النحو العربي (بين الطم والرم ومحاولات التجديد والتجريد)

رمضان أبو غالية

إن الضعف الشديد في اللغة العربية وخصوصاً فيما يتعلق بالنحو العربي، هو ضعف لا يقتصر على مرحلة تعليمية معينة، بل يعانيه أبناؤنا في المدارس والجامعات، وكذلك طلاب الدراسات العليا، بل أيضاً بعض الأساتذة في كل هذه المستويات.

ولا عجب أن يتسلسل هذا الضعف؛ لأن السبب متسلسل وبالتالي فالنتيجة كذلك، فالبناء مرهون بقواعده؛ فإن كانت ضعيفةً فإنه بلا شك سينهار أو يصير آيلاً للسقوط في أي لحظة.

 

ولن أستمر في استعراض مظاهر هذا الضعف الذي هو واضح للعيان ولا يحتاج إلى مزيد بينة وبرهان، ولكن لماذا هذا الضعف الواضح واللحن الفاضح؟

أزعم أننا لو أجرينا استفتاءً حول مادة النحو وجاذبيتها وحب الطلاب لها، فإنها لن تحصل على أكثر مما يحصل عليه حكام الدول العربية في الانتخابات؛ فهو أثقل المواد على النفوس وأبغضها لدى الطلبة.

ومعاناة تعلم النحو العربي وتحصيل المقصود منه هو مسألة قديمة جديدة، فلكم أن تتخيلوا أن يكتب أديب ذائع الصيت مثل أحمد حسن الزيات مقالاً بعنوان (آفة اللغة هذا النحو)، ويخلص إلى النتيجة التالية: "فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وندع ذلك الطم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة"؟!

ويقتبس منه الأديب علي الطنطاوي نفس العنوان ويكرر نفس الشكوى، وهم من هم؛ ملكوا ناصية اللغة، ونثروا الدّرر في صحائف الكتب والمجلات والجرائد. أما كتب التراث فمليئة بأمثلة تجسد لنا حجم هذا التعقيد في تعلم وتعليم هذا النحو؛ فقد روى السيوطي في (بغية الوعاة) أن الكسائي قد مات وهو لايعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية! وأن الخليل لم يكن يحسن النداء. وأن سيبويه لم يكن يدري حد التعجب! وأن رجلاً قال لابن خالويه: أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني، فقال ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني!

وإن الإنسان ليتملكه العجب؛ إذ يدرك أنه يحتاج أكثر من عمر ليستقيم لسانه بالعربية، ولعل هذا الأمر هو الذي دعا ملك النحاة، -كما دعا نفسه- أن يكتب (المسائل العشر المتعبات إلى يوم الحشر) ويوصي ان توضع معه في قبره .

فماذا يجني من أراد المختصر المفيد من ذلك النحو الذي غدا معقداً لا تكاد تثبت فيه مسألة؟ لا شك أن أهل التخصص وأهل الدراسات الدقيقة قد يستفيدون من ذلك في بحوثهم اللغوية، لكن الذي يروم فهم القواعد الأساسية التي يستقيم بها اللسان فإنه لن يزداد إلاّ بغضاً لهذا النحو.

وقد عزا بعض الباحثين أن ذلك التعقيد (قديماً) كان مقصوداً وكانت له أسبابه، منها أن النحاة اتخذوا النحو وسيلةً للتكسب، فعقّدوه هذا التعقيد حتى لا يُفهم إلاّ عن طريقهم، من ذلك ما رواه السيوطي أن سيف الدولة سأل جماعةً من العلماء بحضرة ابن خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا، فقال لابن خالويه ما تقول أنت؟ ،قال : أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟ قال: لا أقول إلاّ بألف درهم!

وهاكم طرفةً أخرى، فهذا أبو علي الفارسي لما سأله عضد الدولة ابن بويه أن يصنف له كتاباً في النحو- وصنف الإيضاح، وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، فدرسه عضد الدولة، وأنهاه في ليلة، لكن أبا علي تنبه وعمد إلى تدارك الخطأ، فصنف التكملة وحملها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ؛ فجاء بما لانفهمه نحن ولا هو!!

وكذلك فإن النحاة لاموا السيرافي لما كتب كتابه الإقناع، وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب يفي بالغرض، قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الإقناع، وقاوموه وحاربوه فلم يبق منه بقية، ويبدو أنه قد وافته على عجل المنية.

ولعلي أكثرت من ذكر الأولين وتعاملهم مع النحو، فكيف هي المناهج الدراسية الحديثة وما اشتملت عليه من مادة علمية تُقدّم للطالب؟ لكنني أفضل أن أحيل السؤال إلى أهل الاختصاص، وأختم بمحصلة مفادها: أن النحو الحديث ومقرراته في المدارس والمعاهد والجامعات قد ُبذل فيه جهد طيب، وجُرّد من كثير مما خالطه من الخلافات والتعقيدات، لكن في ظني، ومن تجربة من درس الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة أنه مازال ينقصه الكثير من التشويق والترغيب، والممارسة والأهم من ذلك كله إدراك أهميته لتخصصات كثيرة تتجاوز المتخصصين في اللغة العربية، فلكم أن تتصوروا كاتباً أو صحفياً أو محاضراً، أو أديباً، أو خطيباً يخبط خبط عشواء في مدينة القواعد، فلا يعرف فيها مدخلاً ولا مخرجاً.

المصدر: http://www.islamtoday.net/nawafeth/artshow-53-10797.htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك