الإسلام.. توعية سياسية وتعارف الأديان

مادة منهجية في ألمانيا للتوعية بالإسلام

أسلوب منهجي.. ودعم رسمي
تفنيد الأحكام المسبقة تلقائيا
أسلوب منهجي ميسر للجميع

قبل التعريف التالي بنموذج إيجابي عن التوعية الرسمية بالإسلام في ألمانيا حاليا، مقابل الكثير مما يستحق النقد من الكتابات الإعلامية والكتب المتحاملة على الإسلام، يحسن استحضار ما كانت عليه الأوضاع قبل جيل واحد، مدخلا إلى تقويم موضوعي لوضع التوعية حاليا، ويكفي الإيجاز من خلال مثالين يعبران معا عن نوعية التوعية السائدة سابقا، كمّا ونوعا.
المثال الأول من أوساط الناشطين في العمل الإسلامي، وكان جلّهم من الطلبة الوافدين مع البدايات الأولى لما يسمى المعجزة الاقتصادية الألمانية في الستينات من القرن الميلادي العشرين، ومن بين ما تداولته جمعيات الطلبة في المدن الجامعية الألمانية لفترة من الزمن: "كراسة" يدوية الإعداد والاستنساخ، لا يتجاوز حجمها 16 وريقة من القطع الصغير، وحرص معدّها (من خلال متابعة عدد كبير من الدوريات المطبوعة بحكم عمله الإعلامي وعبر الاستعانة بشركة "القصاصات الصحفية") على جمع ما يرصده في الصحف والمجلات في الموعد المناسب لإرسال تلك الكراسة عبر البريد إلى الجمعيات الطلابية الإسلامية، وكانت "فصلية"، أي أن الموعد كان مرة كل ثلاثة شهور فحسب، وكان عنوان الكراسة: "الإسلام في الإعلام الألماني"!.
آنذاك لم يكن سهلا العثور على مجرد خبر قصير، ناهيك عن مقال أو تعليق، يتناول الإسلام والمسلمين، بل حتى بعض القضايا الإسلامية، ويمكن الجزم أن مثل تلك الكراسة "الفصلية" آنذاك قابلة للإعداد يوميا الآن من حيث كمية محتوياتها، اعتمادا على صحيفة واحدة أو اثنتين فقط!.
المثال الثاني إنجاز علمي كبير قام عليه أستاذان جامعيان، أحدهما ألماني() وكان الآخر أ. فالاتوري من المسلمين الشيعة، وكانت حصيلة عملهما خمس مجلدات، تضمنت دراسات مقارنة لِما كانت تورده كتب مدرسية كنسية الإصدار حول الإسلام، مع تقويمه سلبا وإيجابا، وبيان ما تطوّر منه على مدى خمسة عشر عاما، فكان الفارق بين بداية تلك الفترة ونهايتها مذهلا، بدءا بالتراجع عن الزعم الذي كان يقول إن "المحمديين" -أي المسلمين بمفردات تلك الحقبة- يعبدون محمدا (صلى الله عليه وسلم)، انتهاء بكل ما يمكن تصوّره من أباطيل اشتهرت تحت عنوان "الحريم" أو "دين السيف" وما إلى ذلك.  

أسلوب منهجي ودعم رسمي

هذان المثالان -كما سبقت الإشارة- من فترة جيل مضى، وكان تعداد المسلمين في ألمانيا آنذاك مليونا ونيفا، وهم الآن زهاء 4 ملايين ونصف المليون حسب المصادر الرسمية. ولا يمكن تفسير بعض جوانب الحملات السلبية على الإسلام والمسلمين في الوقت الحاضر دون ربطها سببيا بطبيعة التكوين المعرفي مدرسيا وإعلاميا للجيل الناشئ آنذاك، والذي يمثل الغالبية حاليا في مفاصل صناعة القرار الفكري والإعلامي والفني إضافة إلى السياسي والاقتصادي والمالي.
هذا ممّا يضاعف تقدير قيمة النموذج المطروح بين أيدينا الآن، كمادة للتوعية العامة تحت عنوان: "الإسلام.. توعية سياسية وتعارف الأديان"، وهو من إصدار "المركز الاتحادي للتوعية السياسية"، الذي يمثل هيئة تثقيفية شبه رسمية، تعمل بدعم مالي من الدولة، وتوزّع موادّها الفكرية والثقافية إما مجانا أو بأسعار رمزية، لتكون في متناول أكبر عدد ممكن من عامة السكان، وإن كان الإقبال عليها من جانب "النخب المثقفة" كبيرا، فمستوى المواد علمي رصين، ويقوم عليه متخصصون في الدرجة الأولى.
ما نسميه هنا مادة التوعية بالإسلام، قابل للمراجعة والتجديد باستمرار، رغم أن إعداده الأول كان عام 2005م، واكتمل مبدئيا منذ عام 2006م، فشمل عشرة أجزاء، إذ صدرت على شكل "ملزمات" مطبوعة بأسلوب الأوراق المصنفة، الذي يسمح بتجديد أجزاء المادة وفقا لمراجعتها وإضافة نصوص حديثة الصدور إليها، ولكن دون الاضطرار إلى إعادة الطباعة الكاملة، إضافة إلى أن هذا التصنيف ييسر تعامل الطلبة والتلاميذ وسواهم مع المحتويات، وهي علاوة على ذلك مسجّلة ومبوبة بإخراج عمليّ جيد على أقراص مدمّجة مرفقة بالمادة المطبوعة.
وتحمل الأجزاء العشرة للمادة التي تشمل ألوف الصفحات العناوين الرئيسية التالية:
1- معلومات أساسية
2- الدين والسياسة في الإسلام
3- تعارف الأديان (1)
4- تعارف الأديان (2)
5- الإسلام في أوروبا
6- البلدان الإسلامية - مثال إيران
7- تعارف الأديان
8- المسلمون الوافدون والاندماج
9- البلدان الإسلامية - مثال تركيا
10- المسيحية والإسلام
ويلاحظ تكرار بعض العناوين، وهو ما يتضح بالإشارة إلى الحرص على توزيع المحتويات حسب مستوى الفئات المستهدفة، وهذا ما يتبين عند الاطلاع على العناوين الفرعية للفصول في كل جزء على حدة، إذ نجد من بينها:
1- معلومات أساسية: مقولات ومصطلحات أساسية، تاريخ الإسلام، قضايا معاصرة، الإسلام في العلوم والفنون والثقافة.
2- الدين والسياسة في الإسلام: الدين والسياسة في العهد الأول، الدين والسياسة في الإسلام المعاصر، الدين وحقوق الإنسان والديمقراطية، الدين والبحوث التاريخية الناقدة، مسائل معاصرة تجاه الواقع السياسي، ميادين الأزمات الحالية في العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام، مهام لمستقبل مشترك.
3- تعارف الأديان -1- (صياغة مناسبة للتدريس في المدارس الابتدائية): المسجد والنبي والقرآن.
4- تعارف الأديان -2- (صياغة مناسبة للمرحلة الثانوية): أسس الحوار، توسيع الآفاق وتعديل المنطلقات، مواقع أطراف الحوار، نقاط ارتكاز لفهم الحوار في النظرتين المسيحية والإسلامية، مسائل تطبيقية للحوار، تعارف الأديان على صعيد مواضيع محددة: الفقر والعدالة، الأزمات والعنف والتصالح، احتمالات مستقبلية للحوار.
5- الإسلام في أوروبا: الأسس، بدهيات أوروبية، وجهات نظر وتوقعات، أمثلة قطرية: بريطانيا، فرنسا، هولندا، البوسنه والهرسك، نظرة استشرافية.
وهكذا مع الأجزاء الأخرى..
رغم أن المحتوى يصلح للاطلاع المباشر بصورة فردية، إلا أنه في الوقت نفسه موضوع بصياغات تمكّن من استخدامه كمادة للتدريس الرسمي أو التوعية الثقافية، فيبدأ كل جزء من الأجزاء العشرة بعدد من التوجيهات التربيوية لمن يقوم على هذه المهمة، تليها عناوين المحتوى الموثق بنصوص، ونجد أن القسم الأكبر منها (أي نصوص المعلومات الأولية المحضة) منقولا عن المصادر الإسلامية، وعلى وجه التحديد: القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة (ابن إسحق)، بينما يعتمد قسم آخر -كما في الحديث عن الاندماج- على مؤلفات غربية تتميز عموما بالمنهجية في الإعداد والموضوعية في الصياغة بدرجة تلفت النظر. وجميع ذلك مزود بالصور، وتُختم كل فقرة رئيسية من فقرات كل جزء بمجموعة أسئلة اختبار ذاتي للتلاميذ، أو المشاركين في دورة توعية، أو للاستخدام الفردي.  

تفنيد الأحكام المسبقة تلقائيا

إذا كان ترتيب الأجزاء العشرة قد انطوى جزئيا على منهجية تصاعدية في تحصيل المعلومات ليعتمد بعضها على بعضها الآخر، فإن ما يلفت النظر أن هذا التوزيع على أجزاء مادة التوعية لم يبدأ وفق ما تقتضيه المناهج التقليدية، أي بالحديث عن الكليات الكبرى للإسلام نفسه، بل يأتي الحديث عن (المسجد والنبي والقرآن) مثلا في الجزء الثالث، وهو ما يشير إلى اختيار مقصود لمحتويات الجزئين الأولين، ويتناول معظمها ما يمكن اعتباره إشكاليات معاصرة من الموروث المعرفي والثقافي في الغرب عن الإسلام، بما في ذلك تعميم الكثير من الأحكام المسبقة مع رسوخ تصورها وكأنها "بدهيات" أو معلومات موثوقة وثابتة.
هذا ما يتناول الجوانب التاريخية، والصيغة الإسلامية للعلاقة بين الدين والسياسة مقابل ما رسخ في الغرب من نظرات ذات منطلقات كنسية وعلمانية، ويتناول قضايا أخرى مما سبق تعداده، بصيغة منهجية تساهم في انتزاع متلقي مادة التوعية من مفعول الأحكام المسبقة والنقص الكبير في التوعية، وهو يتلقى عبر الأجزاء التالية المعلومات الأساسية من مصادرها الإسلامية. ويمكن الوقوف عند الحديث عن العلوم والفنون والثقافة في الإسلام كمثالٍ يؤكد بصورة غير مباشرة ولكنها فعالة خطأ اختزال النظرة النمطية للإسلام والمسلمين في أحكام مسبقة أو مواضع اختلاف مع ما يسود المجتمعات الغربية من تصورات عقائدية، دينية وغير دينية.
يبدأ هذا الفصل في الجزء الأول من المادة بعبارة تقول:
"الآثار الثقافية الإسلامية على أوروبا كانت في عالم مختلف عما نعرفه اليوم، ففي حقبة عصورنا الوسطى كانت أوروبا في موقع المتخلف بوضوح، وتنظر بخليط من الخوف والإعجاب إلى الإسلام وحضارته المتفوقة".
ثم يفصل الحديث نسبيا في ذكر ما كان يستورده الأوروبيون من المنطقة الإسلامية، وكيف خلفت الحروب الصليبية صورة خاطئة عن الإسلام والمسلمين لا يزال مفعولها مؤثرا حتى عصرنا الحاضر..
"وصحيح أن أوروبا شيطنت الإسلام آنذاك، ولكن لم تتردد عن تحصيل منجزاته المادية والثقافية، ولولا علوم الرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية والتقنيات والفلسفة والطب لما أمكن تحقيق النهضة الأوروبية مع بداية القرن الثاني عشر الميلادي".
ويتابع النص في تفصيل الحديث عن بعض المنجزات، من قطاع الطب، وبناء المستشفيات الأولى، والكتب الإسلامية التي كانت تُدرّس في أوروبا لعدة قرون، وكذلك عن نشأة الحدائق العامة، وانتشار الموسيقا العربية مع "العود"، ودور الأندلس وصقلية في ذلك وسواه، كما يأتي تعداد أمثلة عديدة من الكلمات الأوروبية المتداولة اليوم مقترنة ببيان أصولها العربية، كالكحول (الغول)، والحبل، والتعرفة، والسكر، والكيمياء، والببغاء، وغيرها فضلا عن الأرقام.
ويشير النص أيضا إلى انفتاح الإسلام على العلم "فلا يمكن أن يوجد تناقض بين العلم والمعرفة وبين الدين، فتأثير الإله قائم في ذلك كله". ولا تقتصر آيات الله على المسجد والقرآن، بل هي موجودة في كل ما خلق، فالكون هو "كتاب الله المفتوح"، والقوانين الطبيعية هي سنن إلهية في الكون.
ونجد شبيه ذلك في الحديث عن الفنون في الإسلام، مع بيان أسباب تركيزها على الخط وما تفرع عنه، وعن الهندسة المعمارية وشواهدها الباقية حتى الآن، مع أمثلة مصورة عنها.  

أسلوب منهجي ميسر للجميع

يشمل طرح المعلومات الأساسية أكثر من أسلوب، إنما يبدأ دوما بنصوص أساسية مترجمة عن المصادر الإسلامية، كالرواية الواردة في سيرة ابن إسحق عن البعثة النبوية، ويتبع ذلك غالبا ما يستهدف التعامل مع النصوص بصورة نقدية منهجية، كمشهد حوار بين تلميذين حول جمع النصوص القرآنية بدءا من عهد أبي بكر الصديق، وتلي ذلك أسئلة اختبارية حول ما رسخ من معلومات، مما يمكن الاستفادة منه في التدريس أو في إجراء اختبار فردي ذاتي.
وتتوسع المادة في طرح نماذج أساسية لقضايا محورية، مثل التصور الإسلامي عن الألوهية، والعلاقة بين الإنسان والخالق، أو التعامل مع الفقر والثراء، إنما تولي اهتماما ملحوظا لجوانب عديدة مما يتعلق بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، أو ما يتعلق بالحوار عموما وبقضايا الاندماج في المجتمعات الأوروبية تخصيصا.
كما تتطرق المحتويات إلى إشكاليات أشدّ حساسية، منها مثلا كيف تستخلص اتجاهات عديدة، جميعها يحمل العنوان الإسلامي صيغا متناقضة بين بعضها بعضا، مع تأكيد كل اتجاه لنفسه أن يستند في ذلك إلى النص القرآني، ومن الأمثلة الواردة على ذلك ما يستخلصه "المسلمون الأصوليون" -بمعنى المتشددين والمتطرفين- والصوفيون وغيرهم، إضافة إلى ربط ممارسات تطبيقية من جانب أصحابها بالإسلام، وما يكمن وراء ذلك من رؤى متعددة، كتطبيق عقوبة الرجم في إيران، أو انتشار ما يسمى "جريمة الشرف" حتى في بعض أوساط المسلمين في أوروبا، وغير ذلك مع ملاحظة أساسية، أن النصوص سواء ما اختير من كتب مؤلفة، أو كان في صيغة مشاهد حوارية، تعرض الآراء المتعددة والمتضاربة غالبا، إنما لا تُختم بترجيح أحدها على الآخر، تاركة ذلك للقارئ، أو بتعبير أصح لمن تشمله التوعية المدرسية أو العامة إذا ما استندت إلى هذه المادة.
يمكن القول إن التوعية المستهدفة بهذه المادة، نموذج أول لما يمكن تحقيقه على نطاق أوسع، وخطوة أولى في اتجاه يساهم إسهاما منهجيا وفعالا في إزالة ما صنعته موجات متوالية من الإساءات الكبرى تاريخيا عبر صور نمطية زائفة عن الإسلام، وتحاول صنعه إساءات معاصرة محدودة الحجم والقيمة إلا أنها تجد في تربة المواجهة الموجّهة ما يجعل مفعولها واسع النطاق. ولئن لم يظهر مفعول مثل هذه الخطوات المنهجية للتوعية سريعا، فلا ريب أنه سيظهر للعيان مع جيل قادم، مثلما ظهر المفعول السلبي والمدمّر لما صنعه كثيرون من جيل الستينات والسبعينات من القرن الميلادي العشرين فيما نعاصره ونعايشه في الوقت الحاضر.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك