينية هي أكثر ارتباطا بالممارسة التاريخية الموسومة بالتخلف والركود . الأمر الذي يفرض على الفاعلين الثقافيين؛ في الحقل الحركي الإسلامي؛ التمييز بين روح الدين الإسلامي؛ التي تشجع على التفكير والإبداع باعتبارهما تجسيدا للكمال الإنساني؛ وبين الممارسة التاريخية؛ خلال عصر الانحطاط؛ حيث كان التفكير ومعه كان الإبداع من جنس الواقع الراكد والمتخلف .

لكن؛ النقاش الحقيقي الذي يجب أن يشغل جميع الفاعلين الثقافيين؛ ومنهم فاعلو الحركات الإسلامية؛ هو مستوى وقيمة الإبداعية التي يجب أن تؤطر الممارسة الفنية؛ هل هي فنون الاستهلاك السريع (فاست فود) التي يسوق لها الإعلام العربي؛ من خلال البث الفضائي المتصل والمسابقات الغنائية ؟ أم هي الفنون التي ترقى بالذائقة الفنية العمومية؛ عبر استجابتها للكلمة الشعرية المبدعة والإيقاع الموسيقي المسبوك؛ والروح الإبداعية السامية التي ترتقي بالفنان إلى مرتبة المبدع؟ إن هذا المعيار الجمالي والإبداعي هو الذي يجب أن يتحكم في عملية الفرز؛ وذلك لأن وظيفة الفن هي المساهمة في تهذيب الذوق العام؛ وما ينتج عن ذلك من ارتقاء اجتماعي وثقافي يقدم؛ في الأخير؛ خدمة جليلة للتنمية المادية والرمزية للمجتمع.

ولكي تتحقق هذه الغاية؛ لابد للفاعل الديني؛ بشكل عام؛ أن ينفتح على الدراسات الخاصة بفلسفة الفن وتاريخه؛ كما يجب عليه أن يطالع الإبداعات الفنية العظمى في التاريخ الإنساني؛ باعتبارها تجسد الكمال الإنساني الذي حث عليه الدين الإسلامي. وهذه؛ وظيفة مادة التربية الإسلامية في جميع أسلاك التعليم؛ كما هي وظيفة علماء الدين المتنورين؛ وكذلك هي وظيفة المثقف الملتزم الذي لا يزايد على احد في علاقة بقضايا المجتمع؛ بل يؤمن بالشراكة والانفتاح بين جميع الفاعلين الثقافيين لإيجاد الحلول الفكرية المتوازنة لمختلف الإشكاليات التي تفرضها التحولات الاجتماعية .

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/74172.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك