التسامح ... وفقر ثقافتنا

محمد  البدري

تقف الثقافة العربية عائقا امام اهلها ومعتنقيها والمتحدثين بلغتها من فهم كثير امور الحياه والاهم في كيفية تداول وتناول العلاقة مع باقي الثقافات. الفاظ كثيرة تنقص هذه اللغة في مكونها الاول جاهليا او اسلاميا. لهذا فان من يتصدر للدفاع عنها سيكون محدود القدرة علي المناورة او اتخاذ موقفا جادا وصارما من اي مثالب او سلبيات يوجهها اصحاب العقائد الدينية والايديلوجيات المتعددة الي ثقافة لغة الضاد. كان اول ما لفت نظري في مقال د. عصام عبد الله (التسامح) بجريدة الاهرام المصرية انه استند الي كل اصل او مصدر للتسامح في ثقافات الغرب مسيحية كانت ام علمانية لكنه لم يتطرق الي وجود اي اصل لها عندنا. المقال منشور في صـ 41 بجريدة الاهرام بتاريخ 2 اكتوبر 2009. لكنه حدد مفهوم التسامح في اصدارات مؤسسة اليونسكو عام 1995 باعتبار ان ما جاء في وثائق هذه المؤسسة العالمية يعد موقفا سياسيا وقانونيا وليس مجرد توجه اخلاقي.
فلو ان التوجه الاخلاقي هو المحدد لمعني التسامح فان الضرب بالمبدا عرض الحائط يصبح سهلا فما اكثر تبدلات الاخلاق وجريانها بعكس ما يتمناه البشر من رقي وتقدم. جري هذا عندما يغزو شعب شعب آخر، إو عندما تتسلط طبقة او جماعة عسكرية او مدنية علي مقاليد الحكم عنوة او باستخدام الدين، عندها تنحط الاخلاق ويتعامل البشر علي قواعد غير انسانية ولا اخلاقية. أما التاسيس السياسي والقانوني فهو الضمانه للاحتفاظ بمبدا التسامح حيا وفاعلا داخل المنظومة الاجتماعية فرديا او علي مستوي الجماعة والحزب والمؤسسة بشكل عام.
لكن الاخطر وكما قدمنا يكمن في غياب لفظ "التسامح" او الفعل "سمح " عن مفردات اللغة العربية في جذرها القرآني او في ثقافة الجزيرة العربية، ما يجعل البدائل صعبة لو اكتشفنا مدي دلالة اللفظ ومعني ممارسته لو اننا احتجنا الي بديل يعوضنا عما تحتاجة مجتمعاتنا في مواجهه العنف الاسلامي الحالي رغم الادعاء بان الاسلام دين رحمة. وعلي ما اعتقد ان العنف الذي استشري حاليا عندنا مرده الي غياب فكرة التسامح لفظا ودلالة في الاسلام وغياب اي بديل يمكنه ان يقوم مقام الفعل المتسامح.
بداية فان ما لم يقدر د. عبد الله ان يتناساه ان كلمة تسامح والتي قرنها باللامبالاه كممارسة موازية بدلا من الاعتراف صراحة بالتسامح يجعلنا نتدبر معني الكلمة ودلالتها. فان يتسامح فرد مع فرد او اتجاه ثقافة مع ثقافة اخري لا تعدو كونها وصاية تم التغاضي عن حق الوصي فيها في المراقبة الدائمة للموصي عليه وانه تركه مؤقتا لياتي بما يتمشي مع اغراضه واهدافه ولو علي مضض. هنا يصبح التسامح كمن يترك من في رعايته او تحت امرته للفسحة ولو لبعض الوقت او كل الوقت مع الاعتبار ان هذه الحق ليس معطي اولي أو حق طبيعي للطرف الموصي عليه. وهو انتقاص اساسي في الحقوق يكمن في اساس فكرة التسامح، بعكس ما تنص عليه المواثيق الدولية والدساتير الحديثة. وهو اول مسمار في نعش ما يسمي بالشريعة لو اننا ادركنا كبديهية ان لا احد وصي علي احد او في رعاية احد او في ذمة احد، يسمح له او لا يسمح طبقا للظرف او الحال.
وكما ذكرنا سابقا ان اللفظ غير موجود في نصوص الديانة الاسلامية بمعني انه كدلالة غائب عن وعي المسلمين. لكن لو بحثنا عن المرادف للفظ في اللغة الانجليزية لوجدناها مشتقة من كلمة "Allow ". وتاتي منها لفظة "Allowance". هكذا تفتق الذهن العربي، بكل امراضه، ليختار هذا اللفظ من الثقافة الاوروبية تعويضا عن النقص في العربية. كان الاختيار مبرمجا حسب ما يمليه العقل العربي او الثقافة العربية علي ذاتها. تستخدم كلمة "Allowance" في ثقافة الغرب بمعني الهامش المسموح بتواجده بين اطراف طبيعية او مصطنعة الوجود. ففي العلوم الطبيعية وتكنولوجياتها يستخدم المصطلح هذا للدلالة علي وجود مساحة تسمح بعدم الاحتكاك او التخبط بين الاطراف المتجاورة. بمعني ان كل جهة تبقي صفاتها الطبيعية قائمة حيث لا يمكن تغيرها لانها مادة ذات صفات لا تتغير. وكل ما في الامر هو خلق هامش يمنع الاحتكاك او التصادم.
لهذا لم يذهب هذا العقل العربي الممروض ليختار كلمة "Tolerate". وليشتق منها كلمة تتناسب ومعني "Tolerance" لتكون بديلا عن التسامح. فالكلمة المكروهة هذه "Tolerate" تحمل معني التحمل وليس التسامح. وهو لفظ موجه فعله الي الداخل بعكس لفظ تسامح "Allowance" الموجه فعله الي الخارج. فاللفظ "Tolerance" يعني قدرتي علي ان اتحمل وجود المختلف عني وقبول كل مفرداته الثقافية طالما لم تنتقص من حريتي مع من في مواجهتي. ان اتحمل هو ان اكون رقيبا علي ذاتي ليتواجد الاخر بكل كيانه وهيئته تحققا لذاته كما هي متحققة لي. الفارق إذن كبير وواسع وضخم. فالمعني الثاني يعيد الثقة الي عملية الضبط الذاتي ويوسع الانا ويجعلها قادرة علي ان تتسع لوجود اخريات أخري مهما كان خلافهم. اما المعني الممروض الذي اختارته الثقافة العربية فهو نرجسي يعلي من الذات ويضعها رقيبة ووصية بان تسمح "Allow ". وانها قد تنازلت بتسامحها. مثل هذه الذات غير قابلة للتغير شانها شان المادة الجماد رغم الكراهية المعلنة لكل ما هو مادي من ثقافات العالم. فمن يسمح يملك الحق ضمنا في سحب الحق. وهنا نكتشف النرجسية المرضية في الثقافة العربية التي لا تتحمل لكنها تسمح وتعطي لنفسها الحق في اعادة الوصاية وقتما شاءت. فهل هذا يذكرنا كيف ان عصر النهضة العربي وزمن التنوير في القرنين الماضيين لم يكونا مدركين ان وباء الاصولية سوف يتجدد وتنتكس اليه منطقتنا لو ان الالفاظ المستدعاه من باقي الثقافات الغربية هي الفاظ مغلوطة بناء علي وعي اختياري مغلوط ولها دلالات ممروضه في معانيها العربية.
جائتنا العولمة مثلما جاء وقت الامتحان يوم يكرم المرء او يهان، (لاحظ الالفاظ ودلالتها الممروضة ومدي المغالطةايضا في هذا المثل الشهير) . واصبح الـ "Tolerance" هو المطلوب منا وليس ان تسامح. فنحن اضعف من جناح بعوضة من ان نمارس اي نتسامح في مواجهه من يملك اجنحة النسر. أما النسر هذا فهو لا يتسامح مع من يخطئ في حقه حسب ما اتت به النواميس الدولية الحديثة وحسب ما يمارسه البعوض عندنا. لكن القضاء ومفاهيم التحكيم دون إهانة ارستها ثقافة الـ "Tolerate" التي ارساها جان جاك روسو. فاختبارات المنطقة المحلية تثبت كذب وزيف التسامح مع المكونات المتعددة محليا.
لم ترتقي الثقافة العربية بالتنازل عن كبرياء زائف واستعلاء مقيت للحاق بثقافات اخري افضت بها العولمة الي ان يكتشف من لديهم ثروة لغوية ودلالات حقيقية من حتمية صراع الحضارات وتطاحن الثقافات. كتب صمويل هانتجتون وبرنارد لويس وغيرهم كثيرين عن هذه الحتمية. ولم تجد فيها الاصولية الاسلامية حرجا من استغلالها لتزيد الاشعال الحضاري لانها ثقافة لا تتحمل بل وايضا لا تتسامح. هكذا القيت الكرة في ملعبنا مرتين، عروبيا مرة وإسلاميا مرة أخري، وبتنا في امتحان سنهان فيه حتما لو اننا ادركنا ان التازل عن غرور الايمان ومطلقية العقيدة وحق الوصاية سيخرج لنا من اعماق الغرب ما تمكن هو من نفيه بداخله ارتقاءا بذاته منذ زمن اسبينوزا وتوماس. عدم وجود مفكرين عظام امثال هؤلاء يدل ان الثقافة العربية لا تتسامح حتي مع نفسها بهف اصلاح ذاتها، لهذا لم تخرج لنا احدا يضارع ما قالوه هؤلاء عن انفسهم متنازلين عن صلف الديانة والحكم بها والاعتقاد بمطلقيتها.

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=187375

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك