قراءة في كتاب الفلسفة أداة للحوار

محمد بقوح

هل يمكن أن تكون الفلسفة أداة للحوار؟ إذا كان الجواب نعم. فما هي السبل التي يلزم اعتمادها لتحقيق ذلك؟
هذين السؤالين هما مرتكز أطروحة الكاتب في موضوع كتابه الفلسفي الشيق ( الفلسفة أداة للحوار ). لأنه يناقش موضوعا فلسفيا يهم مبحث المعرفة بطريقة فلسفية. باعتبار أن موضوع الحوار هو أساس نظرية المعرفة من الناحية الفلسفية. كما أن لا فلسفة، و لا تفكير فلسفي، بدون تبنّ عقلاني لأسلوب الحوار و التحاور. لهذا فأول ما وصل إلى الباحثين و المهتمين بقضايا الفلسفة و الفيلسوف قديما، هو المحاورات الفلسفية. نذكر هنا محاورات أفلاطون في جمهوريته الفلسفية.

فحسب عبد السلام بن عبد العالي، لا يراد دوما من تأسيس جولة حوار بين المتحاورين تحقيق التوافق و الاتفاق و التفاهم. لأن الحوار في المجال الفلسفي يهمّه أساسا طرح الأسئلة، و تفعيل آلية النقد و الكشف عن التناقض و تعرية بؤر التوتر و إسقاط الأقنعة.. لهذا، فغالبا ما يطمأن في الحقل الفلسفي إلى نتيجة الاختلاف و التعدد و التباعد، أكثر مما يتم التوصل إلى الاتفاق و التوحد و التراضي. من هنا نفهم إحدى أهمّ ملامح التفكير الحواري الفلسفي، حسب بنعبد العالي دائما، و نعني به الملمح الانفصالي. بمعنى أن كل تفكير فلسفي يريد الوصول إلى تكريس رؤية حوارية - التي هي في عمقها رؤية ديمقراطية إنسانية – يلزمه أن يستند إلى فكر نقدي مختلف عما هو سائد و مهيمن و تقليدي بالأساس. يقول الكاتب في ( ص 15 ) : ( ليست الغاية إذن من إثبات الانفصال تفتيت الهوية و إنما جعلها حركة و ليست سكونا، خطا و ليس نقطة، هجرة و ليس عمارة، إنسانا و ليس ذاكرة، تعددا و ليس وحدة، اختلافا و ليس تطابقا ). الانفصال هنا إذن، لا يعني القطيعة الكلية بالمعنى المعرفي كما طرحه باشلار في كتاباته، و لكن المقصود به في هذا الإطار هو معناه الدال على إعادة الإنتاج الفكري التأسيسي المضاد.

و ارتباطا بالمستوى الانفصالي للتفكير الفلسفي الحواري، يركز الكتاب أعلاه أيضا على جانب في غاية الأهمية في الحقل الفلسفي. لنستمع للفيلسوف العالمي هايدغر يقول في نص جميل نقله الكاتب نفسه في ( ص 10 ) : ( غالبا ما يندهش أهل المدينة من انعزالي الطويل الرتيب في الجبال مع الفلاحين. إلا أن هذا ليس انعزالا، و إنما هي الوحدة. ففي المدن الكبيرة يستطيع المرء بسهولة أن يكون منعزلا أكثر من أي مكان آخر، لكنه لا يستطيع أبدا أن يكون فيها وحيدا. ذلك أن للوحدة القدرة الأصيلة على عدم عزلنا، بل إنها على العكس من ذلك ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها ). هكذا يبدو نوعا جديدا و مختلفا للحوار حسب هايدغر. لكنه حوار مهم و أساسي في التفكير الفلسفي و المعرفي عموما. يمكننا نعته بالحوار الفلسفي الذي يراهن الفيلسوف فيه على خلق مسافة معينة بينه و بين ضجيج الناس و الأشياء و الآلة. و بصفة عامة كما عبر عن ذلك هايدغر، الابتعاد عن أجواء المدينة البراقة و الخداعة أحيانا. إنه اختيار الوحدة الذي لا يعني بتاتا الانعزال. الوحدة هنا هي مورد طاقي للتفكير الفلسفي الخالص. إنها الوحدة التي تعني الحوار الحقيقي و الفعلي بين المرء و محيطه.

كما يمكن للفلسفة أن تكون أداة ناجعة لتكريس الحوار الفكري و الثقافي الأصيل بين الشعوب. أينما كانوا و وجدوا. و ذلك من خلال الترجمة. لهذا خصّص الكاتب حيّزا مهما من كتابه لعلاقة الفلسفة بالترجمة. تحقيقا للمزيد من التحاور و التعارف و التسامح و التثاقف، بين كافة مواطني الكوكب الأرضي. لكن، ليس من السهل دوما ترجمة الفكر الفلسفي، من لغته الأصلية إلى لغة أخرى مستقبلة. فالنص الفلسفي هو حامل لفكره و ثقافة صاحبه و هموم لحظته التاريخية و بيئته المجتمعية. يقول الكاتب بهذا الصدد في ( ص 39 ) : ( الترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، هم فكري و معاناة من " يفلح" النصوص و يعشق اللغة و يرعى صقلها و صفاءها. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات و المنظمات، إلا أنها لا يمكن البتة أن تتم خارج "مختبرات" الفكر، بعيدا عن قاعات الدرس و فضاءات الإنتاج الفلسفي ). حتما يؤكد الأستاذ بنعبد العالي هنا على الطابع التخصّصي العلمي و الأكاديمي لفعل الترجمة الفلسفية. لأن ترجمة نص أو كتاب فلسفي لا يمكن أن يقوم به سوى الحاملين للهمّ الفكري الفلسفي، قبل استهداف أي هدف آخر من ورائه. الكاتب ينتقد هنا طبعا المتطفّلين على ممارسة الترجمة الفلسفية، دون تأهيل فكري و فلسفي مرجعيين قويين. و هي ظاهرة ثقافية سلبية باتت معروفة في العالم العربي خاصة.

لابد هنا من الإشارة بالإضافة إلى أهمية الكتاب الفكرية و الفلسفية، فهو يؤسس لتحليل منهجي فلسفي، يتبنى رؤية الباحث الفلسفي ذي الخلفية السوسيولوجية الواضحة. نستحضر هنا خاصة الخلفية الفكرية الفلسفية الاجتماعية البورديوية. و لقد سبق للكاتب أن ترجم الكثير من نصوص عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، يضمها كتابه المعروف ( الرمز و السلطة ). إلا أنه في نفس الوقت ينتقد الكاتب بأسلوبه الفلسفي عالم العولمة اليوم الاستهلاكي المبالغ فيه، الذي يغيّب الإنسان كقيمة رمزية، و يرفع من قيمة الآلة العنيفة، و التقنية الجوفاء إلى مستوى أكثر مما تستحق. معتمدا – في نظرنا على الأقل – على المرجعية الفلسفية الهايدغرية المصاحبة و المصالحة، مع التفلسف الوجودي الطبيعي الخالص، ضد التفلسف الموجودي الميتافيزيقي المتهافت. لهذا فالأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في كثير من الأحايين، يستشهد بنصوص هايدغر الفلسفية في هذا الباب، كلما فكر و جادل و طرح موضوعه للمناقشة و التحليل، مزيدا من التوضيح و التدقيق و المعالجة الفلسفية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
• كتاب: الفلسفة أداة للحوار. عبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال. ط1. 2011

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=311221

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك