عن الدولة والدين في الفكر الإسلاميّ المعاصر

في كلام خطير للإمام الراحل محمد مهدي شمس الدّين أنّ "الدولة كلّها غير مقدّسة، ولا يوجد فيها مقدَّس على الإطلاق.. ونحن نعني بالمقدّس المطلق أو العباديّ، أو ما يتّصل بالشأن الدينيّ المحض، وغير المقدّس هو السياسيّ، هو النسبيّ والزمنيّ(...) مشروع الدولة غير مقدّس. إنّه مشروع ناشىء من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة".

لماذا خُيّل للإسلاميين إذن أنّ فكرة الدولة مقدّسة؟ من بين الفروض التي اقترحها الشيخ لتفسير هذه الظاهرة، هو أنّ الخطاب الإسلاميّ المعاصر "خطاب تجريديّ في سمته العامّة". ويقصد بصفة التّجريد في سياق كلامه أنّ الفكر الذي حمل هذه الفكرة كان غير عمليّ وغير واقعيّ. ومنشأ ذلك كما يقول "إنّ هذا الفكر، خصوصاً في مسائل الاجتماع السياسيّ، كمشروع الدولة والنظام السياسيّ والحكم (..) ارتكز إلى خلفيّة كلاميّة لم تعد موجودة مطلقاً، فلم يبقَ له مرتكز في الواقع المعيشيّ"... ويضيف مفسّراً "ففي الإطار السنيّ، ارتكز الخطاب الإسلاميّ في مفهوم الدولة والسّلطة إلى نظريّة الخلافة، أي استند إلى الموروث النظريّ الفكريّ والفقهيّ والتنظيميّ الذي صيغت به نصوص ما يُعرف بالأحكام السلطانيّة..(الماوردي مثلاً)...وفي الإطار الشيعيّ، ارتكز الخطاب إلى نظريّة الإمامة. وهذه النظريّة هي نظريّة أصيلة في التكوين المعتقديّ للشيعة، ولكنّها نظريّة استثنائيّة، كما يقول، وهي ليست دائمة في الحضور اليوميّ والعمليّ". لذا "فإنّه لا يمكن في عصرنا الاتّكاء على كلا النظريتين (الخلافة والإمامة)، بل لا بدّ من الاتّكاء على نظريّة سياسيّة عامّة من خلال الاجتهاد في الفقه الإسلاميّ، ومن خلال التعلّم من تجارب التاريخ العالميّ والواقع الحاضر". ويقترح الشّيخ أن نتعلّم "من الناحية التقنيّة صياغة الأفكار، كما تصيغها الليبراليّة الديمقراطيّة، وهي كما يقول ناجحة جدّاً، لأنّها تقوم على النسبيّة والنّقد والتعلّم من تجارب الواقع...".

وبحسب شمس الدين "فإنّ كلّ شعب مسلم على المستوى الوطنيّ أو القوميّ يحبّ بالضرورة أن يكون له نظام حكم وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدّمه. أمّا أن يكون هذا النظام وهذه الحكومة إسلاميين، فقضيّة غير مسلّمة، وغير بديهيّة، كما هو الشّأن في أيّ مجتمع سياسيّ معاصر، خارج العالم الإسلاميّ. فكما أنّ المجتمع السياسيّ البريطانيّ، أو الأميركيّ مثلاً، أو غيرهما، لا بدّ أن يكون له نظام حكم وحكومة، يُمكن أن تكون تارة اشتراكيّة عمّاليّة، وأخرى رأسماليّة محافظة، مع التزام المجتمع في تكوينه ومنهجه العام بالديمقراطيّة التي تلزم باحترام قواعدها وأصولها كلّ حكومة تتولى السلطة، فكذلك المجتمع السياسيّ الإسلاميّ يمكن أن يستمرّ في تكوينه ومنهجه العام، ويكون قابلاً لأيّ نظام لا يتنافى مع الإسلام باعتباره عقيدة المجتمع، من دون أن يكون نظام الحكم إسلاميّاً، فالمهمّ هو استمرار الإسلام في الأمّة واستمرار الأمّة مسلمة موحّدة". ويُلاحظ الشيخ أنّ الفقهاء القدامى "لم يلحظوا في أبحاثهم عند ما كانت الأمّة لا تزال موحّدة من الناحية السياسيّة التنظيميّة في دولة واحدة، إمكان انقسام الأمّة إلى (دول) وانقسام «دار الإسلام» إلى أراضٍ لهذه الدول.... ولكنّهم حين بدأت تشكّل الأمّة نفسها في صيغ تنظيميّة سياسيّة متعدّدة بحثوا عن مشروعيّة (تعدّد الأئمّة) وأجازه المشهور، أي أغلب الفقهاء المعروفين.

وقد حاول الشيخ أن يستنبط من داخل أصول الفقه الإسلاميّ، نظريّة سياسيّة عامّة للدولة، يتوخّى منها تحقيق الهدف الذي يُعبّر عنه بالقول: "إنّ المفاهيم والقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة التي قامت عليها، وتكوّنت منها فكرة الدولة في الإسلام، هي القيم التي يتّجه إليها طموح البشر في العصر الحديث على مستوى الدولة الوطنيّة والقوميّة، وعلى مستوى النظام الدوليّ المرتجى، وهي قيم العدالة، والحريّة الواعية، وكرامة الإنسان، وتيسير سبل التكامل الروحيّ والمادّيّ لبني البشر".

الكاتب والمصدر: د. سعود المولى/الموقع الشخصيّ

الأكثر مشاركة في الفيس بوك