تجربة دعويـة.. رائـدة

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

ونصلي ونسلم على خير الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد..

 أحب أن أقدم بين يدي هذه المحاضرة بحديث صحيح وإن كان شديدًا على النفس، حتى نعرف من أين نبدأ، وإلى أين نسير، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول الناس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجل استُشهِد.

فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ.

فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار". رواه مسلم واللفظ له والنسائي والترمذي وابن خزيمة في صحيحه.

 هذا يعني أن الإطار الحركي، والبُعد الدعوي، وما يقدمه الإنسان من حركة شاسعة واسعة في جنبات هذه الأرض، إذا لم يبدأ بإيمان وإخلاص، وتجرد لله تبارك وتعالى، فهذا قد يوقعه تحت دائرة قوله تعالى: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ . تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) (الغاشية: 2-3) والعياذ بالله.

 فنحن قبل كل عمل، نتأسى بما فعله الإمام البخاري في تصنيفه صحيح البخاري، فقد عنون له بـ (باب كيف كان بدء الوحي) ، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ومع أن عنوان الباب "بدء الوحي" لكنه بدأ بحديث أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله..." إلى آخر الحديث.

 ذلك في نظرة تربوية في غاية الأهمية، ولعل حقيقة الإحياء الذي قدره الله سبحانه وتعالى في القرن العشرين، إذ يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وهذا الإحياء الذي أجراه الله تبارك وتعالى على يد إمامنا الشيخ الشهيد حسن البنا - رحمه الله - ، حيث انطلق انطلاقة متميزة، وبقيت الجماعة تحمل خاصية أساسية، وهي أن التربية يجب أن تكون قبل الحركة، ثم تتواكب التربية مع الحركة معًا.

 علاج المشاكل الإدارية:

والحقيقة التي رأيتها رأي العين، في عمل الإخوان خاصة، أنه كلما بذلنا جهدًا في الجانب التربوي ذابت الكثير من المشاكل التنظيمية والإدارية، وانطلق الجميع بأقل الجهود، نؤثر في الناس، ونجمع لهذه الدعوة من المخلصين الأبرار، من أصحاب الهمة والمروءات، من أصحاب العزيمة والرؤى الحية لإصلاح هذه الأمة.

وإعداد النفس وبناء الإنسان، كما قال الإمام الشهيد حسن البنا: أن ركن العمل يبدأ بالفهمٌ أولاً، ثم الإخلاص وهو ما بدأت به، ثم العمل، والعمل يبدأ بإصلاح الفرد.

وإذا بُني الإنسان بناءً صحيحًا، كان هذا البناء هو الذي تستطيع أن تأخذ منه نتائج حية، والأستاذ الراشد يكتب مؤكدًا أن فساد النهايات من فساد البدايات، فإذا فسدت البدايات في النية، في الفهم، في التجرد، في إعداد المسئولين -إخوة وأخوات-، فإننا ربما سنكون (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا).

 دور الأخوات:

 عندما دخلت إلى الجامعة بعد حكم المحكمة –مجلس الدولة- في مصر، سنة 1986م، محكمة مجلس الدولة في مصر، ودخلت إلى الجامعة كان هناك اصطاف كامل من الإخوة يرعون عمل الإخوة الشباب الطلاب في الجامعة، وكان هناك اصطاف يعالج المشكلات التربوية والدعوية لأعضاء هيئة التدريس، لم يكن في الجامعة عمل منظم للأخوات.

وشعرت من باب المسئولية أننا نحلق بجناح واحد، فإذا حلقنا بجناح واحد لا يمكن أن نصل إلى هذا الأمل، فالطائرة لا يمكن أن تقوم من مكانها إذا كسر منها جناح، أو ضعف منها جناح. فضعف جناح الأخوات أو وقف جناح الأخوات، يعني بالضرورة تدمير العمل للإخوة والأخوات.

الله تبارك وتعالى يقول في سورة التوبة، وهي آيات محكمة كما ذكر الإمام ابن حزم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) –التوبة:71-.

فكيف نزعنا هذا من ذاك، وقوينا هذا وأضعفنا ذاك العمل، فهذا كالذي يحلق بالطائرة بجناح واحد ، أو عنده جناح ضعيف، فهذا إذا أراد أن يصل إلى أي منطقة أمامه لا يمكن أن يصل إليها.

فالعمل بغير الأخوات يستحيل عقلاً وشرعًا أن يصل إلى مراده، في عمل خاص أو عمل عام. هذه من آيات الله سبحانه وتعالى، من ثوابت الحياة، لم يسعد سيدنا آدم في الجنة حتى خلق الله له حواء (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا)، والتكليف من البداية موجه لهما معًا (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).

 فآليت على نفسي أن أبدأ شيئًا في جامعة القاهرة، فبدأت بحلقة قرآنية تحت أسرة الزهراء، سجلنا أسرة للأخوات فقط، وعملنا حلقة قرآنية عامة، ودعونا الأخوات المسئولات أن يقمن بوضع إعلانات، فوضعن الإعلانات وأتت الطلبات من كلية دار العلوم، وامتلأت حلقة التلاوة بهن، ولكني كنت أنظر إلى جامعة فيها ثمانين ألف طالبة.

وفيها ستة وعشرين كلية، ودار العلوم واحدة من هذه الكليات، فبدأت بالحلقة القرآنية، ثم كنت أكلف تكليفًا عامًا لكل الموجودات بقراءة كتاب، تلخيص كتاب، عمل بحث، عمل شيء من الأمور التربوية أو الأمور الدعوية.

ومن تستجب منهن كنا نأخذهن إلى حلقة أخرى، ومن هذه الحلقة الأخرى نبدأ مشوارا تربويا في غاية الدقة؛ لتحقيق ما قاله الإمام الشهيد حسن البنا: الإيمان العميق، والترابط الوثيق، والعمل المتواصل، ثلاثة أركان أساسية، لا بد أن توجد في أي عمل ناجح، الإيمان العميق، الترابط الوثيق، العمل المتواصل.

 وكلفت كل أخت أن تذهب إلى كلية من الكليات، تصلي في المسجد، تحضر الأنشطة، وتأتي بأخوات من هذه الكليات إلى الحلقة العامة، ومن الحلقة ننظر التي تستجيب إلى التكاليف العامة؛ حتى لا يأتي إلينا المدفوع دفعًا، فأربعة أو خمسة من الأخوات الجادات، يأخذن المسألة مأخذ الجد، أفضل من ألف واحدة جالسات يطربن لسماع المحاضرة.

ليس عندنا شيء يطرب له الناس، لا نغني على الربابة، ليس عندنا صوت أصلاً جيد، نحن صوتنا أجش، ورسالتنا ثقيلة، نحن نريد من عندها استعداد أن تقدم نفسها لله، تقول نحن لله نذرنا أنفسنا، (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)، نذرت للإسلام حياتي كلها، نحن لا نريد أن ندفع الناس.

 إعداد القائدات:

فنحن بدأنا بتكاليف عامة للناس، وأنا أرجو من أخواتنا اللاتي بدأن حلقات عامة، أن تتوسموا الوجوه، وأعطوا تكاليف عامة متنوعة؛ للتعرف على الملكات والمواهب والقدرات؛ لأن هناك أخت تجيد الإنشاد فتغني لأخواتها في الأفراح.

ولكنها لا تعرف أنها تقول كلمة في نفس الفرح، فهناك من تصلح لهذا، وأخرى تصلح لذاك. والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ)، نتوسم، نرى من يصلح للعطاء وعنده قدرة على الاستيعاب بسرعة، يكفي اللبيب إشارة مكتومة، وسواه يدعى بالنداء العالي.

 ثم نأخذ هؤلاء ونضعهم في إطار تربوي متميز، وفي الإطار التربوي في هذه الظروف، لا يصلح أبدًا استعمال قاعدة الضعيف أمير الركب أبدًا، لأننا لو جعلنا الضعيف أمير الركب سنظل نحبي طول عمرنا، ولا نستطيع أن نتحرك على أرجلنا أبدًا.

 أنا أربي قيادات، فالذي عنده قدرة ليدخل في هذه المسألة ويتحمل مسئولية أهلاً وسهلاً، ليس عندنا إطار آخر نستوعبه فيه، يذهب يدخل في إطار آخر، لكن أنا لا أزحم المجموعة كلها جبرا لخاطر الأخت فلانة حتى لا تغضب، هذا الكلام ليس فيه خواطر.

 أداء رائع:

فبدأنا بهذه الطريقة الجادة جدًّا على مستوى الجامعة كلها، ونتج عن هذا أن هؤلاء الأخوات أنتجن عملاً أفضل من الجيش المتفرغ لعمل الطلاب وعمل هيئة التدريس، وعندما رفعنا تقرير العمل، الإخوة المسئولين قالوا: ما هذا؟!

مستوى من النضج، مستوى من الفهم، مستوى من التخطيط، مستوى من الروح في العمل نفسه، هذا لأن قرارنا كان واضحا جدًّا.

لا يمكن أن تكون الحركة أو الدعوة قبل التربية، قبل التكوين، قبل الإعداد.

 لا بد أن تنصهر الأخت في بوتقة التربية انصهارًا قويًا واضحًا، وتستجيب لهذه الوسائل التربوية الموجودة في الجماعة. وإذا لم تستطع فهناك أشياء أخرى. فإذا لم تستطع شيئًا فدعه، وجاوزه إلى ما تستطيع.  فالأخوات –بفضل الله- أنتجن عملاً طيبًا جدًّا.

المصدر: موقع أ.د. صلاح الدين سلطان

من الأرشيف الصوتي للدكتور صلاح سلطان بتصرف يسير.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك