اللغة العربية في الأندلس

كما انتشر الإسلام بسرعة فائقة في شبه الجزيرة العربية، انتشرت اللغة العربية كذلك على نطاق واسع بين سكان هذه البلاد. وقد كان لهؤلاء العرب، الوافدين على الأندلس في شكل موجات كبيرة أثر كبير في نشر اللغة العربية في شبه الجزيرة. ولاشك أنه يضاف إلى ذلك إقبال أهل شبه الجزيرة أنفسهم على اللغة العربية، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، نظرا لكونها لغة الحضارة الغالبة والعلم المتفوق، ولسان الممتازين ذوي السلطان. ولا أدل على مدى انتشار اللغة العربية في عصر مبكر بين المسيحيين أنفسهم، تلك الشكوى التي أطلقها أحد قساوستهم، واسمه "ألفرو القرطبي"  حيث يقول: "إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلسفة المسلمين، لا ليردوا عليها وينقضوها، وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلاً صحيحا. وأين تجد الآن واحداً من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينية التي كتبت على الأناجيل المقدسة؟ ومن سوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين، وآثار الأنبياء والرسل؟ يا للحسرة !!  إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها، ويفخرون في كل مكان بأن هذه الآداب حقيقية جديرة بالإعجاب. فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم. يا للألم !! لقد نسي النصارى حتى لغتهم فلا تكاد تجد في الألف منهم واحداً يستطيع أن يكتب إلى صاحبه كتاباً سليماً من الخطأ. فأما عن الكتابة في لغة العرب، فإنك واجد منهم عددا عظيما يجيدونها في أسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم فناً وجمالاً".

وهكذا زحزحت العربية اللاتينية عن عرشها في شبه الجزيرة كما زحزح الإسلام المسيحية. وبهذا صارت العربية اللغة الرسمية للبلاد، كما صار الإسلام دينها الرسمي. وقد صارت فصحى الأندلس بمرور الزمن وبحكم البيئة الجديدة، وبسبب احتكاك عناصرها المختلفة، ذات خصائص محلية تميزها بعض التميز عن فصحى الأقاليم العربية الأخرى. وكان من هذه الخصائص ما يتصل بالناحية الصوتية، كما كان منها ما يتصل باستعمال الألفاظ... وكانت لهم ألفاظ خاصة كثيرة، منها ما يختص بالإدارة وشؤون الحكم، ومنها ما يتعلق بالزراعة وري الأرض، ومنها ما يرتبط بالبناء ووسائل العمران، ومنها ما يتصل بالزي وأدوات الزينة؛ وكلها ألفاظ لا يكاد يستعملها غيرهم على النحو الذي عرفت عليه عندهم.

وكما كان الإسلام لا يعيش وحده في قلب شبه الجزيرة الأندلسية، كانت اللغة العربية كذلك لا تحيى وحدها على لسان تلك البلاد. فقد ثبت أن الفصحى وإن كانت اللغة العلمية والأدبية والرسمية، قد عاشت إلى جانب اللغة العامية، كوسيلة للحديث العادي. وهذا أمر طبيعي تؤيده الظواهر اللغوية في كل لغة وفي كل قطر تقريبا، حتى لا نكاد نحتاج معه إلى أدلة خاصة تؤيد حياة هذه العامية الأندلسية إلى جانب الفصحى. ومع هذا هناك أدلة عديدة تؤكد أن الأندلسيين كانت لهم عامية عربية يستخدمونها في حياتهم اليومية. ويتكلمون بها في حديثهم البعيد عن العلم والأدب والرسميات. ومن تلك الأدلة ما يتصل بالقرون الأولى لحياة المسلمين في الأندلس، ومنها ما يتصل بالقرون الأخيرة لحياتهم هناك.

ويذكر ابن سعيد المغربي، وهو من أدباء القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) "أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبى علي، المشار إليه بعلم النحو... وهو يقرئ تلاميذه لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه. والخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قواعد النحو استثقلوه واستبردوه".

وقد ثبت أن الأندلسيين لم يكونوا يعرفون العربية فصحى وعامية فقط، وإنما كانوا يعرفون إلى جانبها لغة أجنبية أخرى، هي إحدى اللهجات العامية المتفرعة من اللاتينية، وكانت اللاتينية العامية لغة الإسبان عند الفتح العربي. لأننا نعرف أن اللاتينية كانت قد دخلت إسبانيا مع الرومان، وطبيعي أن تتطور هذه اللاتينية على ألسنة الإسبان بعد انتقالها من موطنها الأصلي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. ومن هنا كانت تلك اللهجة اللاتينية العامية التي يسميها العلماء "رومانثي"، ثم كانت معرفة مسلمي الأندلس لها عن طريق هذا الامتزاج التام الذي حدث بين العرب الوافدين وكثير من الإسبان الأصليين بسبب كثرة الزيجات العربية الإسبانية، وإنتاج أجيال جديدة يتكلم آباؤها العربية وأمهاتها "الرومانثي"؛ فطبيعي أن يعرف الأبناء لغة الأمهات كما يعرفون لغة الآباء.

كذلك كانت معرفة الأندلسيين بتلك اللغة غير العربية، عن طريق دخول أسر إسبانية كثيرة في الإسلام، وهي تعرف لغتها الأصلية بطبيعة الحال، إلى جانب اللغة العربية المتعلمة. ثم لا يمكن أن يغفل هذا التعايش المتصل بين من ينتمون إلى أصول عربية وهم مسلمون، ومن ينتمون إلى عناصر إسبانية وهم المسيحيون، فهؤلاء لغتهم الأصلية "الرومانثي"، ومن شأن المعايشة أن تتيح لكل من المتعايشين التعرف على لغة صاحبه.

 

الأدب الأندلسي: من الفتح إلى سقوط الخلافة (بتصرف) الدكتور أحمد هيكل.

 

المصدر: http://www.andalusite.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=21...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك