الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم

الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم
الدكتور يوسف القرضاوي
مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه.. أما بعد:
فلا يزعجني أن يكون للصحوة الإسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربصون بها، ويكيدون لها، فهذا أمر منطقي اقتضته سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع بين الخير والشر، والتي أقام الله عليها هذا الكون الذي نعيش فيه: (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) (سورة الفرقان: 31).
وقد قال تعالى في شأن أعداء الملة والأمة: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) (سورة البقرة: 217).
إنما الذي يزعجني ويؤرقني ويذيب قلبي حسرات: أن تعادي الصحوة نفسها وأن يكون عدوها من داخلها، كأن يضرب بعضها بعضا، ويكيد بعضها لبعض، وأن يكون بأسها بينها.
لا يزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الإسلام، والعمل على التمكين له في الأرض، وفقا لتحديد الأهداف وتربيتها، وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها من حيث القوة والأمانة، أو الكفاية والإخلاص.
ومن السذاجة بحيث أدعو إلى جماعة أو حركة واحدة، تضم جميع العاملين للإسلام في نظام واحد، وتحت قيادة واحدة، فهذا تقف دونه حوائل شتى، وهو طمع في غير مطمع.
وقد ذكرت في أكثر من بحث لي أنه لا مانع أن تتعدد الفصائل والجماعات العاملة لنصرة الإسلام، إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض..على أن يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، حتى يكمل بعضهم بعضا.. ويشد بعضهم أزر بعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية، والهموم المشتركة، صفا واحدا كأنهم بنيان مرصوص.
ولكن الذي يدمي القلب حقا أن يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الأمر حق قدره، وأن يبذر بذور الفرقة أينما حل، وأن يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف، ويورث العداوة والبغضاء، وتركيزه دائما على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق، وهو دائما معجب برأيه، مزك لنفسه وجماعته، متهم لغيره.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطرا، وخصوصا في مسائل الفروع، وبعض الأصول غير الأساسية، إنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر الله ورسوله منه.
لهذا كانت الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها ومدارسها في حاجة إلى وعي عميق بما نسميه (فقه الاختلاف).
وهو أحد أنواع خمسة من الفقه ينبغي التركيز عليها، لأننا أحوج ما نكون إليها، وهي:
1. فقه المقاصد:
الذي لا يقف عند جزئيات الشريعة ومفرداتها وحدها، بل ينفذ منها إلى كلياتها وأهدافها في كل جوانب الحياة واستكمال الشوط الذي قام به الإمام الشاطبي في (موافقاته) وإبراز العناية بالمقاصد الاجتماعية خاصة.
2. فقه الأولويات ومراتب الأعمال:
وكنت نبهت عليه في كتابي "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" ولا زال يحتاج إلى مزيد من التعميق والتأصيل والتفصيل والتطبيق على الواقع.
3. فقه السنن:
أعني القوانين الكونية والاجتماعية التي أقام الله عليها عالمنا هذا، وقضى بأنها لا تتبدل ولا تتحول مثل سنن: التغيير والنصر والتدرج.. وغيرها.
4. فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد:
وهو مبني على فقه الواقع ودراسته دراسة علمية مبنية على ما يسره لنا عصرنا من معلومات وإمكانات، لم يكن يحلم بها بشر سواء واقعنا وواقع الآخرين، بعيدا عن التهوين والتهويل.
5. وأخيرا (فقه الاختلاف):
الذي عرفه خير قرون الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، فلم يضرهم الاختلاف العلمي شيئا، وجهلناه فأصبحنا يعادي بعضنا بعضا، بسبب مسائل يسيرة، أو بغير سبب!!
وقد كتب أخونا الفاضل الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني، كتابا حول: "أدب الاختلاف في الإسلام" نشر في سلسلة كتاب (الأمة) وهو كتاب علمي نافع بلا ريب، وقد اعتمد فيه المنهج التاريخي. وكتابي هذا تتمة للموضوع وتعميق وتأصيل له، وربط له بالواقع الذي يعيشه العمل الإسلامي، والذي يفرز على الساحة ما نراه ونلمسه من أفكار واتجاهات ومقولات، شتت الشمل، ومزقت الصف، واشتمتت بنا الأعداء.
ويكاد لا يمر علي يوم إلا وأتلقى فيه رسائل من أنحاء العالم الإسلامي تشكو من الأخوة الذين لا شغل لهم إلا إثارة الخلاف، وتوزيع التهم على عباد الله، دون تقدير للواقع، ولا مراعاة للظروف والضرورات وما عمت به البلوى.
لهذا حين طلب إلي الأخوة المنظمون لمؤتمر رابطة الشباب المسلم العربي في أمريكا لهذا العام (1989م) أن أكتب عن هذا الموضوع الدقيق الخطير، رحبت به، لإدراكي مدى أهميته للصحوة الإسلامية، وضرورته للحركة الإسلامية، واستعنت الله على الكتابة فيه، برغم الأعباء والمشاغل، فكانت هذه الصحائف التي أسأل الله سبحانه أن يجعلها شعاعا مضيئا على درب العمل الإسلامي الواعي، والصحوة الإسلامية الراشدة، وأن ينفع بها كاتبها وقارئها وكل من أسهم في نشرها وتعميم النفع بها.
اللهم ارزقنا نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نميز به بين المتشابهات وميزانا نستضئ به في مفارق الطرقات.. (ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير)
الدوحة في د.يوسف القرضاوي
22 جمادي الأولى 1410هـ عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
20 ديسمبر 1989م جامعة قطر

خطة البحث
خطتنا في هذا البحث

يقوم بحثنا في فقه الاختلاف على جملة دعائم علمية وعملية، فكرية وخلقية يتضمنها تمهيد وأبواب ثلاثة، وخاتمة.
أما التمهيد فعن الاختلاف وأنواعه وأسبابه.
وأما الأبواب الثلاثة فأولها يضم فصلين:
الأول بعنوان: الاتحاد والترابط فريضة دينية.
والثاني بعنوان: تفرق الأمة ليس قدرا لازما ولا دائما.

وأما الباب الثاني فيشمل الدعائم الفكرية والعملية التي قوم عليها فقه الاختلاف وهي تتجلى في عشرة فصول:
1. الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة.
2. اتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين.
3. التركيز على المحكمات لا المتشابهات.
4. تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية.
5. ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء.
6. تحديد المفاهيم والمصطلحات.
7. شغل المسلم بهموم أمته الكبرى.
8. التعاون في المتفق عليه.
9. التسامح في المختلف فيه.
10. الكف عمن قال (لا إله إلا الله).

وأما الباب الثالث فيشمل الدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف، وتتمثل في فصول ستة:
1. الإخلاص والتجرد من الأهواء.
2. التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف.
3. إحسان الظن بالآخرين.
4. ترك الطعن والتجريح للمخالفين.
5. البعد عن المراء واللدد في الخصومة.
6. الحوار بالتي هي أحسن.

وأود أن أنبه هنا إلى أن الفصل بين الجانب الفكري والجانب الخلقي، إنما هو بحسب الظاهر والغالب، وإلا فإن التداخل بينهما قائم، وبخاصة أن الإسلام لا يعرف الفصل بين الجانبين من الناحية العملية.
وأما الخاتمة فهي تنبيه موجز وسريع لما يسعى إليه هذا البحث وما يرجوه من الجبهة الإسلامية لإعلاء كلمة الإسلام، وإنقاذ الأمة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها، مع إعطاء مثل تطبيقي في فقه الاختلاف من رجل له وزنه في نشر الدعوة الإسلامية، وتأصيل العمل الإسلامي، وهو الإمام الشهيد حسن البنا.

تمهيد

* أنواع الاختلافات وأسبابها :
الاختلافات من حيث أسبابها وجذورها أنواع، أو قل نوعان:
1. اختلافات أسبابها خلقية.
2. اختلافات أسبابها فكرية.
أما الاختلافات التي ترجع إلى أسباب أخلاقية، فهي معروفة للعلماء والمربين الذين يتدبرون دوافع الأحداث والمواقف، ولا يكتفون بالنظر إلى سطوحها دون أن يغوصوا في أعماقها.
ومن هذه الأسباب:
أ. الغرور بالنفس، والإعجاب بالرأي.
ب. سوء الظن بالغير، والمسارعة إلى اتهامه بغير بينة.
ج. حب الذات واتباع الهوى، ومن آثاره: الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب.
د. التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف.
ه. العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد.
وهذه كلها رذائل أخلاقية عدت من (المهلكات) في نظر (علماء القلوب) ويجب على المسلم العادي ـ بله العامل للإسلام الداعي إليه ـ أن يجاهد نفسه، حتى يتحرر منها، ولا يستسلم لها، ويسلم زمامه للشيطان، وأن يعمل بجد في رياضة نفسه حتى يتحلى بأضدادها.
والاختلاف الذي ينشأ عن هذه الرذائل أو المهلكات، اختلاف غير محمود، بل هو داخل في التفرق المذموم.
اختلافات أسبابها فكرية:
وأما الاختلافات التي سببها فكري، فمردها إلى اختلاف وجهات النظر في الأمر الواحد، سواء كان أمرا علميا كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية، أم كان أمرا عمليا كالخلاف في المواقف السياسة واتخاذ القرارات بشأنها، نتيجة الاختلاف في زوايا الرؤية، وفي تقدير النتائج وتبعا لتوافر المعلومات، عند طرف، ونقصها عند طرف آخر، وتبعا للاتجاهات المزاجية والعقلية للأطراف المتباينة، وتأثيرات البيئة والزمن عليها سلبا وإيجابا.
ومن أبرز الأمثلة لذلك: اختلاف الجماعات الإسلامية حول مواقف سياسية كثيرة في عصرنا، مثل خوض المعارك الانتخابية، ودخول المجالس النيابية، والمشاركة في الحكم في دولة لا تلتزم بتطبيق الإسلام كله، والتحالف مع بعض القوى السياسية غير الإسلامية أو غير المسلمة، لإسقاط قوة طاغية تخنق كل رأي حر، وتخرس كل صوت حر، إسلاميا أو غير إسلامي، مسلما أو غير مسلم.
وبعض الخلاف هنا سياسي محض، أي يتعلق بالموازنة بين المصالح والمفاسد وبين المكاسب والخسائر، في الحال وفي المآل.
وبعضها فقهي خالص، أي يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي في الموضوع: أهو الجواز أم المنع؟ مثل المشاركة في الحكم، والتحالف مع غير المسلمين، أو غير الإسلاميين، ومثل مشاركة المرأة في الانتخابات ناخبة ومرشحة. وبعضها اختلط فيه النظر الفقهي بالنظر المصلحي والسياسي.
ومن أهم الأمثلة البارزة وأوضحها هنا: اختلاف الرأي بين العاملين للإسلام في مناهج الإصلاح والتغيير المنشود:
أنبدأ بالقمة أم بالقاعدة؟
أنرجح طريق الثورة والعنف أم طريق التدرج والرفق؟
أيفضل الانقلاب العسكري أم الكفاح السياسي، أم التكوين التربوي؟
أنعطي الأولوية للعمل الجماهيري، أم لتكوين الطلائع؟
أيجوز تعدد الحركات العاملة للإسلام، فيعمل كل منها في ميدان أم لابد من حركة جامعة شاملة؟
إلى آخر ما يمكن أن يقال في هذا المجال، وهو رحب..
ويدخل في الخلافات الفكرية: اختلاف الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل: علم الكلام، وعلم التصوف، وعلم المنطق، وعلم الفلسفة، والفقه المذهبي.
فهناك من يتعب لهذه العلوم بعضها أو كلها، ويدافع عنها، ويأخذها بعجرها وبجرها.
ومقابلة من يرفضها كلها، ويعتبرها دخيلة على الإسلام، مدسوسة عليه وإثمها أكبر من نفعها.
وبينهما من يتوسط بين الفريقين، ويجتهد أن يحكم بينهما بالقسط، وأن يأخذ منها يدع، ويقبل ويرفض.
كما يدخل في الخلافات الفكرية، الاختلاف في تقويم بعض الأحداث التاريخية وبعض الشخصيات التاريخية كذلك.
فمن الأحداث: ما وقع بين بعض الصحابة، مثل موقف عمر من خالد، وعثمان من ابن مسعود وأبي ذر، وموقف طلحة والزبير وعائشة من علي، وحرب صفين، وقضية التحكيم وما تبعها.
ومن الشخصيات: معاوية وأبوه وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم.
ومثلها الشخصيات العلمية، مثل بعض علماء الكلام أو رجال التصوف.
ومنها: أبو حامد الغزالي، وأبو العباس ابن تيمية، ومحيي الدين بن عربي وغيرهم من المشاهير الذين اختلف الناس في أمرهم، ما بين معظم أبلغ التعظيم إلى حد قد يصل إلى التقديس، وبين قادح طاعن مسرف في القدح.
على أن الخلاف الأكبر والأوسع هو الخلاف في فروع الفقه، وبعض مسائل العقيدة غير القطعية.
ولهذا النوع من الخلاف أمثلة شتى، نشير إليها في السطور التالية.

* الاختلاف الفقهي :
ومن أقوى أسباب الاختلاف والتفرق بين فصائل الصحوة الإسلامية: الاختلاف في فروع الفقه تبعا لتعدد المشارب والمدارس في فهم النصوص، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، ما بين موسع ومضيق، ومتشدد ومترخص، ميال إلى مدرسة النص، وميال إلى مدرسة الرأي، وما بين موجب لتقليد المذاهب على كل الناس ومحرم له على كل الناس أيضا، ومتوسط بينهما، ممن يجيز للعامي التقليد دون إلزام بمذهب معين، ويطالب كل من كان من أهل العلم أن يستكمل نقصه العلمي حتى يبلغ درجة النظر في الأدلة والترجيح بين الأقوال، والاجتهاد ـ ولو جزئيا ـ فيما جد من أمور.
ولذلك أمثلة في مجالات شتى:
1. في مجال الطهارة:
حكم (الكلونيا) و (السبرتو) المستخدم للتطهير وما استحال عن عين نجسة الأصل، ومياه المجاري إذا نقيت، والتوضؤ من أكل لحم الإبل، ومن لمس المرأة، ومس الذكر.. الخ.
2. وفي مجال الصلاة:
مثل إرسال اليدين أو قبضهما، وقراءة البسملة سرا أو جهرا أو عدمها، والاختلاف في الأذان والإقامة، وحكم صلاة الجماعة، وجلسة الاستراحة والنزول باليدين قبل الركبة أو العكس. وما يجوز من الجمع بين الصلاتين، وما لا يجوز.
3. وفي الزكاة:
هل تجب الزكاة في الفواكه والخضراوات وفي محاصيل أخرى مهمة كالقطن أو لا؟ وهل يجوز إخراج القيمة في الزكوات ـ وخصوصا زكاة الفطر ـ أو لا؟ هل في حلي النساء زكاة سنوية أو لا؟
4. وفي الصيام:
مثل إثبات دخول رمضان وعيد الفطر: أيكون برؤية الواحد أم بالاستعاضة أم بالحساب؟ أيتوسع في المفطرات أم يضيق فيها؟
5. وفي الحج:
أيجوز الإحرام من جدة لركاب الطائرات، أم لا؟ أيجوز الرمي قبل الزوال أم لا؟ أيجوز ذبح هدي التمتع في مكة قبل يوم النحر أم لا؟
6. وفي الزينة والتجمل:
أيكون إعفاء اللحية واجبا أم سنة؟ وهل يجوز تهذيبها والأخذ منها أو لا؟ وما حكم إحفاء الشارب؟ وهل يحرم إطالة الثوب ولو لغير خيلاء؟ وهل يجب على المرأة المسلمة لبس النقاب أو يكفي تغطية ما عدا الوجه والكفين؟ وهل يجوز لها بعض الزينة الخفيفة مثل الكحل في العينين والخاتم في اليدين؟ وهل يجوز استعمال (الكولونيا) للتطيب؟ وما حكم التصوير؟ ما له ظل وما ليس له ظل، وبخاصة التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني.
7. وفي اللهو والترفيه:
هل يجوز سماع الغناء بآلة أو بغير آلة أو لا؟ وما قيود ذلك وشروطه عند الجواز؟
8. وفي المأكل والمشرب:
هل يجوز تناول ذبائح أهل الكتاب؟ وهل يعتبر أهل أوروبا وأمريكا أهل كتاب أو لا؟
9. وفي فقه الأموال والمعاملات:
هل يجوز تسعير السلع والإجارات، وخصوصا المساكن، والعقارات؟
وبالتالي: إلى أي مدى يجوز تدخل الدولة في الاقتصاد وتوجيهه؟
وما الحكم في استغلال الأرض البيضاء والمزرعة؟ وما تأويل الأحاديث التي نهت عن كراء الأرض؟ والأحاديث التي تقول: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه"؟ وما حكم التأمين بأنواعه المختلفة؟
وما حكم العمل في المؤسسات الحالية التي لا تلتزم بكل أحكام الإسلام؟
10. وفي الفقه السياسي والدستوري والدولي:
ما القول في الحكام الذين لا يحكمون بما أنزله الله: أهم كفرة أم عصاة فقط؟
وما الحكم في استخدام القوة لإسقاطهم؟
وما الحكم في محاولة بعض الأفراد تغيير المنكرات العامة باليد أي باستعمال العنف والقوة المادية؟
وما الحكم في الانتخاب لاختيار أهل الحل والعقد أو أهل الشورى؟
وما حكم الشورى: أهي معلمة أم ملزمة؟
وما القول في تحديد مدة الإمارة أو رئاسة الدولة؟
وما موقف الأقليات غير المسلمة من وظائف الدولة المسلمة؟
وما موقف الأقليات المسلمة في دولة غير مسلمة؟
وما الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها: أهو السلام أم الحرب؟
وهل الجهاد للدفاع أو للهجوم؟
وبعبارة أخرى: هل يقاتل الكفار لكفرهم أو لعدوانهم على المسلمين؟
وهل هناك دار غير دار الإسلام ودار الحرب؟
وما المدلول المحدد لكل من هاتين الدارين؟
وغيرها.. وغيرها.. من القضايا الكثيرة المتنوعة، التي تختلف فيها وجهات النظر، وتتعدد الإجابات والفتاوى في شأنها من أهل العلم والفكر، شأن كل المسائل الاجتهادية، التي ليس فيها نص شرعي قطعي الثبوت، قطعي الدلالة

الباب الأول: الاتحاد فريضة والتفرق جريمة

يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين له: الاتحاد والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة، وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة، من العداوة الظاهرة، أو البغضاء الباطنة، ويؤدي إلى فساد ذات البين، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعا.
فلا يوجد دين دعا إلى الأخوة التي تتجسد في الاتحاد والتضامن، والتساند والتآلف، والتعاون والتكاتف، وحذر من التفرق والاختلاف والتعادي، مثل الإسلام في قرآنه وسنته.

* من توجيهات القرآن:

يقول الله تعالى في سورة آل عمران: (يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) (سورة آل عمران: 100ـ 107).
نقل الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" في سبب النزول هذه الآيات جملة آثار عن بعض الصحابة والتابعين، أكثرها تفصيلا: ما أخرجه ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا معه من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة الحرة ـ فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ أبعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس، وما صنع: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون). إلى قوله: (وما الله بغافل عما تعملون) وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما، من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) إلى قوله: (وأولئك لهم عذاب عظيم).
والآيات الكريمة دعوة قوية إلى توحيد الكلمة، واجتماع الصف المسلم على الإسلام، وقد تضمنت:
1. التحذير من دسائس غير المسلمين، ومن طاعتهم فيما يوسوسون به، فليس وراءها إلا الارتداد على الأعقاب، والكفر بعد الإيمان.
2. التعبير عن الاتحاد بالإيمان، وعن التفرق بالكفر، فإن معنى (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) أي بعد وحدتكم وأخوتكم متفرقين متعادين كما تدل أسباب النزول.
3. أن الاعتصام بحبل الله من الجميع هو أساس الوحدة والتجمع بين المسلمين وحبل الله هو الإسلام، والقرآن.
4. التذكير بنعمة الأخوة الإيمانية بعد عداوات الجاهلية وإحنها وحروبها، وهي أعظم النعم بعد الإيمان (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم) (سورة الأنفال: الآية: 63).
5. لا يجمع الأمة أمر مثل أن يكون لها هدف كبير تعيش له، ورسالة عليا تعمل من أجلها، وليس هناك هدف أو رسالة للأمة الإسلامية أكبر ولا أرفع من الدعوة إلى الخير الذي جاء به الإسلام، وهذا سر قوله تعالى في هذا السياق (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
6. التاريخ سجل العبر، والواعظ الصامت للبشر، وقد سجل التاريخ أن من قبلنا تفرقوا واختلفوا في الدين فهلكوا، ولم يكن لهم عذر، لأنهم اختلفوا بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم البينات من ربهم، ومن هنا كان التحذير الإلهي: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).
هذا وقد أكد القرآن أن المسلمين ـ وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم ولغاتهم وطبقاتهم ـ أمة واحدة، وهم الأمة الوسط الذين جعلهم الله (شهداء على الناس) (سورة البقرة: 143) وهم كما وصفهم القرآن (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (سورة آل عمران الآية: 110).
وأعلن القرآن أن الأخوة الواشجة هي الرباط المقدس بين جماعة المسلمين وهي العنوان المعبر عن حقيقة الإيمان (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (سورة الحجرات: 10).
وجاءت الآيات بعد هذه الآية تقيم سياجا من الآداب والفضائل الأخلاقية يحمي الأخوة مما يشوهها ويؤذيها، من السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن، والتجسس، والغيبة (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خير منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (سورة الحجرات: 11،12).
وحذر القرآن من التفرق إيما تحذير. ومن ذلك قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا، ويذيق بعضكم بأس بعض) (سورة الأنعام: 65).
فجعل تفريق الأمة شيعا، يذوق بعضها بأس بعض، من أنواع العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالناس إذا انحرفوا عن طريقه، ولم يعتبروا بآياته، وقرنها القرآن بالرجم ينزل من فوقهم، كالذي نزل بقوم لوط، أو بالخسف يقع من تحت أرجلهم، كالذي وقع لقارون.
وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم كانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (سورة الأنعام: 159).
جاء عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا في دينهم.
وجاء عن غيره أنهم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة.
قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد، لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى، قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (سورة الشورى: 13).
وذم القرآن الذين تفرقوا واختلفوا في الدين من أهل الكتاب في آيات كثيرة سيمر علينا بعضها في موضعه من هذا البحث.

* توجيهات السنة النبوية :

أما السنة النبوية فقد قررت وأكدت وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف، والتحذير من التفرق والاختلاف.
فقد دعت السنة إلى الجماعة والوحدة، ونفرت من الشذوذ والفرقة، دعت إلى الأخوة والمحبة، وزجرت عن العداوة والبغضاء.
والأحاديث في هذا كثيرة وفيرة..
روى الترمذي عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية (اسم موضع) فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة.
وروي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة".
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي ـ أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار".
وفي الصحيحين: "أن من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتة جاهلية".
وأكدت السنة الدعوة إلى الأخوة والوحدة بين المسلمين في مواقف كثيرة وبأساليب شتى "المسلم أخو المسلم، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته".
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم".
"المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم".
ولقد حذرت السنة النبوية أبلغ التحذير وأشده من التباغض والتهاجر، والتشاحن، وفساد ذات البين.
فمن حديث أنس بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
ومن حديث أبي هريرة: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".
ومن حديث أبي هريرة أيضا: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات.. "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
ومن حديثه كذلك: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء (أي عداوة) فيقال: أنظروا (أي أخروا) هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا".
ومن حديث أبي الدرداء: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
قال الترمذي: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
ومن حديث أبي هريرة: "إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة".
ومن حديث مولى الزبير عن الزبير: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذين نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".
ومن حديث ابن عباس: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإخوان متصارمان" أي متقاطعان.
ومن حديث أبي خراش الأسلمي: "من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه".
ومن حديث جابر بن عبد الله: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"
توجيهات السنة النبوية:
أما السنة النبوية فقد قررت وأكدت وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف، والتحذير من التفرق والاختلاف.
فقد دعت السنة إلى الجماعة والوحدة، ونفرت من الشذوذ والفرقة، دعت إلى الأخوة والمحبة، وزجرت عن العداوة والبغضاء.
والأحاديث في هذا كثيرة وفيرة..
روى الترمذي عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية (اسم موضع) فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة.
وروي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة".
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي ـ أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار".
وفي الصحيحين: "أن من فارق الجماعة شبرا فمات، فميتة جاهلية".
وأكدت السنة الدعوة إلى الأخوة والوحدة بين المسلمين في مواقف كثيرة وبأساليب شتى "المسلم أخو المسلم، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته".
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم".
"المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم".
ولقد حذرت السنة النبوية أبلغ التحذير وأشده من التباغض والتهاجر، والتشاحن، وفساد ذات البين.
فمن حديث أنس بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
ومن حديث أبي هريرة: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".
ومن حديث أبي هريرة أيضا: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات.. "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
ومن حديثه كذلك: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء (أي عداوة) فيقال: أنظروا (أي أخروا) هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا".
ومن حديث أبي الدرداء: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة".
قال الترمذي: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
ومن حديث أبي هريرة: "إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة".
ومن حديث مولى الزبير عن الزبير: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذين نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".
ومن حديث ابن عباس: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإخوان متصارمان" أي متقاطعان.
ومن حديث أبي خراش الأسلمي: "من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه".
ومن حديث جابر بن عبد الله: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"

* من كراهية الإسلام للفرقة :

ومن كراهية الإسلام للفرقة والاختلاف، نجد الرسول الكريم، يأمر بالانصراف عن قراءة القرآن إذا خشي من ورائها أن تؤدي إلى الاختلاف.
فقد روى الشيخان عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه" أي تفرقوا وانصرفوا لئلا يتعادى بكم الاختلاف إلى الشر.
فرغم ما هو معلوم لكل مسلم من فضل قراءة القرآن، وأن لقارئه بكل حرف عشر حسنات، لم يأذن بقراءته إذا أدت إلى التنازع والاختلاف، سواء كان الاختلاف في القراءة وكيفية الأداء، فأمروا أن يتفرقوا عند الاختلاف، ويستمر كل منهم على قراءته، كما ثبت فيما وقع بين عمر وهشام، وبين ابن مسعود وبعض الصحابة وقال: كلاكما محسن.
أم كان الاختلاف في فهم معانيه، فالمعنى: اقرؤوه وألزموا الائتلاف على ما دل عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة تقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله في الحديث الآخر: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم".
وفي هذه الأحاديث ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حق.

* لماذا الحرص على الوحدة والترابط؟ :
لماذا حرص الإسلام كل هذا الحرص على الاتحاد والترابط، ولماذا حذر كل هذا التحذير من التفرق، والتشاحن؟
الواقع إن وراء الاتحاد منافع وآثارها في حياة الأمة لا تخفي على ذي لب.
(أ) ـ فالاتحاد يقوي الضعفاء، ويزيد الأقوياء قوة، على قوتهم، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا يسهل تحطيمها لأنها باتحادها مع اللبنات الأخرى، في تماسك نظام، أصبحت قوة أي قوة، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف بقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
ونبهت عليه الآية الكريمة، حيث يقول تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (سورة الصف: 4).
والقصة المشهورة التي علمها الأب لأبنائه تؤكد هذا المعنى، إذ لم يستطع أي واحد منهم، أن يكسر مجموعة العصي المتضامة على حين أمكن بيسر كسر كل منها على حدة، وقال في ذلك:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا!
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا!
(ب) والاتحاد كذلك عصمة من الهلكة، فالفرد وحده يمكن أن يضيع، ويمكن أن يسقط، ويفترسه شياطين الإنس والجن، ولكنه في الجماعة محمي بها كالشاة في وسط القطيع، لا يجترئ الذئب أن يهجم عليها، فهي محمية بالقطيع كله، إنما يلتهمها الذئب حين تشرد عن جماعتها وتنفرد بنفسها، فيجد فيها ضالته، ويعمل فيها أنيابه، ويأكلها فريسة سهلة.
وفي هذا جاء الحديث "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار".
"إن الشيطان ذئب الإنسان، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
"عليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".
ومما له دلالته القوية في الحفاظ على وحدة الجماعة ما ذكرته في كتابي "بينات الحل الإسلامي" مما سجله القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام حينما ذهب لمناجاة ربه، استجابة لوعد الله تعالى، الذي واعده ثلاثين ليلة، ثم أتممها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وخلف في قومه أخاه وشريكه في الرسالة هارون عليهما السلام.
وفي غيبة موسى فتن قومه بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، فلما رجع موسى إلى قومه، فوجئ بهذا الانحراف الكبير الذي يتصل بجوهر العقيدة التي بعث بها هو، وبعث بها كل الرسل من قبله ومن بعده.
وهنا غضب موسى، وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا، ألا تتبعن، أفعصيت أمري) (سورة طه: 92،93) فكان جواب هارون كما ذكر القرآن: (قال يا ابن آدم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين إسرائيل، ولم ترقب قولي) (سورة طه: 94).
وفي هذا الجواب نرى أن نبي الله هارون اعتذر لأخيه بهذه الجملة: (إني خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل، ولم ترقب قولي).
ومعنى هذا أنه سكت على ارتكاب الشرك الأكبر، وعبادة العجل، الذي فتنهم به السامري، حفاظا على وحدة الجماعة، وخشية من تفرقها، وهي ـ لا شك ـ خشية موقوتة بمدة غياب موسى، حتى إذا عاد تفاهم الأخوان الرسولان في كيفية مواجهة الأزمة.

* معنى جعل بأس هذه الأمة بينها :

ويقول بعض الناس: إن تفرق الأمة أمر لازم فرضه القدر وأخبر به الشرع فلا مناص منه، ولا مهرب منه.
يدل لذلك:
1. ما جاء من أحاديث تكاثرت واستفاضت تنبئ بأن الله تعالى جعل بأس هذه الأمة بينها.
2. حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.
معنى جعل بأس هذه الأمة بينها:
أما أحاديث جعل هذه الأمة بأسها بينها، وتسليط بعضها على بعض، فهي أحاديث صحيحة مستفيضة رويت عن عدد من الصحابة، منهم سعد بن أبي وقاص وثوبان، وجابر بن عتيك، وأنس بن مالك، وحذيفة ومعاذ بن جبل، وخباب بن الأرت، وشداد بن أوس، وخالد الخزاعي، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس وأبي هريرة.
وقد ذكر هذه الأحاديث الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) (سورة الأنعام: 65).
واكتفي من هذه الأحاديث بثلاثة:
ما رواه أحمد ومسلم عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة أعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".
وروى الإمام أحمد وغيره عن خباب بن الأرت: راقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، فقلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنها صلاة رغب ورهب! سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا، فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها".
فروى مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها.." الحديث.
والأحاديث المذكورة ـ وما في معناها مما لم نذكره ـ واضحة الدلالة على المراد، وهو أن الله تعالى ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمته أمرين كرامة له عليه الصلاة والسلام، وأجاب دعوته فيهما:
الأول: أن لا يهلكها بما أهلك به الأمم السابقة بمثل الغرق الذي أهلك الله به القوم نوح، أو فرعون وجنوده، أو بالسنين أي المجاعات الماحقة التي تهلك بها الأمة كافة، أو بغير ذلك من الرجم من فوقهم أو الخسف من تحت أرجلهم.
الثاني: أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، يسلط عليهم بحيث يستبيح بيصتهم ويستأصل شأفتهم، ويقضي على وجودهم.
ولكن أمرا آخر طلبه النبي صلى الله عليه وسلم من ربه، فلم يجب إليه ولم يضمنه له، وهو: أن لا يلبس هذه الأمة شيعا، ولا يجعل بأسها بينها، فلم يجب الله سبحانه لرسوله الكريم هذا السؤال، وتركه للسنن الكونية والاجتماعية، ولشبكة الأسباب والمسببات.
فالأمة هنا هي مالكة أمر نفسها، لم يجبرها الله على شيء، ولم يخصها ـ في هذا المجال ـ بشيء، فإذا هي استجابت لأمر ربها، وتوجيه نبيها، ودعوة كتابها، ووحدت كلمتها، وجمعتصفها، عزت وسادت وانتصرت على عدو الله وعدوها، وحققت ما يرجوه الإسلام منها، وإن هي استجابت لدعوات الشياطين، وأهواء الأنفس تفرقت بها السبل، وسلط عليها أعداؤها، من خلال تفرقها، وتمزق صفوفها، كما أشار إلى ذلك الحديث "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا".
والحديث لا يعني بحال أن يكون تفرق الأمة وتسلط بعضها على بعض أمرا لازما، ودائما وعاما، يشمل كل الأزمنة، وكل الأمكنة، وكل الأحوال إلى يوم القيامة.
وإلا لم يكن هناك معنى لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران: 103).
ولا لقوله عز وجل: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105).
ولا لقوله سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (سورة الأنفال: 46).
ولا لقوله جل شأنه: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) (سورة الصف: 4).
ولا لقوله عز من قائل: (ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون) (سورة الروم: 31-32).
ولا لقوله: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) (سورة المؤمنين: 52).
ولا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
ولا لقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وقوله: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
وقوله: "لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا".
إلى غير ذلك من نصوص القرآن والحديث التي أمرت بالاتحاد والائتلاف، ونهت عن التفرق والاختلاف والتي أوجبت على المسلمين أن يكون لهم إمام واحد، وأن لا يبايعوا لخليفتين في وقت واحد، وأن يقاوموا من يريد أن يفرق كلمتهم وأمرهم جميع.. الخ.
ولو كان التفرق قدرا مفروضا على الأمة بصورة عامة ودائمة لكانت هذه الأوامر والنواهي عبثا، لأنها تأمر بما لا يمكن وقوعه، وتنهى عما يستحيل اجتنابه.
والأحاديث التي أخبرت بأن الله لم يسلط على الأمة عدوا من غيرها يقوض بنيانها، ويأتي عليه من القواعد، وإنما تركها لأنفسها، وجعل بأسها بينها ـ لم تخبر بأن هذا أمر واقع في كل بقعة من أرض الإسلام، وفي كل عصر من العصور.
إنما هو داء وبيل تصاب به الأمة كلما تهيأت أسبابه، ولم تتحصن منه بما ينبغي، كما يصاب الفرد بالمرض إذا أهمل الوقاية، أو قصر في العلاج.
وقد يقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وبين قوم معينين دون غيرهم، ويكفي مثل هذا ليصدق الخبر النبوي.
وقد جاء في بعض الأحاديث، أن جعل بأس الأمة بينها يكون عقوبة من الله لها على انحرافها عن شرعه وكتابه، ولا سيما أئمتها ورؤساؤها. كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم".
على أن ما أنذرت به الأحاديث المذكورة من جعل بأس الأمة بينها يمكن أن يفسر بما وقع بالفعل في بعض الأزمنة السابقة، كما وقع في عهد الصحابة أنفسهم من الفتن، وما وقع في عهود من بعدهم، في العصر الأموي ثم في العصر العباسي، مما مهد لدخول الصليبيين من الغرب، والتتار من الشرق، إلى دار الإسلام، والسيطرة على أجزاء منها مدة من الزمان.
وقد بشرت أحاديث أخرى بأن الإسلام ستعلو كلمته، وأنه سيدخل أوروبا مرة أخرى، بعد أن طرد منها مرتين، وأنه سيفتح (رومية) كما فتح من قبل (القسطنطينية) وأنه لا يبقى بيت مدر أو وبر إلا أدخله الله هذا الدين، الذي سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، ومعلوم أن هذا كله لا يمكن أن يتم والأمة ممزقة يضرب بعضها رقاب بعض، إنما يتم ذلك حين تتوحد الكلمة على الإسلام، وتمضي الأمة تحت راية الإيمان.

* حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة:

أما حديث افتراق الأمة إلى فرق فوق السبعين كلها في النار إلا واحدة، ففيه كلام كثير في ثبوته وفي دلالته.
أ- فأول ما ينبغي أن يعلم هنا أن الحديث لم يرد في أي من الصحيحين، برغم أهمية موضوعه، دلالة على أنه لم يصح على شرط واحد منهما.
وما يقال من أنهما لم يستوعبا الصحيح، فهذا مسلم، ولكنهما حرصا أن لا يدعا بابا مهما من أبواب العلم إلا ورويا فيه شيئا ولو حديثا واحدا.
ب- إن بعض روايات الحديث لم تذكر أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، وإنما ذكرت الافتراق وعدد الفرق فقط. وهذا هو حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وفيه يقول:
"افترقت اليهود على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو اثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".
والحديث ـ وإن قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ـ مداره على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، ومن قرأ ترجمته في "تهذيب التهذيب"، علم أن الرجل متكلم فيه من قبل حفظه، وإن أحدا لم يوثقه بإطلاق وكل ما ذكروه أنهم رجحوه على من هو أضعف منه. ولهذا لم يزد الحافظ في التقريب على أن قال: صدوق له أوهام. والصدق وحده في هذا المقام لا يكفي ما لم ينضم إليه الضبط، فكيف إذا كان معه أوهام؟؟‍!
ومعلوم أن الترمذي وابن حبان والحاكم من المتساهلين في التصحيح، وقد وصف الحاكم بأنه واسع الخطو في شرط التصحيح.
وهو هنا صحح الحديث على شرط مسلم، باعتبار أن محمد بن عمرو احتج به مسلم، ورده الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا، بل بانضمامه إلى غيره (1/6). على أن هذا الحديث من رواية أبي هريرة ليس فيه زيادة: أن الفرق "كلها في النار إلا واحدة" وهي التي تدور حولها المعركة.
وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق عدد من الصحابة: عبد الله بن عمرو، ومعاوية، وعوف بن مالك وأنس، وكلها ضعيفة الإسناد، وإنما قووها بانضمام بعضها إلى بعض.
والذي أراه أن التقوية بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل، وغيرها! وإنما يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا إشكال في معناه.
وهنا إشكال أي إشكال في الحكم بافتراق الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها. وهو يفتح بابا لأن تدعى كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها.
ولهذا طعن العلامة ابن الوزير في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة، لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض، بل تكفيرها بعضها لبعض.
قال رحمه الله في "العواصم" وهو يتحدث عن فضل هذه الأمة، والحذر من التورط في تكفير أحد منها، قال: وإياك والاغترار بـ "كلها هالكة إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة.
قال: وعن ابن حزم: إنها موضوعة، عير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميع ما ورد في ذم القدرية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية.
ج- إن من العلماء قديما وحديثا من رد الحديث من ناحية سنده، ومنهم من رده من ناحية متنه ومعناه.
فهذا أبو محمد بن حزم، يرد على من يكفر الآخرين بسبب الخلاف في الاعتقاديات بأشياء يوردونها.
وذكر من هذه الأشياء التي يحتجون بها في التكفير حديثين يعزونهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما:
1. "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة".
2. "تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار حاشا واحدة، فهي في الجنة".
قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به؟
وهذا الإمام اليمني المجتهد، ناصر السنة، الذي جمع بين المعقول والمنقول، محمد بن إبراهيم الوزير يقول في كتابه "العواصم والقواصم" أثناء سرده للأحاديث التي رواها معاوية رضي الله عنه، فكان منها (الحديث الثامن): حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا فرقة واحدة، قال: وفي سنده ناصبي، فلم يصح عنه، وروى الترمذي مثله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: حديث غريب. ذكره في الإيمان من طريق الإفريقي واسمه عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عنه.
وروى ابن ماجه مثله عن عوف بن مالك، وأنس.
قال: وليس فيها شيء على شرط الصحيح، ولذلك لم يخرج الشيخان شيئا منها. وصحح الترمذي منها حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، وليس فيه "كلها في النار إلا فرقة واحدة" وعن ابن حزم: أن هذه الزيادة موضوعة ذكر ذلك صاحب "البدر المنير".
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض)، وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة" ولم يزد على ذلك فلم يصفه بصحة ولا حسن، رغم أنه أطال تفسير الآية بذكر الأحاديث والآثار المناسبة له.
وذكر الإمام الشوكاني قول ابن كثير في الحديث ثم قال: قلت: أما زيادة "كلها في النار إلا واحدة" فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة.
على أن الحديث ـ وإن حسنه بعض العلماء كالحافظ ابن حجر، أو صححه بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد طرقه ـ لا يدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد، أمر مؤيد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث أن يوجد هذا في وقت من الأوقات.
فقد توجد بعض هذه الفرق، ثم يغلب الحق باطلها، فتنقرض ولا تعود أبدا.
وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الفرق المنحرفة، فقد هلك بعضها، ولم يعد لها وجود.
ثم إن الحديث يدل على أن هذه الفرق كلها جزء من أمته صلى الله عليه وسلم أعني أمة الإجابة المنسوبة إليه، بدليل قوله: "تفترق أمتي" ومعنى هذا أنها ـ برغم بدعتها ـ لم تخرج عن الملة، ولم تفصل من جسم الأمة المسلمة.
وكونها (في النار) لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين.
وقد يشفع لهم شفيع مطاع من الأنبياء أو الملائكة أو آحاد المؤمنين وقد يكون لهم من الحسنات الماحية أو المحن والمصائب المكفرة، ما يدرأ عنهم العذاب.
وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، ولا سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق، ولكنهم لم يوفقوا وأخطئوا الطريق، وقد وضع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

الباب الثاني: الدعائم الفكرية في فقه الاختلاف

* طبيعة الدين :

يجب أن يعلم الذين يريدون جميع الناس على رأي واحد، في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين: أنهم يريدون ما لا يمكن وقوعه، ومحاولتهم رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الخلاف. وهي محاولة تدل على سذاجة بينة، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها.
وإنما أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة.
طبيعة الدين:
فأما طبيعة الدين، فقد أراد الله تعالى، أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح المؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما يقبل الاجتهاد والاستنباط، وتسلم فيما لا يقبل ذلك، إيمانا بالغيب، وتصديقا بالحق، وبهذا يتحقق الابتلاء الذي بنى الله عليه خلق الإنسان: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان:2).
ولو شاء الله لجعل الدين كله وجها واحدا، وصيغة واحدة، لا تحتمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد كفر.
ولكنه لم يفعل ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة، وطبيعة الناس ويوسع الأمر على عباده.
أجل لو شاء الله تعالى أن يتفق المسلمون على كل شيء، ولا يقع منهم اختلاف في شيء، ولو كان فرعا من الفروع، أو أصلا من الأصول غير الضرورية لأنزل كتابه كله نصوصا محكمات قاطعات الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه المحكمات ـ وهن أم الكتاب ومعظمه ـ وفيه المتشابهات، وهن أقله، وفي ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى.
فيقول تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (آل عمران: 7).
بل إننا نجد ـ قبل مرحلة الفهم والتفسير ـ مرحلة القراءة نفسها، فقد تعددت القراءات في كتاب الله إلى سبع، بل إلى عشر، وهي القراءات المتلقاة بالقبول من الأمة، ولم ير أحد من علماء المسلمين في ذلك أي حرج، لأنها كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رجلا قرأ آية، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ خلافها، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة، فقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
وروى الجماعة مثله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضيته مع هشام بن حكيم.
قال العلامة ابن الوزير معلقا على هذا الموضع:
فهذا الخلاف الذي نهي عنه، وحذر منه الهلاك، هو التعادي. فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه، ألا تراه قال لابن مسعود: "كلاكما محسن" حين أخبره باختلافهما في القراءة؟ ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم بإحسانهما في ذلك الاختلاف، فالاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به منهما، فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين، وضعف الإسلام، وظهور أعدائه على أهله، والمحسن هو عمل كل أحد بما علم، مع عدم المعاداة لمخالفه والطعن عليه.
قال: وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين.

* طبيعة اللغة :

وأما طبيعة اللغة، فلا شك أن مصدر الدين الذي يرجع إليه ويستدل به ويلزم من آمن به، هو القرآن والسنة، كما قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36).
والقرآن الكريم نصوص قولية لفظية، وجمهرة السنة كذلك أقوال ونصوص لفظية وهذه النصوص القرآنية والنبوية يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره، ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز، أو ما يقوله المناطقة: ما يحتمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، أو اللزوم.
فيها ما يدل بالمنطوق، وما يدل بالمفهوم، فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، في كل منها ما دلالته قاطعة، وما دلالته محتملة، راجحة أو مرجوحة وما يعتبر راجحا عند زيد يعتبر مرجوحا عند عمرو.
خذ مثلا آية كآية الطهارة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (المائدة: 6).
كم في هذه الآية من آراء وأقوال للفقهاء اختلفت أفهامهم وتعدد تفسيراتهم، وجلها يتعلق بأمور لغوية.
هل الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة ـ مغسولة وممسوحة ـ فرض أو لا؟
وهل الغاية في قوله "إلى المرفقين" وقوله "إلى الكعبين" داخلة أو لا؟
وهل الباء في قوله "برؤوسكم" تفيد الإلصاق أو التبعيض أو هي زائدة؟
وما تأويل قراءة "وأرجلكم" بالجر؟
وما المراد بقوله تعالى "أو لامستم النساء" لمس البشرة للبشرة أم كناية عن الجماع كما يقول ابن عباس؟
وما المراد بالصعيد في التيمم؟ أهو التراب أم كل ما كان من جنس الأرض؟
وما المراد باليد في قوله "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" أهي مجرد الكفين أم ما ذكر في الوضوء، وهو ما يصل إلى المرفقين؟
وما معنى قوله "فلم تجدوا"؟ أيدخل فيه فقدان الماء حكما وإن وجد حقيقة؟ كما إذا كان محتاجا إليه لشرب أو عجن أو طبخ؟
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي أخذ بكل منها إمام من الأئمة.

* طبيعة البشر :

وأما طبيعة البشر، فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد، يبدو ذلك في مظهره المادي، كما في مخبره المعنوي، فكما ينفرد كل إنسان بصورة وجهه، ونبره صوته و(بصمة) بنانه، ينفرد كذلك بلون تفكيره وميوله وذوقه، ونظرته إلى الأشياء والأشخاص والمواقف والأعمال.
وإن من العبث كل العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخا مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن، لأنه مخالف لفطرة الله التي فطر عليها الناس، وغير نافع لو أمكن لأنه لا نفع في مخالفة الفطرة، بل من خالف الفطرة عاقبته عقابا معجلا.
ثم إن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائما مصدر إثراء وخصوبة، وهو آية من آيات الله الدالة على عظيم قدرته وبديع حكمته: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (سورة الروم:22).
وكما جعل الله النخل والزرع مختلفا أكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، وأنواعها من الزرع والثمر (يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل) (الرعد:4). كذلك خلق الناس مختلفين، وإن كانوا كلهم من ذكر وأنثى.
فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، منهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، منهم من يسأل عن الخير ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، منهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة.
وهذا الاختلاف في صفات البشر، واتجاهاتهم النفسية، يترتب عليه ـ لا محالة ـ اختلافهم في الحكم على الأشياء، والمواقف والأعمال، يظهر ذلك في مجال الفقه وفي مجال السياسة، وفي مجالات السلوك اليومي والعادي للناس.
من أبرز الأمثلة لهذا الاختلاف ما عرف واستفاض عن كل من الصحابيين العالمين الجليلين: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا.
فقد كان ابن عمر يبعد الأطفال عنه حتى لا يسيل شيء من لعابهم عليه، تحرزا مما يشتبه في نجاسته، وابن عباس يضمهم إليه، ويقول: إنما هم رياحين نشمها.
وكان ابن عمر يغسل باطن عينيه في الوضوء، ويرى أن لمس المرأة ينقض الوضوء، وابن عباس لا يرى ذلك.
وأزيد على هذا موقفهما من مناسك الحج، فقد كان ابن عمر يرى التحصيب (النزول بالمحصب) من سنن الحج، وابن عباس يقول: التحصيب ليس بسنة أي إن نزول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه لم يكن مقصودا للتشريع والاتباع.
ومثل ذلك موقفهما من الحجر الأسود والمزاحمة عليه، فقد روى سعيد بن منصور عن القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى. (أي يجرح ويسيل منه الدم).
وفي رواية أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم!
وفي مقابل هذا روى الفاكهي من عدة طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، وقال: لا يؤذي ولا يؤذى.
وقبل ابن عمر وابن عباس، نجد موقف الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.
ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) (الأنفال: 67-69).
قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!" فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله عز وجل: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فاضرم الوادي عليهم نارا، ثم ألقهم فيه! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليهم شيئا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (سورة إبراهيم: 36). وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (سورة المائدة: 118). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (سورة يونس: 88). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (سورة نوح: 26). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.
إن طبائع الناس وأمزجتها تختلف من شخص لآخر، فتختلف لذلك مواقفها، حتى بين الأخوين الشقيقين، وأبرز مثال لذلك من الأنبياء موسى، وهارون، عليهما السلام ومن الصحابة الحسن والحسين رضي الله عنهما.

* طبيعة الكون والحياة :

وأما طبيعة الكون الذي نعيش فيه ـ أو بتعبير أدق: في جزء صغير منه ـ فقد خلقه ربه الأعلى سبحانه مختلف الأنواع والصور والألوان، اقرأ قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء) (سورة فاطر: 27،28).
ولكن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن، ليس اختلاف تضارب وتناقض، بل هو ـ كما نؤكد دائما ـ اختلاف تنوع وتلون، ولهذا تكررت في القرآن كلمة "مختلف ألوانه" في أكثر من سورة، وأكثر من مناسبة.
بل نجد القرآن الكريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الكون، وذلك في قوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الملك: 3).
وكذلك طبيعة الحياة، فهي أيضا تختلف وتتغير، بحسب مؤثرات متعددة منها المكان والزمان.

* الاختلاف رحمة :

والاختلاف ـ مع كونه ضرورة ـ هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، وقد روي في ذلك حديث اشتهر على الألسنة لا يعرف له سند، وإن كنت أرى أنه صحيح المعنى، وهو ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عنه صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة".
ويؤيد معنى هذا الحديث ما رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين: "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعونها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
والأشياء المسكوت عنها تكون عادة من أسباب الاختلاف، لأنها تكون منطقة فراغ تشريعي، يحاول كل فقيه أن يملأها وفقا لأصوله، واتجاه مدرسته، فواحد يتجه إلى القياس، وآخر إلى الاستحسان، وثالث إلى الاستصلاح، ورابع إلى العرف، وغيره إلى البراءة الأصلية… وهكذا.
المهم أن الحديث يشير إلى أن السكوت عن النص على حكم معين في هذه المنطقة كان مقصودا، فلا يضل ربي ولا ينسى، وكان الهدف هو الرحمة والتيسير على الأمة.
وإذا كان في هذا الحديث بعض الضعف، من ناحية إسناده، فهناك حديث آخر في معناه يشهد له، وهو ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا"، ثم تلا: (وما كان ربك نسيا) (الآية 64 من سورة مريم).
فالعفو هنا في معنى الرحمة في الحديث السابق، وكلها تدل على قصد التوسعة والتيسير على هذه الأمة. وذلك يتمثل في أمرين:
1. ترك النص على بعض الأحكام، أو (السكوت عنها) بتعبير الحديث الشريف وترك ذلك للعقول المسلمة لتجتهد في فهمه في ضوء المنصوص على حكمه.
2. صياغة ما نص عليه من الأحكام ـ في غالب الأمر ـ صياغة مرنة بحيث تتسع لتعدد الأفهام، وتنوع الآراء والاجتهادات.
ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعا بذلك.
بل نجد خليفة راشدا من أئمة الهدى ـ وهو عمر بن عبد العزيز ـ يرى بما أوتي من علم وبصيرة، في اختلاف الصحابة سعة ورحمة فيقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة.
يعني أنهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم. كما أنهم سنوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، وظلوا معها أخوة متحابين.
ويروى ذلك عن القاسم بن محمد أيضا أحد الفقهاء السبعة المشهورين في عهد التابعين بالمدينة، فقد سئل عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه، فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
وروى ابن عبد البر النمري بسنده إلى يحيى بن سعيد قال: ما برح أولو الفتوى يفتون، فيحل هذا، ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه.
وذلك أن الاجتهاد مشروع، واختلاف الرأي لازم، والشرع لم يحرم المجتهد المخطئ من الأجر، وكل يعمل بما ترجح له، وهذا هو معنى التوسعة والرحمة هنا. وليس معناه أن جميع الأقوال ـ وإن تناقضت ـ صواب، بل الصواب أحدهما، ولكن الجميع محمودون مأجورون، كما قال تعالى: (ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) (الأنبياء: 79).
وقد استقر هذا المعنى واشتهر (أن الاختلاف توسعة ورحمة) عند المتقدمين والمتأخرين.
فالإمام الخطابي (ت 340هـ) ذكر حديث "اختلاف أمتي رحمة" مستطردا، وقال: اعترض على الحديث رجلان: أحدهما ماجن والآخر ملحد، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا! تم رد كلامهما.
ومن المتأخرين نجد من يؤلف كتابا يسميه (رحمة الأمة باختلاف الأئمة).
ويذكر العلامة الشيخ مرعي الحنبلي في تنوير بصائر المقلدين: أن اختلاف المذاهب في هذه الملة رحمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، فاختلافهما خصيصة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة.

* الاختلاف المذموم :

إذا كان الاختلاف في الفروع وبعض الأصول ضرورة، ورحمة وسعة ثروة ـ فما معنى ذم الاختلاف الذي ورد في النصوص الشرعية؟
والجواب: أن الاختلاف المذموم هو:
1. ما كان سببه البغي واتباع الهوى، وهو الذي ذم الله به اليهود والنصارى من أهل الكتاب وغيرهم، الذين دفعهم حب الدنيا، وحب الذات إلى الاختلاف رغم قيام الحجة ووضوح المحجة، قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين آتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) (البقرة: 213).
وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (آل عمران: 19).
وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (الجاثية: 16-17).
2. الاختلاف الذي يؤدي إلى تفرق الكلمة وتعادي الأمة، وتنازع الطوائف، ويلبسها شيعا، ويذيق بعضها بأس بعض.
وهو ما حذر منهالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، أشد التحذير.
يقول القرآن بعد الأمر بتقوى الله حق تقاته، والثبات على الإسلام إلى الممات: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) (آل عمران: 103).
وفي هذا السياق نفسه يحذر من التفرق كما تفرق الذين قبلنا، فيصيبنا ما أصابهم: (لولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران: 105).
وفي موقف آخر يقول: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين) (الأنفال: 46).
ويذم المشركين والمحرفين من أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فيقول: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم من شيء) (الأنعام: 159).
ويقول في سورة أخرى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون) (الروم: 30-32).

* اعتراض ورده :

في أحد المؤتمرات الشبابية كنت أقرر هذه المعنى وأشرحه: معنى أن الاختلاف في الفروع والجزئيات رحمة، ولكن أحد المشاركين اعترض على ذلك بقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) (سورة: هود 118-119).
قلت له: النص القرآني الذي ذكرته حجة لي، لأنه بين أن الاختلاف واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته عز وجل، وهذا يدل على أنه أمر واقع، ماله من دافع، لأن مشيئة الله الكونية لا راد لها، وما شاء الله كان.
قال: ولكن النص استثنى من المختلفين من رحمهم الله تعالى، فدل على أن الاختلاف ينافي الرحمة.
قلت: هذا صحيح فيمن كان الاختلاف وصفا ثابتا لهم لا عرضا طارئا عليهم وهذا لا يكون إلا في الاختلاف في العقائد والأصول، كاختلاف اليهود والنصارى وأهل الملل والنحل، بعضهم مع بعض، واختلاف الفرق داخل كل ملة منهم، بحيث يكفر بعضهم بعضا.
أما الاختلاف في الفروع ونحوها مما ليس فيه نص قاطع ملزم، فلا مدخل له هنا.

* المختلفون في الفروع من أهل الرحمة :

على أن للإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) تحقيقا نافعا في هذا الأمر وردا قويا على هذه الدعوى لخصته في حينه.
ويحسن بنا هنا أن نذكره من مصدره بلفظ الشاطبي. قال رضي الله عنه، بعد أن ذكر اختلاف أهل الملل السابقة، واتفاق أهل الحق من أمة الإسلام: "ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني، لا بالقصد الأول، فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم، يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر، بل لهم في أعظم العذر. ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه. وهو قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية.
فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رده: إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم.
إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) أم لا؟
والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه.
(أحدهما): أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف والمرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قسم الشيء قسيما له، ولم يستقم معنى الاستثناء.
(والثاني): أنه قال فيها: ولا يزالون مختلفين، فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه، وتلافى أمره، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.
(والثالث): أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم، بحيث لا يصلح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه: أنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
(والرابع): أن الجماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة.
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة: ما روي عن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في العمل، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، وعن ضمرة بن رجاء قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجئ بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى تبين فيه فقال له عمر: لا تفعل! فما يسرني باختلافهم حمر النعم. وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة.
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافه، وهو نوع من تكليف ما لا يطاق، وذلك من أعظم الضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة، للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم "من رحم ربك؟!" فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله".

* الاختلاف ثروة :

وعنصر آخر نضيفه هنا ـ إلى كون الاختلاف ضرورة من ناحية، ورحمة من ناحية أخرى ـ هو أن الاختلاف أيضا ثروة.
فإن اختلاف الآراء الاجتهادية يثري به الفقه، وينمو ويتسع، نظرا لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية أفرزتها عقول كبيرة، تجتهد وتستنبط، وتقيس وتستحسن، وتوزن وترجح، وتؤصل، وتقعد القواعد، وتفرع عليها الفروع والمسائل.
وبهذا التعدد المختلف المشارب، المتنوع المسالك، تتسع الثروة الفقهية التشريعية، وتختلف ألوانها، من مدرسة الحديث والأثر، إلى مدرسة الرأي والنظر إلى مدرسة الوقوف عند الظواهر، إلى مدرسة الاعتدال أو الوسط، التي تأخذ من كل مدرسة أحسن ما لديها، متجنبة نقاط الضعف في كل مدرسة حسبما يهدي إليه اجتهادها، غير متحيزة لهذه أو تلك، ولا لهذا الإمام أو ذاك، ولا لهذا القول أو ضده.
وفي النهاية يصبح من وراء هذه المدارس والمشارب والمذاهب والأقوال، كنوز لا يقدر قدرها، وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث.
وهو ما نوهت به المجامع والمؤتمرات العالمية في عصرنا، مثل مؤتمر (لاهاي) للقانون المقارن سنة 1936م. ومؤتمر باريس سنة 1951م.
وللمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي قرار قوي في هذا المعنى اتخذه في دورته العاشرة المنعقدة في سنة 1408هـ بشأن موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب والتعصب المذهبي من بعض أتباعها، وهذا نصه:
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م قد نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة، وفي التعصب الممقوت من بعض أتباع المذاهب لمذهبهم تعصبا يخرج عن حدود الاعتدال، ويصل بأصحابه إلى الطعن في المذاهب الأخرى وعلمائها، واستعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية وتصوراتهم حول اختلاف المذاهب الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليهم المضللون بأنه مادام الشرع الإسلامي واحدا وأصوله من القرآن العظيم والسنة النبوية الثابتة متحدة أيضا، فلماذا اختلاف المذاهب؟ ولم لا توحد حتى يصبح المسلمون أمام مذهب واحد، وفهم واحد لأحكام الشريعة؟ كما استعرض المجلس أيضا أمر العصبية المذهبية والمشكلات التي تنشأ عنها، ولا سيما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم في عصرنا هذا، حيث يدعو أصحابها إلى خط اجتهادي جديد، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقتها الأمة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أئمتها أو بعضهم ضلالا، ويوقعون الفتنة بين الناس.
وبعد المداولة في هذا الموضوع ووقائعه وملابساته ونتائجه في التضليل والفتنة قرر المجمع الفقهي توجيه البيان التالي إلى كلا الفريقين المضللين والمتعصبين تنبيها وتبصيرا:
أولا: حول اختلاف المذاهب:
إن اختلاف المذاهب الفكرية القائم في البلاد الإسلامية نوعان:
أ. اختلاف في المذاهب الاعتقادية.
ب. واختلاف في المذاهب الفقهية.
فأما الأول: وهو الاختلاف الاعتقادي، فهو في الواقع مصيبة جرت إلى كوارث في البلاد الإسلامية، وشقت صفوف المسلمين، وفرقت كلمتهم، وهي مما يؤسف له ويجب أن لا يكون، وأن تجتمع الأمة على مذهب أهل السنة والجماعة الذي يمثل الفكر الإسلامي السليم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلافة الراشدة التي أعلن الرسول أنها امتداد لسنته بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ".
وأما الثاني: وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل فله أسباب علمية اقتضته ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة، ومنها: الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصرا لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقا ويسرا، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات على ضوء الأدلة الشرعية.
فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة ولا تناقضا في ديننا، ولا يمكن أن لا يكون، فلا يوجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي.
فالواقع أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون، لأن النصوص الأصلية كثيرا ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أن النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة لأن النصوص محدودة والوقائع غير محدودة كما قال جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فلا بد من اللجوء إلى القياس والنظر إلى علل الأحكام وغرض الشارع والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الواقع والنوازل المستجدة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد وكل منهم يقصد الحق ويبحث عنه، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج.
فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى ومزية جديرة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية، ولكن المضللين من الأجانب الذين يستغلون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم ولا سيما الذين يدرسون لديهم في الخارج فيصورون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا كما لو كان اختلافا اعتقاديا ليوحوا إليهم ظلما وزورا بأنه يدل على تناقض الشريعة دون أن ينتبهوا إلى الفرق بين النوعين، وشتان ما بينهما.
ثانيا: وأما تلك الفئة الأخرى التي تدعو إلى نبذ المذاهب:
وتريد أن تحمل الناس على خط اجتهادي جديد لها وتطعن في المذاهب الفقهية القائمة وفي أئمتها أو بعضهم، ففي بياننا الآنف عن المذاهب الفقهية ومزايا وجودها وأئمتها ما يوجب عليهم أن يكفوا عن هذا الأسلوب البغيض الذي ينتهجونه، ويضللون به الناس ويشقون صفوفهم، ويفرقون كلمتهم، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام، بدلا من هذه الدعوة المفرقة التي لا حاجة إليها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين".

* وجود الخلاف في خير قرون الأمة :

لقد كان الخلاف موجودا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، ولم يروا فيه شرا، ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه بالعنف أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم له.
بل قيل للإمام أحمد، وكان يرى نقض الوضوء من الرعاف وسيلان الدم الكثير: هل تصلي خلف من خرج منه الدم ولم يتوضأ؟ فأجاب مستنكرا: كيف لا أصلي خلف مالك، وسعيد بن المسيب؟! (وكانا لا يريان النقض بذلك).
وقبل الإمام أحمد سجل للإمام مالك موقفه التاريخي بعد ما ألف كتابه الشهير (الموطأ) بتكليف من الخليفة العباسي، أبي جعفر المنصور، فقد أراد أن يحمل الناس على ما فيه من آراء وأحكام بسلطان الدولة، وبعبارة أخرى: أراد أن يجعل منه قانونا عاما لدولة الخلافة، يلتزم به الكافة وتلغي الآراء والاجتهادات الأخرى قالوا: "لما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره، فقال: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم". ويحكى نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت قال: وفقك الله يا أبا عبد الله! حكاه السيوطي.
بل كان الخلاف موجودا في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم.
بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة، نظرا لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص، أو لاتجاهاتهم النفسية في التشديد والتخفيف، كما ذكرنا ما كان بين ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اختلاف في الاتجاه.
بل أقول: إن الخلاف وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقره ولم ينكره كما في قضية صلاة العصر، في بني قريظة، وهي مشهورة، وفي غيرها من القضايا.
يقول حكيم الإسلام الدهلوي في (الحجة البالغة):
إن أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء لا سيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة في الجانبين كتكبيرات التشريق، وتكبيرات العيدين، ونكاح المحرم، وتشهد ابن عباس وابن مسعود، والإخفاء بالبسملة وبآمين والإشفاع والإيتار في الإقامة ونحو ذلك إنما هو في ترجيح أحد القولين، وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية، وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين، ونظيره اختلاف القراء في وجوه وقد عللوا كثيرا من هذا الباب بأن الصحابة مختلفون، وأنهم جميعا على الهدى.
ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ويسلمون قضاء القضاة، ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم، ولا ترى أئمة المذاهب في هذه المواضع إلا وهم يضجعون القول ويبينون الخلاف، يقول أحدهم: هذا أحوط، وهذا هو المختار، وهذا أحب إلي، ويقول: ما بلغنا إلا ذلك، وهذا كثير في المبسوط، وآثار محمد رحمه الله، وكلام الشافعي رحمه الله.
ثم خلف من بعدهم خلف اختصروا كلام القوم، فقووا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم.
والذي يروي عن السلف من تأكيد الأخذ بمذهب أصحابهم وأن لا يخرج منها بحال فإن ذلك إما لأمر جبلي، فإن كل إنسان يحب ما هو مختار أصحابه وقومه، حتى في الزي والمطاعم، أو لصولة ناشئة من ملاحظة الدليل، أو لنحو ذلك من الأسباب، فظنه البعض تعصبا دينيا حاشاهم من ذلك.
وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها.
وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت في الفجر، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من مس الذكر، ومس النساء بشهوة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك.
ومنهم من يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك.
ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية، وغيرهم، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرا ولا جهرا.
وصلى الرشيد إماما، وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه، ولم يعد، وكان أفتاه الإمام بأنه لا وضوء عليه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟
روي أن أبا يوسف ومحمدا كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس، لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده.
وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبا من أبي حنيفة رحمه الله، فلم يقنت تأدبا معه. وقال أيضا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق.
وقال مالك رحمه الله للمنصور أو هارون الرشيد ما ذكرنا عنه سابقا.
وفي البزازية عن الإمام الثاني ـ وهو أبو يوسف رحمه الله ـ أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذا نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" أهـ.
وسئل الإمام الخجندي رحمه الله عن رجل شافعي المذهب ترك صلاة سنة أو سنتين، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، كيف يجب عليه القضاء، أيقضيها على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟ فقال: على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز. انتهى.
وفي جامع الفتاوى أنه إن قال حنفي: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثا، ثم استفتى شافعيا فأجاب: أنها لا تطلق، ويمينه باطل فلا بأس بالاقتداء بالشافعي في هذه المسألة، لأن كثيرا من الصحابة في جانبه.
قال محمد رحمه الله في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة وهو ممن يراها ثلاثا، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية، وسعة المقام معها، وكذا كل فصل مما يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو اعتاق أو أخذ مال أو غيره، ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي، ويدع رأيه، ويلزم نفسه ما ألزم القاضي، ويأخذ ما أعطاه.
قال محمد رحمه الله: وكذلك رجل لا علم له، ابتلي ببلية فسأل عنها الفقهاء فأفتوه فيها بحلال أو بحرام، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك، وهي مما يختلف فيه الفقهاء، فينبغي له أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع ما أفتاه الفقهاء، انتهى.
* بل وجد الخلاف بين الملائكة والأنبياء :

وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الملائكة قد اختلفوا بل اختصموا بينهم وذلك بقوله تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) (سورة ص: 69).
وإن الأنبياء قد اختلفوا فيما بينهم أيضا.
اختلف موسى وأخوه هارون، عليهما السلام، إلى حد أن أخذ موسى بلحية أخيه، ولامه أشد اللوم بعد عبادة بني إسرائيل العجل السامري قال: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعن، أفعصيت أمري؟ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (سورة طه: 92-94) وفي سورة أخرى قال له: (فلا تشمت بي الأعداء) (الأعراف: 150).
واختلف موسى والخضر عليهما السلام في مواقف ثلاثة انتهت بافتراقهما قال: (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) وهو ما فصلته سورة الكهف.
واختلف داود وابنه سليمان عليهما السلام في حكم الغنم إذ نفشت في زرع القوم، وأشار القرآن إلى أن الصواب كان مع الابن، ولكنه أثنى على الاثنين جميعا فقال: (ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) (سورة الأنبياء: 79).
وصح في الحديث اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في مصير الرجل الذي قتل مئة نفس، ثم خرج تائبا إلى القرية الصالحة ومات في الطريق، أيحكم له بحكم القرية الظالمة التي عاش عمره فيها وقتل من قتل، أم يحكم له بحكم القرية الخيرة التي كانت وجهته إليها، وبعبارة أخرى: أيحكم له بعمله أم بنيته؟ بالأول حكم ملائكة العذاب، وبالثاني حكم ملائكة الرحمة، وقد بعث الله ملكا يحكم بينهم، فحكم لملائكة الرحمة.
وثبت في الحديث كذلك محاجة آدم وموسى حول سبب الخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض، والاستقرار فيها، وهل كان أكل آدم من الشجرة سبب ذلك أو لا؟ وأن آدم حج موسى.
وثبت في الحديث أيضا اختلاف داود وسليمان في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في طفل تدعي كل منهما أنه ابنها، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما! فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله! هو ابنها. فقضى به للصغرى".
وإذا كان الخلاف والاختصام قد وقع بين أكرم الخلق على الله من الملائكة الكرام والأنبياء العظام، لاختلاف زوايا الرؤية، ووجهات النظر، واتساع العلم وضيقه، فكيف نطمع أن نمحو الخلاف بين غيرهم ممن لا عصمة لهم، وليس فيهم ملك مقرب ولا نبي مكرم؟
ورحم الله من قال:
تسأل عن الوفاق، فربنا قد حكى بين الملائكة الخصاما!
كذا الخضر المكرم، والوجيه المكلم، إذا ألم به لماما
تكدر صفو جمعهما مرارا وعجل صاحب السر الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب وقد ثنى على الخضر الملاما
فدل على اتساع الأمر فيما الكرام فيه خالفت الكراما
وما سبب الخلاف سوى اتساع المعلوم هناك نقصا أو تماما

* اتباع المنهج الوسط وترك التنطع في الدين :

ومما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الداعين إلى الإسلام، أو ـ على الأقل ـ تقريب الشقة، وإزالة الجفوة، بينهم: اتباع المنهج الوسط، الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيدا عن طرفي الغلو والتفريط، فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله ـ كما أثر عن السلف ـ بين الغالي فيه والجافي عنه.
ومن كلمات الإمام علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي.
فالوسط هو مركز الدائرة التي ترجع إليه الأطراف المتباعدة عن يمين وشمال.
وهو يمثل الصراط المستقيم، الذي علمنا الله تعالى أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها (اهدنا الصراط المستقيم).
وهو الذي جاء فيه قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما) (سورة الأنعام: 126).
وهو الذي أوصانا الله تعالى أن نتبعه فتتوحد كلمتنا، ولا نتبع السبل والمناهج التي يدعو إليها شياطين الإنس والجن، مما صدر عن الغرب أو الشرق ومال إلى اليمين أو اليسار، قال تعالى في ختام الوصايا العشر من سورة الأنعام: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (سورة الأنعام: 153).
روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما. ثم خط بيمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل). فالصراط المستقيم، هو الخط الوسط بين الخطوط الأخرى عن اليمين وعن الشمال.
وقد جاء في حديث آخر رواه أحمد وابن ماجه عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم وضع يده في (الخط الوسط) ثم تلا الآية.
ذكر العلامة ابن كثير عن ابن عباس في قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وفي قوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (سورة الشورى: 13).
ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
قال: ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد.
هلك المتنطعون؟
ومما يلزم مما ذكرناه من اتباع المنهج الوسط، ويعتبر أيضا من أهم أسباب الوفاق والتقارب بين العاملين للإسلام: تجنب التنطع في الدين، وهو ما أنذر النبي أصحابه بالهلاك، فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا، سواء كان القول إخبارا عن هلاكهم أم دعاء عليهم.
والمتنطعون ـ كما قال الإمام النووي ـ المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
وقال ابن الأثير: المتعمقون المغالون، في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم ـ مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم ـ ثم استعمل في كل تعمق قولا أو فعلا.
ومنه حديث عمر: "لن تزالوا بخير ما عجلتم الفطر، ولم تنطعوا تنطع أهل العراق" أي تتكلفوا القول والعمل.
ومنه حديث ابن مسعود: "إياكم والتنطع والاختلاف…" أراد النهي عن الملاحاة في القراءات المختلفة، وأن مرجعها كلها إلى وجه واحد من الصواب.
وقال غيره: المراد بالمتنطعين: الغالون في عبادتهم بحيث يخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة.
وقيل: المتعنتون في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.
ومنه: الإكثار من التقريع على مسألة لا أصل لها في كتاب ولا سنة، ولا إجماع، وهي نادرة الوقوع، فيصرف فيها زمنا كان صرفه في غيرها أولى سيما إن لزم منه إغفاله التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد منه: البحث عن أمور معينة، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنه ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة، والروح ومدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك، مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف.
وأكثر من ذلك لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به بغير بحث.
وقال بعضهم: مثال التنطع إكثار السؤال حتى يفضي بالمسئول الجواب بالمنع، بعد أن يفتي بالإذن.
وكل هذا من الحرج الذي نفاه الله عن هذا الدين القائم على التيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير.
وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
ولا ريب أن التنطع والتعمق والغلو في الدين يدفع إلى التشديد في الأمور الصغيرة، والضيق بكل مخالف فيها، على حين تكون السماحة واليسر من أسباب التقارب والوفاق.

* تيسير الصحابة والسلف وإنكارهم على المتنطعين:

وهذه الروح هي التي جعلت الصحابة ومن تبعهم بإحسان يتسامحون في الفروع الجزئية، ولا تضيق صدورهم بالخلاف فيها.
بل كانوا ينكرون على من يجعل البحث عن هذه الأمور شغله الشاغل، ولا يرحبون بهذا النوع من السؤال، الذي لا يأتي من ورائه إلا التشديد.
والقرآن نفسه نبه على هذا الأصل حين قال: (يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم) (سورة المائدة: 101).
والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من كثرة الأسئلة التي تنتهي بالتشديد على المسلمين، وذلك حين يقول: "إن أعظم المسلمين جرما رجل سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته".
وقال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
وهو يشير هنا إلى بني إسرائيل وتنطعهم مع موسى في قصة ذبح البقرة وسؤالهم مرة بعد مرة: ما هي؟ ما لونها؟ ما هي؟ ولو ذهبوا بعد الأمر الأول إلى أي بقرة فذبحوها لأجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم.
وروى أنس قال: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه المسألة (أي استقصوا في السؤال) فغضب، فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم"، قال: فجعلت انظر يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي.. ثم انشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، نعوذ بالله من الفتن.
وكان هذا درسا بليغا جعل الصحابة بعد ذلك لا يسألون إلا فيما لا بد لهم منه، ولا يكثرون السؤال فيما لا حاجة لهم إليه.
ويبدو هذا مما سجله لهم القرآن من الأسئلة التي وجهوها إلى النبي الكريم، فلم تزد على ثلاثة عشر سؤالا، يتعلق معظمها بأمور عملية.
وكذلك كانت أجوبتهم لمن سألهم، فهم ييسرون ولا يعسرون، ويبشرون ولا ينفرون، كما أمرهم رسولهم العظيم صلى الله عليه وسلم.
والمنهج العام للصحابة رضي الله عنهم هو التسهيل، والمسامحة في فروع المسائل، والبعد عن التعمق والتدقيق فيها، حتى لا يخرجوا من اليسر إلى العسر، ومن السعة إلى الحرج، وهو منفي في دين الله، كما قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (سورة الحج: 78).
روى البخاري بسنده إلى يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك! وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف (يعني غير مرتب) قالت: وما يضرك أية قرأت قبل!
قال الحافظ في "الفتح": لعل هذا العراقي كان يسمع حديث سمرة المرفوع: "لبسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطهر وأطيب".. وهو عند الترمذي مصححا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس ـ فلعل العراقي سمعه، فأراد أن يستثبت عائشة في ذلك، وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال، فلهذا قالت له عائشة: وما يضرك؟! تعني: أي كفن كفنت فيه أجزأ. وقول ابن عمر للذي سأله عن دم البعوض مشهور، حيث قال: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما طلبه مصحف أم المؤمنين ليرتب القرآن، أو يؤلفه ـ على حد تعبيره ـ على أساسه، فيظهر أن سؤاله عن ترتيب السور، وأن مصحفه لم يكن مرتبا وفق المصحف العثماني، بل ربما كان مرتبا على وفق مصحف ابن مسعود، وكان تأليفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان، ولم تر عائشة في هذا الأمر خطرا كبيرا، بل قالت له: وما يضرك أية قرأت قبل؟.
وقد بين العلامة الدهلوي في كتابه القيم (حجة الله البالغة) ما كان عليه الحال في عصر النبوة والصحابة من السهولة واليسر، في فهم الدين والعمل به، وبعدهم عن التعمق والتعقيد والتشديد، بخلاف ما صار إليه من بعدهم قال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون كما رأوه يصلي، وحج فرمق الناس حجه ففعلوا كما فعل، فهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وسلم ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة، حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد، إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن، منهن (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير) (ويسألونك عن المحيض) قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
وقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.
وقال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها. تسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.
وعن عمر بن اسحاق قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم.
وعن عبادة بن نسي الكندي، وسئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواما ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم. أخرج هذه الآثار الدارمي.

* التركيز على المحكمات لا المتشابهات :

ومما يعين على الاجتماع والائتلاف، ويبعد عن الفرقة والاختلاف: التركيز على اتباع (المحكمات)، وهن أم الكتاب، ومعظمه، كما ذكر القرآن الكريم، وعدم الركض وراء (المتشابهات).
فاتباع المحكمات، واتخاذها الأصل والقاعدة في التفكير والسلوك من شأن الراسخين في العلم، واتباع المتشابهات من شأن الذين في قلوبهم زيغ ودغل.
وفيه قال الله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فإما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب) (سورة آل عمران: 7).
وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (هو الذي أنزل عليك الكتاب..) الآية ثم قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذرهم).
وإذا تركت المحكمات فتح الباب للمراء والاختصام، ولا سيما في المسائل الدقيقة، التي حيرت العقول قديما وحديثا، ولا تزال إلى اليوم.
ومن ثم اشتد نكير النبي صلى الله عليه وسلم على من يضرب القرآن بعضه ببعض ولا يرد متشابهه إلى محكمه.
عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: أبهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض! بهذا هلكت الأمم قبلكم!".
ومعنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم من شدة غضبه احمر وجهه احمرار يشبه فقئ حب الرمان الأحمر في الوجه.
وقوله للصحابة: "أبهذا أمرتم أو لهذا خلقتم" ينكر عليهم أن ينفقوا جهودهم وأوقاتهم في هذا البحث الذي لا طائل تحته، ولا ثمرة من ورائه فما أمرهم الله بهذا، ولا خلقهم لهذا، إنما خلقهم وخلق العالم من حولهم ليبلوهم: أيهم أحسن عملا.
وأبرز ما أنكره عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم يضربون القرآن بعضه ببعض، وقد أنزل الله كتابه ليصدق بعضه بعضا، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (سورة النساء: 82).
وهذا يحدث غالبا من اتباع المتشابهات، التي تختلف دلالاتها، وتتعارض ظواهرها، دون أن ترد إلى المحكمات البينات، التي إذا تدبرها المنصف حسمت النزاع.
وهذا ما يبدو من اتجاه هذا المجلس الذي ثار فيه الجدل بين الصحابة حول موضوع من أدق المواضيع وأغمضها، وهو: القدر.

* تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية :

ومما يقرب المسافة بين الداعين إلى الإسلام في الأمور الخلافية: تجنب القطع في المسائل الاجتهادية، التي تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين. ولهذا قرر علماؤنا: أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بله أن ينكر على مجتهد.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم.
وسئل في مقام آخر رحمه الله: عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز "شركة الأبدان" فهل يجوز له منع الناس من العمل بها؟
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك. لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.
ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه (كتاب الاختلاف) ولكن سمه (كتاب السنة).
ولهذا كان بعض العلماء يقول: اجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا أجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة، مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره. والتوضؤ من مس الذكر، والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك والقراءة بالبسملة سرا، أو جهرا، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يوكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم.
وهذا هو موقف الصحابة من القضايا الاجتهادية التي تقبل أكثر من فهم، وأكثر من تفسير:
روي أن عمر رضي الله عنه قضى في المسألة المعروفة باسم (المسألة الحجرية) في الميراث بعدم التشريك بين الأخوة الأشقاء والأخوة الأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى، فقضى فيها بالتشريك، فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا‍! فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم.
وبهذا فسر ابن القيم قول عمر في كتابه إلى أبي موسى الأشعري "ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
وروي أن عمر لقي رجلا فقال: ما صنعت ـ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها ـ فقال الرجل: قضى علي وزيد بكذا.. فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا.. قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي المشترك.

* ضرورة الاطلاع على اختلاف العلماء :

ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على اختلاف العلماء، ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته، وأدلته التي يستند إليها، ويعول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة، وما أوسعه.
ومن أجل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه، وجوب العلم باختلاف الفقهاء، كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة.
وفي هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء، فليس بعالم.
من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه!
وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لا يعرفون إلا رأيا واحدا، ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد، أو انحصروا في مدرسة واحدة، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأيا آخر، أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة، أو يحيلوا أنظارهم في أفكار المدارس الأخرى.
والعجيب في أمر هؤلاء أنهم ينهون عن التقليد، وهم في الواقع مقلدون، رفضوا تقليد الأئمة القدامى، وقلدوا بعض المعاصرين.
وأنهم ينكرون المذاهب وقد جعلوا من آرائهم مذهبا خامسا، يقاتلون دونه وينكرون على من خالفه!
وأنهم ينكرون علم الكلام القديم وما فيه من جدليات وتزيدات، وقد أنشئوا بأقاويلهم علم كلام جديد، لا يهتم بغرس اليقين في القلوب، بقدر ما يغرس في العقول حب الجدل في أمور العقيدة.
إن موقف هؤلاء من الحقيقة موقف العميان من الفيل، في القصة الهندية المشهورة فهم لا يعرفون إلا ما وقعت عليه أيديهم.
ولو وسعوا آفاقهم لعرفوا أن الأمر يتسع لأكثر من رأي، وأن الآراء المتعددة يمكن أن تتعايش، وإن اختلفت وتعارضت. المهم هو الإنصاف وترك التعصب، والاستماع إلى الآخرين، فقد يكونون أصوب قولا، وأصح فهما.
وكم من دارس منصف رجع عن تعصبه وغلوائه، حين عرف أن في المسائل أقوالا عدة لعلماء معتبرين.
خذ مثلا قضية رمي الجمار في الحج، وما قاله بعضهم من أن من رمى قبل الزوال فحجة باطل! لأنه خالف السنة.
قال جابر: رمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال.
وعن وبرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى أمامك فارمه.. فأعدت عليه المسألة، قال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا.
قال في (الفتح): وفيه دليل على أن السنة يرمي الجمار ـ في غير يوم الأضحى ـ بعد الزوال. وبه قال الجمهور.
وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقا. ورخص الحنفية في الرمي قبل الزوال في يوم النفر، أي يوم النزول من منى، وكذلك روي عن إسحاق.
وهذه هي المسألة التي اختلف فيها الشيخ عبد الله بن زيد المحمود مع علماء الرياض منذ أكثر من ثلاثين عاما. وكتب فيها رسالة (يسر الإسلام)، واشتد المشايخ هناك في الرد عليه، مع أن جواب ابن عمر لمن سأله ـ رغم تشدده في الاتباع ـ يدل على سهولة الأمر عنده، وحسب المسلم في ذلك أن يتبع أمير الحجيج، قدم أو أخر.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الرمي نفسه، كما في (الفتح).
فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم.
وعند المالكية: أنه سنة مؤكدة.
وعندهم رواية: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه.
ومقابله: قول بعضهم: إنما شرع الرمي حفظا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها.
ويقول بعض الأخوة: إن الرأي الذي ينفرد به فقيه أو اثنان خلافا لجمهور الأمة، يجب أن لا يعتد به ولا يعول عليه.
وقال غيرهم: إن ما خالف المذاهب الأربعة التي تلقتها الأمة، بالقبول، يجب أن يرفض ولا يقام له اعتبار.
والحق أن هذا كله لا يقو عليه دليل من كتاب أو سنة.
فالإجماع الذي هو حجة ـ على ما قيل فيه ـ هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي، ولم يقل أحد: إنه اتفاق الأكثرية، أو الجمهور فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد.
صحيح أن لرأي الجمهور وزنا يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه، ولا نخرج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه، ولكنه ليس معصوما على كل حال.
وكم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم، ولا يضره ذلك.
وكم من فقهاء التابعين من كان له رأي خالفه آراء الآخرين. ولم يسقط ذلك قوله. فالمدار على الحجة لا على الكثرة.
وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال، مضى عليها اتباع مذهبه، مؤيدين ومصححين.
ومذهب أحمد بن حنبل ـ وهو مذهب المشهور باتباع الأثر ـ قد عرف بـ (مفرداته) التي نظمها من نظم، وألف فيها من ألف، وغدا من المألوف أن يقرأ الباحث فيه هذه العبارة: وهذا من مفردات المذهب.
والمذاهب الأربعة ـ على مالها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة ـ ليست حجة في دين الله، إنما الحجة ما تستند إليه من أدلة شرعية، منقولة أو معقولة.
وما يقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لا يؤخذ على إطلاقه وعمومه، فكم من رأي مهجور أصبح مشهورا، وكم من قول ضعيف في عصر جاء من قواه ونصره، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه وأقام عليه الأدلة، حتى غدا هو عمدة الفتوى.
وحسبنا هنا آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، التي لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت بعد وفاته قرونا، وظل من العلماء من يعتبرها خرقا للإجماع، حتى جاء عصرنا التي وجد فيها سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة من الدمار والانهيار.
وآفة بعض (الحرفيين) ـ ممن أسميهم (الظاهرية الجدد) ـ أنهم يحسبون أن باستطاعتهم حذف الخلاف في المسائل الشرعية الاجتهادية فرعية أو أصلية، يجمع الناس على ما يرونه حقا وصوابا، ورفض ما عداه مما يعتبرونه باطلا وخطأ.
ونسي هؤلاء أن الإعجاب بالرأي أحد (المهلكات) وأن بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ومن ذلك أن يحقر رأيه.
إن عيب (الظاهرية الجدد) أنهم يعتبرون وجود حديث نبوي، في موضوع الخلاف قد حسم النزاع، والمخالف لهم، حينئذ مخالف للحديث، ومعارض السنة.
وهم في هذا جد مخطئين، لجملة أسباب:
فقد يعتمدون هم تصحيح الحديث تقليدا لبعض العلماء السابقين، أو المعاصرين من المشتغلين بالحديث، ولكن غيرهم لا يسلم لهم بذلك. وهذا أمر معروف من قديم بين كبار علماء الأمة، وفقهاء السلف، يصحح هذا حديثا،، وغيره يضعفه، لأنه يشترط في ثبوت الحديث عنده ما لا يشترط الآخر، إما بصفة عامة، أو فيما تعم به البلوى، وينتشر بين الناس، وإما لاختلافهم في توثيق الرواة، وتجريحهم. فهذا يعدل روايا، وآخر يعتبره مجروحا.
وقد يقوي أحدهم الحديث بتعدد الطرق الضعيفة التي يروى بها، ولا يسلم غيره له بذلك.
وقد يرى أحدهم الاحتجاج بالمرسل، ولا يرى آخرون ما يراه، وهكذا.. انظر إلى أحاديث مثل الأحاديث التي وردت في تحريم الذهب على النساء، فقد صححها بعض العلماء وضعفها آخرون، والذين صححوها ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وبعضهم إلى أنها متأولة، وذلك لإجماع الأمة بجميع مذاهبها على إباحة التحلي بالذهب للنساء، وهو ما استقر عليه عمل الأمة بالفعل طوال أربعة عشر قرنا من الزمان.
وقد ينازعهم المخالفون على افتراض صحة الحديث الذي يعتمدون عليه، بأن الحديث ليس في أمر تشريعي، بل في أمر عادي من أمور الدنيا، مثل حمل العصا في الخطبة أو الأكل باليد، أو على الأرض، ومثل قوله عليه السلام: "عليكم بالإثمد (نوع من الكحل)، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، فالمسلم إذا لم يعارض بهذا، وعمل بتوصية طبيب العيون المختص، لم يكن مخالفا لنص، ولا معارضا لسنة.
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي، ولكنه تشريع مما ثبت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفة الإمامة والرئاسة، لا بصفة التبليغ والفتوى عن الله عز وجل كما قال ابن القيم في حديث "من قتل قتيلا فله صلبه".
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي عام دائم، ولكن الخلاف واقع، في دلالته على الحكم، كما إذا اشتمل على أمر أو نهي، فهل الأمر للوجوب، أم للاستحباب أم للإرشاد؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة، وهل الكراهة تحريمية أم تنزيهية؟
هذه الاحتمالات كلها قائمة، وهي أقوال وآراء لعلماء الأصول في دلالة الأمر والنهي، ولكل قول منها دليله ووجهته.
وفي كل من دلالة الأمر والنهي سبعة أقوال على ما ذكر الأصوليون في مبحثي الأمر والنهي.
وقد رأينا الصحابة يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم، أوامر، ومع هذا يترخصون في تركها، لعلمهم أنها لم تكن عازمة جازمة، فإذا ثبت لهم ذلك باللفظ، أو بالقرينة، كانوا أسرع الناس إلى تنفيذها.
وفي أحد الأسفار للغزو، كانوا صائمين في رمضان، فأمرهم بالإفطار، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، متأولين أنه إنما أراد الرفق بهم، ولم يكن في الأمر ما يدل على الإلزام الجازم، فلما اقتربوا من التلاحم مع العدو، قال لهم: "إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا" فكانت عزمة، فأفطروا.
ورأيناهم في حديث "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وأصبغوا" يرون الأمر هنا لمجرد الإرشاد أو الاستحباب، فلهذا امتثل بعضهم وصبغ، وبعضهم لم يصبغ، ومنهم من صبغ بالحناء، وبغيرها، ومنهم من صبغ بالسواد.
وكذلك حديث: لا تسم ابنك ولا غلامك، نافعا ولا يسارا ولا رباحا..الخ، رأيناهم يسمون نافعا ويسارا، كما هو ثابت في أسماء التابعين، مثل نافع مولى ابن عمر، وسليمان بن يسار، وعطاء بن رباح، وغيرهم.
ولهذا رأينا إماما مثل ابن تيمية، يحمل حديث "من مس فرجه فليتوضأ" على الاستحباب.
وكذلك الوضوء من أكل لحوم الإبل، يراه للاستحباب لا للوجوب، خلافا لمذهب إمامه أحمد في المثالين.

* تحديد المفاهيم والمصطلحات :

ومن الأمور المهمة لتقريب شقة الخلاف بين المسلمين عامة وبين الفصائل العاملة للإسلام خاصة: تحديد (المفاهيم) التي يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح، يرفع عنها الغموض والاشتباه.
فكثيرا ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة وشرح بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط.
ومن ثم كان علماؤنا السابقون يحرصون على (تحرير موضع النزاع) في المناظرات والخلافيات، حتى لا تنصب معركة على غير شيء.
وكثيرا ما يشتد الخلاف بين فريقين، ويثور العجاج بينهما، ثم يتبين في النهاية أن الخلاف كان لفظيا، وأن لا ثمرة عملية تجنى من ورائه.
إن الخوارج الذين كفروا المسلمين قديما، واستحلوا دماءهم وأموالهم، ومن لحق بهم من دعاة التكفير حديثا ـ إنما سقطوا في هذه الحفرة لعدم ضبطهم لمفاهيم ومصطلحات كثيرة وردت في نصوص الشرع، فأساؤوا فهمها، ووصفوا لها مدلولات من عند أنفسهم غير ما أراده الشارع منها، فضلوا وأضلوا.
ومن ذلك: مصطلحات الإيمان والكفر، والشرك والنفاق والجاهلية، وما يحوم حول هذه المعاني.
فهم لم يميزوا بين استعمالات الشرع المختلفة لهذه الألفاظ، فإنه تارة يريد بها الحقيقة، وطورا يريد بها المجاز.
فكثيرا ما يراد بالإيمان في نصوصه في القرآن والسنة: الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان، الذي إذا نفي عن صاحبه فقد كفر.
وهذا واضح في آيات الكتاب العزيز، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة.
فقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا) (الأنفال: 3-5) إنما يراد بهم المؤمنون الذين كمل إيمانهم، وليس المراد: أن من لم يوجل قلبه من ذكر الله، أو لم يكن من المتوكلين على الله، يكون كافرا خارجا عن أصل الإيمان.
ومثل قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم على صلاتهم يحافظون. أولئك هم الوارثون) (سورة المؤمنين: 1-10) فالمراد المؤمنون الكاملو الإيمان، وليس المعنى أن من لم يخشع في صلاته، أو لم يعرض عن اللغو مثلا يكون كافرا، بل هو مؤمن ناقص الإيمان.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" لا يعني نفي أصل الإيمان، بل كماله، وليس معناه أن من ارتكب واحدة من هذه الكبائر يكون كافرا كفرا مخرجا من الملة.
ولو كان المنفي هنا هو أصل الإيمان لكان كل من هؤلاء مرتدا، وكانت العقوبة في الجميع واحدة وهي عقوبة المرتد، ولم تتنوع العقوبات ما بين جلد ورجم وقطع.
كيف وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عن لعن أحد شراب الخمر المدمنين، حين قال أحد الصحابة: اللهم العنة، ما أكثر ما يؤتى به! فقال: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله!
فدل بوضوح على أن مجرد المعصية ـ وإن كانت كبيرة ـ لا يقتلع أصل الإيمان من جذر القلب، بدليل أنه لم يزل يحب الله ورسوله.
ومثل ذلك أحاديث جمة، حفلت بها كتب السنة، تحدثت عن شعب الإيمان وهي بضع وسبعون شعبة.
وذلك مثل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".
"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه".
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".
وكذلك الشرك: منه ما هو أكبر، وهو أن يجعل مع الله إلها آخر.
وهو الذي يوصف أهله بأنهم (المشركون) أو (الذين أشركوا).
وهو الذي أخبر الله تعالى نه بأنه لا يغفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (سورة النساء: 48،116).
وهذا هو الشرك الجلي، والشرك المطلق، والشرك الحقيقي.
وهناك شرك أصغر، يطلق على بعض المعاصي، التي تنافي كمال التوحيد، كما صح ذلك في عدد من الأحاديث.
مثل: "من حلف بغير الله فقد أشرك"
"إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
"من علق تميمة فقد أشرك"
ومثل ذلك الكفر، منه ما هو أكبر سواء كان كفرا أصليا أم طارئا. فالكفر الأصلي مثل كفر الملاحدة والدهريين الذين يجحدون وجود الله تعالى، أو كفر الذين يؤمنون بالله في الجملة، ويكفرون بالنبوة والرسالة، أو الذين يؤمنون ببعض الرسل دون بعض أو بعض ما أنزل الله دون بعض.
اقرأ في ذلك قوله تعالى:
(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (سورة النساء: 136).
(إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) (سورة النساء: 150،151).
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) (سورة المائدة: 72،73).
والكفر الطارئ هو كفر الردة، وهو الذي يخرج صاحبه من الإسلام بيقين لا يقبل الشك، كأن ينكر معلوما من الدين بالضرورة، أو يعمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر، وهو الذي يمكن أن يقال عمن فعله: (قد بدل دينه).
ومن الكفر كفر أصغر، وهو الذي قيل فيه: كفر دون كفر، وهو ما يطلق على المعاصي، كما ورد في بعض النصوص، وهو إطلاق مجازي، على معنى أنه قد يقضي إلى الكفر، ويؤول إليه، كما قيل: المعاصي بريد الكفر. أو أنه شبيه بأعمال الكفار، أو المراد: كفر النعمة.
وذلك مثل قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44).
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
"بين الرجل وبين الشرك والكفر وترك الصلاة".
"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
"لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر"
"ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر.. ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" أي رجع عليه.
وما قيل في الشرك والكفر، يقال في النفاق، فمنه ما هو أكبر، وهو نفاق العقيدة، وما هو أصغر وهو نفاق العمل.
فأما نفاق العقيدة فهو أن يظهر الإيمان بلسانه وبعض أفعاله، وهو في باطنه كافر بالله أو برسوله، كالذين ذكرهم الله في سورة البقرة، (ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون) (سورة البقرة: 8،9).
وقال عنهم في أول سورة المنافقين: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) (سورة المنافقين: 1،2).
وهم الذين توعدهم الله بأشد الوعيد فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) (سورة النساء: 145).
وأما نفاق العمل، فهو أن تكون له خصال المنافقين وأخلاقهم، وأن يشبههم في أعمالهم، وسلوكهم، ولكنه مصدق بقلبه بالله ورسوله وبالدار الآخرة.
وهذا هو الذي جاءت في مثله الأحاديث الصحيحة المعروفة، مثل: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
ومثل ذلك: مفهوم (الجاهلية) الذي يدور بين الكبائر إذا كان يتعلق بصلب العقيدة وبين صغائر المعاصي، التي تزل بها قدم المؤمن، كقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل أبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية".
ولذا ذكر البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء: 48).
إلى غير ذلك من المفاهيم التي يجب تحديدها وتصحيحها وبيانها، حتى لا تلتبس على الناس المعاني، فتضطرب الأحكام.
ولكن الذي ينبغي ذكره، والتنبيه عليه هنا: مفهوم يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقته وهو مفهوم (العلو) و(الفوقية) الذي يثبته السلف لله تبارك وتعالى، فبعض الناس قد يفهم منه: أنهم يثبتون لله سبحانه التحيز في جهة مادية حاصرة له عز وجل، ولهذا سارع من لم يعرف حقيقة مذهبهم باتهامهم بالقول بالتجسيم، لأن القول بالجهة يستلزم الحد والجسمية، فأخذوهم بلازم المذهب، وهم يجهلون كنه مذهبهم.
وقد وضح حقيقة مذهبهم في ذلك الإمام عماد الدين الواسطي وهو العلامة السلفي الصوفي الشافعي الذي كان ابن تيمية يسميه (جنيد زمانه) ويقول عنه الحافظ الذهبي: شيخنا القدوة، قال في رسالة (النصيحة):
"إن الله عز وجل كان ولا مكان، ولا عرش، ولا ماء، ولا فضاء، ولا هواء، ولا خلاء ولا ماء.
وأنه كان منفردا في قدمه وأزليته، متوحدا في فردانيته، سبحانه وتعالى في تلك الفردانية لا يوصف بأنه فوق كذا، إذ لا شيء غيره، هو سابق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم وهو لا زمان له، والرب تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدوث.
فلما اقتضت الإرادة المقدسة، بخلق الأكوان المحدثة، المخلوقة المحدودة ذوات الجهات، اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل، وهو سبحانه منزه عن صفات الحدوث فكون الأكوان، وجعل لها جهتي العلو والسفل.
واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت، لكونه مربوبا مخلوقا، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو فوق الكون، باعتبار الكون المحدث لا باعتبار فردانيته، إذ لا فوق فيها ولا تحت، والرب سبحانه وتعالى كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته، لم يحدث له في ذاته ولا في صفاته، ما لم يكن في قدمه وأزليته، فهو الآن كما كان.
لكن لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات، والحدود والخلاء، والملاء، والفوقية والتحتية، كان مقتضى حكم العظمة للربوبية أن يكون فوق ملكه، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم من المكون، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من الجهة التحتية، أو من جهة اليمنة أو اليسرة، بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو، والفوقية، ثم الإشارة هي بحسب الكون، وحدوثه، وأسفله. فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة، وتقع على عظمة الرب تعالى كما يليق به، لا كما يقع على الحقيقة المعقولة عندنا في أعلى جزء من الكون، فإنها إشارة إلى جسم، وتلك إشارة إلى إثبات.
إذا علم ذلك فالاستواء صفة له كانت في قدمه، لكن لم يظهر حكمها إلا عند خلق العرش، كما أن الحساب صفة قديمة له لا يظهر حكمها إلا في الآخرة، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله.
فإذا علم ذلك، فالأمر الذي يهرب المتأولون منه، حيث أولوا الفوقية: بفوقية المرتبة، والاستواء: بالاستيلاء، فنحن أشد الناس هربا من ذلك، وتنزيها للبارئ سبحانه وتعالى عن الحد الذي يحصره، فلا يحد بحد يحصره، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وأسفله، إذ لا يمكن الإشارة إليه إلا هكذا.
وهو في قدمه سبحانه منزه عن صفات الحدوث، وليس في القدم فوقية ولا تحتية، وإن من هو محصور في التحت، لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة، وتنتهي الجهات عند العرش، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكفيه الوهم، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا، لا مكيفا ولا ممثلا".
وقد علق العلامة رشيد رضا على كلام الواسطي فقال في تفسير المنار:
أقول: ولاستاذه ابن تيمية نحو ذلك في بيان معنى ما ورد من أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده وأنه في السماء، فلا يعنون بشيء مما ورد أن ذات الله القديم محصورة في السماء أو العرش أو محدودة في الجهة التي فوق رؤوسنا، بل صرح ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن جهة الرأس كسائر الجهات من اليمين والشمال وغيرهما هي من الأمور النسبية التي لا حقيقة لها في نفسها، وإنما يفسرون ذلك بما علمت.
إن تحديد المفاهيم، وتوضيح المصطلحات، وإزالة الغبش واللبس عنها، يقرب المسافة بين المختلفين، وقد يزيل الخلاف من أساسه إذا صدقت النيات.

* شغل المسلم بهموم أمته الكبرى :

من أكثر ما يوقع الناس في حفرة الاختلاف، وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف: فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة، والآمال العظيمة، والأحلام الواسعة. وإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، واقتتلت ـ أحيانا ـ فيما بينها على غير شيء!
ولا يجمع الناس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك، وما أصدق ما قاله أحمد شوقي:
إن المصائب يجمعن المصابين!
وإن من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السابقون، وتنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون. في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها التي ربما كنا سببا أو جزءا من السبب في وقوعها.
وهذا ما حدا بابن عمر رضي الله عنهما، حينما سأله من سأله من أهل العراق عن دم البعوض في حالة الإحرام، فأنكر على السائل هذا التنطع والتعمق في السؤال عن هذه الدقائق. على حين أن قومه خذلوا الحسين رضي الله عنه. حتى سفك دمه، ولقي ربه شهيدا مرضيا.
وهكذا قال ابن عمر: هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
من الخيانة أن يحمى الوطيس، وتنصب المجانيق، ويتقاذف الناس بكلمات أشد من الحجارة، وأنكى من السهام من أجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير، فهي من مسائل الاجتهاد، التي دلت على سعة هذا الدين ومرونته، المصيب فيها مأجور المخطئ فيها معذور، وخطؤه فيها مغفور، بل هو ـ بنص الحديث ـ مأجور.
لهذا كان من الواجب على الدعاة والمفكرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أمتهم الكبرى، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها، والسعي الجاد ليحمل كل فرد جزءا منها، وبذلك يتوزع العبء الثقيل على العدد الكبير، فيسهل القيام به.
إن العالم يتقارب بعضه من بعض على كل صعيد، رغم الاختلاف الديني، والاختلاف الأيديولوجي، والاختلاف القومي واللغوي، والوطني والسياسي.
لقد رأينا المذاهب المسيحية ـ وهي أشبه بأديان متباينة ـ يقترب بعضها من بعض، ويتعاون بعضها مع بعض.
بل رأينا اليهودية والنصرانية ـ على ما كان بينهما من عداء تاريخي ـ يتقاربان، ويتعاونان في مجالات شتى حتى أصدر الفاتيكان منذ سنوات وثيقته الشهيرة بتبرئة اليهود من دم المسيح!
ورأينا على المستوى الأيديولوجي تقارب العملاقين (أمريكا والاتحاد السوفيتي) فيما سمي أول الأمر (التعايش السلمي) ثم تطور إلى أن أصبح (سياسة الوفاق).
وكذلك تقارب أمريكا مع الصين.
أما أوروبا التي مزقتها الحروب والصراعات والنزاعات القومية والإقليمية والسياسية والأيديولوجية، فهي اليوم تقترب حتى يوشك أن تكون دولة واحدة تذوب بين أقطارها الفواصل والحدود.
وأعجب ما في الأمر هو ما يحدث في أوروبا الشرقية ذاتها تلك التي كان يفصلها الستار الحديدي الرهيب عن أوروبا الغربية، واليوم يكاد هذا الستار يرق ويرق حتى يتمزق في النهاية.
وقد علق على ذلك الكاتب السياسي المعروف أحمد بهاء الدين، فقال:
عندما كان ديجول يستعمل في خطابه وأحاديثه تعبير "أوروبا من الأطلنطي إلى الأورال" كان هذا التعبير يقابل من الجميع بمزيج من السخرية والغيظ، "فالأورال" هي الجبال الواقعة بين روسيا وسيبيريا، وبالتالي فمعنى كلامه أنه يتحدث عن أوروبا واحدة تضم شرق أوروبا وغربها.. من روسيا إلى فرنسا وأسبانيا، وكان يقول هذا في أوج الحرب الباردة وانقسام أوروبا إلى شرق وغرب، وبناء سور برلين، وسباق التسلح، وكان حسنو النية من خصومه يقولون: إنه فقط يريد أن (يغيظ) أمريكا في خلافاته معها، لأن من كلامه أنه رغم حلف الأطلنطي وتحالفات (المعسكر الغربي).. فروسيا أقرب إلى أوروبا من أمريكا.
وقد كان ديجول يعني ذلك بالضبط، فقد كان يرى من خلال نظرته للتاريخ أن العالم ينقسم إلى قوميات وليس إلى أيديولوجيات. وأن الجغرافيا أهم في التاريخ من كل النظم السياسية، فالشعب الواحد ـ فرنسا أو ألمانيا أو روسيا ـ تتابع عليه نظم سياسية مختلفة، ملكية أو جمهورية أو رأسمالية أو شيوعية. ولكن الأبقى والأساس هو الانتماء القومي، فرنسا ستظل بعد هذا كله فرنسية، وألمانيا ألمانية، وبهذا المنطق فإن روسيا كانت قيصرية ثم شيوعية ثم أي شيء آخر ولكنها روسية، وبالتالي أوروبية. في حين أن أمريكا يفصلها عن أوروبا محيط بأكمله هو المحيط الأطلنطي. وهذه الحقائق القومية والجغرافية أقوى مما يسمونه حلف وارسو وحلف الأطلنطي.. وقد كان ديجول يحاول في سياساته بغير شك أن يقلل من (هيمنة) أمريكا على أوروبا، كما كان يرى أن النظم الشيوعية إلى زوال.. وكانت هذه أفكار أساسية لديه وليست مجرد سياسات.
وقد كان ديجول، ذلك المفكر، والباحث في فلسفة التاريخ، والمتأمل في تقلب الحضارات.. أبعد الجميع نظرا، فالمتأمل فيما يحدث في شرق أوروبا وفي ألمانيا خصوصا، يصاب بالذهول، ولا يملك إلا أن يجد أن نبوءة ديجول تتحقق دون حرب عالمية ولا صواريخ ولا قنابل ذرية.
الأعجب أن (جورباتشوف) الذي لا بد أن له فلسفة في فهم التاريخ عكس ديجول تماما ـ فهو ممثل الدعوة (الأممية) المناقضة للقومية. والتي ترى أن المهم هو وحدة (الطبقات) العاملة وغيرها ـ تحدث منذ شهور مستعملا عبارة (البيت الأوروبي الكبير) فاهتز العالم لهذه الإشارة، واهتزت أوروبا قبل غيرها. وألمانيا ـ شرقية وغربية ـ قبل أوروبا. فلم يتصور أحد أن التاريخ سيأخذ هذا المنطق (الديجولي) بهذه السرعة المذهلة والبساطة المتناهية.
على أن الأعجب من هذا كله، هو لقاء جورباتشوف ممثل المادية الجدلية للبابا ممثل الكنيسة الكاثوليكية في المقر البابوي في الفاتيكان، وهو ما لم يحدث منذ قامت الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917م.
إن أبناء المسلمين في أقطار شتى يموتون من الجوع، والمرض، ويموتون معنويا بالجهل والأمية، وانتشار المخدرات، ويتعرضون لأخطار التنصير والتكفير والتضليل، فكيف لا نهتم لأمرهم، ونسعى لإنقاذهم، ومن لم لأمر المسلمين فليس منهم؟
إن الأمة المسلمة لا تزرع ما تأكل من القوت الضروري، ولا تصنع ما تستخدمه من السلاح اللازم للدفاع عن الحرمات، ولا من الآلات ما يجعل لها وزنا واعتبارا. فهي كلها ضمن العالم الثالث، ولو كان هناك عالم رابع لنسبت إليه! وكثيرا ما اتهم الإسلام ظلما بأنه سبب تخلفها، مع أنها يوم تمسكت به كانت سيدة الأمم وأستاذة البشرية!
ولقد كتبت دراسة صدرت في كتاب عن (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي) وبينت فيه أن الصحوة ليست بمعزل عن هموم هذا الوطن الكبير، إنها مشغولة الفكر والقلب بهذه الهموم، معنية بالتعرف على أسبابها والطريق إلى علاجها.
وعنيت ـ بخاصة ـ تيار (الوسطية الإسلامية) الذي يفهم الإسلام فهما شموليا إيجابيا، جامعا بين السلفية والتجديد، موازنا بين الثوابت والمتغيرات، بين النظرة إلى التراث والتخطيط للمستقبل.
لقد تحدثت هناك بشيء من التفصيل عن هموم سبعة أساسية هي:
هم التخلف العلمي أو التكنولوجي والحضاري.
هم التظالم الاجتماعي والاقتصادي.
هم الاستبداد والتسلط السياسي.
هم التغريب والغزو الفكري والثقافي.
هم العدوان والاغتصاب الصهيوني.
هم التجزئة والتمزق العربي والإسلامي.
هم التسيب والانحلال الأخلاقي. ولو شئنا لأضفنا إليها هموما وهموما، مثل الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والمجاعات المهلكة، والهجمات التنصيرية الشرسة، وغيرها.. وغيرها.. ومنذ أشهر كنا في الكويت في اجتماع الجمعية العامة للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وفي الجلسة الختامية وقف أحد الأعضاء يتحدث عن هموم الجهاد الأفغاني وما يحاك من مؤامرات. وقام آخر يتحدث عن ثورة المساجد، وأشبال الحجارة وأبطال الأرض المقدسة، وما يلقون من عنت اليهود وكيدهم وأذاهم، ومن صمت العرب، وعجز المسلمين من حولهم، وقام ثالث يتحدث عن مأساة لبنان، ونزيف الدماء والخراب الذي استمر سبعة عشر عاما، نتيجة الصراع الداخلي والتآمر الخارجي، والعجز العربي. وقام رابع يتحدث عن باكستان وزحف العلمانية عليها، مجسدة في امرأة مسنودة من الغرب والشرق، ومن الصليبية والوثنية، وقام خامس يتحدث عن الفتنة التي أضرمت نارها بين موريتانيا والسنغال: الدولتين الجارتين المسلمتين، وإثارة النعرة الجاهلية: عرب وزنوج.. وقام سادس يشرح مؤامرة جون جرنج في جنوب السودان وتطاوله على الشريعة الغراء، واعتباره العروبة والإسلام دخيلتين على السودان.. وقام سابع يشير إلى ما يجري في الصومال للمسلمين، وسابع يحكي عن آريتيريا والتآمر الصليبي الماركسي عليها، وغيره عن جهاد المسلمين في الفلبين، وآخر عن مآسي المسلمين في قطاني، وفي بورما، وفي بلغاريا. ولم يقف الأمر عند الأقليات الإسلامية المتناثرة في العالم هنا وهناك، بل الأكثريات الإسلامية نفسها مهددة في عقر دارها. فأكبر بلد مسلم في آسيا مفتح الأبواب لحملات التنصير، وهو أندونيسيا وكذلك أكبر بلد مسلم في إفريقيا، وهو نيجيريا. أفيسع مسلما غيورا على دينه، مهتما لأمر أمته ـ عنده مسكة من عقل ـ أن يعرض وينأى بجانبه عن هذه الهموم الضخمة، ثم تراه يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزئيات علمية أو سلوكية، لا تدخل في دائرة الضروريات، ولا الحاجيات، وإنما هي كلها في نطاق التحسينات والكماليات، وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي أن يمزق الشمل الملتئم، ويوقظ الفتن النائمة، ويحرك العصبيات الساكنة. هذا على حين يجد العالم من حولنا يتناسى الخلافات الجذرية بين بعضه البعض، وهو ما أثمر التقارب العالمي الذي نشهده اليوم على أصعدة شتى. لهذا يجب أن لا نشغل الناس بالمسائل الفرعية، ونقيم الدنيا ونقعدها من أجل قضايا جزئية أو خلافية، ونلهيهم بذلك عن الأصول الكلية والقضايا المصيرية. ويدخل في هذا الموضوع: الإعراض عما لا ثمرة له، ولا طائل تحته من البحث في الموضوعات التي شغلت العقل الإسلامي فترة أو فترات من التاريخ، ثم لم يعد لها اليوم مكان. وذلك مثل موضوع (خلق القرآن) الذي احتل مساحة واسعة من التفكير الإسلامي في بعض العصور، وحميت المعركة فيه بين المعتزلة وغيرهم واستطاع مفكرو المعتزلة أن يورطوا الدولة العباسية وحلفاءها في هذا الصراع، وأن يدخلوا مع جمهور المسلمين وعلمائهم، وأئمتهم ـ وعلى رأسهم الإمام الرباني الصابر المحتسب أحمد بن حنبل ـ وأن يستخدموا الحديد والنار والسجن والتعذيب لإجبار المخالفين على ترك ما يعتقدون وموافقتهم فيما إليه يدعون. لقد كانت فتنة مظلمة، ومحنة قاسية، يحمل وزرها الذين وسموا بأنهم دعاة الحرية الفكرية! على كل حال لهذه الفتنة ظروفها ومبرراتها في وقتها، ولكن لا يوجد أي مبرر لإحيائها اليوم بوجه من الوجوه. ولهذا عجبت ممن يتحدث عن الزيدية أو الأباضية أو غيرهما من الطوائف بأنهم يقولون بخلق القرآن، فما ينبغي لهذه المشكلة أن تثار عند أي من الفريقين. إن مشكلتنا كذلك مع الذين يؤمنون بإلهية القرآن، ولكنهم لا يرتضونه منهاجا للحياة، ودستورا للدولة والمجتمع.

* التعاون في المتفق عليه :

الفصائل التي تنتسب إلى الصحوة بعض الإسلامية، أو العمل الإسلامي، مهتمة أكبر الاهتمام بالمسائل الخلافية، فهو شغلها بالنهار، وحلمها بالليل. حولها يتركز البحث، ولها تقام الدروس، وفيها يدور الجدل، ومن أجلها تحمى معارك الكلام والخصام. وأنا لا أكره أن يبحث الناس في المسائل الخلافية، بحثا علميا مقارنا يرجح أحد الرأيين أو الآراء، إذا قام بذلك أهل الاختصاص، من العلماء القادرين المؤهلين لمثل هذا العمل العلمي الرصين، الجامعين بين الفقه والورع والاعتدال. ولكن الذي أكرهه: أن يصبح البحث في المسائل الخلافية أكبر همنا، ومبلغ علمنا، وأن نضخمها حتى تأكل أوقاتنا وجهودنا وطاقاتنا، التي يجب أن نوجهها لبناء ما تداعى أو تهدم من بنياننا الديني والثقافي والحضاري. وأن يكون هذا الاهتمام والاشتغال على حساب القضايا التي لا خلاف عليها. إنني أود لو أن رجال المسلمين جميعا حرصوا على إطلاق لحاهم، فأحيوا هذه السنة من سنن الفطرة، وخرجوا من خلاف من أوجبها من الأئمة، وتميزوا عن غيرهم من الأمم، وفوتوا الفرصة على رجال المباحث الذين يعتبرون اللحية دليل اتهام! ومع هذا لا أود أن نشغل الناس بهذا، وأن نفسق من لا يعفيها، فهذا أمر عمت به البلوى، ولهذا أسفت حقا حين ذكر لي بعض الثقات من الشباب أن أحد المولعين بالخلافيات ألقى تسع محاضرات في وجوب إعفاء اللحية، وتحريم أخذ شيء منها. كما أسفت لأن أحدهم ألف رسالة سماها (نهي الصحبة عن النزول على الركبة) وهو أمر يتعلق بهيئة الصلاة، وفيه أخذ ورد.. وأن آخر كتب رسالة أيضا بعنوان: (الواحة في جلسة الاستراحة) إلى غير ذلك من الرسائل، والمقالات، والمحاضرات التي تدور حول هذه الأمور، التي اختلف فيها الأئمة، بين مثبت وناف، وسيظل الناس يختلفون فيها إلى ما شاء الله. وسر أسفي هنا هو: التركيز على الأمور الخلافية، والشدة على المخالفين، فيما يجوز التساهل فيه، على خلاف ما كان عليه سلف الأمة. إن أي مراقب لأوضاع الأمة الإسلامية اليوم، يوقن تمام اليقين: أن مشكلتها ليست في ترجيح أحد الرأيين، أو الآراء في القضايا المختلف فيها، بناء على اجتهاد أو تقليد. فالواقع أن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين، لمن تحرى واجتهد، كما هو معلوم ومبسوط في مواضعه. ولكن مشكلة الأمة حقا في تضييع الأمور المتفق عليها من جميع مذاهبها ومدارسها. مشكلة المسلمين ليست في الذي يؤول آيات الصفات وأحاديثها ـ وإن مكان مذهب السلف أسلم وأرجح ـ بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعا، من عبيد الفكر المستورد من الغرب أو الشرق. مشكلة المسلمين ليست فيمن يقول: استوى على العرش بمعنى (استولى) أو كناية عن عظمة سلطانه تعالى، بل فيمن يجحد العرش ورب العرش معا. مشكلة المسلمين ليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها أو لا يقرؤها في الصلاة. ولا فيمن يرسل يديه في الصلاة أو يقبضهما، ومن يرفع يديه عند الركوع أو الرفع منه أو لا يرفعهما، إلى آخر هذه المسائل الخلافية الكثيرة المعروفة. إنما مشكلة المسلمين فيمن لا ينحني يوما لله راكعا، ولا يخفض جبهته لله ساجدا، ولا يعرف المسجد ولا يعرفه. مشكلة المسلمين ليست فيمن يأخذ بأحد المذاهب المعتبرة في إثبات هلال رمضان أو شوال، بل فيمن يمر عليه رمضان كما مر عليه شعبان، وكما يمر عليه شوال، لا يعرف صياما ولا قياما، بل يفطر عمدا جهارا ونهارا، بلا خشية ولا حياء. مشكلة المسلمين ليست في عدم تغطية الوجه بالنقاب، واليدين بالقفازين، كما هو رأي البعض، بل في تعرية الرؤوس والنحور، والظهور، ولبس القصير الفاضح، والشفاف الوصاف.. إلى آخر ما نعرف مما يندى له الجبين. إن المشكلة حقا هي وهن العقيدة، وتعطيل الشريعة، وانهيار الأخلاق وإضاعة الصلوات، ومنع الزكوات، واتباع الشهوات، وشيوع الفاحشة انتشار الرشوة، وخراب الذمم، وسوء الإدارة، وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية، وموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين. مشكلة المسلمين، إنما تتمثل في إلغاء العقل، وتجميد الفكر، وتخدير الإرادة، وقتل الحرية، وإماتة الحقوق، ونسيان الواجبات، وفشو الأنانية وإهمال سنن الله في الكون والمجتمع، وإعلاء الحكام على الشعوب، والقوة على الحق، والمنفعة على الواجب. مشكلة الأمة المسلمة الحقيقية نراها واضحة كالشمس في إضاعة أركان الإسلام ودعائم الإيمان، وقواعد الإحسان، وهي الثلاثة التي سأل عنها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور. وفي آخر الحديث قال لهم النبي الكريم: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. وهو لم يكن منه إلا السؤال، ولكن السؤال الحسن لون من التعليم، وهنا أسئلة ثلاثة شملت أسس الدين كله: عقيدة، وعملا، ظاهرا وباطنا. ومن هنا كان الواجب على دعاة الإسلام الواعين أن ينبهوا على التركيز على مواطن الاتفاق قبل كل شيء، وأن يرفعوا شعار (التعاون فيما نتفق عليه) فإن هذا التعاون فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع. وأعتقد أن ما نتفق عليه ليس بالشيء الهين ولا القليل، إنه يحتاج منا إلى جهود لا تتوقف، وعمل لا يكل، وإرادة لا تعرف الوهن، يحتاج منا إلى عقول ذكية، وعزائم قوية، وأنفس أبية، وطاقات بناءة. ألسنا متفقين على أن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله؟ ألسنا متفقين على الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟ ألسنا متفقين على أنه تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص؟ ألسنا متفقين على كل ما يوصف به القرآن الرب الأعلى جل جلاله من الأسماء الحسنى؟ فلنتعاون على غرس معاني الإيمان القرآني الجملي في أنفس الناشئة والشباب بعيدا عما أدخله الجدل الفلسفي والكلامي في علم العقائد، وما أورثه الاختلاط بالملل والنحل الأخرى من خلافات فرقت الأمة شيعا. ألسنا متفقين على أن الإلحاد أعظم خطر يهدد البشرية، في أعز مقدساتها؟ فلنتعاون على تحصين الشباب من وباء الإلحاد، ومقدماته من الشكوك والشبهات التي تزعزع العقيدة، وتلوث الفكر، ولنضيء شموع الإيمان بأعظم حقائق الوجود وأجلاها، وهي: وجود الرب الأعلى، الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى، مستفيدين من بحوث العلم الحديث، الذي يكاد يجعلك ترى الله جهرة في إبداع خلقه. ألسنا متفقين على أن الإيمان بالدار الآخرة، وعدالة الجزاء فيها، وقيام سوق الجنة والنار، ركن في كل دين، وخصوصا في دين الإسلام؟ فهو ـ مع الإيمان بالله تعالى ـ ينشئ في الإنسان الوازع الذاتي الداخلي الذي يحفز على كل خير، ويردع عن كل شر، ويقوي الإرادة في مواطن الضعف ويمنح الأمل عند هجوم اليأس. فلنتعاون ـ إذن ـ على تقوية الإيمان بالآخرة، واليقين بالجزاء، ولنطارد الشبهات التي تحاول أن تشكك في هذه العقيدة العظيمة، أو الشهوات التي تشغل الناس عنها بمتاع قليل. ألسنا متفقين على أركان الإسلام العملية الخمسة، فلماذا لا نتعاون على حسن تعليمها للمسلمين، واتخاذ أحسن الأساليب لدعوتهم إليها وترغيبهم فيها، وتذكيرهم بها، مستفيدين من الوسائل السمعية والبصرية المعاصرة؟ أولسنا متفقين على دعائم الإيمان الست من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فلماذا لا نتعاون على تجليتها وتثبيتها، وإيصالها إلى عقول المسلمين وقلوبهم بلغة سهلة، تلائم يسر الإسلام، ووضوح القرآن، وتقدم العصر في وسائل البيان والإيضاح، دون أن ندخل في معارك الجدل والخلاف التي أثارها القدماء، أو يثيرها المحدثون وحسبنا أن نثبت ما أثبته القرآن، وننفي ما نفاه القرآن؟! ألسنا متفقين على مكارم الأخلاق التي بعث الرسول ليتممها، والتي كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تجسيما حيا لها، سواء كانت أخلاقا ربانية، كالتوكل على الله، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والإخلاص له، والشوق إليه، والمحبة له، والأنس بذكره..الخ. أم أخلاقا إنسانية كالصدق والأمانة، وإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد، والشجاعة والسخاء، والحياء والتواضع والنظام والتعاون..الخ. فلنتعاون ـ إذن ـ على إشاعة هذه الفضائل، وترسيخ هذه القيم، حتى يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، ولنطارد الرذائل المضادة لها، المدمرة للفرد، والمحطمة لكيان الجماعة، التي سماها الإمام الغزالي (المهلكات) وهو تعبير اقتبسه من الحديث النبوي؟! ألسنا متفقين على مجموعة طيبة من الأحكام الشرعية القطعية الثابتة بمحكم القرآن والسنة، والتي أجمعت عليها الأمة فغدت تجسد وحدتها الفكرية والشعورية والسلوكية؟ فلنتعاون على رعايتها والعمل على حسن تطبيقها، وحمايتها من عبث الذين يريدون أن يحولوا القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات وأن يجعلوا الدين كله عجينة طرية في أيدي المتلاعبين يشكلونها كما تشاء لهم أهواؤهم المتسلطة، أو عقولهم القاصرة، أو كما تملي عليهم نزوات السلاطين، أو نزغات الشياطين. ألسنا متفقين على أن الصهيونية اليوم خطر داهم: خطر ديني، وخطر عسكري، وخطر اقتصادي، وخطر سياسي، وخطر اجتماعي، وخطر أخلاقي وثقافي وحضاري، وأنها تريد هدم الأقصى، وبناء هيكلهم عليه، وأنها تطمح في المدينة وخيبر، وأنها تخطط وتعمل، وتصل في النهاية إلى ما تريد،وأنها حققت أحلاما كان يعتبرها المغرق في الخيال مستحيلات.. فاغتصبت الأرض وشردت أهلها، ولا زالت مستمرة في عدوانها.. وأنها تحاربنا من منطلق ديني، تستثير به إيمان اليهود بتوراتهم وتلمودهم، ونبوءات أنبيائهم؟ فلماذا لا نتعاون على أن نحاربهم بمثل ما يحاربونا به: نحارب يهوديتهم المنسوخة بإسلامنا الخالد، ونحارب توراتهم المحرفة بقرآننا المحفوظ، ونحارب تلمودهم المحشو بالأباطيل بمواريثنا من السنة، الحافلة بالحقائق؟ لماذا لا نتعاون على أن نقف في وجه اليهودية الماكرة الزاحفة على إفريقيا وآسيا، ومنها بلاد إسلامية أو ذات أغلبية إسلامية ـ بألوان من الكيد ـ يجب أن نتنبه لها، ونجتهد في إبطال سحرها وأثرها؟ ألسنا متفقين على أن الغرب لم يتحرر حتى اليوم من روح الحروب الصليبية وأن هذه الروح لا زالت تحكم كثيرا من تصرفاته، كما يظهر ذلك بين الحين والحين، في وقائع شتى؟ برز ذلك في موقف دول الغرب من قضية المرتد سلمان رشدي، ومن قضية حجاب الطالبات المسلمات في فرنسا ومن التشكيك والتحريض على الصحوة الإسلامية، أو ما يسمونه (الأصولية الإسلامية) وهو ما صرحت به أجهزتهم الإعلامية، وامتلأت به تقاريرهم السرية؟ فلنتعاون ـ إذن ـ على التصدي لهذه الحرب الصليبية الجديدة، بأسلحتها الجديدة، وإمكاناتها الهائلة. ألسنا متفقين على أن التنصير، يغزو عالمنا الإسلامي بما يملك من وسائل متطورة، وطاقات جبارة، ويغزو كذلك الأقليات الإسلامية، المتناثرة في العالم ويستغل حالات الفقر والجهل والمرض والجوع المنتشرة ـ للأسف ـ بين أبناء أمتنا في إفريقيا وآسيا، ويرصد لذلك مئات الملايين، بل آلافها، لنزع عن الأمة لباسها، بل ليسلخها من جلدها، ويحولها عن عقيدتها. وهو ما نجح فيه في كثير من الأقطار، وإن كان يعلن غير ذلك، استدرارا لمزيد من المدد المادي والبشري، وتخديرا للفريسة، حتى لا تفكر في مقاومة جادة ؟ فلنتعاون كلنا على الوقوف في وجه هذا الغزو الديني الموجه إلى دين هذه الأمة وصميم عقيدتها، ولنبذل لنصرة حقنا، كما يبذلون لنصرة باطلهم، بل يكفي أن نبذل بعض ما يبذلونه. ألسنا متفقين على أن الشيوعية تحاربنا في العقيدة، وتحاربنا في الفكر، وتحاربنا في الأرض، ولم يكفها ما اقتطعته من فلذات غالية من دار الإسلام ضمتها إلى دار الشيوعية (بخارى، سمرقند، وطشقند، وأزبكستان وغيرها) حتى أرادت ضم قطع أخرى، آخرها أفغانستان المجاهدة الصامدة، التي دوخت قوات الروس البرية والجوية عشر سنوات، ثم أجبرتها على الانسحاب؟ فلنتعاون جميعا على أن نقاوم الغزو الماركسي الشيوعي، الغزو العقدي الفكري، والغزو السياسي العسكري، ولنحم أبناءنا وديارنا من هذا الزحف الأحمر الذي يمثل خطرا على عقائدنا وشرائعنا وأخلاقنا وتقاليدنا ووجودنا المادي، والأدبي، ولا سيما أن الشيوعية قد بدأت تتراجع عن مبادئها وأفكارها الأساسية في عقر دارها، كما نرى ذلك في أوروبا الشرقية، بل كما نرى ذلك في داخل روسيا ذاتها في عهد ميخائيل جورباتشوف. ألسنا متفقين على أن مئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم يجهلون أوليات الإسلام المتفق على فرضيتها وضروريتها، ولا يكادون يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وهذا الجهل أو الفراغ هو الذي أطمع الغزو التنصيري، والغزو الماركسي كليهما، أن ينشرا ظلاليهما بين هذه الشعوب المحسوبة على أمة الإسلام؟ فلنتعاون على تعليم هذه الشعوب ألف باء الإسلام، والأركان الأساسية للدين من العقائد والعبادات والأخلاق، والآداب، التي لا تختلف فيها المذاهب، ولا تتعدد الأقوال، وهذا يستغرق منا جهودا لا حدود لها، تنسينا ما نتجادل فيه من مسائل هيهات أن ينتهي فيها الخلاف في يوم من الأيام. ألسنا متفقين على أن المليارات الأربعة من سكان هذه الكرة لا يعرف أكثرهم عن الإسلام شيئا يذكر، وإذا عرف بعضهم عنه، عن طريق القراءة، أو السماع فإنما يعرف صورة مبتورة أو مشوهة، عن حقيقة هذا الدين، لا تحفز على النظر فيه، ولا تشوق إلى استكمال المعرفة به. فهؤلاء في الواقع لم تبلغهم الدعوة بلوغا حقيقيا. ونحن مسئولون عن إيصال صوت الدعوة الإسلامية إلى قارات الدنيا الست وأن نخاطب كل قوم بلسانهم لنبين لهم، ونقيم الحجة عليهم، ونزيح التعللات والأعذار عنهم، بدفع الشبهات، ورد المفتريات، وبيان حقائق الإسلام، وكشف أباطيل خصومه. فلماذا لا نتعاون على هذا العمل الكبير، ونجند له من الرجال والأموال ما هو جدير به، وما يعادل أهميته؟ إذا كان اليهود يعملون متعاونين لدينهم حتى أقاموا له دولة في قلب ديارنا العربية الإسلامية، والنصارى يعملون متعاونين لتنصير العالم، بدءا بالعالم الإسلامي ذاته، فلماذا لا نعمل متعاونين لنشر الإسلام وتعريف العالم به تعريفا على مستوى الإسلام، ومستوى العصر، ومستوى ما يصنعه الآخرون؟ إن النصارى نشروا الإنجيل بمئات اللغات، وآلاف اللهجات، ونحن عجزنا أن نهيئ بعض ترجمات صحيحة مؤتمنة، وموثقة، لمعاني القرآن الكريم، بأشهر لغات العالم، فكيف بغيرها؟! ألسنا متفقين على أن القوى العلمانية تبذل جهودا مستميتة ـ يتعاون في ذلك يمينها ويسارها ـ لإيقاف تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعويق الدعوة إليها، وتشويه صورتها في المجتمعات الإسلامية، التي تتعالى صيحاتها يوما بعد يوم للمطالبة بها، وضرورة الاحتكام إليها كما فرض الله تعالى. وأصبح ذلك مطلبا شعبيا عاما اجتمعت عليه الجماهير العريضة في عدد كبير من الأقطار المسلمة؟ فلماذا لا يتعاون الإسلاميون بمختلف مدارسهم وفصائلهم للوقوف صفا واحدا أمام هذا التكتل العلماني المؤيد والمعان من كل القوى المعادية للإسلام غربية وشرقية؟ وأخيرا: لماذا لا يتناسى الإسلاميون خلافاتهم الجزئية في المسائل الاجتهادية، والأمور الفرعية، لتتضام جهودهم، وتلتئم صفوفهم، وتتوحد جبهتهم، في مواجهة القوى الضخمة المعادية لهم، والمتربصة بهم، والكائدة لهم، والتي تختلف فيما بينها وتتفق عليهم؟ إن المتفق عليه ليس بهين ولا قليل، وهو يحتاج من الجبهة الإسلامية العريضة إلى جهود وجهود، تشغل كل تفكيرهم، وكل أوقاتهم، وكل إمكاناتهم، ومع هذا لا تكفي لملء الفراغ، وتحقيق الآمال، وإصابة الهدف المنشود. حرام على الجبهة الإسلامية أن تعترك فيما بينها على اللحية والثوب، والنقاب والحجاب، والسدل والقبض، والتأويل والتفويض، وتحريك الأصبع في التشهد وتدع تلك الثغرات الهائلة دون أن تسدها بكتائب المؤمنين الصادقين.

* التسامح في المختلف فيه :

وإذا كان التعاون في المتفق عليه واجبا، فأوجب منه هو التسامح في المختلف فيه.
وبهذا تكتمل القاعدة الذهبية بشقيها، وهي القاعدة التي صاغها العلامة المجدد السيد/ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ صاحب (مجلة المنار) و(تفسير المنار).
وهي القاعدة التي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
وكان الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، حفيا بهذه القاعدة، حريصا على الالتزام بها فكرا وعملا، حتى حسب كثير من تلامذته واتباعه أنه واضعها.
والمقصود بالتسامح هنا: أن لا نتعصب لرأي ضد رأي آخر في المسائل الخلافية ولا لمذهب ضد مذهب، ولا لإمام ضد إمام، بل نرفع شعار التسامح الذي عبر عنه صاحب المنار رحمه الله بقوله: "يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
وهذا التسامح المنشود يقوم على جملة مبادئ، نذكر منها:

1. احترام الرأي الآخر:

ومن الدعائم المهمة هنا لتقريب الشقة، وتقليل حدة الخلاف: احترام الرأي المخالف، وتقدير وجهات نظر الآخرين، وإعطاء آرائهم الاجتهادية حقها من الاعتبار والاهتمام.
وذلك مبني على أصل مهم، وهو: أن كل ما ليس قطعيا من الأحكام، هو أمر قابل للاجتهاد، وإذا كان يقبل الاجتهاد، فهو يقبل الاختلاف.
الذي لا يقبل الاجتهاد هو (القطعيات) التي قلنا في غير موضع إنها تجسم الوحدة الفكرية والشعورية والعملية للأمة، وهي التي لا ينبغي أن يسمح بتحويلها إلى ظنيات يجادل فيها المجادلون، ويشكك المشككون، ومن المعروف أن هذه القطعيات تمثل مساحة قليلة جدا من الأحكام العملية، وجل الأحكام تقع في منطقة (الظنيات) القابلة للاجتهاد.
ولا ريب أن هذه رحمة من الله تعالى بعباده، وتوسعة عليهم، ولو شاء سبحانه لأغلق علينا باب الاجتهاد كله بالنص على كل حكم نصا قطعيا لا يحتمل إلا وجها واحدا.
ولكنه سبحانه، رحمنا ووسع علينا، فسكت عن أشياء كثيرة لم ينص على حكمها في كتاب ولا سنة، رحمة بنا غير نسيان، فما كان ربنا نسيا. وما نص عليه جعل معظمه قابلا لتعدد الأفهام، واختلاف التفسيرات والاستنباطات، حتى يتسع للأصناف المتباينة من الناس، ما بين آخذ بظاهر النص وحرفيته، وآخذ بروحه وفحواه، وما بين مضيق متشدد وموسع مرخص.
وإذا كان من حقي أن اجتهد في فهم النصوص، أو فيما لا نص فيه، فلا بد أن أعطي غيري الحق الذي لي. وإلا فما الذي يميزني عن غيري؟
وما دام من حق غيري أن يجتهد، فمن شأن الأمور الاجتهادية أن تختلف فيها الآراء والأفهام، وإلا لم تكن اجتهادية.
سواء رأينا أن الصواب مع أحد الرأيين أو الآراء وإن لم يعرف هو بعينه، فإن حكم الله واحد في المسألة، وفق إليه بعضهم، وإن لم نتيقن من هو، وأخطأه غيره، وإن لم نتأكد من هو أيضا، إلا أن الإثم مرفوع عن الجميع، بل المخطئ مأجور أيضا على اجتهاده أجرا واحدا، كما صح في الحديث، فإن فاته أجر الإصابة فلم يفته أجر الاجتهاد.
وهنا أقص ما يقوله المجتهد عن نفسه في الأحكام الجزئية، والفروع العملية ما روي عن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، أنه قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وهذا الاحتمال من الجانبين ـ احتمال الخطأ في رأي المجتهد، واحتمال الصواب في رأي غيره ـ هو الذي يقرب المسافة بين الطرفين.
وهذا من إنصاف الشافعي رضي الله عنه، وسعة علمه، ورحابة أفقه.
أم أخذنا بالقول الذي يرى أن الآراء الاجتهادية ـ ما دامت صادرة عن أهل الاجتهاد ـ كلها صواب، وإن حكم الله في المسألة يمكن أن يتعدد، فيكون الصواب فيها هو ما انتهى إليه اجتهاد كل مجتهد، وهو ما نتحدث عنه في الفقرة التالية.

2. إمكان تعدد الصواب

مما يعين على التسامح في الخلافيات واحترام الرأي الآخر: الاعتقاد بإمكان تعدد الصواب.
وهنا سؤال يطرح ويحتاج إلى إجابة، وهو: هل يمكن أن يتعدد الصواب في الأمر الواحد، أم أن الصواب لا يكون إلا وجها واحدا دائما وأبدا، لا يحتمل التعدد بحال؟
والجواب: أن في الأصوليين من يرى أن الصواب يتعدد في أحكام الفروع، وأن الصواب في كل مسألة ما انتهى إليه حكم المجتهد فيها، وإن اختلفت الاجتهادات ونتائجها، اختلاف تضاد، لا مجرد اختلاف تنوع، بأن رأى أحدهم حل هذا الشيء والآخر حرمته، أو رأى أحدهم وجوبه، ورأى غيره عدمه.
وهؤلاء هم المعروفون في علم الأصول باسم (المصوبة) ولهم أدلتهم واعتباراتهم ولمخالفيهم أدلتهم وردودهم عليهم.
بل نقل عن بعض علماء السلف من طرد ذلك في المسائل الاعتقادية غير الأساسية التي اختلف فيها طوائف الأمة، لعدم وجود نصوص قطعية الثبوت والدلالة فيها مثل أفعال العباد، وإرادة المعاصي، ونحوها، فقد نقل عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال عن المختلفين في هذه الأمور: هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله!
وهذا مقبول في المسائل الدقيقة التي حار فيها البشر من قديم، والمجتهد فيها مأجور إن شاء الله، وإن أخطأ، كما قرره ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
وأما من لا يرى تصويب كل المجتهدين بإطلاق، وهم جمهور علماء الأمة، وأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وهو ما تشهد له ظواهر النصوص من القرآن والسنة، وتؤيده الأدلة، فعندهم يمكن أن يتعدد الصواب أيضا في حالات معينة.
فهناك أشياء أراد الشارع نفسه أن تكون على أوجه مختلفة، وأقرها كلها ولم يقصر الصواب على وجه واحد منها.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك تعدد أوجه القراءة للقرآن الكريم، الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من طرق بلغت حد التواتر القطعي، وغدونا نرى أثره في القراءات السبع أو العشر المعروفة، والتي يسمعها المسلمون في كل مكان ويرون اختلافها، ولا يجدون فيه أي حرج في دينهم، ومن آثارها طبع مصاحف تختلف باختلاف هذه القراءات، مثل مصاحف المشارقة المطبوعة على أساس رواية حفص عن عاصم، ومصاحف المغاربة المطبوعة على أساس رواية ورش عن نافع.
وأصل هذا ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فأقرأهم على أكثر من وجه أو أكثر من حرف، حتى إن بعضهم في أول الأمر أنكر على بعض قراءته المخالفة لما تلقاه، ثم عرفوا أنهم جميعا مصيبون، وأن هذا أمر مقصود من النبي عليه الصلاة والسلام ولهذا قال لابن مسعود ومن خالفه: "كلاكما محسن" كما تقدم.
هناك قضايا يمكن أن يتعدد فيها الصواب بقيود معينة.
على أن معنى أن يكون الصواب مع هذا المجتهد في زمان، ومع مخالفه في زمان آخر.
وكذلك يكون صواب المجتهد في قضية إذا نظر إلى المكان والبيئة والمحيط فيكون صوابا بالنسبة له، وإن لم يكن صوابا بالنسبة لغيره، فدار الإسلام غير دار الكفر، ودار السنة غير دار البدعة، والبادية غير الحضر.
وكذلك يكون الصواب مع المجتهد في حال معينة، ويكون مع غيره في حال أخرى. فحال الضعف غير حال القوة، وحال الاستضعاف غير حال التمكين، وحال السعة غير حال الضرورة، وحال الحديث العهد بالإسلام، غير حال العريق في الإسلام الناشئ في أحضانه.
وهذا هو ما اعتمده المحققون في القول بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف وغيرهما من موجبات التغيير.
وهي قاعدة مشهورة، وقد وفقني الله لإقامة الأدلة عليها من القرآن العزيز والسنة المشرفة، وهدي الصحابة، وعمل الأئمة، وذلك في دراستي عن (عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية) في تعدد الصواب بسبب تغير الزمان، رأينا الصحابة يقرون أحكاما لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، اقتضاها تغير الزمان، مثل رفض عمر تقسيم سواد العراق بين الفاتحين، خلافا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر. ومثل كتابة عثمان المصاحف وجمعه الناس عليها، وإحراقه ما عداها، خشية اختلاف الكلمة.
ومثل تضمين علي الصناع إذا هلك ما تحت أيديهم من متاع، على خلاف ما كان متبعا من قبل، لما تغير الناس وخيف على أموال الناس. ولما سئل في ذلك قال رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا ذاك. ورأينا أصحاب الأئمة يخالفون شيوخهم لاختلاف زمانهم عن زمن من قبلهم، وهذا ما سجله تاريخ الفقه بوضوح، كما قيل في بعض الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد: إنه اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان.
وهو الذي جعل إماما مثل ابن أبي زيد القيرواني صاحب (الرسالة) المشهورة في المذهب المالكي يقتني كلبا للحراسة مخالفا ما أثر عن مالك من كراهية ذلك. فلما لامه من لامه على مخالفته لإمام المذهب قال: لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسدا ضاريا!!
وكذلك يتعدد الصواب باعتبار تغير المكان وتأثيره في تكوين الرأي وتحديد الحكم، وهو ما جعل الفقهاء يقررون أحكاما لدار الإسلام، وأخرى لدار الحرب أو دار العهد، حتى أجاز أبو حنيفة التعامل بالعقود الفاسدة، ومنها الربا، خارج دار الإسلام، ما دام ذلك بالتراضي، ودون غدر ولا خيانة.
وهي التي جعلت الفقهاء يقررون أن من أنكر الفرائض، أو المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، يحكم عليه بالردة، إلا أن يكون ناشئا ببادية بعيدة عن أمصار الإسلام ومواطن العلم، فيعذر لبداوته، ويعطي فرصة ليتعلم ويتفقه.
وفي تعدد الصواب، وتغير الحكم بتغير الأحوال، سواء كانت أحوال الفرد أم أحوال الجماعة، نجد أمثلة كثيرة، وأحكاما شتى.
وهو ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي أجوبة مختلفة للسؤال الواحد مراعيا أحوال السائلين، كالطبيب يختلف وصفه للدواء باختلاف أحوال المرضى. وهو أيضا ما جعله يقبل من بعض الناس ما لا يمكن أن يقبله من غيرهم.. مثل موقفه من الأعرابي الذي بال في المسجد على مرأى من الناس، وهم الصحابة به، ورفق الرسول به، وأمر الصحابة أن يقدروا ظروف بداوته، وأنه لم يتأدب بعد بأدب الإسلام، فقال لهم: لا تزرموه (أي لا تقطعوا عليه البول) وصبوا عليه ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين.
ولهذا كانت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم في الوقائع الشخصية لا يؤخذ منها ـ بالضرورة ـ حكم عام، لجواز أن تكون الخصوصية مراعاة فيها، ومن هنا قال الفقهاء والأصوليون: وقائع الأحوال أو الأعيان لا عموم لها.
كما وجدنا الصحابة ينظرون إلى هذا التغير في أحوال الناس، فيعالجونه بما يناسبه من الأحكام.
وهذا سر تغيير أحكامهم في قضية مثل عقوبة شارب الخمر، فأبو بكر يجلد أربعين، وعمر يجلد ثمانين، حين رأى الناس تمادوا في الشرب فرأى الزيادة في العقوبة ردعا وزجرا.
وقال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور. ورفض مبدأ الهدية له ولولاته، ولما قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الهدية، قال: كانت له ـ صلى الله عليه وسلم ـ هدية، وهي لنا رشوة!!
ومن أوضح الأمثلة التي تذكر في هذا المقام ما حكاه الإمام ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية حين مر بقوم من التتار في دمشق، سكارى من شرب الخمر، فأنكر عليهم بعض أصحابه لاقترافهم هذا المنكر، ولكن الشيخ رضي الله نه بنور بصيرته، وسعة أفقه، وعمق فقهه القائم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، قال لهم: دعوهم في سكرهم وشربهم، فإنما حرم الله الخمر، لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء تصدهم الخمر عن سفك الدماء ونهب الأموال!
وهذا هو الفقه الحقيقي الذي لا يجمد بالحكم على حال واحدة، بل ينظر إلى العلل والمقاصد، ويدير عليها الأحكام.
وهذا كما يقال في القضايا الفقهية، يقال في القضايا السياسية والاجتماعية أيضا، وقضايا الإصلاح والتغيير، وما يتخذ له من وسائل وأدوات.
فقد يحسن في بلد ما المشاركة في الانتخابات، والدخول إلى المجالس النيابية محاولة للتأثير في السلطة التي أصبح بيدها التشريع والتقنين في الدول الديمقراطية، أو على الأقل، لإسماع صوت الإسلام عاليا، وإقامة الحجة وقطع الأعذار.
على حين يكون ذلك في بلد آخر عبثا لا طائل تحته، ولا جدوى منه، وربما كان مشاركة في تضليل الأمة عن الاستبداد الذي يحكمها ويتسلط عليها.

3. حتمية الاختلاف في تكييف الواقع (تحقيق المناط):

ربما يعين على التسامح فيما يختلف فيه العاملون للإسلام اليوم: أن كثيرا من ألوان الخلاف الذي نشهده على الساحة الإسلامية، ليس خلافا على الحكم الشرعي من حيث هو، ولكنه خلاف على تكييف الواقع، الذي يترتب عليه الحكم الشرعي، وهو ما يسميه الفقهاء (تحقيق المناط).
فالجميع متفقون على أن الحاكم الذي يدع الحكم بما أنزل الله، إنكارا ورفضا له، أو استخفافا به، وتفضيلا لحكم البشر عليه، هو كافر بلا نزاع، ولا يستحق أن يكون في زمرة المسلمين، وينطبق عليه ظاهر قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44) دون أي حاجة إلى تأويل، بخلاف من يتركه ضعفا، أو خضوعا أمام القوى الأجنبية، أو حرصا على الكرسي.. الخ.
ولكن يأتي الخلاف في أن حكام البلد الفلاني هؤلاء: هل هم من الصنف الأول أو من الصنف الآخر؟
هنا يقول البعض: إن هؤلاء رافضون جاحدون، مستخفون، فهم كفرة مرتدون مارقون.
ويقول آخرون: بل هم قوم ضعفاء مهازيل، عبيد للمناصب، ليس لديهم من قوة الدين، ولا قوة النفس، ما يجعلهم يقولون بملء أفواههم: لا.
وغيرهم يحاول أن يبرر موقفهم بأنه من إملاء الضرورة، لأن الأجنبي ما زال يتحكم في مقدراتهم، ونفوذه لم يبرح قائما، وإن جلت جيوشه، ورحلت عساكره، فهو الذي يمد بالسلاح والقوت، ويعطي القروض، ويمنح المعونات!
ومثل ذلك: الموقف من تغيير المنكر بالقوة، فلا خلاف أن من ملك القدرة والاستطاعة، ولم يخش أذى ولا ضرر أحد يعجز عن احتماله هو ومن يحمل تبعته ولم يخف من وقوع منكر أكبر من المنكر الذي يريد تغييره، فإن له ـ بل عليه ـ أن يغير المنكر بيده. وإلا انتقل من اليد إلى اللسان، ثم إلى القلب، وذلك أضعف الإيمان.
ولكن الخلاف يظهر هنا في تحقيق هذا المناط، أعني هل فلان خاصة أو هذه الفئة من الناس: أهي قادرة على إزالة المنكر بيدها بالشروط التي ذكرناها أم لا؟
هنا تختلف الأنظار، وتتفاوت الأفكار.
فمن الناس من يبالغون في تقدير قوتهم الذاتية بحيث يحسبون إنهم على تغيير المنكر قادرون، لمجرد أنهم يستطيعون أن يحرقوا حانة، أو يحطموا زجاجة خمر، أو يفضوا حفلا ماجنا بالعنف، غافلين عما قد يسببه ذلك من آثار وأضرار قد تكون أضعاف المنكر نفسه الذي أريد تغييره.
وفي مقابل هؤلاء قوم يغلون في تقليل حجمهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الضعف، حتى أنهم لا ينكرون المنكر بمجرد القول والبيان.
وآخرون متوسطون بين هؤلاء وأولئك، ينظرون إلى الأمر من جميع جوانبه ناظرين إلى ما يصيب إخوانهم وأهليهم، ويصيب سمعة الإسلام ودعاته، موازين بين المصالح والمفاسد، مقدمين درء المفسدة على جلب المصلحة، يفوتون أدنى المصلحتين، ويقبلون أهون الشرين.
شبهات:
ويقول بعض المخلصين المتحمسين: كيف نتعاون أو نتجمع مع المبتدعين ونغض الطرف عن بدعتهم، وقد أمرنا أن نهجرهم ولا نسلم عليهم؟
ونقول: إن البدع مراتب وأنواع، فمنها ما يصل بصاحبه إلى درجة الكفر البواح، ومنها ما دون ذلك..
ومنها ما هو متفق على بدعيته، ومنها ما هو مختلف فيه، وما يدخل في نطاق الاجتهاد، فيعذر فيه المخطئ المتأول، وقد يؤجر أجرا واحدا، إن كان من أهل الاجتهاد.
ومن المبتدعين من هو تابع، ومن هو متبوع داعية لبدعته، ومنهم السهل القريب، ومنهم الحاد العنيف.
فلا ينبغي أن يعامل الجميع معاملة واحدة، وقد يكون الاقتراب من هؤلاء والتعامل معهم بالحسنى، سبيلا إلى إقناعهم بخطئهم، وتقريبهم من الصراط المستقيم.
وقد رأينا مثل الإمام البخاري يخرج في صحيحه لبعض أهل البدع، ومنهم من كان داعية لبدعته، وذلك لأنه رآهم من أهل الصدق والضبط، حتى أنه أخرج لعمران بن حطان أحد دعاة الخوارج وشعرائهم، على ما روي عنه من شعر مدح فيه ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه.
على أن من القواعد المقررة شرعا: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين. ولهذا يجوز التعاون مع مبتدع ضد مبتدع أغلظ منه ابتداعا، أو ضد كافر معاد للملة كلها.
بل يجوز التعاون أو التحالف مع كافر ضد من هو أكفر منه، أو التعاون مع كافر حسن الرأي والمودة للمسلمين، ضد كافر ظاهر العداوة والكيد للمسلمين.
وقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد صلح الحديبية ـ قبيلة خزاعة، ضد قريش الذين ناصبوه العداء، وشنوا عليه الغارات.
وفي قصة الحرب بين الفرس والروم التي انتصر فيها الفرس المجوس على الروم النصارى في أول الأمر، وما وقع من جدال وتلاح بين المسلمين والمشركين من قريش في مكة، حول نتيجة هذا الصراع وعاقبته، إلى حد أن راهن أبو بكر على أن الروم سينتصرون، دليل على أن الكفر بعضه أهون من بعض، وأن بعض الكفار أقرب إلى المسلمين من بعض.
وهذا ما أدركه كل من المسلمين والمشركين في مكة، فقد اعتبر المشركون انتصار الفرس على الروم أمرا يغيظ المسلمين، لأن الفرس يعبدون النار، ويقولون بإلهين اثنين: للخير وللشر، بخلاف الروم فهم أهل كتاب، وأصحاب دين سماوي..
ولا غرو أن نزل القرآن يبشر المسلمين أن الدائرة ستدور على الفرس وأن الدولة ستكون للروم.
يقول تعالى: (آلم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (سورة الروم: 1-5)

* الكف عمن قال (لا إله إلا الله)

ولا يخفى على دارس أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين العاملين للإسلام خاصة، وللمسلمين عامة، بل هو أشد خطرا على الإطلاق: هو التكفير، أن تخرج مسلما من الملة، ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر والردة.
فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال، فلا لقاء بين مسلم ومرتد فهما خطان متوازيان لا يلتقيان.
وقد ذكرت في رسالتي (ظاهرة الغلو في التكفير) أخطاء هذا الاتجاه وأخطاره فهو خطيئة دينية، وخطيئة علمية، وخطيئة حركية وسياسية.
والسنة النبوية تحذر أبلغ التحذير من اتهام المسلم بالكفر، في أحاديث صحيحة مستفيضة.
ومن ذلك: حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه".
وحديث أبي ذر: "من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه" أي رجع عليه.
وحديث أبي قلابة: "من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله".
ومن هنا كان الواجب على أبناء الصحوة الإسلامية، الكف عن كل من قال: "لا إله إلا الله" فقد صحت الأحاديث أن من قالها فقد عصم دمه وماله، وحسابه على الله.
ومعنى أن (حسابه على الله) أننا لم نؤمر بأن نشق عن قلبه، بل نعامله وفق الظواهر، والله يتولى السرائر.
وقصة أسامة بن زيد مع الرجل الذي قتله في المعركة بعد ما قال (لا إله إلا الله) واضحة كل الوضوح، فقد أنكر عليه الرسول الكريم قتله بعد قولها، ولم يقبل منه دعواه أنه قالها تعوذا من السيف، قائلا: هلا شققت عن قلبه؟!
ولهذا لا يجوز اقتحام هذا الحمى، وتكفير أهل الإسلام، لذنوب ارتكبوها أو بدع اقترفوها، أو آراء اعتنقوها وإن أخطؤوا الصواب فيها.
يقول الإمام ابن الوزير في هذه النقطة:
من مرجحات ترك التكفير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بذلك في هذه المسألة بالنصوصية والخصوصية، وهذا من أوضح المرجحات. وفي ذلك أحاديث: منها حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل.. الحديث" رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن. ورواه أبو يعلى من طريق أخرى، وليس فيها من ضعف إلا يزيد الرقاشي العبد الصالح، ضعف من قبل حفظه، وقد أثنى عليه الحافظ ابن عدي ووثقه، وقال: عنده أحاديث صالحة عن أنس أرجو أنه لا بأس به، هذا مع الثناء النبوي على عموم التابعين، فأقل أحواله أن يقوي طريق أبي داود ويشهد لها.
الحديث الثاني: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو حديث أنس بمعناه. رواه أبو داود.
الحديث الثالث: عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب من كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب" رواه الطبراني في الكبير من حديث الضحاك بن حمرة عن علي بن زيد، وحمرة بالحاء والراء المهملتين بينهما ميم.
قال الهيثمي: مختلف في الاحتجاج بهما. قلت: لكن حديثهما يصلح في الشواهد ويقوى بما تقدم..
وفي الباب عن علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدريوعائشة رضي الله عنها وعنهم، سبعتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمثل ذلك، لكن في أسانيدها مجاريح لكن بمجموعها ـ مع ما تقدم ـ قوة، ولحديث علي عليه السلام شواهد عنه وهو ما تقدم من عدم تكفيره الخوارج من طرق، ومن رده لأموالهم من طرق، ويعضد ذلك عمل الصحابة، فعن جابر أنه قيل له: هل كنتم تدعون أحد من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله! ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا. رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، والحديث إذا اشتهر العمل به في الصحابة دل على قوته. وهذه الشواهد السبعة والحديث الذي قبلها كلها في مجمع الزوائد في أوائله.
ثم يذكر وجها آخر فيقول:
قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطؤوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم، لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى في خطاب أهل الإسلام خاصة: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) (سورة الأحزاب: 5) وقال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (سورة البقرة: 286) وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال: قد فعلت، في حديثين صحيحين: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، وقال تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) (سورة آل عمران: 135) فقيد ذمهم بعلمهم، وقال في قتل المؤمن مع التغليظ العظيم فيه: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (سورة النساء: 93). فقيد الوعيد فيه بالتعمد، وقال في الصيد: (ومن قتله منكم متعمدا) (سورة المائدة: 95). وجاءت الأحاديث الكثيرة بهذا المعنى، كحديث سعد وأبي ذر وأبي بكرة ـ متفق على صحتها ـ فيمن ادعى أبا غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فشرط العلم في الوعيد.
ومن أوضحها حجة: حديث الذي أوصى ـ لإسرافه ـ أن يحرق ثم يذرى في يوم شديد الرياح، نصفه في البر، ونصفه في البحر، حتى لا يقدر الله عليه، ثم يعذبه! ثم أدركته الرحمة لخوفه، وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة، منهم حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة، بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر، كما في جامع الأصول، ومجمع الزوائد، وفي حديث حذيفة: أنه كان نباشا.
وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد، ولذلك خاف العقاب، وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك، وأنه ممكن مقدور، ثم كذبهم أو أحدا منهم، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (سورة الإسراء: 15).
وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل.
ويعضد ما تقدم بأحاديث "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" وهي ثلاثة أحاديث صحاح.
ولهذا قال جماعة جلة من علماء الإسلام: إنه لا يكفر المسلم بما يبدر منه من ألفاظ الكفر إلا أن يعلم المتلفظ بها أنها كفر. قال صاحب المحيط: وهو قول أبي علي الجبائي ومحمد والشافعي.
ولعل هذا الحديث الصحيح بل المتواتر حجتهم على ذلك.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (سورة البقرة: 285-286). وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليه الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله" وقال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال: "إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك أن الله قد أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وهذا في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير، قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ! ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) (الحجرات: 9) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: (إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" وقال: "الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم".
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا".
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كانت تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا، وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى إن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. كلام شيخ الإسلام.
هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية بوضوح، منكرا أشد الإنكار على من يكفرون الناس بذنب أو خطأ داعيا إلى التزام الجماعة وعدم الشذوذ عنها، ومجوزا الصلاة وراء المبتدع.
ومع هذا نجد فيمن ينسبون أنفسهم إلى ابن تيمية من يجهل هذه الحقائق كلها، ومن يشهر سيف التكفير في وجه كل من يخالفه في رأي يرى أنه الحق، حتى إن من هؤلاء من كفروا طوائف كبيرة تتبعها جماهير غفيرة من الأمة كالأشاعرة ومنهم من تطاول على كبار العلماء والدعاة، وحكم بكفرهم، غير خائف أن يبوء هو بذلك، كما أنذر بذلك الحديث الشريف.
رد حديث الآحاد لشبهة لا يكفر به:
ومن الخطأ البالغ الذي يقع فيه بعض الناشئين في العلم، أو الحدثاء في الدعوة، أو المتعجلين في الفتوى: تكفير من ينكر بعض الأحاديث الصحاح منأحاديث الآحاد، التي ربما أخرجها الشيخان: البخاري ومسلم، أو أحدهما لشبهات لاحت لهم، قد تكون قوية معتبرة، وقد تكون واهية لا اعتبار لها، ولكنها ـ في نظر أنفسهم ـ شبهات جعلوها عللا قادحة في ثبوت فن الحديث.
فهم يردون الحديث، لأنهم يرونه مخالفا لدلالة القرآن الواضحة، أو للأحاديث اليقينية المتواترة، أو للعلم القطعي المؤكد، أو للواقع التاريخي الثابت، أو لدلالة الحس أو العقل، أو غير ذلك ـ مما جعله علماء الحديث أنفسهم من دلائل الوضع في الحديث ـ وإن كان غيرهم لا يسلم لهم بذلك.
ولا وجه للحكم بالكفر في هذه المسألة، إذ العلماء لا يكفرون إلا من أنكر السنة مطلقا، ولم يعتبرها مصدرا للأحكام الشرعية بعد القرآن، لأن من فعل ذلك يلزمه أن ينكر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لم تثبت إلا بالسنة مثل كون الصلوات خمسا، وأن لكل منها وقتها المعلوم، وركعاتها المحددة، وهيئاتها المعينة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وهذا كله مما ثبت بالسنة.
أما من أنكر حديثا أو جملة أحاديث من أحاديث الآحاد، فلم يذهب فقيه واحد ولا عالم معتبر إلى كفره.
وهؤلاء أئمة أهل السنة لم يكفروا الخوارج ولا المعتزلة، رغم إنكارهم لأحاديث كثيرة من أحاديث الصحاح، كأحاديث رؤية الله تعالى في الجنة رغم استفاضتها، وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها، مما ذكره ابن قتيبة ورد عليه في كتابه الشهير (مختلف الحديث).
وكم من إمام رد حديثا يراه غير صحيحا، ولا يراه هو كذلك.
بل من المحدثين أنفسهم من يرد من الأحاديث ما يصححه غيره، ولهذا ترك البخاري أحاديث أخرجها غيره.
وهذا إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين رد أحاديث (فرائض الصدقة) التي أخرجها الشيخان.
ولقد كان لأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ آراء خاصة في شأن بعض الأحاديث التي تراها مخالفة لظاهر القرآن، فتردها وتتهم الصحابة الذين رووها بأنهم أخطؤوا ولم يحسنوا السماع والتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مثل موقفها من حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" إذ تراه معارضا لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقد رواه أكثر من صحابي.
وحديث: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها" إذ ترى أن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرة وأن المرأة كانت كافرة.
وحديث وقوفه صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، ومناداته لصناديد قريش بأسمائهم بعد دفنهم: "هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا".
وقول عمر وبعض الصحابة: أتكلم قوما قد جيفوا؟!
يقول العلامة ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث في كتابه: (البداية والنهاية: وهذا مما كانت عائشة رضي الله عنها تتأوله من الأحاديث (كما قد جمع ما كانت تتأوله في جزء) وتعتقد أنه معارض لبعض الآيات، وهذا المقام مما كانت تعارض فيه قوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) (سورة فاطر: 22).
قال: وليس هو بمعارض له. والصواب قول الجمهور من الصحابة ومن بعدهم، للأحاديث الدالة نصا على خلاف ما ذهبت إليه رضي الله عنها وأرضاها.
ولم يتهم أحد من الصحابة ولا من بعدهم أم المؤمنين رضي الله عنها برقة دينها، أو ضعف يقينها، أو تنكرها لسنة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد خالفوها جميعا، وبينوا الخطأ في وجهة نظرها، ولكن أحدا لم يمسها بكلمة بسبب آرائها هذه، بل جمعوا آراءها في كتب مفردة وتحدثوا عنها بكل إجلال وتوقير، لأنها صادرة عن اجتهاد، فهي معذورة فيه، بل مأجورة عليه.

الباب الثالث: الدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف

* الإخلاص لله والتجرد من الأهواء

أهمية الدعائم الأخلاقية

مهما يكن من أهمية للدعائم الفكرية والعلمية في تقريب الشقة بين المختلفين من أبناء الصحوة الإسلامية، وتجنيدهم في صف واحد لمواجهة القوى الضخمة التي تكيد للإسلام وأمته في الشرق والغرب، فسيظل للجوانب الإيمانية والأخلاقية أهميتها الخاصة.
فالإنسان في حاجة إلى عقل يقظ، كما يحتاج إلى ضمير حي. في حاجة إلى العلم النافع، وإلى الإيمان الوازع، وإلى الخلق الفاضل.
ومن هنا أفردنا الحديث عن عدد من الدعائم ذات الطابع الأخلاقي، لها أثرها الكبير والعميق في ترسيخ أدب الاختلاف، وتثبيت فكرة الائتلاف، وتأكيد معاني الأخوة والتعاون والتسامح التي دعا إليها الإسلام، والتي يجب أن تسود وتتعمق بين المسلمين عامة، وبين العاملين للإسلام خاصة.

* الإخلاص لله والتجرد من الأهواء

أول ما نبدأ به هنا أمر يسبق كل ما ذكرناه من المبادئ والقواعد وهو: الإخلاص لله وحده، والتجرد للحق، ومجاهدة النفس حتى تتحرر من اتباع هواها أو أهواء غيرها.
فكثيرا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنه خلاف على مسائل في العلم، أو قضايا في الفكر، وباطنها حب الذات، واتباع الهوى الذي يعمي ويصم، ويضل عن سبيل الله، وهذا ما لمسته ـ للأسف الشديد في كثير من ألوان الخلاف التي وقعت ـ ولا زالت تقع ـ بين الجماعات والحركات الإسلامية بعضها وبعض، وبين الأجنحة المختلفة داخل الجماعة الواحدة، وبين الأفراد القياديين بعضهم وبعض، فكثير منها يرجع إلى أمور شخصية، وتطلعات ذاتية، وإن كانت تغلف بالحرص على مصلحة الإسلام أو الجماعة، أو غير ذلك مما قد يدق ويخفى حتى على الإنسان نفسه، فيزين له سوء عمله، فيراه حسنا.
أجل كثيرا ما يكون الخلاف في حقيقة الأمر من أجل أن يكون زيد زعيما، أو عمرو رئيسا، أو بكر قائدا، ويظن اتباع هذا أو ذاك أو ذلك أنه خلاف على المبادئ والمفاهيم، وهو خلاف على المغانم، وحب الظهور أو الجاه أو التصدر وهو الذي جاء به الحديث النبوي "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
والمراد بالشرف هنا: الجاه والمنصب، والمعنى: أن الحرص على المال والجاه أكثر إفسادا من إفساد الذئبين للغنم.
لقد حرصت التربية الإسلامية، القرآنية والنبوية، على تكوين الإنسان مؤمن الذي يجعل غايته رضا الخالق، لا ثناء الخلق، وسعادة الآخرة، لا منفعة الدنيا وإيثار ما عند الله على ما عند الناس، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) (سورة النحل: 96).
وحذرت هذه التربية من الإنسان الذي تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه فهو يعمل للجاه، والشهرة، أو للمصلحة الذاتية، أو لنزعة عصبية ظاهرة أو خفية.
ولهذا صح في الحديث أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هم أهل الرياء والكذب على الله، الذين يزينون للناس أنهم يعملون لله تعالى، وهم لا يعملون إلا لذواتهم، وشهوات أنفسهم، وإن كان فيهم العالم والمعلم، والمنفق الباذل والمجاهد المقاتل!!
ومن هنا نوه الحديث الشريف بأولئك الجنود المجهولين الذين يذيبون حبات قلوبهم، وينفقون أغلى أيام أعمارهم، في نصرة دينهم وطاعة ربهم، دون أن تسلط عليهم الأضواء، أو يشار إليهم بالبنان.
روى الحاكم وغيره، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر رضي الله عنه، خرج إلى المسجد فوجد معاذا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة".
ولكم رأيت كثيرا من الناس الذين يدافعون عن بعض الاتجاهات الفكرية، والعقدية يبالغون في الحماس لها، وشدة الإنكار على من خالفها، ويستخدمون أقصى العبارات في الهجوم وهم هواة أو محترفون جدد، دخلاء على أصحابه الأصليين، ولكنهم يريدون أن يثبتوا أنهم مخلصون لهذا الاتجاه، فيبدون في صورة من هو أشد حماسا من أهله على نحو ما قيل: ملكيون أكثر من الملك!
ويتجلى ذلك ويبرز أوضح ما يكون البروز، عندما يوجد من الأعين والآذان من يرجى أن ينقل عنه صولاته وجولاته، في الكر والفر، والهجوم والدفاع.
إن المسلم الحق هو الذي يكون عبدا لله، لا عبدا لذاته، فحيث وضع عمل وحيث وجه توجه، في الإمام أو في الخلف، قائدا، أو جنديا، دون تطلع إلى منصب أو دنيا..
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش؟ طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، أو كان في الساقة كان في الساقة".
ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، الذي عمل قائدا، فنصر الله به، وحقق على يديه الخير الكثير، فلما ولي أبو عبيدة القيادة بدلا منه كان له نعم الناصح والمشير، وهكذا يكون المؤمنون الصادقون.
إني انظر إلى كثير من الخلافات بين الفصائل الإسلامية، فأشم من ورائها رائحة التعصب المذموم، لحزب أو لجماعة، أو لإقليم، أو لمدينة أو لشخص أو لمدرسة، أو لثقافة.
ولو أنصف الجميع لجردوا أنفسهم للحق، وأخلصوا دينهم لله، حتى يخلصهم الله لدينه، (قل إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (سورة الأنعام: 162،163).
إن اتباع الهوى لون من الشرك، ولهذا قال السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى! وذلك لأنه يضل الإنسان عن الحق رغم علمه به (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟) (سورة الجاثية: 32).
وإن مما يؤسف له غاية الأسف: أن نجد بعض علماء الدين أو بعض أعضاء الجماعات الإسلامية، يتعاونون أحيانا مع جماعات علمانية صريحة في علمانيتها، ضد إخوانهم من العاملين للإسلام في حركات أو جماعات تختلف معهم في المنهج أو الموقف السياسي، مخالفين بذلك توجيهات القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة، وعمل الهداة والصالحين من رجالها في مختلف الأعصار.
لقد وجدنا في المعارك الانتخابية في ـ عدد من أقطار الإسلام ـ من المتدينين والمنتسبين إلى بعض الجماعات الدينية من يعطي صوته ـ ومن يوصي اتباعه أن يعطوا أصواتهم ـ للعلمانيين الذين يرفضون شريعة الله جهرة، ويتهكمون بالدعاة إليها، ويستهزئون بحدود الله، ولا يقبل أن يعطيها للمسلمين الملتزمين بالدعوة إلى الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة! لأنهم يخالفونه في بعض الأفكار والآراء.
فهل يمكن أن يكون وراء هذا التصرف منطق يقبله الإسلام بحال، إلا أن تكون الأهواء والخصومات ونزعات الأنفس الأمارة بالسوء التي تتردى في هذه المهلكات، وهي تحسب أنها تحسن صنعا؟ ونسأل الله السلامة.

* التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف

التعصب للرأي الشخصي

ومما يتمم الإخلاص لله، والتجرد للحق: أن يتحرر المرء من التعصب لآراء الأشخاص، وأقوال المذاهب، وانتحالات الطوائف.
على معنى: أنه لا يقيد نفسه إلا بالدليل، فإن لاح له الدليل بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يعظمه، أو الطائفة التي ينتسب إليها.
فالحق أحق أن يتبع من قول زيد أو عمرو من الناس، وما تعبدنا الله تعالى بقول فلان أو فلان، من العلماء أو الأئمة، إنما تعبدنا بما جاءنا في كتابه وما صح عن نبيه صلى الله عليه وسلم (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
التعصب للرأي الشخصي:
وأول ما ينبغي أن يتحرر المرء منه: تعصبه لرأيه الشخصي، بحيث لا ينزل عنه ولو ظهر له خطؤه، وتهاوت شبهاته أمام حجج الآخرين، بل يظل مصرا عليه، متمسكا به، مدافعا عنه، انتصارا للنفس، ومكابرة للغير، واتباعا للهوى، وخوفا من الاتهام بالقصور أو التقصير.
ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي قال: والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي.
وهذا التعصب من دلائل الإعجاب النفس، واتباع الهوى، وهما من أشد (المهلكات) خطرا.
والمتعصب أشبه بامرئ يعيش وحده في بيت من المرايا، فلا يرى فيها غير شخصه أينما ذهب يمنة أو يسرة، وكذلك المتعصب لا يرى ـ رغم كثرة الآراء ـ غير رأيه، فهو مغلق على وجهة نظره وحدها، ولا يفتح عقله لوجهة سواها، يزعم أنه الأذكى عقلا، والأوسع علما، والأقوى دليلا، وإن لم يكن لديه عقل يبدع، ولا علم يشبع، ولا دليل يقنع.
وبعضهم له معاذير كثيرة، يلجأ إليها إذا أعياه المنطق، واعوزته الحجة وغلب أمام خصومه، فحينا يتشبث بتقليد الآباء، وآونة بطاعة الكبراء، وثالثة باتباع الجمهور: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت.
وبعض هؤلاء المتعصبين يرفض مقدما وجهة النظر الأخرى دون أن يتيح لنفسها فرصة الاطلاع عليها ـ بالقراءة أو بالسماع ـ اطلاعا يمكنها من الإحاطة بها وإدراك حقيقتها.
وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم.
فقال عن بني إسرائيل: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه، وهو الحق مصدقا لما معهم) (سورة البقرة: 91).
وقال تعالى عن المشركين: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ومثل الذين كفروا مثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم، بكم، عمي، فهم لا يعقلون) (سورة البقرة: 170،171).

التعصب للمذهب

ومن التعصب المذموم: التعصب للمذهب، شأن غلاة المقلدين الذين يكادون يضفون على مذاهبهم العصمة، وعلى أئمتهم القداسة.
وهم يبنون تعصبهم هذا على دعائم غير مسلمة لهم.
منها: أن التقليد واجب، وخصوصا تقليد المذاهب أو الأئمة الأربعة. كما قال صاحب (الجوهرة) في علم التوحيد:
فواجب تقليد حبر منهمو كما حكى القوم بلفظ يفهم!
مع العلم المقطوع به: أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله إلا رسوله اتباع زيد أو عمرو من الناس بأعيانهما، وإن بلغا في العلم والفضل ما بلغا.
ومنها: أنهم لم يجيزوا لمن اتبع مذهبا أن يخرج منه، ولو في بعض المسائل التي يتبين للمقلد فيها ضعف دليل مذهبه، حتى قد يوصف بأنه مذبذب! وهذا إلزام آخر، بما لم يلزمه الله تعالى به.
ويلزم من هنا اعتبار أصحاب المذاهب كأنهم شارعون واعتبار أقوالهم كأنها أدلة شرعية يحتج بها، ولا يحتج لها!
وهذا مخالف لهدي الأئمة أنفسهم، فإنهم نهوا الناس عن تقليدهم وتقليد غيرهم.
ومخالف لما كان عليه سلف الأمة: الصحابة ومن بعدهم، طيلة القرون الأولى التي هي خير القرون، وأقربها إلى هدي النبوة.
ولهذا أنكر كبار علماء الأمة ومحققيها هذا الغلو في التقليد الذي كاد يشبه ما فعله أهل الكتاب من اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
يقول الإمام عز الدين بن عبد السلام:
"ومن العجب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف ما أخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة، لمذهبهم، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالا عن مقلده.
وقال: لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها، من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة، مقلدا لهم فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب.
وقال الإمام أبو شامة: ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة، فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة، فقد صح عن الشافعي أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره، قال صاحبه المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله لأقربه على من أراد مع إعلاميه نهيه عن تقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه، أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي: نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره.
ولا عجب أن رأينا المحققين المنصفين من العلماء يدعون مذهبهم، ويرجحون غيره إذا تبين قوة دليل المخالف، وضعف حجة المذهب.
وهذا كان عند أصحاب الأئمة المباشرين أظهر ممن بعدهم مثل مخالفة أصحاب أبي حنيفة ـ أبي يوسف، ومحمد وزفر ـ لإمامهم في مسائل لا تحصى.
وكذلك مخالفة أصحاب الأئمة: مالك والشافعي وأحمد، لهم في مسائل كثيرة على درجات متفاوتة.
ولم تخل العصور التالية من أناس رجحوا غير مذهبهم.
فنجد مثل الإمام القاضي أبي بكر بن العربي يرجح مذهب أبي حنيفة في القول بوجوب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، ويضعف مذهبه، مذهب مالك وغيره. لما هداه الدليل إلى ذلك.
ففي كتابه (أحكام القرآن) عند تفسيره للآية (114) من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). قال: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق.. ونصر هذا الرأي، وضعف مذهبه والمذاهب الأخرى.
وفي شرح سنن الترمذي عند حديث "فيما سقت السماء العشر" قال: وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة، وأحوطها للمساكين، وأولاها بشكر النعمة وعليه يدل عموم الآية والحديث.
وكذلك نجد الإمام النووي في شرحه لمسلم، أو شرحه للمهذب للشيرازي يرجح أحيانا غير الراجح في المذهب (الشافعي) حسبما يلوح له من الدلائل.
وكذلك مثل الكمال ابن الهمام الحنفي.
أما الإمامان ابن تيمية وابن القيم فموقفهما من مذهبهما الأصلي ـ وهو المذهب الحنبلي ـ معروف غير مجهول، وكثيرا ما تركاه بل تركا المذاهب الأربعة جميعا واعتمدا على اجتهادهما المطلق في مسائل غير قليلة.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل ترك مذهبه في بعض المسائل ـ كرفع الحنفي يديه عند الركوع وعند القيام منه ـ فأنكر عليه أصحابه ووصفوه بأنه مذبذب لا يستقر على مذهب! فأجاب إجابة مفصلة جاء فيها:
إذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد: ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي صلى الله عليه وسلم، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه.
فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا، بل قد يكون كافرا، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا لا بعينه من غير تعيين زيد ولا عمرو.
وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة (يعني: الناس كافة) تقليد فلان أو فلان فهذا لا يقوله مسلم.
ومن كان مواليا للأئمة محبا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، بل هذا أحسن حالا من غيره، ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذم، وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين، ولا مع الكفار، بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكافرين بوجه، كما قال تعالى في حق المنافقين: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) (سورة النساء: 143).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة".
فهؤلاء المنافقون المذبذبون هم الذين ذمهم الله ورسوله.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالاجتماع والائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا) إلى قوله: (لعلكم تهتدون) إلى قوله: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة.
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم، قال تعالى: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات) إلى آخر السورة.
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب، فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه اتبعه، وليس هذا مذبذبا، بل هذا مهتد زاده الله هدى، وقد قال تعالى: (وقل رب زدني علما)
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران. ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له، وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" سواء رفع يديه أو لم يرفع يديه لا يقدح ذلك في صلاتهم، ولا يبطلها، لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد، ولو رفع الإمام دون المأموم دون الإمام لم يقدح ذلك في صلاة واحد منهما، ولو رفع الرجل في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته، وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة، بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع مثل الآذان والإقامة، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة"، وثبت عنه في الصحيحين "أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعا كالأذان" فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها فقد أحسن، ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال، ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال.
وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها.. حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا، وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا، وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه.
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله، مستحقون للذم والعقاب، وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه، فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع.

التعصب ضد المذاهب والأئمة:

وإذا كان التعصب للمذاهب وأقوال الأئمة ـ كما تجلى ذلك في عصور التقليد والعصبية المذهبية ـ مذموما، فمثله في الذم أو أشد من يتعصب ضد المذاهب والأئمة بصورة مطلقة، ويوجه إليها سهام نقده وطعنه بدعوى أنها مخالفة للسنة!!
وهذا ما نراه في نابتة من الناس في هذا العصر، لا أظن لهم سلفا فيمن مضى من علماء الإسلام، إلا ما كان من عنف ابن حزم، وطول لسانه الذي شهره بسيف الحجاج! وهو ما عابه عليه كل منصف بعده، ومع هذا فاقه هؤلاء.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يتمسح به هؤلاء فموقفه معروف غير مجهول.
قال ابن تيمية رضي الله عنه في كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" في مقدمته بعد الخطبة: يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
ثم قال: فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا. وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم المنسوخ، وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة.
وقد فرع شيخ الإسلام هذه الأسباب إلى عشرة فصل القول فيها، ثم قال: فهذه الأسباب العشرة ظاهرة، وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث، لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته، وقد لا يبديها، وإذا أبداها، قد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا، فقد ندرك موضع احتجاجه، وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا.
وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب، فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له ـ من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم ـ يعاقب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافا، إلا شيئا عن بعض معتزلة بغداد، مثل المريسي وأضرابه أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه، وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم أو بتمكنه من العلم بالتحريم.
فإن من نشأ ببادية، أو كان حديث عهد بالإسلام، أو فعل شيئا من المحرمات غير عالم بتحريمها، لم يأثم، ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي، فمن لم يبلغه الحديث المحرم، واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورا. ولهذا كان هذا مأجورا، محمودا لأجل اجتهاده، قال الله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) (سورة الأنبياء: 78،79) فاختص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم.
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام، إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه عام الخندق: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم: لم يرد منا هذا، فصلوا في الطريق. فلم يعب واحدة من الطائفتين.
فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب، فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم.
والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم، فإن المقصود المبادرة إلى القوم.
وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا، هل يخص العموم بالقياس؟ ومع هذا فالذين صلوا في الطريق كانوا أصوب.
وكذلك بلالا رضي الله عنه، لما باع الصاعين بالصاع، أمر النبي صلى الله عليه وسلم برده، ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ، لعدم علمه كان بالتحريم.
وكذلك عدي بن حاتم، وجماعة من الصحابة لما اعتقدوا أن قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) معناه الحبال البيض والسود، فكان أحدهم يجعل عقالين: أبيض وأسود، ويأكل حتى يتبين أحدهما من الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي "إن وسادك إذن لعريض، إنما هو بياض النهار وسواد الليل" فأشار إلى عدم فقهه لمعنى الكلام، ولم يرتب على هذا الفعل ذم من أفطر في رمضان، وإن كان من أعظم الكبائر.
بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد، بوجوب الغسل، فاغتسل، فمات فإنه قال: "قتلوه، قتلهم الله! هلا سألوه إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال" فإن هؤلاء أخطؤوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم وكذلك لم يوجب على أسامة بن زيد وقودا ولا دية ولا كفارة لما قتل الذي قال: "لا إله إلا الله" في غزوة الحرقات، فإنه كان معتقدا جواز قتله بناء على أن هذا الإسلام ليس بصحيح،، مع أن قتله حرام، وعمل بذلك السلف وجمهور الفقهاء في أن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ، لم يضمن بقود ولا دية ولا كفارة وإن كان قتلهم وقتالهم محرما.
أما القول بأن التقليد حرام على كل الناس، وأن الاجتهاد واجب على كل الناس حتى العوام منهم، فهو قول مرفوض عند الكافة.
كيف وللاجتهاد شروط أجمع عليها الأصوليون، لا تتوافر لكثير من أهل العلم فكيف يتصور توافرها عند العامة والدهماء من الناس، من الأميين وأشباههم، وممن لا ينطقون بالعربية من المسلمين، وهم يمثلون نحو 85% من المجموع الكلي للمسلمين؟
كيف نطالب العامي أن يجتهد في معرفة الحكم بدليله، وهو لا يملك أي أداة من الأدوات الضرورية للاجتهاد الجزئي، ولو في مسألة واحدة؟
إننا نكلفه بما ليس في وسعه، والله تعالى يقول: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (سورة البقرة: 286).
والقول بأن المذاهب فرقت المسلمين قول مردود، فالاختلاف في الفروع لا يضر بوحدة المسلمين، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة فيها فما ضرهم ذلك شيئا.
والزعم بأن وجود النص أو الحديث كاف لإزالة الخلاف وتوحيد الجميع على رأي واحد ـ كما ترى المدرسة الأثرية المعاصرة، التي اسميها (الظاهرية الجدد) ـ زعم غير صحيح، وقد بينت خطأه في مواضع أخر مما كتبت.
ومن ذلك ما ذكرته في كتاب (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف):
"قد عرفنا في عصرنا أناسا يجهدون أنفسهم، ويجهدون الناس معهم، ظانين أنهم قادرون على أن يصبوا الناس في قالب واحد يصنعونه هم لهم، وأن يجتمع الناس على رأي واحد، يمشون فيه وراءهم، وفق ما فهموه من النصوص الشرعية، وبذلك تنقرض المذاهب، ويرتفع الخلاف، ويلتقي الجميع على كلمة سواء.
ونسي هؤلاء أن فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب، إذ لم تضمن العصمة لعالم، فيما ذهب إليه، وأن جمع شروط الاجتهاد كلها، كل ما ضمن له هو الأجر على اجتهاده، أصاب أم أخطأ.
ولهذا لم يزد هؤلاء على أن أضافوا إلى المذاهب المدونة مذهبا جديدا!
ومن الغريب أن هؤلاء ينكرون على أتباع المذاهب تقليدهم لأئمتها على حين يطلبون من جماهير الناس أن يقلدوهم ويتبعوهم.
ولا تحسبن أني أنكر عليهم دعوتهم إلى اتباع النصوص، أو اجتهادهم في فهمها، فهذا من حق كل مسلم استوفى شرائط الاجتهاد وأدواته، ولا يملك أحد أن يغلق بابا فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأئمة، إنما أنكر عليهم تطاولهم على مناهج علماء الأمة، واحتقارهم للفقه الموروث، ودعاواهم العريضة في أنهم وحدهم على الحق، وما عداهم على خطأ أو ضلال، وتوهمهم أن باستطاعتهم إزالة الخلاف، وجمع الناس قاطبة على قول واحد، هو قولهم!
قال لي واحد من طلبة العلم المخلصين من تلاميذ هذه المدرسة (مدرسة الرأي الواحد): ولم لا يلتقي الجميع على الرأي الذي معه النص؟
قلت: لا بد أن يكون النص صحيحا مسلما به عند الجميع، ولا بد أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد، ولا بد أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية، فقد يكون النص صحيحا عند إمام، ضعيفا عند غيره، وقد يصح عنده، ولكن لا يسلم بدلالته على المراد، فقد يكون عند هذا عاما وعند غيره خاصا، وقد يكون عند إمام مطلقا، وعند آخر مقيدا، وقد يراه هذا دليلا على الوجوب أو الحرمة، ويراه ذلك دالا على الاستحباب أو الكراهية، وقد يعتبره بعضهم محكما، ويراه غيره منسوخا، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وذكرها حكيم الإسلام ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) وفي رسالة (الإنصاف في أسباب الاختلاف) وفصلها العلامة الشيخ علي الخفيف في كتاب (أسباب اختلاف الفقهاء).
ولعل أعدل ما قيل في التقليد والتمذهب ما قاله الشهيد حسن البنا رضي الله عنه في أصوله العشرين: (لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الشرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع ذلك أن يتعرف على أدلة إمامه ما استطاع، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته.. وأن يستكمل نقصه العلمي ـ إن كان من أهل العلم ـ حتى يبلغ درجة النظر).
فهذا هو القول الوسط، فلم يجعل التقليد واجبا على كل الناس حتى أهل العلم منهم، كما يقول غلاة المذهبيين. ولم يجعل التقليد حراما على كل الناس كما يقول غلاة اللامذهبيين. بل فصل في الأمر تفصيلا حسنا، مفرقا بين أهل العلم وغيرهم من عامة الناس، مجيزا لمن لم يبلغ درجة النظر والترجيح أن يتبع إماما من الأئمة، وعبر بالاتباع، وهو أولى من التعبير بالتقليد، ولم يحصر الأئمة في الأربعة، فقد يتبع المسلم مذهب صحابي أو تابعي أو غيرهما من الأئمة، ومع هذا ينبغي معرفة أدلة إمامه، وخصوصا عند الشبهة، وأن يتقبل ما يرشده إليه غيره من الأحكام المقرونة بالأدلة المقنعة، إذا صدرت ممن يثق بعلمه ودينه وإن كانت مخالفة لمذهبه.
ثم نبه الشيخ رضي الله عنه هنا إلى ما ينبغي على أهل العلم، وهو طرح الكسل ومحاولة استكمال الأدوات العلمية من التعمق في فقه الكتاب والسنة والمقاصد والأصول واللغة وغيرها.. حتى يغدو من أهل النظر والاجتهاد، ولو جزئيا، ومن جد وجد، ومن سار على الدرب وصل.
ولنا ـ إن شاء الله ـ وقفة موسعة مع هذا الأصل، عند شرحنا للأصول العشرين التي أراد بها الإمام البنا رحمه الله أن تكون أساسا لوحدة الفهم عند العاملين للإسلام. وهو موضوع كتاب يصدر في جزءين بتوفيق الله تعالى.

التعصب للفئة أو الحزب

ومن التعصب الذي ينبغي أن نحذر منه: التعصب للفئة أو الحزب أو للجماعة التي ينتسب إليها المسلم، تعصبا يجعله ينتصر لها بالحق وبالباطل على نحو ما قاله العرب في الجاهلية (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قبل أن يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفهوم الجملة، ويعطيها تفسيرا جديدا يتفق مع قيم الإسلام.
ومن التعصب للجماعة أو الحزب، أن يضفي عليها من الصفات ما يشبه القداسة أو العصمة، فكل ما تقوله فهو حق، وكل ما تفعله فهو جميل، وكل ما يصدر عنها فهو صواب، وكل تاريخها أمجاد، وكل رجالها ملائكة!
وهذا ليس بصحيح فكل جماعة قامت لنصرة الإسلام وتجديده في العقول والأنفس والحياة والمجتمع، ليست أكثر من مجموعة من المسلمين تجتهد في خدمة الإسلام وإعلاء كلمته، وهي في اجتهادها تصيب وتخطئ، وهي مأجورة على كل حال أصابت أم أخطأت، فلكل مجتهد نصيب، ولكل امرئ ما نوى.
ومن مظاهر هذا التعصب: أن لا يذكر لجماعته أو لحزبه، إلا المزايا والحسنات، ولا يذكر للجماعات الأخرى إلا العيوب والسيئات، وأن يعظم رجال مجموعته مهما يكن فيهم من تقصير أو قصور، ويحقر رجال الآخرين مهما يكن فيهم من سمو في العلم والعمل.
والإسلام يوجب على المسلم، أن يكون عدلا مع من يحب ومن يكره، يقول لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه، ولا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدخله رضاه في الباطل، ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) (سورة النساء: 135).
وقال: (لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (سورة المائدة: 8).
ومن مظاهره: أن يفرح بأخطاء الآخرين، وقد يشنع بها، ويضرب بها الطبل، في حين يتعامى عن أخطاء فئته وجماعته، وإذا اعترف بها حاول أن يهون منها، ويعتذر لها، ويدافع عنها.
ومن مظاهر التعصب: المبالغة في المحافظة على الأشكال التنظيمية للحزب أو للجماعة، كأنها أمور تعبدية، حتى يضحي ـ في بعض الأحيان ـ بمصلحة الدعوة الإسلامية، والأمة الإسلامية، كيلا تخدش الصورة التنظيمية.
وهذا خطأ شنيع في الفهم، فالأشكال التنظيمية (وسائل وأدوات) تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان، وليست (أصناما تعبد) أو غايات تقصد لذاتها، كما يفهم ذلك من تصرفات بعض الغلاة في احترام التنظيم!

* أخلاقيات التحرر من التعصب

ومن الضروري هنا: التنبه والتنبيه على جملة من الأخلاقيات التي نراها لازمة للدلالة على التحرر من أسر التعصب حقا، ومن الواجب لفت النظر إليها والتذكير بها، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
ومن هذه الأخلاقيات: أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح والتقويم منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل، أو تطاول عليه أحد بغير حق.
وكل واحد من هذه الآداب أو الفضائل يحتاج إلى حديث، نرجئه لدراستنا القادمة بإذن الله عن (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) أسأل الله أن يعيننا على إتمامه عن قريب.

* إحسان الظن بالآخرين

ومن المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل بين الإسلاميين مع بعضهم البعض: إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود، عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه، واتهام غيره..
والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى) (سورة النجم: 32).
ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء) (سورة النساء: 49).
والمؤمن ـ كما قال بعض السلف ـ أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح!
فهو أبدا متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يسوغ لها خطأها، يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، والتقصير في حقوق عباد الله.
وهو يعمل الخير، ويجتهد في الطاعة، ويقول: أخشى أن لا يقبل مني. فإنما يتقبل الله من المتقين، وما يدريني أني منهم؟!
وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، وخصوصا لإخوانه والعاملين معه لنصرة دين الله، فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!
وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله، وحسن الظن بالناس، وفي مقابلهما: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله.
إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وأن لا تظن به إلا خيرا، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليبا لجانب الخير على جانب الشر.
والله تعالى يقول: (يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم) (سورة الحجرات: 12) والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.."
والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه، وأن لا يظن به إلا خيرا، كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وقالوا: هذا إفك مبين) (سورة النور:12).
صحيح إن سوء الظن من الأشياء التي لا يكاد يسلم منها أحد، كما روي ذلك في حديث ضعيف، ولكن يقويه ما ثبت في الصحيح، قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه الذين رأوه في الاعتكاف يكلم امرأة في المسجد، فأسرعا الخطا، فقال: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي (زوجته)" فقالا: وهل نظن بك إلا خيرا يا رسول الله؟ قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا".
ومع هذا ينبغي للمؤمن أن لا يستسلم لوسوسة الشيطان في إساءة الظن بالمسلمين، بل عليه أن يلتمس لهم المعاذير والمخارج فيما يراهم أخطؤوا فيه، بدل أن يتطلب لهم العثرات والعيوب.
فإن من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدهم منه مجالس يوم القيامة الباغين للبرآء العثرات.
فإذا كان العمل الصادر عن المسلم يحتمل وجها يكون فيه خيرا، وعشرين وجها لا يكون فيها إلا شرا، فينبغي حمل هذا العمل على وجه الخير الممكن والمحتمل.
وإذا لم يجد وجها واحدا للخير يحمله عليه ـ فيجمل به أن يتريث، ولا يستعجل في الاتهام، فقد يبدو له شيء عن قريب، وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم!
ومما يجب التحذير منه: ما يتصل باتهام النيات، والحكم على السرائر، وإنما علمها عند الله، الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية.
وهذا مطلوب للمسلم أي مسلم، من عامة الناس، فكيف بالمسلم الذي يعمل للإسلام والذي ضم إلى الإسلام العام: الدعوة إليه، والغيرة عليه، والدفاع عنه، والتضحية في سبيله؟
ومن أجل هذا يعجب المرء غاية العجب، ويتألم كل الألم، إذا وجد بعض العاملين للإسلام يتهم بعضهم بالعمالة أو الخيانة، جريا وراء العلمانيين وأعداء الإسلام فيقول أحدهم عن الآخر: هذا عميل للغرب أو للشرق أو للنظام الفلاني، لمجرد أنه خالفه في رأي أو في موقف، أو في اتخاذ وسيلة للعمل مخالفة له، ومثل هذا لا يجوز بحال لمن فقه عن الله ورسوله.
إن مجال السياسة الشرعية رحب، وفيه تتفاوت الأنظار، ما بين مضيق وموسع وبخاصة إن تقدير المصالح والمفاسد وراء الشيء الواحد يختلف الناس فيه اختلافا شاسعا.
وينبغي أن نقدم دائما حسن الظن ولا نتبع ظنون السوء فإنها لا تغني من الحق شيئا. فهذا يرى السكوت عن الحاكم في هذه المرحلة أولى، وآخر يرى وجوب المواجهة. وهذا يراها مواجهة سياسية، وآخر يراها عسكرية.
وهذا يرى الدخول في الانتخابات، وغيره ينكر المشاركة فيها.
وهذه كلها مجالات للاجتهاد لا ينبغي أن تمس دين شخص أو إيمانه أو تقواه بحال من الأحوال.
ويشتد الخطر حينما يجتمع أتباع الظن، وأتباع الهوى، كالذي ذم الله به المشركين في قوله: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (سورة النجم: 28).
(ومن أضل ممن اتبع هواه، بغير هدى من الله) (سورة القصص: 50).
ومن أجل ذلك حذر الله الرسل ـ مع مالهم من مقام عنده ـ من اتباع الأهواء فقال تعالى لداود: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (سورة ص: 26).
وقال لخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن المكي: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) (سورة الجاثية: 18).
وفي القرآن المدني: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (سورة المائدة: 49).
إن الإخلاص لله يجمع يوحد، أما اتباع الهوى فهو يفرق ويمزق، لأن الحق واحد، والأهواء بعدد رؤوس الناس.
وإن أكثر ما فرق الأمة الإسلامية إلى فرق وطوائف شتى في القديم والحديث هو اتباع هوى النفس أو أهواء الغير، ولهذا أطلق (أهل السنة) على الفرق التي حادت عن (الصراط المستقيم) هذا العنوان المعبر (أهل الأهواء) فكثيرا ما كان الخلاف غير جذري، أو غير حقيقي، ولكن الذي ضخمه وخلده هو الهوى، نسأل الله السلامة.

* ترك الطعن والتجريح للمخالفين

ومن أسباب التواصل والتقارب: ترك الطعن والتجريح للمخالف، والتماس العذر له، وإن كان مخطئا في ظنك.
وذلك لأنه قد يكون مصيبا وأنت المخطئ، إذ لا يقين في الاجتهادات بصواب أحد القولين، كل ما تملك في هذا المجال هو الترجيح، والترجيح لا يعني القطع واليقين.
كما أن المخطئ في هذه القضايا لا يجوز الطعن عليه بحال، لأنه معذور في خطئه، بل مأجور عليه بنص الحديث النبوي الشريف.
فكيف يجرح أن يطعن عليه في أمر هو مأجور عليه من الله تعالى، وإن كان أجرا واحدا غير مضاعف، ولكن يكفي أنه مثاب ومأجور غير مأزور؟
وهذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد، فلم يجرح بعضهم بعضا، بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه.
نموذج من أدب كبار العلماء مع مخالفيهم:
ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف: تلك الرسالة العلمية الرائعة، التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع، حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه، ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظرا لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع، الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:
(... سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه.. ثم يقول: وأنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له).
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبينا أن كثيرا من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه، وبين أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: (ومع ذلك ـ بحمد الله ـ عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ما عمله)، ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر ـ والقضاء بشاهد ويمين ـ ومؤخر الصداق لا يقبض إلا عند الفراق ـ وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء.. وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة: (وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله).
وإن من المؤسف اليوم أن نجد من بين المشتغلين بالدعوة إلى الإسلام من يشهر سيف الذم والتجريح لكل من يخالفه، متهما إياه بقلة الدين، أو باتباع الهوى أو بالابتداع والانحراف، أو بالنفاق، وربما بالكفر!
وكثير من هؤلاء لا يقتصرون في الحكم على الظواهر، بل يتهمون النيات والسرائر، التي لا يعلم حقيقة ما فيها إلا الله سبحانه، كأنما شقوا عن قلوب العباد واطلعوا على دخائلها!
ولم يكد يسلم من ألسنة هؤلاء أحد من القدامى، أو المحدثين، أو المعاصرين ممن لا يقول بقولهم في قضايا معينة، حتى وجدنا من يسب بعض الأئمة الأربعة في الفقه، ومن يسب بعض أئمة السلوك والزهد.
هذا مع أن حملة العلم قد عدلهم النبي صلى الله عليه وسلم وزكاهم، بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله".
وهذه من المزالق التي يتورط فيها كثير من المنتسبين إلى التيار الديني: الطعن والتجريح، فيمن يخالف وجهتهم، أو مذهبهم في الاعتقاد أو الفقه أو السلوك.
فتجد بعض المنتمين إلى مذهب يطعنون في المذهب الآخر وإمامه.
ومن ينتمون إلى الحديث أو السلف يطعنون في الفقهاء كالأئمة الأربعة وكبار أتباعهم ممن لا يشك أحد في علمهم واجتهادهم ودينهم وورعهم.
أو يطعنون في كبار الصوفية الذين أثنى عليهم الربانيون والعلماء المحققون من خيار الأمة، وربما طعنوا في الصوفية جميعا.
وكذلك قد يطعنون في كبار علماء الأشاعرة ويجرحونهم تجريحا منكرا، وهم من لهم منزلة وفضلا في الذب عن هذا الدين، وعن الكتاب والسنة.
وانظر إلى موقف الإمام ابن القيم من شيخ الإسلام الهروي الأنصاري صاحب كتاب (منازل السائرين إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين") الذي شرحه ابن القيم بكتابه (مدارج السالكين) فكثيرا ما خالف الشارح (صاحب المدارج) المؤلف (صاحب المنازل) وبين خطأه فيما ذهب إليه، وذلك حين لا يجد أي مجال لتأويل كلامه وحمله على أحسن الوجوه الممكنة، ومع ذلك يلتمس له العذر بعد العذر، ويثني عليه وعلى علمه وفضله ومنزلته.
خذ مثلا لذلك ما قاله الهروي في حقائق التوبة، حيث جعل منها (طلب أعذار الخليقة) على نحو ما يقوله كثير من الصوفية أن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم، على حين أن من نظر إليهم بعين الشريعة لامهم.
وقد بين ابن القيم أنه لا وجه لعذر العصاة بالقدر، وليس عذرهم من التوبة في شيء، فلا هم معذورون، ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة.
قال: لا سيما أنه يدخل في هذا عذر عباد الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء وفرعون وهامان، ونمرود بن كنعان، وأبي جهل وأصحابه، وكل كافر وظالم، ومتعد حدود الله، ومنتهك محارم الله، فإنهم كلهم تحت القدر، وهم من الخليقة أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة؟
ثم يقول ابن القيم: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم، صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عد خطؤه. ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب، الذي زلت فيه أقدام. وضلت فيه أفهام. وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا ـ إلا أقلهم ـ على أودية الهلكات.
ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض المتدينين: أنهم لا يسمحون للشخص الذي يثقون بمنزلته في العلم أو في الدين، بأي زلة تزلها قدمه في الفكر أو في السلوك، وتراهم بمنزلة واحدة يهدمون جهاد إنسان وجهوده طوال عمره، ويهيلون التراب على تاريخه كله.
ولو عامل الله عباده كما يعامل هؤلاء غيرهم، ما نجا أحد ـ بعد الأنبياء ـ من الهلاك في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، ولكنه تعالى خاطب المكلفين بقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) (سورة الشورى: 30).
وقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (سورة النساء: 31).
ووصف الذين أحسنوا من عباده بقوله: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) (سورة النجم: 32).
إن الله تعالى يحكم على الناس بغالب أعمالهم، فمن ثقلت موازينه فهو المفلح ومن خفت موازينه فقد خاب وخسر، مع أن الله تعالى ـ بفضله ورحمته ـ يضاعف الحسنات، ولا يضاعف السيئات (إن الله لا يظلم مثقال ذرة إن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) (سورة النساء: 40).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
ويقول: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
ومن المأثور:
أن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما؟
ومن الوقائع التي لها دلالتها: ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قبيل غزوة الفتح، حين أراد إرسال كتاب إلى أهل مكة، ينبئهم بتهيؤ الرسول لغزوهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يباغتهم فيجبرهم على التسليم بأقل ما يمكن من الخسائر والدماء.
وقد بعث حاطب بالكتاب بالفعل مع امرأة مسافرة إلى مكة، واستطاع علي رضي الله عنه أن يستخرجه منها، وقال عمر رضي الله عنه، حين اكتشف هذا الأمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه (يعني حاطبا) فقد نافق! ولكن النبي الكريم أبي ذلك وقال: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم".
ومعنى هذا أن سوابق هذا الصحابي شفعت له، مع عظم الذنب الذي اقترفه مما يشبه أن يكون خيانة عظمى.
ومن الكلمات الحكيمة هنا ما رواه أبو دواد في سننه عن الفقيه الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد قال: إياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق! قال يزيد بن عميرة، راوي الحديث، وهو من أصحاب معاذ: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم (المشتهرات) التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا.
وفي رواية: (المشبهات) مكان (المشتهرات) وفسرها بقوله: ما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟!
والشاهد هنا قول معاذ بعد التحذير من زيغة الحكيم: ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، فلا ينبغي أن يسقط المرء بسبب كلمة يزيغ فيها عن الحق.
ومن القواعد المسلمة: أن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة كالنسيان، وهو ما علمه الله للمؤمنين أن يدعوا به ختام سورة البقرة، وهو قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (سورة البقرة:286) وقد صح في الحديث: أن الله تعالى قال: قد فعلت.
وأكد هذا الحديث النبوي: "إن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وقال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) (سورة الأحزاب: 5).
يؤكد هذا قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (سورة البقرة: 286).
ومن بذل جهده في معرفة الحق، فأخطأ الطريق إليه، لم يكن عليه جناح ولم يوجه إليه لوم، وإلا كلفناه ما لا طاقة له به، وهو منفي أيضا بما دلت عليه الآية السابقة (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به).
* البعد عن المراء واللدد في الخصومة

وعامل آخر يقرب بين أصحاب الرأي المختلف، وهو: البعد عن المراء المذموم واللدد في الخصومة.
فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء، الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين.
وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر، بمثل قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) (سورة الحج: 8،9).
(ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) (سورة الكهف: 56).
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت).
فهذا المماري المتجبر يزعم أنه يحيي ويميت، لأنه يحكم على بعض الناس بالموت، ثم يعفو عنهم فيقول: قد أحييتهم! ويحكم على آخرين وينفذ الحكم. فيقول: قد أمتهم! فهو يفسر الإحياء والإماتة كما يشاء، وليس هذا هو التفسير الذي يعرفه الناس، والذي قصده إبراهيم عليه السلام بقوله: (ربي الذي يحيي ويميت).
ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء، والترغيب في البعد عنه.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، ويبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".
وعن أبي أمامة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: (بل هم قوم خصمون) (سورة الزخرف: 85).
وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق، تركوا العمل، وغرقوا في الجدل، وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) (سورة الكهف: 54).
ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناسا لا هم لهم إلا الجدل في كل شيء وليس لديهم أدنى استعداد لأن يعدلوا عن أي رأي من آرائهم، وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون. فهم على حق دائما، وغيرهم على باطل أبدا. منهم من يجادل في كلمات أعطاها اصطلاحا خاصا، خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزم الآخرين برأيه، مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح.
ومنهم من يذم التعصب للمذاهب، وهو يقيم مذهبا جديدا، يقاتل الآخرين عليه!
ومن يحرم التقليد ويطلب من الناس أن يقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلد بعض المعاصرين!
ومن يقيم معركة من أجل مسائل فرعية، وجزئية، اختلف السلف فيها وفي أمثالها، ولم تعكر لعلاقاتهم صفوا.
إن آفتهم هي المراء، أو اللدد في الخصومة، وهو أمر ذمه الله ورسوله.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" والألد: الشديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر.
والخصم: الحاذق بالخصومة.
وقد ذم الله المشركين بقوله في شأن القرآن: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر قوما لدا) (سورة مريم: 97).
ولدا: جمع ألد.
وقال في شأن مشركي قريش: (ما ضربوه لك إلا جدلا، بل هم قوم خصمون) (سورة الزخرف: 58).
وذم القرآن بعض أصناف الناس بقوله: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام) (سورة البقرة: 204).
وأكره ما يكون المراء واللدد في الخصومة حينما يكون حول (القرآن) الذي أنزله الله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فإذا أصبح هو مثارا للاختلاف فما المعيار الذي يحتكم الناس إليه؟ وما المرجع الذي يعولون عليه؟
وهذا سر ما روي من شدة غضب النبي صلى الله عليه وسلم على الذين اختصموا في القرآن، وضربوا آياته بعضها ببعض.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجرت (أي بكرت) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".
قال النووي: المراد بهلاك من قبلنا: هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم.
ومن طريق آخر، عن عبد الله بن عمرو أيضا قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارؤون (أي يتدافعون القول)، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتهم فكلوه إلى عالمه".
وفي بعض روايات الحديث: أنهم كانوا يتنازعون في القدر، هذا ينزع آية وهذا ينزع آية.
وفي رواية: أن بعضهم قال: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟
وفصلت رواية أخرى عن ابن عمرو قال: "لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم. أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة (أي ناحية منفردين) إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغضبا، قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب ويقول: مهلا يا قوم: بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه".

* الحوار بالتي هي أحسن

ومن الدعائم الأساسية في أدب الاختلاف: الحوار بالحسنى، وإذا استخدمنا التعبير القرآني قلنا: الجدال بالتي هي أحسن، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: (ادع إلى سبيل ربك الحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125).
وهنا نجد تفرقة في التعبير بين المطلوب في الموعظة والمطلوب في الجدال. ففي الموعظة اكتفى بأن تكون حسنة، أما في الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن، بمعنى أنه إذا كان هناك أسلوبان، أو طريقتان إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها وأفضل، فالمأمور به أن نتبع التي هي أحسن.
وسر ذلك: أن الموعظة ترجع ـ عادة ـ إلى الموافقين الملتزمين بالمبدأ والفكرة، فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم، وترقق قلوبهم وتجلو صدأهم، وتقوي عزائمهم، على حين يوجه الجدال ـ عادة ـ إلى المخالفين، الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير، أو الخشونة في التعامل، أو العنف في الجدل، فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار، حتى يؤتي أكله.
ومن هذه الطرائق أو الأساليب أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر.
ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير (أهل الكتاب) أو (الذين أوتوا الكتاب) ولهذا جاء في القرآن مثل قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) (سورة النساء: 171).
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم) (سورة المائدة: 15).
(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) (سورة آل عمران: 64). إلى آخر الآية التي كان يرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ملوك النصارى وأمرائهم، مثل قيصر والنجاشي والمقوقس.
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟) (آل عمران:20).
حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: "يأيها المشركون" بل كان يناديهم بقوله: "يأيها الناس".
ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد، ولهذا كرر فيها المعنى الواحد بصيغ عدة تأكيدا وتثبيتا ومع هذا ختمها بهذه الآية الكريمة التي تعد غاية في السماحة: (لكم دينكم ولي دين).
ومثلها قوله تعالى: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم علمكم، أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برئ مما تعملون) (سورة يونس: 41).
وإنما اصطدم الإسلام بالشرك، واقتتل الرسول والمشركون، لأنهم لم يقابلوه بمثل منطقه، بل قالوا: لنا ديننا، وليس لك دينك، ولنا علمنا، وليس لك عملك، من حقنا أن نعبد الأوثان، وندعو إليها، وليس من حقك أن تعبد الله وتدعو إليه، ومن اتبعك على دينك بإرادته واختياره كان علينا أن نفتنه عن دينه.
ومن أساليب الحوار بالحسنى: التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره.
وهو أسلوب قرآني يجب أن نتعرف عليه، فهو يقول في حوار أهل الكتاب من اليهود والنصارى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). (وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (سورة العنكبوت: 46).
ومثل ذلك قوله في سورة أخرى: (قل: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم) (سورة البقرة: 139).
فإذا كان هذا موقف المسلم ممن يجادله من أهل الكتاب الذين يخالفونه في عقيدته، وأصل دينه، ولا يؤمنون بأن محمدا رسول الله، ولا أن القرآن كتاب الله، ولا أن الإسلام شريعة الله، فكيف ينبغي أن يكون موقفه من أخيه المسلم الذي يؤمن بكل ما يؤمن به من عقيدة وشريعة، ورسول وكتاب؟
وأذكر هنا نموذجا رائعا من نماذج حوار القرآن مع المخالفين وكيف يتنزل معهم في الكلام، ويرخي لهم العنان، ليستميلهم إليه، ويقربهم إلى ساحته ولا يستثير دوافع الخصومة، وحب الجدل في نفوسهم، بل يحاول بأسلوبه الرفيق الحكيم تهدئتها، وتقليم أظافرها.
يقول تعالى في سورة (سبأ) مخاطبا المشركين: (قل: من يرزقكم من السموات والأرض؟ قل: الله، وأنا أو إياكم لعي هدى أو في ضلال مبين.
قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون. قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم).
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات:
هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وذلك لأن أحد المتناظرين، إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ، يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر رأينا على الخطأ ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر، ويترك التعصب، وذلك لا يوجب نقصا في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك. ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه: (إنا وإياكم) مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي، وهم الضالون والمضلون.
ثم قال تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون) أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: (ولا نسأل عما تعملون) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم وقوله (لا تسألون) (ولا نسأل) زيادة حث على النظر، وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذا بجرمه، فإذا احترز نجا ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.
ثم قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) أكد ما يوجب النظر والتفكير، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب.
ومجادلات الرسل مع أقوامهم، كما حكاها القرآن، تحمل هذا المعنى بكل جلاء، معنى الفرق والتلطف واستخدام ألين العبارات في الدعوة والحوار.
وحسبنا أن نذكر نموذجا لذلك حوار نوح عليه السلام مع قومه لنتمثل فيه أدب النبوة، وهديها.
يقول تعالى في سورة هود: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري ؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري لا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون. ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم. إني إذا لمن الظالمين. قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين. ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون) (الآيات: 25-34).
إن بعض المتحاورين في مسائل العلم والدين، يخيل إليك أنهم يتقاتلون لا أنهم يتجادلون، وإن الذي في إيمانهم ليس قلما يقطر مدادا أسود بل سيفا يقطر دما أحمر.
وكان الأولى أن يغلب الجو العلمي بهدوئه ورزانته على الجو الانفعالي بشدته وسخونته، وأن تهب الكلمات من الجانبين نسائم تنعش، لا أعاصير تدمر.
إن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتني من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب، وإن قال شوقي: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بآداب الحوار وموضوعيته، والبعد عن الإثارة والتهييج، أما الحوار الذي يصحبه العنف والاتهام والتجريح فالأغلب أنه يفسد الود، ويعكر صفاء الأنفس بل قد يخشى إذا ذهب الود أن لا يعود مرة أخرى، على نحو ما قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!
إن حسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان يحل مشكلات، ويفض اشتباكات.
وهذا ما يحسن بالدعاة والمفكرين المسلمين أن يحرصوا عليه، ويدققوا فيه.
ففي الآونة الأخيرة، علق الملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية على نجاح التيار الإسلامي في الانتخابات الأردنية نجاحا فاق كل التوقعات بقوله: إنه يعتبر هذا النجاح (تقدما إلى الإسلام) ولا يوافق على التعبير الذي يسميه (رجوعا إلى الإسلام).
وذلك أن التعبير الأخير قد يوحي بأن الأمة تركت الإسلام، وهي الآن ترجع إليه مع أن الأمة لم تتخل عن دينها يوما. أما التعبير الآخر فيوحي بأن الأمة ـ وهي مسلمة ـ تتقدم أكثر وأكثر إلى الإسلام من حيث حسن الفهم والإيمان والسلوك والتطبيق.
وقد لاقت عبارة الملك استحسان كثيرين، حتى كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين في (يومياته) بالأهرام 13/11/1989 يقول: كنت أحاول أن أصوغ المعنى الذي قاله الملك، فلم أعثر عليه. وربما لو عثرت عليه لفضت اشتباكات كثيرة مع كتاب ومفكري التيار الإسلامي، وسوء التفاهم لا مبرر له.
ولا ضرورة تدعو الدعاة والعاملين للإسلام إلى اتخاذ الكلمات أو العبارات التي من شأنها أن تنفر ولا تبشر، وأن تفرق ولا تجمع.
كيف والتوجهات النبوية تأمر بالتبشير وتنهى عن التنفير، ففي الحديث المتفق عليه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا

الخاتمة
* ماذا نريد من وراء هذا البحث؟

إننا نريد أن تقف الجبهة الإسلامية ـ وهي أعرض الجبهات وأوسعها قاعدة ـ صفا واحدا، في قضايا الأمة المصيرية، وفي هموم الدعوة الكبرى، وأن لا نعتبر الاختلاف في الفروع والمواقف والمسائل الجزئية عائقا أمام إرادة التجمع والتضامن والتراص في مواجهة العدو المشترك، وفي تحقيق الأهداف العظمى المتفق عليها بين الجميع.
إن الاختلاف في الأفهام والتفسيرات الجزئية، لا يضر إذا اتفقنا على الأصول الأساسية، والمقاصد الكلية، وإذا أيقنا أننا يمكن أن نختلف في الجزئيات اختلافا لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة ولا بغضاء.
وإنما يتم ذلك إذا عرفنا (فقه الاختلاف) وأدبه، والأصول أو الدعائم العلمية والخلقية التي يقوم عليها.
وهذا ما حاوله هذا البحث، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى إصابة الهدف الذي رنوت إليه.
على أن معركتنا التي تخوضها أمتنا المسلمة من المحيط إلى المحيط من أجل التحرير والبناء والتقدم والوحدة على أساس من ديننا الحنيف، توجب علينا أن ننسى كل الخلافات الفرعية، وننكر كل المعارك الجانبية لنقف صفا واحدا، أمام قوى الشر المعادية لنا، والمتربصة بنا. ونتعلم كيف يختلفون فيما بينهم، ولكنهم يتفقون علينا، وهو ما نبهنا عليه القرآن الكريم: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (سورة الأنفال: 73).
إن الأفراد والجماعات والأمم، إذا بقيت سليمة الفطرة، فإن الشدائد تجمعها والمعارك توحد صفوفها وتلم شملها، وهكذا يحب الله من المؤمنين أن يكونوا: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بينان مرصوص) (الصف:4).
إن الجبهة الإسلامية لم تستطع أن تقدم لدينها ودنياها شيئا كثيرا، مع ما لها من رصيد ضخم في نفوس الأمة، وهي التي تملك الأغلبية الحقيقية، وهي وحدها المعبرة عن ضمير الأمة وعن تاريخها وواقعها.
والسر في هذا القصور لدى الجبهة الإسلامية يرجع ـ أول ما يرجع ـ إلى أنها مبعثرة القوى، مشتتة الجنود، موزعة الجهود.
ولو أنها توحدت وتراصت واستفاد بعضها من بعض، وكان الأساس في التعامل بينها: التكامل والتناسق والتعاون، لا التناقض والتخاذل والتشاحن، لشقت طريقها إلى الغد بسرعة الصاروخ، لا ببطء السلحفاة، كما هو الطابع الغالب على مسيرتنا اليوم في كثير من الأقطار.
فلنبدأ إذن صفحة جديدة، نقيم فيها العلاقة فيما بيننا على أساس من تلك الدعائم الفكرية، والأخلاقية التي سلطنا عليها بعض الأشعة في دراستنا هذه.
ولقد ناديت من قبل، وخصوصا فيما كتبته في مجلة (الأمة) القطرية منذ سنوات تحت عنوان (أين الخلل؟) ونشر في بحث مستقل، بضرورة التلاقي بين الجماعات والحركات العاملة للإسلام، للتفاهم والتنسيق فيما بينها، وتعميق مواضع الاتفاق وفتح باب الحوار الأخوي في نقاط الاختلاف، لتمحيص ما يمكن تمحيصه، وتضييق دائرته بقدر الإمكان، وتبادل العذر فيما لا يمكن الاتفاق عليه.
وهذه الدراسة تعميق وتأكيد لهذه الدعوة التي أرجو أن تكون خالصة لوجه الله تعالى ولنصرة دينه، بل هي دعوة لأهل القبلة جميعا، ولكل من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولا، وبالقرآن إماما، أن ينسوا خلافاتهم وانقساماتهم في مواجهة القوى الإلحادية والصليبية والصهيونية والوثنية المناوئة للإسلام، إن كانوا يفقهون أو يعقلون!
وكل إعراض عن هذه الدعوة في هذه الآونة الحرجة يعتبر سلوكا غير مسوغ ولا مقبول، لا عند الله، ولا عند الذين آمنوا. ولا يقوم على أي منطق ديني أو أخلاقي أو مصلحي. ولا يمكن أن يكون وراءه إلا نفاق خفي، أو حمق جلي، كما قيل قديما في غلاة المتعصبين.
والداعية الموفق الذي آتاه الله الحكمة، هو الذي يتبنى هذه الدعوة المخلصة، ويذكر بها، ويلح عليها، حتى يفتح الله لها الآفاق والعقول والقلوب، فتستجيب لها (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه).

* الإمام حسن البنا وفقه الاختلاف

ولم أر من المصلحين المجددين من رجال الإسلام في العصر الحديث من عرف فقه الاختلاف، وسبر غوره، وأدرك ضرورة اجتماع الكلمة بين الجماعات الدينية والهيئات الإسلامية، وحرص على توحيد صف العاملين للإسلام، مثل الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه.
فقد ظهرت دعوته في مرحلة أصيب الناس فيها بالفرقة، والاختلاف في شتى المجالات في الوطن المصري، وفي سائر أوطان العرب والإسلام.
في المجال السياسي، لا سيما بعد سقوط الخلافة، وتعدد الرايات التي ارتفعت بعدها، وعدم وجود مظلة تضم شمل الأمة الإسلامية تحت راية العقيدة، وإخفاق المحاولات التي بذلت لإحياء فكرة الخلافة، أو نقلها إلى بلد آخر، فظهرت رايات قومية، ووطنية، يجافي بعضها بعضا، بل يحارب بعضها بعضا، وشكلت أحزاب سياسية اتفقت على أن لا تتفق حتى استخدمها الأعداء ليضرب بعضها بعضا.
وفي المجال الفكري، ظهرت دعوة (التغريب) والمناداة باتباع الحضارة الغربية في خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ويريدون بها الاتجاه الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي في حضارة الغرب.
وفي مقابلهم من يدعو إلى اليسار الاشتراكي، أو الشيوعي، وإن كانوا أخفت صوتا في ذلك الزمن.
وآخرون يدعون إلى العزلة عن الحضارة، والنجاة من شرها بإغلاق النوافذ دونها.
وفي المجال الديني، كان هناك عدة جبهات لكل منها وجهتها: جبهة الأزهر، بمذاهبه الأربعة واختلاف علمائه حول الاجتهاد والتقليد، وجبهة الصوفية بطرقها ومشايخها اتباعها وتغلغلها في فئات غير قليلة من الشعب، وجبهة الجماعات الإسلامية المنقسمة فيما بينها كذلك: الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة، وجمعية الشباب المسلمين، وشباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها.
ومنذ بدأ الأستاذ البنا دعوته في مدينة الإسماعيلية، وجد الخلاف مستعرا بين الجماعات الدينية، وخصوصا بين معسكر السلفيين ومعسكر الصوفيين، وقد انتقل هذا الخلاف إلى المساجد، وانقسم معه المصلون إلى فريقين، يجرح بعضهم بعضا، ولا يقبل الصلاة خلفه، وتراشقوا التهم إلى حد التكفير، مما جعل الشهيد البنا يدع المساجد بخلافاتها الحادة، ويولي وجهه شطر التجمعات الأخرى، البريئة من هذه العقد، وإن كان ينقصها الالتزام الديني، وذلك في الأندية والمقاهي ونحوها.
لقد كان الإمام البنا حكيما غاية الحكمة في معالجة أمور الخلاف فكرية أو دينية.
فهو لا يرفض كل ما يقوله أصحاب الأفكار الوضعية من قومية ووطنية، بل يقسمها ويصنفها، ثم يقبل منها ويرفض على أساس معياري قويم مستمد من الإسلام نفسه.
فهو يقبل من معاني القومية والوطنية ما لا يتعارض مع الإسلام، كما بين ذلك في رسالة (دعوتنا).
ولكنه يوجه عناية بالغة إلى الخلاف الديني، ويعالجه في أكثر من رسالة من رسائله، بل يضع (الأصول العشرين) لتمثل الحد الأدنى الذي يمكن أن تجتمع عليه الجماعات العاملة لخدمة الإسلام، ولهذا ترك بعض الأمور دون أن يقول فيها الكلمة الحاسمة كما في مسألة (التوسل)، و(الالتزام في العبادات) ونحوها، قصدا منه إلى تجميع الصف، وتوحيد الكلمة.
من هنا كان همه متوجها إلى القضايا الكلية، لا إلى المسائل الجزئية فمن شأن الأولى أن توحد وتجمع، ومن شأن الثانية أن تباعد وتفرق.
ولعل ما يفيدنا هنا أن نسجل ما ذكره في رسالة (دعوتنا) حول موقف الدعوة من الخلاف الديني، وهو ما يدل على عمق فقه الرجل، ونور بصيرته وحرصه منذ وقت مبكر على البناء لا الهدم، وعلى الجمع لا التفريق.
وقد ذكرت شيئا من ذلك في كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) ولا بأس بإعادته هنا تذكيرا وتوكيدا، فهذا هو مكانه.
يقول رحمه الله تعالى: أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية والآراء المذهبية.

* الإجماع على أمر فرعي متعذر

كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين، لين، لا جمود فيه ولا تشديد.
نعتذر لمخالفينا:
نعتقد هذا فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في القلوب؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم؟ اللهم لا وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.
وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات تافهة لا خطر لها؟ وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض وناظر بعضهم بعضا، فلم لا يسعنا ما وسعهم؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها كالأذان الذي ينادى به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به النصوص والآثار، فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط؟
وثم أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن ختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.
يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم. فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف، ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.
وهذا هو المنهج الذي يمثل الوسطية الإسلامية التي نؤمن بها وندعو إليها، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

* نجمع ولا نفرق

اعلم ـ فقهك الله ـ أولا: أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.

* الخلاف ضروري

ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة: منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلا بد من خلاف.
ومنها سعة العلم وضيقه، وإن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك والآخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة.
ومنها اختلاف البيئات حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.
ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها، فبينما نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسه وتطيب بالأخذ به، تراه مجروحا عند غيره لما علم عن حاله.
ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على حبر الآحاد مثلا، وذاك لا يقول معه به، وهكذا..

الأكثر مشاركة في الفيس بوك