التسامح كقيمة دينية

نجيب الخنيزي

جل المجتمعات والبلدان العربية والإسلامية وخصوصا في العقود الثلاثة الماضية باتت تعيش أوضاعا صعبة وأزمات متفجرة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية. التشظي والانقسام الأفقي بين المكونات الاجتماعية والعامودي بين السلطات الحاكمة والشعوب الحاد نجد تجلياته في تصدر الهويات الأثنية، الدينية، المذهبية، المناطقية، والقبلية الفرعية، واتساع نطاق التطرف والعدمية والعنف والصراع والإرهاب المتبادل في حرب الجميع ضد الجميع والذي ينذر بتفكيك اللحمة الوطنية والمجتمعية الهشة التي تشكلت في إطار الدولة الوطنية الحديثة . العنف والإرهاب الذي تمأسس أصبح نسقا متكاملا في أبعاده الإستراتيجية والتكتيكية والتنظيمية والأيدلوجية ومن حيث أجندته وممارساته واستهدافاته المعلنة أو المضمرة.
الكثير من تلك الدول شهدت وتشهد اندلاع أعمال عنف وتدمير لممتلكات عامة وخاصة ومواجهات وتفجيرات دموية غالبية ضحاياها من المدنيين، وذلك بهدف شل الحياة السياسية والاقتصادية، وخلق حالة من الفلتان الأمني، كما تحدث مواجهات مسلحة بين أجهزة الأمن والجماعات الإرهابية المسلحة يسقط خلالها قتلى وضحايا من الجانبين. وهناك بلدان تعيش حالة حروب أهلية فعلية أو كامنة تحت الرماد، كما هو حاصل في السودان والصومال والعراق وأفغانستان وباكستان ولبنان. تلك الحالات تقف وراءها في الغالب إن لم تكن جميعها جماعات إسلامية متطرفة ومتشددة تطرح شعارات ديماغوجية ومخادعة، على غرار الإسلام هو الحل، الحاكمية لله، الولاء والبراء، دار الحرب ودار الإسلام، وحرب الفسطاطين، متكئين في ذلك على ابتسار بعض النصوص من القرآن والسنة والأحاديث النبوية خارج سياقها، متجاهلين أسباب النزول وظرفها التاريخي المحدد. وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب ع إلى هذه الحقيقة حين ذكر أن القران دفتا كتاب لا ينطق ولكن ينطق به الرجال وبأنه حمّال أوجه ، محذرا من استخدام الدين أو استغلال آيات القرآن أو توظيفه، من خلال تحريف مدلولاته وتجزئة نصوصه لأغراض واستهدافات خاصة ونفعية. الأديان السماوية بشكل عام والدين الإسلامي على وجه الخصوص في مضمونه ومغزاه الحقيقي لم يكن دعوة إلى القسوة والعنف والإرهاب ضد الآخر غير المسلم، أو حتى من هو خارج الديانات السماوية، ناهيك عن المسلم، بل هو دعوة للتآخي والمساواة والكرامة والتسامح والعدل وكرمنا بني آدم- الآية بين البشر كافة. جرى تجاهل القاعدة الشرعية التي تقول الضرورات تبيح المحظورات و أن الأصل الإباحة ما لم يكن هناك تحريم قطعي الدلالة في حين تصدرت الدعوات والفتاوى التي تضيق على حرية الفرد في سلوكه وطريقة حياته المدنية وتفكيره المستقل، وتخنق المجتمع بمحرمات تابوهات متنوعة، وذلك تحت مسمى باب سد الذرائع و المحذورات مقدمة على الضرورات والدفاع عن صحيح الدين والمذهب، والتكاليف الشرعية والحفاظ على الأخلاق والعفة، والتي تطورت على نحو خطير بإدعاء الانتماء إلى الفرقة الناجية، وامتلاك الحقيقة الدينية المطلقة التي تسوغ التكفير والتبديع وممارسة العنف المادي والرمزي والتطرف والإرهاب بحق الآخر المختلف المنتمي إلى الطوائف والمذاهب الإسلامية المغايرة، ناهيك عن الأديان التوحيدية وغير التوحيدية. كما شمل التكفير والإرهاب الحكومات والأنظمة العربية - الإسلامية وكذلك البلدان والمجتمعات الغربية على حد سواء. رغم مخالفة ذلك لما جاء في القرآن من آيات واضحة الدلالة ومنها قوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي - سورة البقرة والآية فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر - سورة الكهف وقوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين - سورة يونس وقوله وما على الرسول إلا البلاغ - سورة المائدة كما رفض الإسلام منطق الوصاية والتكفير، قال تعالى فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر وهناك الكثير من الآيات التي تحض على الرفق واللين، حيث خاطب القرآن النبي بقوله فقل لهم قولا ميسورا - سورة الإسراء وقوله تعالى مخاطبا النبي فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك - سورة آل عمران . هذا اللين والرفق والتسامح الذي حض عليه القرآن تكرر في الكثير من السور ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم - سورة فصلت وفي قصة موسى وهارون وفرعون الذي أدعى الربوبية بقوله تعالى اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى - سورة طه وفي الحديث النبوي لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه وعلى إثر معركة أحد التي جرح فيها النبي (ص) وكسرت أسنانه طلب منه بعض صحابته أن يدعو على قومه أسوة بنوح وكان رد النبي اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . في معركة صفين حين بلغ الإمام علي (ع) أن جماعة من أصحابه يسبون أهل الشام - جيش معاوية طلب منهم اجتناب السباب وخاطبهم قائلا إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر ونستحضر قول الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لمالك الأشتر الناس نوعان أخ لك في الدين وشبيه لك في الخلق .
ما ذكرته هو جزء يسير من قيم التسامح واللين مما جاء في القرآن والسيرة النبوية وحياة بعض الشخصيات الإسلامية البارزة، لكن للأسف فإن في مقدمة من يخرقونها هم بعض المتشددين والمتنطعين والمتسترين بعباءة الدين. حيث يوظفون الدين (المقدس) خدمة لمصالحهم وتوجهاتهم الفئوية والدنيوية (المدنس) الخاصة.
التسامح كقيمة أخلاقية واجتماعية ( 2 )
تحثت في المقال السابق عن مفهوم التسامح كقيمة دينية. وفي الواقع هذه خصيصة غالبية الأديان والعقائد الأرضية القديمة الأخرى. ونشير هنا إلى المسيحية التي تتضمن أناجيلها المختلفة والمتفرقة ذات المعنى المتسامح. يقول المسيح عيسى «لقد قيل لكم من قبل أن السن بالسن والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحوّل إليه الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك وإن سخّرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين. من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان. عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم». وفي الديانة اليهودية «كل ما تكرهُ أن يفعلهُ غيرك بك فإياك أن تفعلهُ أنت بغيرك. اغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أفكاركم.. وكفّوا عن الإساءة. تعلّموا الإحسان والتمسوا الإنصاف». غير أن تلك التعاليم والتوجيهات الدينية والأخلاقية لم تمنع اندلاع الحروب الطاحنة التي شهدتها الديانات السماوية على وجه الخصوص في ما بينها وفي داخلها في الآن معاً، والتي ذهب ضحيتها الملايين من البشر، من منطلق ادعاء كل فرقة دينية أو مذهبية بأنها الناجية والأخرى كافرة ومبتدعة وفي ضلال مبين، متجاهلين ما جاء في تلك التعاليم الدينية ومن بينها الإسلام من حث ودعوة واضحة للتسامح. في قوله تعالى «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد» (سورة الحج). لقد شملت تلك الآية المسلمين واليهود والنصارى، بل من غير أصحاب الديانات السماوية مثل المجوس والمشركين موضحة (الآية) بأنه الله (لا الناس أو فريق وطائفة منهم) وليس غيره من البشر هو الشاهد على البشر، وهو من سيفصل بينهم ويحاسبهم. الاختلاف هنا يعني تقبل المغايرة، وبالتالي هذا المبدأ لا يقرر الكراهية للمخالف أو النفور منه أو تكفيره واحتقاره. كل ما يقرره القرآن، انطلاقاً من هذا الفهم هو الدعوة إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن. وهذا هو منتهى التسامح في الدين. صحيح أن مصطلح أو مفردة التسامح تحديداً لم تتطرق إليها الديانات السماوية بما في ذلك الإسلام، لكن هناك أكثر من 200 آية في القرآن الكريم تطرقت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المدلول نفسه، غير أن فكرة التسامح المنغرسة بقوة في الأديان، لم تمنع من اندلاع الحروب الدينية والطائفية الدموية، إبان الحروب الصليبية بين الإسلام والمسيحية، أو بين أتباع الديانات والمذاهب الإسلامية المختلفة، بفعل المصالح الخاصة، الاستبداد والتعصب وطغيان الأيديولوجية والنزعة الفئوية المقيتة. لقد جرى على مدى التاريخ الإسلامي (ماعدا فترات قصيرة منه) تغييب أو غياب مفهوم التسامح، حيث تصدر الاستبداد وفقهاء السلاطين ومصالحهم الفئوية والعصبوية الخاصة، التي ترفض الآخر من منطلقات ومصالح دنيوية (المدنس) رغم تغليفها بعناوين وشعارات (المقدس) فكرية وأيديولوجية دينية. هنا علينا الإقرار بأن فكرة التسامح أعيد طرحها وبقوة على إثر الحروب الدينية الدامية التي شهدها الغرب بدءاً من المجازر بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، ومن بينها على سبيل المثال مجزرة باريس والمدن المجاورة، التي قدر عدد ضحاياها بنحو مئة ألف قتيل، ناهيك عن الدور المرعب لمحاكم التفتيش وما رافقها من ألوان البطش والتعذيب الذي وصل إلى حرق وقتل المخالفين من أصحاب الديانات (اليهود والمسلمين) والمذاهب الأخرى، وطالت العلماء والمفكرين المنشقين على التعاليم المتزمتة والمنغلقة للكنيسة البابوية. الحروب الدينية الطاحنة (في ما أطلق عليه حرب الثلاثين عاماً أو أكثر) أسفرت تلك الحروب عن نتائج كان لها بالغ الأثر على الأوروبيين في المقام الأول، وأصبحت منجزاً ومكسباً للإنسانية جمعاء. حيث أصدر الملك الفرنسي هنري قانوناً تضمن السماح للبروتستانت بحرية التفكير وحرية العبادة، ومنحهم الحق في إقامة تكويناتهم الدينية والسياسية المستقلة وضمان القضاء العادل للجميع بمعزل عن المذهب. التسامح هنا هو نتاج التصدي الاجتماعي والفكري والسياسي للعنف واللاتسامح وسلب الحق في الاختلاف بحجة المغايرة في المذهب أو العقيدة. أما الحدث الثاني فكان فيه التسامح أكثر شمولية، حيث صار مرادفاً للحق في الاختلاف عقائدياً وفكرياً، القائم على فكرة الحقوق الطبيعية لكل البشر، وأهمها الحق في الحياة وحرية التفكير، هذه الفكرة طورها وعمقها فلاسفة الأنوار، من خلال تجاوز التركيز على حقوق السماء لتشمل الحقوق الأرضية (الدنيوية) للبشر.
نستحضر هنا قول جون لوك أحد رواد الفكر الفلسفي/ التنويري الحديث والذي يعتبر من أهم من تبنى فكر التسامح في وجه المتعصبين الدينيين «ليس من حق أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر. فكل الحقوق والامتيازات التي لشخص من حيث هو إنسان أو من حيث هو مواطن من اللازم أن تكون محفوظة له من دون أن تنتهك.. يجب ألا يلحق هذا الشخص أي عنف أو ضرر سواء كان مسيحياً أو وثنيا» جون لوك - رسالة في التسامح. مفكرو عصر الأنوار ومن بينهم جان جاك روسو ولوك وفولتير وغيرهم، والثورات التي استندت إليها كثورة الاستقلال الأميركي (1776) والثورة الفرنسية (1789) أرست عصراً جديداً في معنى ومفهوم التسامح الذي اكتسب لأول مرة الصفة القانونية كحق إنساني (طبيعي) لا يمكن التطاول عليه من أي جهة كانت تحت عناوين دينية أو فكرية أو عرقية.

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=214121

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك