بين الخلفاء والشعراء

من المعلوم أنّ الشعراء في العصور الإسلامية بالغوا في مدح الخلفاء طمعاً في عطاياهم والتّقرّب إليهم، أو تعصّباً لهم ولخطّهم السياسيّ، كما بالغوا في هجاء أعدائهم والنيل منهم.
 
وتحفظ كتب الأدب ودواوين الأشعار، مواقف لشعراء حيال بعض الخلفاء خارج نطاق المدح أو الاستعطاف أو الهجاء:
 
التقرير العسكري.. شعراً
 
كان الصراع مع الدولة البيزنطية مستمرّاً طوال فترة هارون الرشيد(1) الذي أكرهها على دفع الجزية، لكن الأمبراطور نقفور الأوّل(2) خلع الأمبراطورة إيرينا التي كانت تدفع الجزية للرشيد، ناقضاً العهد الذي بينه وبين هارون الرشيد. عند ذلك لم يجرؤ أحد على إخبار الرشيد بما فعله نقفور، فجيء بعبدالله بن يوسف التيمي الشاعر(3) (أو الحجّاج بن يوسف التيمي) وأعطاه يحيى بن خالد البرمكيّ(4) مائة ألف درهم لإعلام الرشيد بما حصل، فدخل عليه وقال:
 

نقـضَ الــذي أعْطَيْتَــهُ نِقْفُـــورُ     وعليْــه دائِـرةُ البــوارِ تـــدورُ

أَبْشِـــرْ أمــــيرَ المؤمنيــــنَ فإنّهُ     غُنْــــمٌ أَتـــــــاكَ بِهِ الإلهُ كبيرُ

لقد تباشرتِ الرّعيّةُ إذ أتى       بالنقض منه وافدٌ وبشير

أعطاه جزيته وطأطأ خدّه          حَذَرَ الصّوارمِ والرّدى محذورُ

إنّ الإمامَ على اقتسارِكَ قادرٌ       قربتْ ديارُك أو نأتْ بك دورُ

 

فقال الرشيد:أَوَفعلها؟ ورحل في الشتاء، وأقام على هرقلة(5) يرمي حصنها بالنيران حتى افتتحها عام 806م. فعاد نقفور إلى الجزية، ورجع الرشيد. (6)

 

بين أبي العتاهية والرشيد

يروي أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أنّ أبا العَتاهِيَةِ الشاعر(7) كان في السّجن، فأراد أن يُغيظَ الرّشيد لأَنّه لم يأْمر بإطلاقه، بل أرسل إليه أن يعمل شعراً يُغَنّيهِ الـملّاحون حين يركب السّفن، فنظّم له شعراً، ضمّنه ذكر الـموت وغدر الدّهر. وممّا جاء فيه:

 

كَـــمْ رَأَيْنَــا مِــنْ عَـــــزيـــــزٍ     طُـوِيـــتْ عَنْـــهُ الكُشـــــــوحُ

صَـــاحَ مِنْـــــهُ بـِــرِحِيــــــلٍ      صـــائِحُ الـــدَّهْرِ الصَّــــــدُوحُ

مَـوْتُ بَعْضِ النّاس في الأَرْ     ضِ عَـلى قَــــــــــــــوْمٍ فُتُـوحُ

سـيَصـــيرُ الـمَــرْءُ يَــــــوْمـَــــاً    جَسَـــداً مَــــــــــــا فيــهِ روحُ

بَيْـــنَ عَيْنـَـــيْ كُــــلِّ حَــــيٍّ   عَلَــــمُ الـمَــــــــــوْتِ يَـلـــوحُ

كُلُّنــــــا فِـي غَفْلـــــــةٍ وَالــ     ـــمَوْتُ يَغْــــدُو وَيـَـــــــروحُ

لِبَنــــــي الدُّنيا مِنَ الدُّنـْ       ـــيَا غَبـــــــوقٌ وَصَــــبوحُ

رُحْنَ في الوَشـــْيِ وَأَصْبَحـْــــــ     ـــــنَ عَلَيْهِــــــــــنَّ الـمُسُـــوحُ

كُلُّ نَطَّــــاحٍ مِنَ الدَّهــــــــــــ      ــــرِ لَـــهُ يَــوْمُ نَطـــــــــــوحُ

نُــــــــحْ على نَفْسِــــكَ يا مِسْــ   ـــــــكينُ إِنْ كُنْتَ تـَـنـــــــوحُ

لَتَمــــوتَنَّ وإِنْ عُمِّـــرَتْ ما عُمِّرَ نُوحُ
 

وما إنْ سمع الرّشيد هذِه الأبيات في غناء الـملّاحين حتّى جعل يبكي وينتحب (8).

 

بين الواثق والمسدود
 
رفض الخلفاء غالباً لغة المزاح، لأنّ "المزاح يذهب المهابة ويورث الضغينة والمهانة"، ولأنه يمحو الحدود القائمة بين الحاكم والرعيّة. فعن رفضهم تلك اللغة، يروي صاحب الأغاني أنّ الواثق(9) كان قد أذن لجلسائه ألا يرد أحدٌ نادرة عن أحد يلاعبه، فغنّى الواثق يوماً:
 
نَظَــرْتُ كَـأَنِّي مِنْ وَراءِ زُجاجَــةٍ          إلـى الدّارِ مِنْ ماءِ الصَّبابــة أَنْظـرُ
 

وكان النبيذ قد عمل فيه وفي الجلساء، فانبعث إليه المسدود (10) فقال:أنت تنظر أبداً من وراء زجاجة، إن كان في عينيك ماء صبابة أو لم يكن، فغضب الواثق العبّاسيّ من ذلك وكان في عينيه بياض، فنفاه إلى عُمان، وبعد سنة اشتاق إليه فأرسل في طلبه، ولما وصل اعتذر من هفوته، فقال له الواثق:قبَّحك الله ما أجهلك! ويلك! لا تعاود بعدها ممازحة خليفة وإن أذن لك في ذلك، فليس كل أحد يحضره حلمه كما حضرني فيك.

________________

 

الهوامش:

(1) هارون بن محمّد بن عبد الله (هارون الرشيد)، أبو جعفر، (ت 193هــ/809م): أشهر خلفاء بني العبّاس. بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه الهادي سنة 170هــ. ازدهرت الدولة في أيّامه ونشطت حركة العلوم والثقافة. كانت له وقائع كثيرة مع ملوك الروم. وكانت له علاقات بملك فرنسا كارلوس الملقّب بشارلمان.

(2) نقفورس الأوّل Nikephoros (ت 811م) أمبراطور بيزنطية. خلع الأمبراطورة إيرينا التي كانت تدفع الجزية للرشيد الذي ما لبث أن هزمه. هلك وجيشه في حرب البلغار.

(3) عبدالله بن يوسف التيميّ (ت 209 للهجرة): من أهل الكوفة ،كنيته أبو محمّد، من موالي بني تيم. رحل إلى بغداد طمعاً بجوائز الخلفاء والوزراء والقوّاد.

(4) يحيى بن خالد بن برمك، أبو الفضل (يحيى البرمكي) (ت 190هـ / 805م): سيّد من بني برمك. لما ولي الرشيد الخلافة استوزره، لكنّه سجنه بعد نكبة البرامكة. فمات في سجنه.

(5) تقع أطلال هذه القرية البيزنطية اليوم قرب مرفأ إرغلي Eregli التركي على البحر الأسود.

(6) راجع: العسكري، الحسن بن عبد الله: الأوائل، تحقيق الدكتور محمّد سيّد الوكيل، الطبعة الأولى، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلاميّة، القاهرة، 1408هــ- 1987م، ص: 265؛  الطّبريّ، محمّد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري)، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1966م، ج8: 308 (أحداث سنة 187هـ؛ ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح]؛

(7) هو إسماعيل بن القاسم العنزي بالولاء، أبو إسحاق، (أبو العتاهية) (ت 211 هـ/ 826م): شاعر من طبقة بشّار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزّهد والمديح وأكثر أنواع الشّعر في عصره. اتّصل بالخلفاء العبّاسيّين وعلت مكانته عندهم.

(8) راجع: الأصبهاني، عليّ بن الحسين، أبو الفرج: كتاب الأغاني، مصوّر عن دار الكتب المصريّة، المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والترجمة والطّباعة والنّشر، القاهرة، 1383هـ - 1963م ج4: 103، 104.

(9) هو هارون بن محمّد بن هارون الرّشيد (الواثق بالله) (ت232هــ/847م): خليفة عبّاسيّ. ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 227هـ، فامتحن النّاس في خلق القرآن، وسجن جماعة وقتل آخرين. كان عارفاً بالآداب والأنساب، طروباً عالماً بالموسيقى، خلافته خمس سنين وتسعة أيّام.

(10) المسدود (... - ...) مغن من أهل بغداد، كان من أشجى الناس صوتاً وأحضرهم نادرة. قيل إنّ اسمه الحسن، وكنيته أبو عليّ. كان مسدود فرد منخر ومفتوح الآخر، وكان يقول: لو كان منخري الآخر مفتوحاً لأذهلت بغنائي أهل الحلوم وذوي الألباب، وشغلت من سمعه عن أمر دينه ودنياه ومعاشه ومعاده.

(11) راجع: الأغاني، م. م. ج20: 289، 290.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=8282

الأكثر مشاركة في الفيس بوك