أضواء على السياسة الشرعية

أضواء على السياسة الشرعية
د. سعد بن مطر العتيبي

مدلول السياسة الشرعية

د. سعد بن مطر العتيبي

(1)
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد ..
فقد اقترح عدد من الأفاضل في موقع المسلم وغيره ، وضع مقالات في السياسة الشرعية : مدلولاً ومضموناً ، مع شواهد شرعية وتطبيقات عصرية ، للإفادة منها علماً وعملاً بعون الله وتوفيقه ؛ وذلك لما لفقه السياسة الشرعية من أهميَّة علميّة في صحة الاستنباط ، وضمان وسطيَّة المنهج ، والقدرة على استشراف مستقبل العمل الإسلامي ، حكومياً كان أو أهلياً ، وما يترتب على الإفادة من كل ذلك في مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية ..
وتحقيقُ هذا الاقتراح ، أمرٌ كان يتردّد في نفسي ، لما لا يَخفى من نقصٍ في إظهار هذا العلم ونشره ، مع أهميته وخطورةِ آثار استبعاده في الحياة الإسلامية العلميّة ثم العملية ، وكنت أطمح أن يكفيني خطورة الحديث فيه – على نحو ميسر - بعض أساتذة السياسة الشرعية الكبار ، ولكن يبدو أن لكل جيلٍ وسيلته ، كما أنَّ على كلٍ واجبه ..

وقد استأذنت بعض مشايخي في هذا الفن في تنفيذ هذا المقترح ( وضع مقالات تعريفية بالسياسة الشرعية ونشرها تباعاً _إن شاء الله تعالى_ فوجدت تأكيداً على أهمية الفكرة ، و ترحيباً بتنفيذها ، مما شجّعني وجرّأني على عدم التَّأخر فيه .
ومن هنا رأيت أن أبدأ هذه المقالات مستعينا بالله تعالى ، وأن يكون الحديث في ذلك – إن شاء الله تعالى – على نحو موجزٍ ، يفيد طالب العلم المتطلِّع نحو أُفق علميٍّ عمليٍّ وسطيّ المنهج ، يستنهضُ الهمّة ، ويدفع نحو مواصلة المهمَّة ، يستنير بالدليل ، ويدع شاذّ الأقاويل ، ويقوي الإيمان بالحقائق ، ولا ينسى تهذيب الرَّوح بالرقائق ، يستعين بالله ، ويقصد رضاه ..
وإنِّي لأرجو أن لا يدّخر مُطّلعٌ على هذه المقالات ، يجد فيها ما يستوجب تصحيحاً أو ملاحظة أو نصحاً – جهداً في إيصال ذلك إليَّ ، عبر موقع المسلم ضمن نافذة التعليقات على هذه المقالات ، أو بواسطة البريد الرقمي الخاص ، أو غيره من وسائل الاتصال ، وليحتسب في ذلك أجر النصح و التصحيح إن وجد ما يتطلبه .

ولمَّا كان كتاب الله _تعالى_ أصل علوم الدين وعماد علوم الشريعة الأول ، فلنبدأ الأضواء بآية من آياته ، نستلهم منها إرشاداً إلى الاهتمام بهذا العلم والعناية به .. قال الله _تعالى_ لنبيه محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ : "قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(يوسف108) .. ومن يتأمَّل هذه الآية يجدها قد شملت – فيما شملت - جوانب السياسة الإسلامية التي تندرج في أصل العلائق الإسلامية - التي مدارها على الدعوة بشمولها ، قولاً وعملاً - في كلمة ( بصيرة ) !
فالسياسة الشرعية جزء من البصيرة التي نجدها حيَّة في سنّة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته المباركة في الدّعوة وتصرفاته في الولاية بجميع مجالاتها الرئيسة ..
فما هي السياسة الشرعية ، وكيف كانت جزءاً من البصيرة النبوية ، التي يسير عليها أتباعه النبي _صلى الله عليه وآله وسلم_ ؟

هذا ما سيكون جوابه في المقالات التالية _إن شاء الله تعالى_ .
أولاً : مدلول السياسة الشرعية
مدخل : قبل بضع سنوات .. في يوم عرفة وعلى أرض عرفات ، سألني أحد الإخوة الأمريكيين ممن دخلوا في الإسلام ، ولم يكن من قبل من المسلمين قائلاً : سمعت عن السياسة الشرعية ! فهل في الإسلام سياسة ؟
قلت له : أنت مسلم حاج ، فلا ينبغي أن يخفى عليك أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة ، أي : عقيدة وقانون ! أليس هذا هو واقع الإسلام كما عرفته ؟!
ثم أخذت أكشف شبهته بأمثلة يعلمها ، لكنه لا يدرك انتماءها العلمي لمفردات هذا الفن ، كما ذكرت له عدداً من مؤلفات بعض أعلام أمتنا القدماء - منذ القرن الأول الهجري - في السياسة الشرعية .

أولاً : المعنى اللغوي للسياسة :
تستعمل السياسة في اللغة بمعنى : الفساد ، أو الجبلة ، أو التدبير .
والسياسة بمعنى : التدبير ؛ هي الاستعمال المقصود هنا .
ومن شواهده قول النبي_صلى الله عليه وسلم_: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيّ ، خَلَفَه نبيّ ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي )) رواه البخاري ح (3455) ، ومسلم ح (1842) ، قال النووي أي : " يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية " .

وقول عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_: ( قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب ؟ إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول ، ولم يعالج أمر الجاهلية ) رواه ابن سعد في : الطبقات ، ورجاله ثقات .
ومنه قول عمرو بن العاص يصف معاوية - رضي الله عنهما - : ( إني وجدته … الحسن السياسة الحسن التدبير ) ذكره الطبري في تاريخه .
وقول هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بحُرَقة :
فبينا نسوس الناس والأمر أمْرُنَـا إذا نحـن فيهم سوقـة نتنصف
والعرب تقول : سُوِّس فلان أمْر بني فلان ، أي : كلِّف سياستهم ، وملك أمرهم .
ومن هنا يتبين أنَّه لا عبرة بما قيل من أنها كلمة غير عربية الأصل (خلاصة هذا القول : أنَّ كلمة ( سياسة ) معرب ( سه يسا ) ، فـ ( سه ) بالفارسية تعني : ثلاثة و ( يسا ) بالمغولية تعني : التراتيب ، فكأنه قال : التراتيب الثلاثة ) ؛ ولهذا وصف شهاب الدِّين الخفاجي (975-1069) - القول بأنَّها مُعَرَّبة بقوله : " وهذا غلط فاحش ؛ فإنَّها لفظة عربيَّة مُتَصَرِّفة … وعليه جميع أهل اللغة " .

والحديث في المعنى اللغوي لكلمة ( السياسة ) لا يخلو من فوائد وطرائف ولطائف ؛ لكنني حاولت الاكتفاء بما يكفي في بيان المراد .. وربما أضفت ما قد يُحتاج إليه منها عند وجود مناسبة له _إن شاء الله تعالى_ .

ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق إلى التنظير التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
وهذا ما سيتم الحديث عنه في الحلقة التالية _إن شاء الله تعالى_ .

(2)

ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق العملي إلى التنظير العلمي ، التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام ، ومنها الخاص ، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم .

وسأكتفي بإيراد تعريفين منهما :
الأول : تعريف ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها : " ما كان من الأفعال ، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشـرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي " .

والثاني : تعريف ابن نجيم الحنفي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها " فعل شيء من الحاكم ؛ لمصلحة يراها ، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي " .
وحتى لا يُستطرد بالدخول في شروح التعريفات وبيان ما لها وما عليها ؛ فإنه يُكتفى بذكر ما خلصت إليه الدراسة الاستقرائية من تعريف للسياسة الشرعية ، وذلك من بالنظر المستفاد من واقعِ التدوين السياسي الذي ألفه حَمَلَة العلوم الشرعية ، ومن طبيعةِ المسائل التي أفردها بالتدوين فقهاء الشريعة ؛ إذْ يتضح أنَّ ثمَّة منهجين في التدوين السياسي الشرعي :
أحدهما : منهج يغلب عليه الجانب الخُلقي والاجتماعي .
وثانيهما : منهج فقهي شرعي ؛ ينير للحكّام وأولي الأمر ، أحكام التدابير ، وآلياتها ، و ضوابط شرعيتها .

ويمكن الخلوص بمدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية إلى معنيين :
الأول : معنى عام ، مرادفـ لـ( الأحكام السلطانية ) ، التي هي : اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية ، في الداخل والخارج ، وفق الشريعة الإسلامية ، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً ، أو إجماعاً أو قياساً ، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة ؛ وعليه :

فالسياسة الشرعية بالمعنى العام : تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها ، وتنظيماتها ، وقضائها ، وسلطتها التنفيذية والإدارية ، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها ، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو كان من شأنه التبدل والتغير ، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة (1)
ومعنى خاص ، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام ( الأحكام السلطانية ) ؛ واندراجه فيها ، من جهة طبيعة الأحكام ، وأصول تشريعها (2) ؛ إذْ يلْمَحُ في إفراد مسائلها ، عدمُ ثبات الحكم ، تبعا لاختلاف مناطه (3)

فالسياسة الشرعية بالمعنى الخاص هي :
( كل ما صدر عن أولي الأمر، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاصّ ، متعيّن ، دون مخالفة للشريعة ) .

وهذا تعريف يحتاج إلى شرح ، وبيان لمحترزاته ، وذلك على النحو التالي :
- قوله : ( ما صدر عن أولي الأمر ) : تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها ، والحكم بها ؛ وهم ( أولو الأمر ) : العلماء والأمراء ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله : "… والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ؛ فإنّ الطاعـة إنما تكون في المعـروف وما أوجبه العلم ؛ فكما أنّ طاعة العلمـاء تبع لطاعـة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء " ؛ فذكْرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية ، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام .
وعليه ؛ فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم ، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين ، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية ، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء ، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري رحمه الله (ت/386) : " إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ ، وهو مما لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز ذلك زجراً له " ( ذكره النووي في مقدمة المجموع ) ، وهذا من لبّ السياسة بمعناها الخاص كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
- وقوله : ( من أحكام وإجراءات ) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين : نظرية ، و تطبيقية .
فالأولى : ما يلزم سياسةً من فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين ، أو فتوى ، أو غيرها ؛ وهي المعبّر عنها بالـ( الأحكام ) .
والثانية : ما كان محل فعل وتنفيذ ، وحركة وتدبير ؛ وهي المعبّر عنها بـ (الإجراءات) أو الآليات .
- وقوله : ( منوطة بالمصلحة ) ، بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة ، على اختلاف مستنداتها شرعاً ؛ وأنَّ مجالها : الأحكام المُعَلَّلَة ، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعي ؛ وعليه ، فهو قيد يخرج به ما يلي :
1) أحكام العبادات والمُقَدَّرات ومن باب أولى مسائل الاعتقاد ؛ فليست مجالاً للسياسة الشرعية ، من حيث هي .
2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوى ؛ فليست من أحكام السياسة الشرعية ، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية ، جازت نسبتها إليها ، مع إثم مصدرهـا ؛ لتصرفه عن جهـل وهوى . ( ينظر : مجموع فتاوى ابن تيمية : 29/43 وما بعدها ) .
- وقوله : ( فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن ) ، قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّن ؛ فكلمة ( دليل ) تشمل النص ، والإجماع ، والقياس ؛ فالدليل هنا يقابل ( الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها ) .
وكلمة ( خـاص ) أي : بحكم المسألة محلَّ النظر ؛ بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيلي ؛ فما كان شأنه كذلك ، فليس من مسائل السياسة الشرعية .

وكلمة ( مُتَعَيِّن ) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة ، التي لا تتغير أحكامها بحال ؛ إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم ، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها . كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما :
1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه ، لوجود دليل خاص لكل وجه ؛ بحيث يُخَيَّر أولوا الأمر بينها ، تبعاً للأصلح ؛ كالقتل والمنّ والفداء ، في مسألة الأسرى .
2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص ، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر ، ومن ثم تتغيّر الأحكام تبعاً لذلك ؛ كالمسألة التي يجيء حكمها موافقاً لعرف موجود وقت تَنَزّل التَّشريع ، أو مرتبطاً بمصلحة مُعَيَّنة ؛ فيتغيّر العرف ، أو تنتفي المصلحة ؛ ومن ثم يتغيّر الحكم تبعاً لذلك ، لا تغيُّراً في أصل التشريع .

- وقوله : ( دون مخالفة للشريعة ) قيد مهم ، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعة ؛ فليست من السياسة الشرعية في شيء .
وعُبِّرَ بنفي المخالفة ؛ لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعة ؛ فإنَّ ما جاءت به الشريعة ، وما ثبت عدم مخالفته لها ، هو في الحقيقة موافق لها : الأول من جهة النصوص ، والثاني من جهة القواعد والأصول ؛ فعدم مناقضة روح التشريع العامَّة والمقاصد الأساسية ، والأصول الكليَّة - ولو لم يرد بها نص خاص بعينه - هو ضابط السياسة الشرعية ، الذي يميزها عن غيرها من السياسات .
بهذا تمَّ الحديث عن المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية ، الذي دعت إلى إيضاحه وبيانه ، نظرة الاشتباه تجاهه ، حتى لدى بعض من لهم إليه انتماء ، فضلاً عن عامَّة طلاب العلم الشرعي ، بَلْه دارسي القوانين الوضعية ، ممن قلَّت بضاعتهم في علوم الشريعة الأساسية .

ويليه - إن شاء الله تعالى – الحديث عن حجية العمل بالسياسة الشرعية .

--------------------------
الهوامش
1) وهذا المدلول مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الشامل ، التي يمكن تقسيمها على النحو التالي :
أ - الأحكام السلطانية الشاملة . ( التي تشمل أحكام الإمامة العظمى وما يتفرع عنها من ولايات داخل دولة الإسلام أو خارجها ) . والسياسة عند مؤلفي هذا الفنّ لها إطلاقات ، يمكن حصرها في ثلاثة معان :
الأول : إطلاق السياسة على : ولاية شؤون الرعية ، وتدبيرها أمراً ونهياً ، سواء صدر ذلك من الإمام ، أو ممن دونه من الأمراء والوزراء والقضاة ، ونحوهم .
الثاني : إطلاقها على : أحكام الإمامة العظمى أو الخلافة ؛ من حيث أهلية الحاكم ، وما يجب عليه ، وما يجب على الرعية نحوه ، والأحكام التي منحها الشارع الحكيم للوالي ليتمكن من رعاية من تحته .
الثالث : إطلاقها على : التعزيرات الشرعية . فالأحكام السلطانية الشاملة ، تعالج السياسة الشرعية بهذا المفهوم الواسع .
ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ؛ ومثله : الأحكام السلطانية ، للقاضي أبي يعلى الحنبلي .
ب - الأحكام السلطانية التي تحكم السياسة الداخلية . وقد يجيء فيها شيء من أحكام السياسة الخارجية ، غير أنَّه يكون مقتضباً . ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، لأبي العبَّاس ابن تيمية ، وإن كان لا يقتصر على هذا المدلول من جهة المضمون .
ج - الأحكام المتعلقة بطرق القضاء ، ووسائل تحقيق العدالة . ويكاد ينصبّ الحديث فيها على الأحكام التي لم يرد بشأنها نصوص خاصّة ، غيرَ أن البحث فيها لا ينحصر في ذلك .ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية . ويسمى هذا الكتاب أيضاً : الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية .
2) وهذا مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الخاص ، ويمكن التعبير عنه بالأحكام الفقهية للمسائل التي لم يرد بشأنها نص تفصيلي خاص يمكن إدراجها تحته ، أو التي من شأنها التَّغّيُر والتبدُّل في المناط . والأحكام في هذا القسم توجد ضمن الأقسام السابقة ، إضافة إلى كتب الفقه العامة لشمول موضوعاتها وتناثر تلك الأحكام بينها ، أو حتى الكتب السياسية المتقدمة المعنونة بما لا يوحي بالشمول ؛ فكتاب : ( الخراج ) ، لأبي يوسف – مثلا - من الكتب التي لا يجد الباحث عناء في استخراج كثير من هذه الأحكام منها .
ولكن لعل من أشهر موضوعات السياسة الشرعية بهذا المعنى : أحكام التعزير ، ومن المؤلفات المفردة فيه : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بـ"ددة أفندي"(ت/973) ؛ وكذلك طرق القضاء ، ومن المؤلفات فيها : الطرق الحكمية ، لابن قيم الجوزية ، المذكور آنفا .
وقد ظهر في العصور المتأخرة الاعتناء بهذا القسم ، وظهرت دعوات بإفراد أحكامه ، وجمع تطبيقاته من المدونات الفقهية ، و ما يُظن وجودها فيه من مصنفات ، وصارت السياسة الشرعية في هذا العصر مقرر تخصص في عدد من المدارس العلمية النظامية من كليات ومعاهد ، بل خصصت له أقسام علمية في عدد منها تحت مسميات مختلفة .
3) سيأتي بيان ذلك في شرح تعريف السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وفي ذكر الشواهد والأمثلة إن شاء الله تعالى

حجية العمل بالسياسة الشرعية

د. سعد بن مطر العتيبي

من خلال ما سبق في بيان مدلولي السياسة الشرعية ، يتضح أنَّ أحكامها تقوم على الأدلة الشرعية النصيّة والاجتهادية والأصول الاستنباطية ؛ ولذلك فإنَّ من أهم أدلتها أدلّة أصولها ؛ إذ هي في حقيقة الأمر تنظيرٌ من تلك الأدلَّة تُرَاعَى فيه مقاصد الشريعة ، وتطبيقٌ تُرَاعَى فيه الظروف والأحوال والأعراف ؛ يتأكَّد ذلك بالنظر فيما ساقه العلماء من أدلَّة السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وهو الذي سيركّز عليه في هذه الحلقات بشكل أظهر إن شاء الله تعالى ، وهي أدلَّة كثيرة جدّاً ؛ ويمكن إجمال ما استُدِل به في مناهج على النحو الآتي :

النهج الأول : الاستدلال بشواهد السياسة الشرعيَّة من القرآن العظيم ، والسنَّة النبويَّة ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ، وما جرى عليه عمل العلماء من أهل الفقه والدِّين ؛ وهذه من الكثرة بمكان ؛ لذا يكتفى بذكر بعضها :
فمن شواهد السياسة الشرعية من القرآن العظيم :
1- ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بسببها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من السياسة المبنيّة على المصلحة سلَّم له .

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما ، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته "(1)

2- قول الله عز وجل في سورة يوسف : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ؛ ففي هذه الآيات دلالة على صحة الاعتبار بالقرائن ، ودلالة الحال ، في القضايا السياسية الاستنباطية ؛ حيث ذكر الله عز وجل شهادة هذا الشاهد ، أي الشخص الذي شهد ليوسف صلى الله عليه وسلم بذكره شاهد الحال ، الذي هو قدّ القميص من دبر ؛ لأنَّ فيه تقديرا : شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القول ؛ وذلك أنَّ العادة جرت في القميص أنَّه إذا جذب من جهة ( الخلف مثلاً ) تمزق من تلك الجهة ، ولا يجذب القميص من خلف لابسه إلا إذا كان مدبراً ؛ فكون القميص مشقوقاً من هذه الجهة دليل واضح على أنّه هارب عنها ، وهي تنوشه من خلفه ، ولم ينكر عليه ولم يَعِبْه ؛ بل حكى ذلك مقرِّراً له .

3- قــول الله عز وجل في سورة الأنبياء : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) } ؛ فهـذان الحكمان صحيحان في الظاهر ؛ غير أنَّ الله تعالى أثنـى على الحكم المبني على السياسة الشرعية ، والفائدة الزائدة ؛ حيث قال الله عز وجل : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } .
4- قول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) } ؛ فإنَّ عقاب الثلاثة بالهجر على تخلفهم عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك ، ومنعهم من قربان نسائهم وهو منع من أمور مباحة لهم في الأصل ، مع الاكتفاء بقبول اعتذار غيرهم من المتخلفين ، هو من مقتضيات السياسة الشرعية .
قال ابن العربي : " فيه دليل على أنَّ للإمام أن يُعاقب المذنب بتحريم كلامه على النَّاس أدباً له … وعلى تحريم أهله عليه " .

ومن شواهد السياسة الشرعية في السنَّة النبوية :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : (( لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا )) متفق عليه ؛ فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب ، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ خوفاً من مفسدة أعظم من مصلحته ؛ وهذا من أحكام السياسة الشرعية .
2- تولي خالد بن الوليد رضي الله عنه إمرة المسلمين في غزوة مؤتة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤَمِّرْه فيها ، بل أثنى عليه ، مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه ، والحديث رواه البخاري ؛ وإنَّما مستند خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من الصحب الكرام : اقتضاء السياسة الشرعية المبنية على المصلحة الشرعية لذلك ؛ إذ كانت السياسة الشرعية تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثَمَّ نص يُرجع إليه .
3- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ )) متفق عليه ؛ وهذا من السياسة الشرعية .
4- قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) متفق عليه ؛ حيث مُنِعَ من قتل المنافقين في ابتداء الإسلام ؛ لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل .

ومن شواهد السياسة الشرعية من سنَّة الخلفاء الراشدين :
1- جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمصحف رواه البخاري ؛ لمَّا كثر القتل في القراء .
2- أمر عمر رضي الله عنه بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة ، وكان شارب الخمر يجلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر رضي الله عنه ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنه ، أربعين . متفق عليه ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال النووي - مُبَيِّناً حجة الشافعي ومن وافقه في أنَّ حدَّ الخمر أربعين ، وما زاد تعزير - : " وأمَّا زيادة عمر ، فهي تعزيرات ، والتعزير إلى رأي الإمام : إن شاء فعله وإن شاء تركه ؛ بحسب المصلحة في فعله وتركه ؛ فرآه عمر ففعله ، ولو يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه .
3- تحريق عثمان رضي الله عنه للمصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع النَّاس عليه ؛ فهذا عمل بمقتضى السياسة الشرعية .
4- تحريق علي رضي الله عنه للزنادقة ؛ فهذا من السياسة الشرعية . قال ابن القيم : " ومن ذلك [ السياسة الشرعية ] تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة والرّافضة ، وهو يعلم سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكافر ؛ ولكن لمَّا رأى أمراً عظيماً ، جعل عقوبته من أعظم العقوبات ؛ ليزجر النَّاس عن مثله " .
وشواهد ذلك كثيرة جدّاً . هذا مجمل ما استدلَّ به العلماء على حجيَّة العمل بالسياسة الشرعية ، وهذه بعض شواهده ، من القرآن العظيم ، ومن السنَّة النبوية ، وسنَّة الخلفاء الراشدين ؛ وغيرها من الأدلَّة والشواهد كثير ؛ وما عُرِض من تطبيقاتٍ ، كافٍ في تأكيد حجيَّة العمل بها ، وأنَّها من مستندات الفقه الشرعي ، التي يلتزمها أولوا الأمر العادلون ؛ والأمر في ذلك بيِّنٌ و لله الحمد والمنَّة .

النهج الثاني : الاستدلال بـ( أدلَّة أصول السياسة ، ومستنداتها ) وهذه ستأتي مفردة إن شاء الله تعالى في موضوع : أسس السياسة الشرعية .

النهج الثالث : الاستدلال بما ورد من النصوص في إثبات قاعدة ( رفع الحرج ) ؛ التي لها تعلق بجميع أصول السياسة الشرعية ، وسيُكتَفي بما يُنثر من أدلتها في الاستدلال لأسس السياسة الشرعية ، إذ إنَّها لا تنفك عنها .

النهج الرابع : الاستدلال بسنَّة الله عز وجل في التشريع منذ بدء الخلق ؛ من حيث مراعاتها في اختلاف الأحكام والشرائع ، واختلافَ الأزمان والأحوال ؛ فظهر أنَّها سنَّة الله عز وجل في سائر الأمم ؛ وأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه ؛ فيكون في ذلك تنبيه إلى اختلاف الأحكام عند اختلاف الأحوال في زماننا ؛ وأنَّها من قواعد الشرع ، وأصول القواعد ؛ وليست بدعاً عما جاء به الشرع .

وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن أسس السياسة الشرعية بطريقة تنظيرية تطبيقية .

--------------
1- وهناك توضيح لهذا الحكم ، سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث عن حجية المصلحة المرسلة ضمن أسس السياسة الشرعية .

أسس السياسة الشرعية
(1)
الأدلة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس

د. سعد بن مطر العتيبي

أسس السياسة الشرعية ومستنداتها الشرعية ، هي أسس بقية المسائل الشرعية ؛ غير أنه يكثر استناد مسائلها على الاستدلال ( طرق الاستنباط ) ؛ ولما كان الأمر كذلك ؛ فيحسن المرور على الأدلة الشرعية الرئيسة 1 ؛ ثم بيان أهم طرائق الاستنباط ( ما يعرف مجازاً بالأدلة المختلف فيها ) ، على نحو تطبيقي موجز يبين كيفية الإفادة منها في مسائل السياسية الشرعية العملية إن شاء الله تعالى . وبيان ذلك كله على النحو الآتي :

أولا : أسس السياسة الشرعية الرئيسة :

الأول : الكتـاب ( القران الكريم ) .
وهـو : كلام الله _تعالى_ حقاً ، لفظاً ومعنى ، نزل به جبريل على محمد _صلى الله عليه وسلم_ بلسان عربي مبين ، المعجز بنفسه ، المتعبد بتلاوته .
قال الله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) } [الشعراء ] .

الثاني : السنّـة النبويـة .
وهي في اصطلاح علماء أصول الفقه : ما صدر عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، غير القرآن ، من قول ، أو فعل ، أو تقرير . وإن شئت فقل هي : ما شرعه النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، بياناً أو تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم ، أو تأسيساً لما لم يرد فيه .

حكم الرد إلى الكتاب والسنّة :
والـرَّدُّ إلى الكتاب والسُّنَّة في تأصيل الأحكام ، من المُسَلَّمات ؛ بل هو من مستلزمات الإيمان ، التي اتفق على وجوبها أهلُ الإسلام ، سُنِّيِّهم و بِدْعِيِّهم ، وقد حكى هذا الاتفاق أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .
وهذان المصدران ظاهران ؛ وما سواهما من الأدلة متفرعة عنهما .

الثالث : الإجمــاع .
وهو في الاصطلاح الأصولي : " اتفاق مجتهدي عصرٍ ، من أمَّة محمد _صلى الله عليه وسلم_ بعد وفاته ، على أمرٍ دينيّ ". وقولهم : " على أمرٍ ديني " : المراد به أن يتعلق الإجماع بمسألة شرعيّة ، في أيّ مجال من المجالات : عبادات أو معاملات أو عقوبات ، أو غير ذلك من الأمور 2 وحجِّيَّة الإجماع ثابتة بالكتاب ، والسّنَّة ؛ يُكتفى بذكر دليل واحد منها ، وهو قول الله _سبحانه وتعالى_ : {فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59 ] ؛ لأنَّه تعالى شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع ؛ فدلَّ على أنَّ دليل الحكم عند عدم التنازع هو الإجماع ، وعلى أنَّ رد الحكم إلى الإجماع ردٌّ إلى الكتاب والسنة . ذكره أبو المظفر في قواطع الأدلة .

الرابع : القيــاس (الميـزان) كما يعبر بعض العلماء :
والقياس في الاصطلاح الأصولي : " إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها ، بواقعة ورد النّصُّ بحكمها ، في الحكم لاشتراكهما في علّة ذلك الحكم " .
وقد لخص الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- حقيقة القياس و كيفيّته في قوله : " كلّ حكم لله ورسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنّه حُكِم به ؛ لمعنىً من المعاني ، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ - : حُكِمَ فيها حُكمَ النّازلة المحكوم فيها ، إذا كانت في معناها " ( الرسالة : 512 ) .
وموضوعه : طلب أحكام الفروع المسكوت عنها ، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها لِيُلحق كلّ فرع بأصله " قاله الروياني .

وأمّا حجِّيَّته فثابتةٌ بالكتاب ، والسنَّة ، والآثار ، والإجماع .
فمن الكتاب أدلة منها ، قول الله تعالى : {إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ؛ إذ ليس يخلو أمر الله تعالى بالرد إلى كتابه وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ عند التنازع ، من أحد ثلاث معانٍ :
- إمّا أن يكون أمراً برد المتنازع فيه إلى ما قد تولى الله ورسوله الحكم فيه نصاٌ ، فهذا لا معنى له ؛ إذ أيُّ اختلاف يقع في هذا .
- وإمّا أن يكون أمراً برده إلى ما ليس له بنظير ولا شبيه ، ولا خلاف أنّ ذلك لا يجوز .
- وإما أن يكون أمراً بردِّه إلى جنسه ونظيره مما قد تولى الله ورسوله الحكمَ فيه نصَّاً فيستدلّ بحكمه على حكمه ، وهذا هو المعنى المتعيّن ؛ و هو القياس الشرعي .

ومن السنَّة : قصة المرأة الجهنيّة التي جاءت النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، فقالت : ( إنَّ أُمِّي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ ) قال : (( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) ؛ فهذا نص صحيح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، صريح في مشروعيَّة إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علَّة الحكم ؛ لأنَّه _صلى الله عليه وسلم_ بين إلحاق دَين الله تعالى بدَين الآدمي بجامع أن الكلَّ حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى أهله ، وهو واضح في الدّلالة على القياس .

وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصَّحابة رضي الله عنهم ، على العمل بالقياس في وقائع كثيرة اختلفوا فيها فصار كل واحد منهم إلى نوع من القياس ، فلم ينكر صاحبه ذلك منه ، مع إنكاره عليه قضيّة حكمه ، كمسألة الجدّ ، والمشتركة ، وميراث ذوي الأرحام ؛ فإن الاختلاف بينهم في هذه المسائل مشهور ، واحتجاجهم فيها من طريق القياس مذكور.
وقد نقل الإجماع على حجيته والاتفاق على الرجوع إليه عند عدم النص ، غيرُ واحد من العلماء ؛ منهم : أبو حامد الغزَّالي ، وابن عبد البر ، وبدر الدين الزركشي ، وغيرهم .
وقال أبو المظفَّر : " ذهب أكثر الأمَّة من الصَّحابة والتَّابعين وجمهور الفقهاءِ والمتكلِّمين إلى أنَّ القياس الشَّرعيَّ أصل من أُصول الشَّرع ويستدلُّ به على الأحكام الَّتي لم يرد بها السّمع " .

ولهذا يُعدّ القياس رابع الأدلَّة المتفق عليها ، لأنَّ الخلاف فيه ضعيف جداً ، هذا إن لم يكن لفظيَّاً.
والقياس الصحيح مُظْهِرٌ لحكم الله تعالى - الذي يحمله عموم معنى النص المَقِيْسِ عليه - لا مُثْبِتٌ له ابتداءً ؛ لأنّ مُثْبِتَ الحُكْمِ هو الله عز وجل ؛ فليس هو دليلاً مستقلاًّ ، وإنما هو طريق من طرق استثمار الأحكام من الأدلة السمعية ؛ للوصول إلى معنى اللفظ و معقوله ؛ و هو مما تعبدنا الله به كما مرّ .

ثانياً : أسس السياسة الشرعية الاستنباطية ( الاستـدلال ) .
الاستدلال يراد به : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو عائد إليها .
وإن شئت فقل هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة .
وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
هكذا عرفه في هذا الباب بعض من عبَّر به من علماء الأصول . والتعبير به تعبير بالحقيقة ، بخلاف التعبير بالأدلة المختلف فيها فهو تعبير مجازي عند أهل الأصول .
وببيانه يتجلَّى المستند الشرعي التنظيريُّ للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من المجالات الفقهية .
وأدلة أصل " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .
وسيأتي ذكر بعضها ، مع جملة من أهم هذه الطرائق والمستنداتِ التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية في عدد من الحلقات القادمة _إن شاء الله تعالى_ .

---------------------------
1- حتى لا يُظن أنها ليست مستندا للمسائل السياسية الشرعية كما يظن بعض الباحثين ، ذلك أن من الباحثين من يظن أن أسس السياسة الشرعية هي ما يعرف بالأدلة المختلف فيها . وهذا ما يمنعه واقع العلم بمسائل السياسة الشرعية وطرق استنباطها ، كما سيتبيّن _إن شاء الله تعالى_ في الحلقات القادمة . وقد سبق ذكر بعض الشواهد السياسية التي استند فيها إلى الكتاب والسنة . مما يؤكِّد بطلان استبعاد كونها من أسس السياسة الشرعية أيضا .
2- وعلماء الإسلام يريدون به إخراج ما لا يصح أن يكون موضوعاُ للإجماع ؛ كالاتفاق على حكم مسألة لُغَوِيَّة أو فلكيّة أو هندسية أو نحو ذلك من المسائل التي ليس الاتفاق عليها اتّفاقاً على حكم شرعيّ . وبهذا يظهر فساد ما زعمه بعض أساتذة القانون - ممن يَرجِعُ إلى كتبه كثيرٌ من الباحثين في القوانين وأصولها - من أنَّ هذا القيد يفيد إخراج أمور الدنيا ، موضحاً مراده بتمثيله لأمور الدنيا بالأحكام الدستورية ، وهذه لوثة من الفكر الغربي ، لم يَدُرْ بخلد علماء الإسلام أنَّ أحداً يظنه بهم فضلاً عن أن ينسبه إليهم .

أسس السياسة الشرعية
(2)
الاستدلال : المصالح المرسلة

د. سعد بن مطر العتيبي

ثانياً : أسس السياسة الشرعية الاستنباطية ( الاستـدلال ) .
يراد بالاستدلال : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو عائد إليها .
أو هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة (1)

وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
ومنه تتجلَّى النَّاحية التنظيريَّة للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من المجالات الفقهية . إذ إنَّ جلّ الأحكام السياسية يرجع في الأصل إلى صورة الاجتهاد فيما لم يتعيّن له أصل معيّن ، وصاحب الأمر يفعله بحكم الولاية العامة له أو لمن ولَّاه .
وأدلة الاستناد إلى " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .

فمن أدلة الاستدلال الإجمالية ما يلي :
1) قول الله _تعالى_ في سورة النساء : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ قال القرطبي : فيها دليل على الاجتهاد عند عدم النص والإجماع .

وقال النووي - رحمه الله - مستدلاً بهذه الآية على وجوب الاستنباط ، وعدم الاتكال على ما نُصًّ عليه صريحاً - : "… فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة ؛ لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة فإذا أُهْمِلَ الاستنباطُ فات القضاءُ في معظم الأحكام النازلة ، أو في بعضها والله أعلم " .
وقال أبو جعفر الداوودي _رحمه الله_ : " أنزل _سبحانه وتعالى_ كثيراً من الأمور مجملاً ؛ ففسَّرَ نبيُّه ما احتيج إليه في وقته ؛ وما لم يقع في وقته وكَلَ تفسيرَه إلى العلماء ، بقوله _تعالى_ : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } " . ونصوص العلماء في بيان هذا المعنى كثيرة .
2) قول الله _تعالى_ في سورة المائدة :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } ، فالوقائع التي لم يُنص عليها : إمَّا أن تترك لأهواء الناس ، وإمَّا أن ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهذان فساد وإعراض عن الحق مناف لكمال الدين وإتمام النعمة ؛ فلزم أن يكون هناك طرق تعرف بها أحكام الله تعالى في هذه المسائل ؛ ففي الآيـة دلالة على العمل بالاستدلال ، ورعاية الأحوال والأزمان ؛ فهذه الآية تؤكد النص على العقائد وأصول الشرع وتؤكد قواعد الاجتهاد ، دون أن يعني ذلك النص المعين على كل حادثة في كل عصرٍ في القرآن .

وأمَّا الأدلة التفصيلية الدالّة على الاستناد إلى الاستدلال في الاستنباط ؛ فهي أدلةُ طرقِ الاستدلال ، ومستندات كلٍّ منها ، وهي التي قُصِدَ إجمالُها تحت مُسَمَّى الاستدلال (2) ؛ ذلك أنَّ الاستدلال يندرج تحته عدد من طرق الاستنباط والمستندات الكلِّيَّة للأحكام ، التي سيكون في الحديث عنها شيءٌ من التفصيل الذي تقتضيه قوَّة العلاقة بينها وبين السياسة الشرعية من جهة استنادها عليها ؛ وقِلَّة وجود أبحاثٍ محـرَّرة مقرَّبة لعموم طلاب العلم ؛ مع محاولة كثير من أهل الباطل والظلمِ ، التشغيبَ بمصطلحاتها على أهل الحق والعدل ، لذا لم يكن بدٌّ من بيان أهم هذه الطرق حسب ما يحتمله المقام ، بما يُفيد الباحث وينفع غيره من الباحثين ؛ على نحو يُبَيِّنُ حقيقة المراد بهذه الطرق والمستنداتِ التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية (3) ، ويضبط كيفيَّة الإفـادة منها في الناحية التطبيقية .

وذلك على النحو الآتي :

الطريق الأولى : المصـالـح المرسلـة (4)
المصالح جمع مصلحة ، ضد المفسدة ، وهي : جلب المنفعة أو دفع المضرّة .

والمصالح من جهة اعتبار الشرع لها وعدمه ، لا تخلو عن ثلاث حالات :

الحال الأولى : أن يدل دليل خاص من الشرع على اعتبار تلك المصلحة ، وعدم إهدارها ؛ فهذه لا إشكال في صحتها ، ولا خلاف في إعمالها . ولهذا تسمى المصلحة المعتبرة . ويصح مثالاً لها كلّ منفعة مادية أو معنوية دنيوية أو أخروية ، يجنيها المكلف من عمله بما هو واجب أو مندوب أو مباح ، أو يدرؤها بالامتناع عن العمل بما هو محرم أو مكروه . كمصلحة حفظ مال الصغير بمشروعية الولاية على ماله . ومصلحة حفظ العقل بتحريم كل مسكر .

الحال الثانية : أن يدل دليل خاص من الشرع على إهدارها وعدم اعتبارها ؛ وهذه مردودة برد الشرع لها لا سبيل إلى قبولها و إعمالها ، وما رَّده الشرع فهو مردود باتفاق المسلمين ؛ ولهذا تسمى المصلحة الملغاة .

ويمثل لها الأصوليون : بما لو ظاهر مَلِكٌ من امرأته ؛ فقد يُرى أن مصلحة الزجر والردع تقتضي تخصيص تكفيره بالصوم ؛ لأنَّه يردعه ، بخلاف الإعتاق والإطعام فإنَّ الملوك لا يبالون بهما ؛ لخفتهما عليهم . ولكن الشارع الحكيم أهمل هذه المصلحة ؛ باشتراطه الترتيب في كفارة الظهار ، بقول الله تعالى في سورة المجادلة : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ وذلك لتحصيل مصلحة أخرى أهّم من هذه ، هي أن عتق الرقبة من الرِّقِّ أهم عند الشارع من التضييق على المَلِك ونحوه بالتكفير بالصوم ؛ لينزجر ؛ وهذه قاعدة الشرع ؛ فهو لا يلغي مصلحة ويحكم بإهدارها ، إلا لتحصيل مصلحة أخرى أعظم عند الشارع من التي أهملها .

ومن أمثلته العصرية : كل ما يستند إليه دعاة الفكر المنحرف من تعليلات ينسبونها للمصالح مع أنها تتناقض مع أحكام الشريعة وقواعدها الكلية ، علموا ذلك أو لم يعلموا ؛ كالترويج للفكر المنابذ للدين تحت اسم الحرية الفكرية ، و تسويغ الربا بحجة الضرورة ، والمطالبة بالاختلاط بين الجنسين في التعليم ، بدعوى انتفاء المفاسد بالاعتياد ، ومحاولة إيهام الناس بوجود مصالح في ذلك . فكل ما ينادي به العلمانيون وغيرهم من أمور يعدونها مصالح وربما كان فيها منافع لكنها مما يناقض أحكام الإسلام فهي من قبيل المصالح الملغاة في أحسن أحوالها .

الحال الثالثة : أن لا يدل دليل خاص على اعتبار مناسبة ذلك الوصف ولا على إلغائها وإهدارها . ويُعَبَّر عنها
بالمصلحة المسكوت عنها ، أي : التي سكت عنها الشارع فلم يشهد لها منه دليل معين ولا إجماع ، لا بالإلغاء ولا بالاعتبار . .
ومثاله : أن تثبت لهذه المصلحة علاقة اعتبار شرعية ، بشهادة أصل كُلِّيٍّ ؛ بأن يكون الوصف المَصْلَحيُّ داخلاً ضمن معنى وأصلٍ قامت على صحته الأدلَّة الشرعية ، دون أن يـَرِدَ بشأنه في ذاته حكم معين .
وهذا النوع هو المعبّر عنه عند التحقيق ، بـ " المصلحة المرسلة " ؛ وهي الطريق المراد بيانها هنا .
وعليه فالمصلحة المرسلة هي : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ لتصرفاتِ الشارع ، دون أن يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " . أي : لكن شهد لها أصل كلي ( من مثل : مبدأ رفع الحرج وأصل مآلات الأفعال ، و نفي الضرر في الإسلام ) ؛ بأن اعتبر الشارع جنس المعنى في الجملة ، بغير دليل معين .

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " فتولية أبي بكر لعمر- رضي الله عنهما - و إن لم يدل على خصوصها دليل ، فقد دلَّ الدليل على وجوب حفظ نظام المسلمين والإسلام ، بتولية الأحق بذلك من المسلمين ؛ و كتابة المصحف ونقطه وشكله وإن لم يدل عليها دليل خاص فقد دلَّ الدليل العام على وجوب حفظ القرآن من الذهاب والتصحيف ، وهكذا في جميع المصالح المرسلة ، والعلم عند الله ".
وقوله : " كلُّ منفعةٍ ملائمةٍ " ، يؤكِّد ما اتَّفَقَ عليه المُنَظِّرُون للاستدلال بالمصلحة المرسلة ، من أنَّه لا مدخل لها في التَّعَبُّدَات ، و مَا جَرى مجراها من الأمور الشرعية ؛ كالحدود و الكفَّاراتِ ، والمُقَدَّرَات ؛ لأنّ عامَّة التَّعَبُّدَاتِ لا يُعْقَلُ لها معنىً على التفصيل ، كالوضوء والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحجِّ ، والأذكار المعدودة ، ونحو ذلك ؛ فهذه ليست من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة .
وقوله : " دون أن يَشْهَدَ لها بالاعتبارِ أو الإلغاءِ أصلٌ مُعَيَّن " ، يُخْرِجُ ، من مجالات الاستدلال بالمصالح المرسلة - ما كان داخلاً في دلالةٍ مستفادةٍ من النص الشرعي الجزئي ، و ما كان مشروعاً من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به ، أو كان راجعاً إلى أصل الإباحة ، ونحو ذلك مما له صلة بالمصالح المرسلة ، و ليس هو داخلاً فيها عند التدقيق ؛ وإنَّما ترجع مستنداته إلى أصول السياسة الشرعية الأخرى .

حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة

حجية الاستدلال بالمصالح المرسلة ثابتة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستقراء الشريعة ؛ ومن أدلَّة حجيتها - إضافة إلى ما سبق من الأدلَّة العامَّة على اعتبار الاحتجاج بالاستدلال ما يأتي :

فمن الكتاب ما حكى الله تعالى في سورة الكهف ، من أعمال الخضر التي اعترض عليه بها موسى - عليهما الصلاة والسلام - لِمَا ظهر له من مخالفتها للشرع ؛ فلما نبَّأه بتأويلها وبين له ما قصده فيها من المصلحة سلَّم له .

قال أبو العباس ابن تيمية _رحمه الله_ : " … ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام ، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك ، فلما بينها له وافقه على ذلك ؛ فإنَّ خَرْقَ السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز ، وقتل الصائل جائز وان كان صغيرا ، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله … " .

وقال في موضع آخر : " … قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا ، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد ؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل ، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته " .

ومن السنة أدلَّة ، منها : تولي خالد بن الوليد _رضي الله عنه_ إمرة المسلمين في غزوة مؤتة ، مع أنَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يؤمِّره فيها ؛ وإنَّما مستنده في ذلك المصلحة الشرعية ؛ إذ كانت تقتضي وجود قيادة للجيش ، وليس ثم نص يُرجع إليه ؛ وقد أثنى عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع ذكره تأمُّرَه من غير تأمير منه (5) . وأمثلة ذلك كثيرة ، لمن تأمَّل .

وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصحابة _رضي الله عنهم_ إجماعاً سكوتياً على العمل بالمصالح المرسلة ، في وقائع كثيرة بانضمام بعضها إلى بعض يحصل القطع ؛ من مثل : جمع المصحف ( كما عند البخاري ) ؛ وعهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر - رضي الله عنهما – (وهو في الصحيحين ) ؛ وتدوين الدواوين ( وهو في الموطأ والطبقات الكبرى وغيرها ) ؛ وعقوبة شارب الخمر بثمانين ( وهو في الصحيحين ) .

قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله_ : " وأمثال هذا من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثير جداً ، من غير نكير ولا معارض ؛ وهذا يدل دلالة واضحة على العمل بالمصالح المرسلة " .

و يمكن الاحتجاج لها بالإجمـاع مطلقاً ؛ فـإنَّ العلماء قد اتفقوا على العمل بها ، عند تحقق شروطها في الواقعة ؛ وقد حكى الاتفاق على ذلك غير واحد من العلماء منهم الغزَّالي ، وابن دقيق العيد ، و الزركشي ؛ والقرافي ، والطوفي ، و الشنقيطي ، وغيرهم .

ويؤكِّد ذلك جملة ما عورض به القائلون بالمصالح المرسلة من حُجج ، حيث يتضح أنَّها خارجة عن المراد بالمصالح المرسلة عنـد القائلين بها ؛ ومن ثمَّ فهي واردة على غير محلِّ ما نازعوا فيه ؛ وعليه فإن الاستدلال بالمصالح المرسلـة سالم من المعارضـة ؛ فإنَّ المنظِّرين لها قد ضبطوا القول بها بضوابط تزيل ما خشيه المعارضون للقول بها ؛ فقد اشترطوا للاستدلال بها شروطاً تدرجهـا تحت النصوص الشرعية ، ومن المتفق عليه من هذه الشروط :

1) أن لا تعارض نصاً - من الكتاب أو السنة - ولا إجماعاً .
2) أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع . بأن يثبت للمصلحة المستدلِّ بها علاقة اعتبار شرعية ، بدلالة أصل كلي ؛ بأن اعتبر الشارع جنسها في الجملة . وقد يعبر عنه بعض العلماء بقوله : أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة .

وطريقة معرفة ذلك قيدها القرافي بقوله : إنَّا نعتبر من النصوص الأصول ما هو خاصٌّ بذلك الباب في نوعه دون ما هو أعم منه ؛ فإذا كانت المَصلَحة في الإجارات ، اعتبرنا نصوص الإجارات ، أو في الجنايات اعتبرنا نصوص الجنايات ؛ أمَّا نصٌّ يشمل ذلك الباب وغيره ، فلا عبرة به ؛ لأنَّ هذه المصلحة أخص منها ، والأخصّ مقدمٌ على الأعم - لاسيما - إذا كان النصّ يشمل جميع الشريعة ، فقد كثر تخصيصه ، فضعف التمسك به "

ومن هنا اعتبر بعض علماء الأصول هذين الشرطين داخلين في مفهوم المصلحة المرسلة وحقيقتها ، وليسا مجرد شرطين للعمل بها .

وعلى هذا إنَّما تكون حجج المعارضين صحيحة في معارضـة ما فُهِم عن الطوفي من شذوذ - تعلق به بعض المنحرفين العصريين - من القول بالمصالح الملغاة التي سبق ذكر الاتفاق على إلغائها ، بتقديمه رعاية المصلحة على النصوص والإجماع ، بما سمّاه طريق البيان ، زاعماً أنَّها أقـوى من النصِّ والإجماع ، مع اعترافه بعد ذلك بأنَّ النصَّ لا يخالف المصلحة .

وأمَّا استقراء الشريعة ، فقد قال عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله : " ومن تتبّع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد ، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان ، بأنَّ هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأنَّ هذه المفسدة لا يجوز قُربانها ، وإن لم يكن فيها نصّ و لا إجماع ولا قياس خاص ؛ فإنَّ فَهْمَ نفس الشّرع يوجب ذلك " .

ثم إنَّ الاستدلال بالمصلحة المرسلة مِمّا لا يتم الواجب إلا به ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

وعلى كل حال فهي من طرق الاستدلال التي لا تستقل ببيان الأحكام دون أصل كلي ، قال الغزَّالي – رحمه الله تعالى - : " … من ظنّ أنه أصل خامس فقد أخطأ ؛ لأنّا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع . فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فُهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع ، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع ، فهي باطلة مطَّرحة ، ومن صار إليها فقد شرَّع ، كما أن من استحسن فقد شرع . وكل مصلحةٍ رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع ؛ فليس خارجاً من هذه الأصول ، لكنه لا يسمى قياساً ، بل مصلحة مرسلة ، إذ القياس أصلٌ معين . وكون هذه المعاني مقصودةً عُرِف لا بدليل واحد ، بل بأدلةٍ كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال ، و تفاريق الأمارات ؛ فسُمّي لذلك مصلحة مرسلة . وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع ، فلا وجه للخلاف في اتباعها ، بل يجب القطع بكونها حجة ، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين ، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى " .

ومع هذا ؛ فإنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .

الاستدلال بالمصالح المرسلة وضوابطه

جاء في ختم الحلقة السابقة أنَّ الاستدلال بالمصالح المرسلة ليس أمراً هيناً ، ولا هو بالمركب السهل ؛ وليس هو حقّاً لكل أحد ؛ إذ هو من أضنك مواقع الاجتهاد ، وأحراها بما يشترط في أهله من شروط دونها خَرْطُ القتاد .

وبيان ذلك أنَّ للمصلحة جانب نظر عقلي ، وهي كما مرّ طريق استدلال لا مصدر الحكم ، ومن ثم فإنَّ دور العقل فيها لا يصح ولا يجوز أن يكون معارضا لمصدري التشريع الإسلامي ( الكتاب والسنة ) ، وإنَّما تنحصر وظيفته في أمور من مثل :
1) فهم النص الشرعي ، والبحث في مقاصد المصالح التي روعيت فيه أو به .
2) استنباط الأحكام من النصوص ، بناء على ما تم الوصول إليه من العلل المعتبرة والمقاصد المشروعة .
3) تنزيل الأحكام على الواقع بتحقيق مناطاتها فيه .
4) الاجتهاد المستند إلى ضوابط الشرع فيما ليس فيه نص معين .
5) النظر في المآلات المستقبلية ومراعاتها أثناء النظر في الأحكام .

وهكذا كل أمر يخدم الأحكام أو القرارات مما لا يعود على النص الشرعي أو التقعيد الكلي بالإبطال .
وهذا كله يقتضي وجود شروط في ولي الأمر أو من يستند إليه ولي الأمر في تنفيذ الأحكام ورعاية المصالح . وهذا ما أكَّده عدد من العلماء المحققين ، وحذَّروا من تجاوزه .
قال القرافي _رحمه الله_ : " فإنَّ مالكاً يشترط في المصلحة أهليّة الاجتهاد ؛ ليكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة ، فينبو
عقله وطبعه عمَّا يخالفها ، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول ، فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة ، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور " .
وقال ابن بدران _عليه رحمة الله_ : " والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة ، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق " .
و قال الشنقيطي _رحمه الله_ : "… ولكن التحقيق : أنَّ العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة ، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال " .

وقال أيضاً : " … لكن يجب في هذه المسألة كما حققه غير واحد من المحققين أن ينتبه للنظر في مآلات الأمور
وعواقبها ، فلا يحكم المجتهد على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام عليه أو الكف عنه إلا بعد نظره فيما يؤول إليه ، فربما يظهر في فعل أنه مشروع لمصلحة تستجلب أو منهي عنه لمفسدة تنشأ عنه لكن مآلـه خلاف ذلك .
واعلم أنَّ التحقيق أن المصلحة المذكورة تنخرم باستلزامها مفسدة راجحة عليها أو مساوية لها … " .
ثم هو مزلّة قدم للمبتدع في الدين ، وهاوية ذمم للمقننين والسياسيين - نسأل الله العافية والسلامة - وقد نبه إلى ذلك بعض أهل العلم .

وأمثلة المصالح المرسلة في الجملة كثيرة جدا ، ومنها : كل مستحدث عصري ينتفع به الناس من التنظيمات والتراتيب
الإدارية ، مما لم يرد فيه دليل نصي و لا يخالف الشريعة الإسلامية . كسن الأنظمة المصلحية ، وهيكلة الدوائر الحكومية ، فتنظيم أمور التقاضي ، وتصنيفات الموظفين ، وتقدير رواتبهم ، ونحوها ، هي في الحقيقة أمثلة لإعمال المصالح .

بل إن مدار بقية طرق الاستدلال هو في الحقيقة على قاعدة المصالح المعتبرة دون غيرها مما هو مُتَخيّل أو موهوم .
ومن هنا نبَّه بعض الأصوليين إلى أنه لا توجد مصلحة لم يثبت لها علاقة اعتبار شرعية ، لا بدليل خاص ولا عام . وهي التي توصف عند الأصوليين بأنَّها غير ملائمة ، وقد يُعَبَّر عنها بالمناسب الغريب . فهذه " في حكم المصلحة الملغاة ؛ إذ ليس إهمال هذا النوع من الاعتبار إلَّا دليلاً على أنّه في حكم الملغي ، وإلا لكان النّاس متروكين سدى ، وهذا ما قامت النصوص الشرعية على نفيه " (6)
وَقد مثّل بعض الأصوليين لهذا النوع : بحرمان القاتل من الميراث لو لم يرد فيه نص ، لمعارضتـه بنقيض قصده . وهذا المثال افترضه الغزالي ، وتبعه فيه الشاطبي ؛ لأنَّه افتراض اقتضته القسمة العقلية ، لا وجود له في الواقع .
ولهذا قال أبو حامد الغزالي : " فأمَّا المناسب الغريب الذي لا يلائم ، ولا يشهـد له أصل معين ؛ فهو مردود ، لا يعرف فيه خلاف " (7) ، وقال : "… فلا يقبل قطعاً عند القائسين ، فإنَّه استحسان ووضع للشرع بالرأي" (8) ؛ بل يمكن القول إنَّ هذا النوع من المصالح وهميٌّ فرضيٌّ ، لا وجود له في الواقـع ؛ لأنَّه ما من مسألة تفرض إلَّا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالردِّ ؛ إذ من المسَّلم استحالة خلو واقعة عن حكم الله _تعالى_ (9) .

وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي : " ما لم يدل عليه دليل خاص ولا عام لا يصح أن يكون حكما شرعياً " (10) .
وعلى كلٍّ فهذه الحال كالقِسْم الملغى ، مطَّرَحة غير معتبرة بالإجماع ؛ بل لا وجود لها في الواقع .
وللمصالح اتصال وثيق بفقه الموازنة الشرعية بين درجاتها ، وبينها وبين المفاسد ، ودرجاتها .
وقد قعّد العلماء لفقه الموازنة هذا عند التزاحم (6) ، بقواعد وضوابط تنتظم الموازنة بين المنافع ، والموازنة بين المفاسد ، والموازنة بين المنافع والمفاسد ، منها : قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح . وقاعدة : الضرورات تبيح المحظورات . وقاعدة : يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام . وقاعدة : يُحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد . وقاعدة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ومثّل له بعض علماء السياسة الشرعية بمشروعية القتال مع الفاسق لإقامة ولايته دفعا للأفسد .

ويُجري الفقيه الموازنة بالنظر من أوجه منها على سبيل المثال : مدى التحقق : قطعيّة أو ظنيّة أو وهميّة ، ومدى الشمول : عامة أو خاصة ، ومدى الأهمية : ضرورية أو حاجية أو تحسينية .
ولهذه القواعد معايير تضبط إعمالها ، منها على سبيل التوضيح :
- إذا تعارضت المصلحة الضرورية مع الحاجية أو التحسينية ، قُدِّمت الضرورية لأنها أكثر أهمية .
- إذا تعارضت مصلحة حماية الحياة مع حماية مصلحة المال ، قُدِّمت مصلحة حماية الحياة .
وهذه القواعد والمعايير الشرعية مراعاة في كثير من القوانين الوضعية أيضا .

ولقاعدة المصالح في الجملة صلة قوية بقواعد المقاصد ، وسيتم التعرض له _إن شاء الله تعالى_ في تطبيقات السياسة الشرعية عند العلماء .
وأختم الحديث عن المصلحة ببيان علاقتها القوية بالسياسة الشرعية " فإنَّ السياسة الشرعية هي المجال الذي يضفي الطابع العملي أو التطبيقي على المفهوم الأصولي للمصلحة ... إضافة إلى كون المصلحة أداة استدلالية في بناء الحكم الفقهي " (11) على مرّ من بيان .

-------------------------------
(1) ولهذا المصطلح مدلولات أخر غير ما ذكر تعرف من نوع الفن ؛ فليتنبّه لذلك .
(2) و طرق الاستدلال ليست أدلة مُنشِئة ، وإنَّما هي أدلة بيانية ، وتسميتها ( أدلة ) عند التعبير عنها بمصطلح ( الأدلة المختلف فيها ) تجوز في التعبير ليس إلَّا ؛ ومن هنا كان وضعها تحت مسمَّى ( الاستدلال ) ردَّاً لها في المسمّى إلى الحقيقة ؛ دفعاً لما قد يَرِد من اللبس ، الذي قد وقع فيه بعض القانونيين ؛ حيث ظنُّوا أنَّ طرق الاستدلال مُنشِئة للأحكام ، كنصوص الوحي ودلالاتها ؛ ومن ثمَّ ربَّما قدَّمها بعضهم على النص فجعلوها قاضية عليه .
(3) وصلة طرق الاستنباط - أو طرق استثمار النصوص كما يعبِّر بعض الأصوليين – بالسياسة الشرعية من صلة الأصل بالفرع ، حتى كان من مصنِّفات السياسة الشرعية ما اختصّ ببيانها ، ككتاب : الغصون المياسة اليانعة بأدلة أحكام السياسة ، لابن حبش الصنعائي .
(4) الحديث عن المصالح واسع ومتشعِّب ، وقد اجتهدت في إثبات ما رأيته مهما في موضوعنا ، وإن كان في مباحث المصالح سواه ما يستحق الذكر والبيان . ومما يمهِّد لغير المختص مما لم أر وضعه في الأصل : بيان المصالح التي عليها مدار التشريع الإلهي ، ويقسمها جمهور الأصوليين إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات .
فالأولى : حفظ الضروريات بدرء المفاسد عنها ؛ ويشمل جميع : ما شرع حماية للضروريات الخمس – الدين والنفس والعقل و النسب أو العرض والمال - التي يحصل بتفويتها ضرر على الإنسان في شيء منها ؛ كتحريم القتل ، و وجوب القصاص .
والثانية : حفظ الحاجيات بجلب المصالح وفتح أبوابها ؛ ويشمل جميع : ما شرع لتحصيل ما يحتاجه الناس من المنافع التي يحصل بتفويتها الضيق والمشقة والحرج عليهم ؛ كتحليل البيع والشراء والإجارة .
والثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ، وأحسن العادات ؛ وهي دون رتبة الحاجيات ؛ كتحريم النجاسات ، واستحباب أخذ الزينة ، والعمل بخصال الفطرة ، وسائر الآداب الشرعية .
ويتعلق بكل قسم من هذه الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ، و مثاله : إيجاب القصاص يدرأُ الضرر عن النفوس فيحافظ به عليها ، ورعاية المماثلة في القصاص يجري مجرى التتمة والتكملة لهذه المرتبة .
( يراجع للمزيد على سبيل المثال : المستصفى ، للغزالي : 1/416-420 ؛ والبحر المحيط ، للزركشي : 5/213 وما بعدها ؛ و الموافقات ، للشاطبي : 3/263 ؛ و شرح الكوكب المنير ، للفتوحي : 4/159-168 ؛ و روضة الناظر ، لابن قدامة : 1/412-414 ؛ و المصالح المرسلة ، لمحمد الأمين الشنقيطي : 6 ؛ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، له : 2/237 ) .
(5) ينظر ذلك فيما رواه البخاري : ك/ الجهاد والسير ، ب/ تمني الشهادة ، ح(2798) ؛ و ك/ المغازي ، ب/غزوة مؤته من أرض الشام ، ح(4262) ؛ قال الحافظ ابن حجر – مبيناً ما يفيده هذا الحديث - : " فيـه جواز التأمُّر في الحرب بغير تأمير ، قال الطحاوي : هذا أصل يؤخذ منه أنَّ على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر ، وفيه جواز الاجتهاد في حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_ " . فتح الباري : 7/586 .
(6) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 254-255 .
(7) شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ، لأبي حامد الغزالي : 188 ، مطبعة الإرشاد : بغداد .
(8) المستصفى : 2/313 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 2/ 115، بعناية الشيخ / محمد رشيد رضا ، المكتبة التجارية الكبرى : مصر .
(9) ينظر : المنخول من تعليقات الأصول ، للغزالي : 460 ، ط3-1419، ت/ محمد حسن هيتو ، دار الفكر المعاصر و دار الفكر : بيروت ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ،لشيخنا د.يعقوب الباحسين : 255 .
(10) رحلة الحج إلى بيت الحرام ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي :181 ، ط1-1403 ، دار الشروق :جدة .
(11) من المراجع التي عالجت هذه القضية إضافة إلى جملة ما كتب في علم القواعد والأصول ، اطروحة علمية في قسم أصول الفقه بجامعة بغداد ، لنيل الدرجة العلمية العالية ، بعنوان : الموازنة بين المصالح دراسة تطبيقية في السياسة الشرعية ، د. أحمد عليوي حسين الطائي . وقد أفدت منها في هذه المسألة .
(11) المصلحة العامة من منظور إسلامي ، د. فوزي خليل :123 .

أسس السياسة الشرعية
(3)
الاستحسان

د. سعد بن مطر العتيبي

الطريق الثانية : الاستـحســان
ومن أهم أسس السياسة الشرعية أيضا : الاستـحســان .
والاستحسان في اللغة : عدُّ الشيءِ حسناً ؛ قاله في القاموس ؛ والحَسَنُ : ضد القبيح ، وهو : عبارة عن كلِّ مُبْهِجٍ مرغوبٍ فيه .
وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فقد عُرِّف الاستحسان بتعاريف عدَّة وفسِّر بتفاسير مختلفةٍ ، يوهم اختلافها الاختلاف في
صحة الاستدلال بالاستحسان ؛ غير أنها عند التأمل والتحقيق ، لا تُسَلَّمُ سبباً لما تُوهِمُهُ ؛ حيث يتضح أنَّ النزاع المُتَنَاقل فيها ، لا يعدو كونه لفظياً ، أدَّى إليه عدمُ تحرير المحلّ ، أو فهمه على غير ما قُصد به ، كما نبَّه إليه و نصَّ عليه غيرُ واحد من العلماء (1) ؛ يُجَلِّي ذلك تحرير المسألة ؛ وذلك أنَّ كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين :
الأول : الاستحسان بمعنى : ما يستحسنه الإنسان بعقله ، أو تشتهيه نفسُه ، من غير مستند شرعي معتبر ؛ وهذا باطلُُ بالإجماع (2)
والثـاني : الاستحسان الأصولي ، المبنيُّ على مستند من الشرع معتبرٍ ؛ فهذا الذي يعنيه العلماءُ عند التعليل به .
وقد نصَّ غيرُ واحد من العلماءِ على أنَّ هذا مما لا ينكره أحد .
و من أجود ما عرف به الاستحسان الأصولي ، أنَّه : العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها ؛ لدليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ بتلك المسألة .
وعرَّفه شيخنا يعقوب الباحسين مبينا حكمته ، بأنَّه : " العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه ، لوجه يقتضي التخفيف ، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم " (3) .

ومن هنا يتضح أن الاستحسان هو في حقيقة الأمر استثناء بوجه شرعيٍّ .

فالعدول ، هو : الاستثناء . والوجه المقتضي ، هو : الدليل الأقوى .
فالاستحسان ، يعني الاستثناء من أصل المنع غالباً ؛ فيقضي بالإباحة ، أو من الواجب يرفعه أو يرخِّص فيه (4) ؛ كلُّ ذلك بناءً على المستند الأقوى ؛ لا على الرأي المجرَّد ، ولا على أمر خفيٍّ لا يمكن التعبير عنه ؛ " لأنّ المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرَّد عقله في تحسين شيءٍ ، وما لم يعبِّر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتَّى يظهر" (5) ؛ والمستند الأقوى ينتظم أوجهاً متعدِّدة ، حرص الأصوليون على إبرازها ؛ دفعاً لتوهم قيام الاستحسان على غير مستند شرعي ؛ حيث يُعَدِّدُون هذه الأوجه ، ويُنَوِّعُون الاستحسان بالنَّظر إليها .

فإذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة (6)
ومن أمثلتهِ : الاستحسانُ بقاعدة الضرورة ، ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة ؛ والضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ذكره شيخنا يعقوب الباحسين .

ومثّل له بعض أهل الأصول بقولهم : الأصل أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس .

قال السرخسي : " الحرج مدفوع بالنَّص ، وفي موضع الضَّرورة يتحقّق معنى الحرج لو أُخِذَ فيه بالقياس ؛ فكان متروكاً بالنَّص " (7) ، وقوله بالنص ، أي : النصوص الواردة في رفع الحرج عموماً .

وهذا أمر متقرِّر عند العلماء ، بل هو من مزايا الشريعة الإسلامية الظاهرة .
قال عزّ الدين ابن عبد السلام _رحمه الله_ في قواعد الأحكام : " اعلم أنَّ الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة و آجلة تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقَّة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح ؛ وكذلك شرع لهم السعي في درءِ مفاسد في الدَّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد ؛ وكلّ ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم . ويعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس ، وذلك جارٍ في العبادات و المعاوضات وسائر التصرُّفات " (8) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح
عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

وفي الحكمة من هذا الطريق الاستدلالي يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني : " نظرية الاستحسان شرعت ؛ لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء ، والاستحسان ضرب من النظر في المآل ، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب " .

أنـواع الاستحسان .

بالنظر في تعاريف الاستحسان ، وتتبع نماذج الوقائـع التي يُمَثَّل له بها العلماء ، واستقراءِ جملة الأحكام التي استنبطها الفقهاءُ عن طريقه مـع ذكر مستنده - لا تكاد تخرج أنواعه من جهة مستنده - أي : دليله أو ما يعبر عنه في كتب الفقه بـ: وجه الاستحسان - عن نوعين :

الأول : العدول عن موجب القياس إلى قياسٍ أقوى منه ، أو الاستحسان بالقياس.
وحقيقته : تردد الفرع - في نظر المجتهد - بين أصلين ، له شبه بكلٍ منهما ؛ وإلحاقه بأقربهما شبها له ، وهذا لا يدرك إلا بعد التأمُّـل .
ويتضح ذلك في المسألة التي تَعْرِض للمجتهد وتكون محلاً للقياس ، ويكون لها شبه بأصلين ثبت لكلٍ منهما حكم شرعيٌّ ؛ غير أنَّ أحد الشبهين أقرب في تبادره إلى ذهن المجتهد من الآخر، والآخر أدعى إلى الميل إليه ، لكونه أدنى إلى تحقيق المصلحة ؛ فَيَعْدِل المجتهدُ عن الشَّبَه في الأصل المتبادر، ويُرَجِّح إلحاقَ المسألة بالأصل الذي دَقَّت فيه العِلّة ؛ لقوته وتَحَقُّقِ المصلحة فيه ، وخُلُوِّ الأصل الذي تبادر شَبَهُه عن ذلك . فهذا العدول والإلحاق يُعَدَّ في عرف الأصوليين نوعاً من أنواع الاستحسان ؛ والدليلُ الذي اقتضى هذا العدول يسمَّى وجه الاستحسان ، أي : سنده ؛ والحكم الثابت بالاستحسان هو الحكم المُسْتَحْسَن ، أي : الثابت على خلاف القياس الجليّ .
ويُمثِّل له علماء الأصول : بإدخال حقوق الارتفاق (8) في الأرض الزراعية ، في حال وقفها ، ولو لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ مع عدم إدخالها في عقد البيع ما لم يُنَصّ على إدخالها فيه . فقد جاء عند الحنفية في هذه المسألة قولهم : القياس عدم دخولها ، والاستحسان دخولها (9)

الثاني : استثناء مسألة جزئية من أصل كلي ، لدليل يقتضي ذلك الاستثناء (10)
بيانـه : إذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة .

ويندرج تحت هذا النوع عدَّة فـروع ، منها :

الفرع الأول : الاستحسان بالإجماع .
وعرِّف بأنَّه : " انعقاد الإجماع الصريح أو السكوتي على حكم في مسألة ، يخالف قياساً أو قاعدة عامَّة " ( الاستحسان بين النظرية والتطبيق ، للشيخ د.شعبان إسماعيل :78 ) .
ويتحقق هذا النَّوع بإفتاءِ المجتهدين في حادثة ما ، على خلاف القياس أو الأصل العام أو القاعدة المقرَّرة في أمثالها ، أو بسكوتهم وعدم إنكارهم ما يفعله النَّاس ، إذا كان فعلهم مخالفاً للقياس أو الأصل المقرَّر .
مثالـه : الإجماع على جواز عقد الاستصناع (11) ؛ مع أنَّ مقتضى القياس عدم جوازه ؛ فإنّ المعقود عليه معدوم حال العقد ؛ وبيع المعدوم ممنوع بنص الحديث السابق ؛ لكن استثنى الفقهاءُ هذا العقد من حكم نظائره ؛ لجريان التعامل به من غير نكير من أهل العلم ، وتقريرهم على ذلك إجماع عمليٌّ (ينظر : تيسير التحرير ، لأمير بادشاه : 4/78 ) .
قال السرخسي : " تركنا القياس ؛ للإجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى يومنا هذا ، وهذا ؛ لأنَّ القياس فيه احتمال الخطأ والغلط ، فبالنَّص أو الإجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه ، فيكون [ أي: القياس ] واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه " ( أصول السرخسي : 2/203).

الفرع الثاني : الاستحسان بالضرورة .
ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمراً متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة (12)
مثالـه : ما سبق من أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس . ( المبسوط ، لشمس الدِّين السرخسي :10/ 145. ويراجع ما مر في الحلقة الثانية من بيان ) .
وهكذا بقية أقسام الاستحسان كالاستحسان بقاعدة الذرائع ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وغيرها ، فإنَّها راجعة في التقسيم إلى ما يعتمده المجتهد من الأدلَّة(13) .
وأما ما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ، فقد استبعد من التقسيم لأنه عند التحقيق عمل بمقتضى النص ذاته ، فالحجة فيه النصُّ دون حاجة إلى طريق الاستدلال ، وإنَّما اعتبره الحنفية لأنهم لمحوا في هذا النوع - عندهم – كون النصوص فيه جاءت على نحو يشبه الاستثناء من جملة النصوص في الباب ، مقصودا بها رفع الحرج .

وهذا النَّوع المعروف عند الحنفية بـ ( الاستحسان بالنص ) لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
ومع أن هذا النوع من الاستحسان من مدلولات الاستحسان عند الحنفية دون غيرهم وهو اصطلاح خاص بهم ولا مشاحَّة في الاصطلاح إذا علم المراد ، إلا أن الجمهور أفادوا منه في بيان سنن الشارع في تشريع المستثنيات واستدلوا به على حجية الاستحسان ببقية الأدلة والاستدلالات ؛ ومن هنا أدرجه المنظِّرون للاستحسان في أنواعه ؛ تعزيزاً لصحة الاستدلال به طريقاً من طرق الاجتهاد ؛ من حيث جريانه على منهج تشريعي ، يقضي باستثناءِ بعض الفروع من أحكام نظائرها ؛ رفعاً للحرج ودفعاً للضرر ؛ وعليه فيكون محلُّه من البحث الأصولي في مسألة حجية الاستحسان ، لا في أنواعه ، ولا عند بيان المراد به .

حجية الاستحسان :

من خلال بيان العلماء لطريق الاستحسان على اختلافهم في تقسيمه، يتضح بجلاء أنَّ إثبات الأحكام واقع بوجوه الاستحسان لا بالاستحسان نفسه ؛ وهذا محل اتفاق كما سبق ذكره في تحرير المراد بالاستحسان ؛ فالحجيَّة إنَّما هي في ما هو معتبر من وجوهه أو أدلته .
فالاستحسان بالنَّص (14) عند الحنفية حجَّة ، وحُجيَّته حُجيَّة النَّص نفسه ، والاستحسان بالإجماع حجَّه ، وحُجِّيَّته حجيَّة الإجماع نفسه ؛ وكذلك الاستحسان بالمصلحة والعرف والضرورة وغيرها ، من أدلة الاستحسان ووجوهه التي يذكرها العلماء ؛ فالذي يقول بهذه الأدلة أو الوجوه ، حجته فيها حجيَّة هذه الأدلَّة أو الوجوه عنده .

قال القاضي أبو يعلى : " والحجَّة التي يُرجع إليهـا في الاستحسان ، فهي الكتاب تارة ، والسنَّة أُخرى ، والاستدلال بترجّح شَبَه بعض الأصول على بعض " ( العدة في أصول الفقه : 5/1607-1609 )
.
هذا إضافة إلى اعتبار الشارع له بما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ؛ فيكون في ذلك إرشاد إلى طريق من طرق الاستدلال هو الاستحسان .

وكذلك حجيَّة الأصل العام المقرِّرِ للاستحسان ، وهو أصل رفع الحرج ، بسبب وجوهه أو بسبب الأدلة التي يعدل بها إليه . ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 333 ) .

وقد ذكر شيخنا يعقوب الباحسين وجهاً لدلالة أصل رفع الحرج على حجية الاستحسان ، بناه على استنتاج مفاده : أن القائلين بالاستحسان لاحظوا مجموعة من الأحكام المتشابهة ، في كونها مستثناة من قياسٍ أو أصلٍ مقررٍ عندهم أو عمومٍ ؛ فأطلقوا على كلٍّ منها اسم الاستحسان ، سواءٌ كان هذا الدليل نصَّاً ، أو إجماعاً ، أو مصلحةً ، أو عرفاً ، أو ضرورة ، أو غيرها ؛ فالاستحسان على هذا مفهوم كليّ لا وجود له إلا بوجود أفراده التي هي الأحكام المستحسَنة ، أيَّاً ما كان النوع الذي تنتمي إليه ، وهذا المفهوم الكلي عائد إلى التيسير ورفع الحرج ، وهذا المعنى مجمع عليه ، وهو ثابت في الشريعة قطعاً .
ثم بيَّن وجه الدلالة ؛ فقال : وعليه فإنَّ الاستحسان تكمن حجيته في كونه رافعاً للحرج ، وهذا لا يصح أن يكون موضع نزاع ؛ ولكن لمَّا كان الحرج غير منضبطٍ عند الفقهاءِ لم يعلقوا الأحكام به ؛ بل لجؤوا إلى وسائل معرِّفة للحرج وكاشفة عن وجوده ، وهذه الوسائل هي الأدلة التي يعدل بها عن الأقيسة والقواعد ، المسمَّاة عندهم وجوه الاستحسان ؛ فقولهم هذا استحسان بالإجماع ، يعني أنّ الإجمـاع كشف عن وجود حرجٍ كان من الممكن أن يقع لو لم يُؤخَذ بحكم المسألة المستثناة ، وهكذا ؛ فكأنَّهم جعلوا هذه الأمور التي يتحقق بها الاستحسان ضوابط له ، وإلا فهو عائد في الغالب إلى أصل رفع الحرج الذي لا نزاع في اعتباره شرعاً ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د.يعقوب الباحسين : 332-333 ) ، عند توفُّر شروطه .

ومن أدلة حجيته من المعنى : أن غاية ما في الاستحسان انعدام حكم النظائر في مسألة جزئية ؛ لانعدام علته فيها ، وهذا لا نزاع فيه ، وليس هو تخصيصاً لنص شرعي حتى ينظر في المخصص .

قال السرخسي : " ومن حيث المعنى ، هو قولٌ بانعدام الحكم عند انعدام العلَّة ، وأحد لا يخالف هذا ؛ فإنَّا إذا جوزنا دخول الحمَّام (15) بأجرٍ بطريق الاستحسان ، فإنّما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس ؛ لانعدام علّة الفساد ، وهو أنَّ فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة ، بل لأنَّها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ، وهذا لا يوجد هنا ، وفي نظائره ؛ فكان انعدام الحكم لانعدام العلَّة ، لا أن يكون بتخصيص العلّة "( أصول السرخسي : 207-208) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيـه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ( ينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 1/138 ) ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان حكم المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

والخلاصة : أن حجية الاستحسان بالمفهوم الأصولي محلّ اتفاق بين العلماء .
وعلى هذا فما وقع من اختلاف معتبر ، ظنّه بعض أهل العلم في حجية الاستحسان ، إنَّما هو في صحة وجهة الاستحسان ، أو اعتبار مستنده ، لا في صحة الاستدلال به ؛ واعتبارُ المستند أو عدم اعتباره راجع إلى ما يعتمده المجتهد من الأصول وما لا يعتمده ؛ لا إلى اختلافٍ في اعتبار الاستحسان طريقاً من طرائق الاجتهاد والاستدلال . ومن هنا وقع الاختلاف بين تعاريف الاستحسان عند المُنَظِّرِين له .

تتمات :
من الأمور التي توضّح الاستحسان : التفريق بينه وبين القياس ، ويمكن تلخيص الفرق بينهما ، بأنَّ الاستحسان عكس القياس ؛ فالقياس إلحاق بالنظائر ، والاستحسان قطع عن النظائر . ينظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، د. محمد فوزي فيض الله : 65، ط1-1404، مكتبة دار التراث : الكويت ؛ ونفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي: 9/4279 .

وأمَّا الفرق بين تخصيص العلَّة والاستحسان ؛ فمن العلماء من فرَّق بينهما ، كالسرخسي ؛ حيث ذكر أنَّ الاستحسان ينعدم فيه الحكم في الفرع المستثنى ؛ لانعدام العلَّة فيه . أما في تخصيص العلّة فإنَّ العلَّة لا تنعدِم بل تبقى في الفرع المستثنى ، لكن يدعي المستدل وجود مانع يمنع من ثبوت الحكم في الفرع ، لأجلها . ( ينظر : أصول السرخسي : 2/204-207-208 ؛ ومن العلماء من لم يفرق بينهما ، وهو الذي يفهم من كلام أبي العباس ابن تيمية ، في رسالته : قاعدة في الاستحسان : 62 وما بعدها . و ينظر : تخصيص العلَّة الشرعية ، د. عياض بن نامي السلمي ، بحث منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، العدد (20) ، رمضان ، 1418: 34- 36 ) .

------------------------------------
(1) منهم : ابن السمعاني في : قواطع الأدلة ، والإسمندي في : بذل النظر ، وابن الهمام في : التحرير ، مع شرحه ، لأميرباد شاه ، وأبو العباس ابن تيمية في : المسوَّدة ، لآل تيمية ، وابن عبد الشكور في : مسلم الثبوت ، مع شرحه : فواتح الرحموت ، لابن نظام الدين الأنصاري ، والزركشي في : البحر المحيط ، و الشاطبي في : الاعتصام ، و الشوكاني في : إرشاد الفحول .
(2) ينظر مثلاً : إحكام الأصول في أحكام الفصول ، لأبي الوليد الباجي : 688-689 ؛ وقواطع الأدلة ، لابن السمعاني :4/214 ؛ والمستصفى ، للغزّالي :1/410 ؛ والمصادر السابقة .
(3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 288 ،293 . وقد أفاد الناحية الموضوعيَّة من بيان السرخسي لها في : المبسوط : 10/ 145.
وقد أفرد شيخنا حفظه الله كتابا في الاستحسان استقرأ فيه ما علل بالاستحسان استقراء فريدا ، كعادته في مؤلفاته ، وهو تحت الطبع .
(4) ينظر : المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، د. محمد فتحي الدريني : 486 .
(5) مذكرة في أصول الفقه ، للشيخ / محمد الأمين الشنقيطي : 200 .
(6) تنبيه مهم : القياس في استعمالات العلماء في مواضع الاستحسان تشمل القياس الأصولي ، والقواعد العامَّة المأخوذة من مجموع الأدلة الواردة في نوع واحد ، أو ما يقتضيه الدليل العام ؛ خلافاً لما قد يتبادر من ظواهر عبارات بعضهم ؛ فإذا قيل القياس في هذه المسألة كذا ، والاستحسان فيها كذا فلا يتعين أنَّ المراد به القياس الأصولي ؛ بل قد يكون بمعنى مقتضى القاعدة ، أو الدليل العام الوارد في هذا النَّوع ، أو القياس الأصولي ( المعنى الخاص ) ، وفي كلٍّ أُخرجت الصورة المستحسنة من عموم ما يُشبهها لمقتضٍ آخر .
(7) أصول السرخسي : 2/ 203 .
(8) مرافق الأرض : ما يرتفق به : أي يُنْتَفَعُ به ؛ وهي : حق مقرَّر على عقار ؛ لمنفعة عقار آخر ، دون نظر إلى مالكه ؛ كحق المرور ، الذي هو : حق الإنسان في الوصول إلى ملكه بالمرور في طريق عام أو طريق خاص . وحق المسيل ، الذي هو : حق صرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح ، بإرساله في مجرى على سطح الأرض أو في أنابيب حتى يصل مستقرّه (الصرف) . وحق الشِّرب - بالكسر- و هو : النصيب المستحق من الماء ، أو نوبة الانتفاع بالماء لسقي الشجر والزرع ؛ ويلحق به : حق الشُّرب ، بضم الشين أو حق الشَّفه ، الذي يراد به : حق الإنسان والدَّواب في الشرب من الماء ، والاستغلال المنزلي على وجه العموم .
فائدة : ذكر الشيخ عبد الكريم زيدان أنَّ تسمية هذه الحقوق بـ " حقوق الارتفاق " ، تسمية حادثة ، أطلقها صاحب مرشد الحيران قدري باشا .
(9) وبيان هذه ذلك : أنَّ لهذه المسألة شبهان :
- شبه بالبيع بجامع الخروج من الملك في كلٍ - من ملك البائع بالبيع ، ومن ملك الواقف بالوقف - وهو القياس الظاهر المتبادر ؛ ومقتضى ذلك عدم دخول الحقوق الارتفاقية ما لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ كالبيع .
- وشبه بالإجارة بجامع ملك الانتفاع بالعين – إذ الوقف يفيد ملك الانتفاع بالعين الموقوفة بالنسبة للموقوف عليه ، و الإجارة تفيد ملك الانتفاع بالعين المؤجَّرة بالنسبة للمستأجر ، وذلك مع عدم ملكهما للعين المؤجَّرة أو الموقوفة - ؛ ومقتضى ذلك دخولها في الوقف ولو لم ينص الواقف عليه ؛ فقد رآى هؤلاء أنَّ هذا الشبه يصلح علَّة لإلحاق الوقف بالإجارة ، مع كونه قياساً خفيَّاً لا يتبادر إلى الذهن كسابقه ؛ بل يحتاج إلى مزيد تأمُّل وتعمُّق في تصور المسألة بجميع جوانبها ؛ ومع خفائه إلا أنَّهم رجحوه ؛ لقوته وتحقق المصلحة به ؛ لأنَّ الغرض من وقف الأرض الزراعية انتفاع الموقوف عليه بها ، وهذا لا يتحقق إلا بانضمام الحقوق الارتفاقية إلى الأرض في الوقف ، كما أنَّ المستأجر لا يتحقق غرضه من الاستئجار إلا بذلك .
فالاستحسان هنا ترجيح المجتهد للقياس الخفيّ على القياس الجلي ؛ ووجهه وسنده : أنَّ القياس الخفي هنا أقوى تأثيراً في الحكم من القياس الجلي ؛ لأنَّ المقصود بالوقف الانتفاع من الموقوف لا تَمَلّك عينه ، وحيث إنَّ الانتفاع لا يَتَأَتَّى بدون الحقوق الارتفاقية ؛ فيلزم دخولها في الوقف تبعاً ، كما هو الحكم في الإجارة .
(10) والقسم الأول داخل في القسم الثاني ؛ لأنه استثناء من القياس الظاهر ، وإنما أُفرد ؛ لأهميته بالنسبة للفقه الحنفي . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 296 .
(11) الاستصناع : طلب الصنع وسؤالـه . وصورة المراد به : أن يقول شخص لآخر من أهل الصنائع : اعمل لي خفاً أو آنية من أديم أو نحاس – أو غيرها – من عندك ، بثمن كذا ، ويبين نوع ما يعمل ، وقدره وصفته ؛ فيجيبه الصانع بأن يفعل له ما طلب .
(12) الضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، ليعقوب الباحسين : 438 ففيه بحث قيم جدا في بيان معنى الضرورة.
(13) ينظر : المنخول ، للغزّالي : 478-479 ؛ وأصول السرخسي : 2/200 وما بعدها ؛ والاعتصام ، للشاطبي : 2/ 139 وما بعدها ؛ وتعليل الأحكام ، د.محمد شلبي :354 وما بعدها ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 315 وما بعدها ؛ والاستحسان بين النظرية والتطبيق ، د. شعبان محمد إسماعيل: 75 وما بعدها ؛والمصادر السابقة .
(14) الاستحسان بالنَّصِّ .
ويدخل تحته جميع الصور التي استثناها الشارع من عموم نظائرها ؛ بنصٍّ من الكتاب أو السنَّة ؛ وقد يكون بسبب الضرورة أو الحاجة أو غيرها من الأمور التي تعود إلى فروعٍ أُخر من الاستحسان ، لم تلحق بها ؛ لأنَّ ثبوتها هنا جاء عن طريق التنصيص الشرعي ، وفي تلك الفروع جاء عن طريق الاجتهاد .
مثاله من الكتاب : تشريع صلاة الخوف على الصفات التي وردت بها ؛ إذ القياس في الصلاة أن تؤدَّى الرباعيَّة في أوقاتها المحَّددة أربع ركعات ، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ و سجودان ، بشروطها وأركانها التي بيَّنها النبي _صلى الله عليه وسلم_ ؛ غير أنَّ حالة الخوف استثنيت من ذلك بقول الله _تعالى_ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء :101-102] ؛ حيث قُلِّلَ عددُ ركعاتِهـا ، وبُدِّلَتْ كيفيتُها ، إلى حالة تُمكِّنُ المسلمين من أدائها مع المحافظة على موقفهم من العدو ؛ تخفيفاً على المسلمين ، ورفعاً للضيق والحرج عنهم بالمحافظة على الدماءِ والأرواح مع مدافعة العدو ، ودرءاً لضرر انتصاره عليهم بانتهازه فرصة انشغالهم في صلاتهم .
ومثاله من السنَّة : بيع السَّلم ؛ فالقياس أو القاعدة العامة عدم جواز بيع المعدوم ؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ )) ؛ غير أنَّ السَّلَم وهو من بيع الإنسان لما ليس عنده ، قد رُخِّصَ فيه ؛ بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) ؛ وذلك لحـاجة الناس إليه .
وهذا النَّوع لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
(15) (الحمّـام : بناء على هيئة خاصة ، يغتسل فيه بماء محمّى ؛ تنظيفاً وترفّهاً واستشفاءً . عربـي مذكّر باتفاق أهل اللغة ؛ ويسمى : الديمـاس ، والكن ؛ معروف عند السابقين ، ولهم به مزيد عناية ، ولا زال موجوداً في عدد من البلاد ، كالشام ، والعراق ، وغيرهـا . و يقـال : أصـل اشتقاقـه من الحميم ، وهو الماء الحارّ المستعمل فيه ؛ أو لأنَّه يُعرق ، و لذا يقال لمن يخرج من الحمّام : طاب حَمِيُمك وحِمَّتُك ، أي : طاب عرقك .
ينظر : تحرير التنبيه ، للنووي : 67 ؛ والوقوف على مهمات التعاريف ، للمناوي : باب الباء ، فصل الميم ؛ والكليـات ، للكفوي :404 ؛ وينظر في فوائده : النزهة الزهيَّـة في أحكام الحمام الشرعيـة والطبيَّة ، للمناوي : 17 ، ط1-1408، ت/د. عبد الحميد صالح حمدان ، الدار المصريـة اللبنانية : القاهرة . وهو شبيه في فوائده ومنكراته ، بما يعرف - اليوم - بـ( حمَّامات السونا ) .

أسس السياسة الشرعية
(4)
قاعدة الذرائع

د. سعد بن مطر العتيبي

(1)
سد الذرائع

الطريق الثالث : قـاعـدة الـذرائـع

الذرائع في اللغة : جمع ذريعة ، وهي : الوسيلة إلى الشيء ، سواءٌ كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة ، قولاً أو فعلاً . يقال : تذرع بذريعة : أي : توسل بوسيلة .

أمَّا في الاصطلاح ؛ فقد عُرِّفت بتعريفات كثيرة ، تكاد تنحصر في أحد قسمي الذرائع ؛ وذلك أنَّ كثيراً من العلماء والباحثين درجوا على إطلاق الذريعة على ما يُتَوَصَّلُ به إلى محظورٍ .

وهذا أحد قسمي قاعدة الذرائع ؛ فإنَّ الذرائع منها ما يُوصِل إلى المحذور - وهذا هو المشهور المتبادر عند ذكرها - ومنها ما يوصِل إلى المشروع ، وهذا ما يُعبِّر عنه بعض العلماء -كالقرافي - بـ" فتح الذرائع " ، واشتهر عند عامَّة الفقهاء تحت مسميات أُخرى ؛ والذريعة من حيث كونها طريقاً من طرق الاستدلال تشمل هذين القسمين .
من هنا يمكن تعريف الذرائع بمعنىً اصطلاحي عام يشمل هذين المعنيين ؛ فيُقال : الذرائع في الاصطلاح : ما كان وسيلةً وطريقاً إلى شيءٍ آخر حلالاً كان أو حرامـاً .
وبهذا يكون التعريف شاملاً قسمي الذرائع : ما يُسَدّ منها ، وما يفتح .

فقاعدة الذرائع تنقسم إلى قسمين قسم يسدّ ، وهو الأشهر لأسباب منها أنّه من قواعد المنع من المحظور ، والمحظور تدفع إليه طباع كثير من الناس ، ومن ثم يكثر طرق أسماعهم له أكثر من القسم الآخر الذي هو فتح الذرائع ، ومنها استعمال مصطلحات أخرى مرادفة لفتح الذرائع على ما يأتي بيانه في قاعدة فتح الذرائع إن شاء الله تعالى .

وبيان القسمين في قاعدتين على النحو الآتي :

أولاً : قاعدة سد الذرائع :
المراد بـ سد الذرائع : المنع من فعل ذرائع الممنوع ، لما تفضي إليه من الفعل المحرَّم ؛ فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة مُنع من ذلك الفعل .
والذرائع التي تُسد وتحسم عُرِّفت بتعاريف كثيرة ، لعلَّ أقربها إلى المعنى المراد في عرف الفقهاء أنَّها : أمر غير ممنوع لنفسه ، قويت التّهمة في إفضائه إلى فعل محظور .

حجية سد الذرائع :
سدُّ الذرائع من طُرق الاستدلال التي تظافرت أدلة الشرع على تأييدها ، و شواهده في الشريعة أكثر من أن تحصر ؛ من ذلك ما يلي :
1) قول الله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108] ؛ حيث نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة الكفار مع كونه غيظاً وحمية لله تعالى ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقاً إلى سب الله تعالى " وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل مالا يجوز " قاله بن القيم .

2) وقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 104] ؛ حيث نهى الله - عز وجل - عباده المؤمنين عن قول هذه الكلمة ( راعنا ) للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم - مع أنَّها كلمة عربية معروفة ، معناها : أرعني سمعك ؛ وذلك لئلا تكون ذريعة لليهود إلى سبِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنَّهم كانوا يخاطبون بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - يريدون بها السَّبَّ ، يقصدون : فاعلاً من الرعونة ، ولئلا يكون ذلك ذريعة للتشبّه باليهود في أقوالهم وخطابهم .

3) وقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ )) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ )) متفق عليه ؛ فقد جعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل ساباً لأبويه إذا سبَّ سباً يَجْزِيْهِ النَّاس عليه بالسَّبِّ لهما ؛ لكونه سبباً ووسيلة إلى ذلك وإن لم يقصده .

4) أنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين ، مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس : إنَّ محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم - يقتل أصحابه ؛ وقد صرح النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك عندما سأله عمر – رضي الله عنه - أن يأذن له بقتل عبد الله بن أُبي بن سلول - رأس النفاق - حيث قال : (( دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) رواه الشيخان ؛ لأنَّ هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام " قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .

وهذه بعض شواهد سد الذرائع ، وهي كثيرة ، ذكر ابنُ القيم - رحمه الله - تسعة وتسعين شاهدا لها على سبيل التمثيل ؛ ومدارها على تأكيد أنَّ : ما جَرَّ إلى الحرام وتُطُرِّق به إليه ، فهو حرام مثله .
ومن هنا قرَّر العلامة الشاطبي - رحمه الله - أنَّ قاعدة سد الذرائع أُخِذَت من استقراءِ نصوص الشريعة استقراءً يفيد القطع ، وأنَّ الشارع يمنع من الفعل الجائز إذا كان هذا الفعل ذريعة إلى مفسدة تساوي مصلحته أو تزيد ، ثم قرر أنَّ هذا المعنى الذي أُخذ بالاستقراء من أحكام الشريعة ، يقوم مقام العموم المستفاد من الصيغة ؛ فيما يندرج تحته من الوقائع التي لم ينصّ عليها ؛ فيطبق عليها ، دون حاجة إلى دليل خاص من قياس أو غيره .

وأما الأدلة الخاصَّة على هذه القاعدة فكثيرة أيضا ، ومنها :
1- قول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : (( إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذلك أُمورًا مُشْتَبِهَاتٍ – وَرُبَّما قال – وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمورًا مُشْتَبِهَةً وَسأَضْرِبُ فِي ذلك مَثَلاً : إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ حَمَى حِمًى ، وَإِنَّ حِمَى اللَّه ما حَرَّمَ ، وإِنَّهُ مَنْ يَرْعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى – وَرُبَّمَا قَالَ – يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ وإِنَّ مَنْ خَالط الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنْ يَجْسُـرَ )) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح " ؛ وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يُتْرَك ما يضارع الحرام وما يتوصل به إليه " قاله الباجي رحمه الله .

2- أنَّ قاعدة : " سد الذرائع " ، راجعة إلى أصل اعتبار المآل الذي قامت الأدلة الشرعية على اعتباره ، وشواهدها شواهد لهذه القاعدة ، ورجوع هذه القاعدة إلى هذا الأصل كافٍ في اعتبارها والتفريع عليها .

3- وقد حكى الاتفاق على إعمالها غيرُ واحد من العلماء ، منهم الشاطبي والقرافي ؛ بل صرح الشاطبي بأن استقراء أحكام الشريعة يدل على قطعيتها ، فقال : " سدّ الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية " .

ضابـط " سد الذرائع " :
الذين يُنَظِّرُون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدِّها ؛ لأنَّ التوسّع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمّة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو " رفع الحرج " ؛ وعليه فلا يجوز الإفتاء بناءً على سدّ الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السدّ والمنع ، وقد نصَّ على ذلك عدد من العلماء والباحثين ، ومن نصوصهم في ذلك ، يمكن ضبط قاعدة المنع في الذرائع ، من خلال الشروط والقيود التالية :
1- أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة . فالمعوّل عليه في المنع : ما يترتّب على الفعل من المفاسد في مجرى العادة ، أو ما يقصد به في العرف ؛ وإن لم يثبت قصد خاص من الفاعل ، بل وإن ثبت القصد الحسن والنيـة الخالصة ، كما في مسألة سَبّ آلهة الكفار .
2- أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه ؛ فالفعل الذي يتضمن تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة لا يمنع – وإن كان ذريعةً إلى تفويت مصلحة أو تحصيل مفسدة من جهة أُخرى – إذا كانت المصلحة التي يجلبها الفعل راجحة على المفسدة التي تنشأ عنه ، أو كانت المفسدة التي تندفـع به ، راجحة على المصلحة التي تفوت به .
3- أن يكون إفضاءُ الفعل المأذون فيه إلى المفسدة مقطوعاً به ، أو كثيراً غالباً بحيـث يغلب على الظن إفضاؤه إليها ؛ أو أن تتعلق المفسدة فيه بمحظور خطيرٍ ، يقتضي الاحتياطُ من المجتهد درءَ المفسدة فيه ، ولو لم يكن إفضاؤها إلى المفسدة كثيراً .
4- أن لا يكون سد الذريعة شاملاً عاماً لكل صور المحكوم فيه وكل أحواله ؛ بل بالقدر الذي تندرىءُ فيه المفسدة ، وإذا زالت الخشية زال الحظر .

والخلاصة : أنَّ ( سدَّ الذرائع ) طريق وقاعدة راسخة من قواعد التشريع وطرق الاستدلال الشرعي المعتبر ، إذا توافرت فيه شروط العمل به .
ولمَّا كانت هذه القاعدة طريقاً حازماً في الحفاظ على حمى الأحكام ، و عقبة عسيرة المنفذ ، لمن رام الوصول للباطل من بوابات الشرع – تضجّر منها أهل الباطل وحاول القدح فيها المحرومون بها من ترويج الشبهات والاستمتاع بالشهوات .
وثمة ملاحظة مهمّة تجيب على المتسائلين عن كثرة الفتوى بسدّ الذرائع وهي : أنَّه كلّما كثر الفساد في النّاس ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلّما كثرت الفتوى بسدّ الذرائع . والعكس بالعكس !

(2)
فتح الذرائع

ثانياً : قاعدة فتح الذرائع .
سبق في أوَّل قاعدة الذرائع ، أنَّ الذرائع هي الوسائل ؛ وهي هنا : " الطرق التي يُسلك منها إلى الشيء ، والأمور التي تتوقف الأحكام عليها من لوازم وشروط " قاله الشيخ السعدي ؛ فالمراد فتح الذرائع المؤدية إلى جلب المصالح وتحقيق المقاصد ، التي لا تحصل إلا بها .
فالمراد بـ" فتح الذرائع " : فعل ما لا يُتَوَصَلُ إلى المأمور إلا به ؛ و يُعبِّر عنه بعض العلماء بـ" فتح الذرائع " كالقرافي ؛ ويُعَبُّرُ عنه عند عامَّة الفقهاء بتعبيرات أشهر ، من مثل : " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " وَ " ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به " وَ " ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به " وَ " وسيلة الواجب " وَ " مقدمة الواجب " ، وهذا الغالب عند الأصوليين وفي كتب الشروح الفقهية ؛ وقد تلقب عند الفقهاء بـ"الاحتياط " ، وغيرها .

والمأمور يشمل ما أُمر بفعله وما أُمر بتركه ؛ " إذ الأمر هو الطلب والاستدعاء والاقتضاء ، وهذا يدخل فيه طلب الفعل وطلب الترك " ، " فلفظ الأمر عام لكن خصُّوا أحد النوعين بلفظ النهي ، فإذا قُرِن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين " قالهما أبو العباس ابن تيمية .

حكم فتح الذرائع :
الذرائع والوسائل التي لا يتم المأمور إلا بها ، نوعان :
فالأول : ما كان مأموراً بها بالنَّص الشرعي ؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة ، كقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ وكالطهارة للصلاة ، وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } ؛ وهذا النوع قد اجتمع على وجوبه دليلان : النَّصّ ، وقاعدة : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وهذا ظاهر ، لا يُحتاج إلى بيان حكمه .
والثاني : ما كان مباحاً من حيث الأصل ، لم يرد فيه أمر مستقل من الشارع ؛ كإفراز المال ؛ لإخراج الزكاة ؛ فهذا ليس بواجب قصداً ، إنما وجب بقاعدة : ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به . وهذا النوع الذي نعنيه هنا ، وخلاصته : أنَّ وسيلة المأمور به مأمور بفتحها ؛ فالذرائع هي الوسائل ، و الأصل في الوسائل أنَّ لها أحكام المقاصد .

قال العز بن عبد السلام : " للمصالح والمفاسد أسباب ووسائل ، وللوسائل أحكام المقاصد ؛ من الندب ، والإيجاب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة " .
وقال ابن القيم : " لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها ، كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرةً بها ؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقُرُبات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها ؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل " ، وقال : " القاعدة الشرعية أنَّ وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد " .
وقال ابن سعدي : " الوسائل لها أحكام المقاصد ؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون ، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها ، ووسيلة المباح مباح . ويتفرع عليها أنَّ : توابع الأحكام ومكمِّلاتها تابعة لها ، وهذا أصل عظيم يتضمن عدة قواعد … " .

ونجد التصريح بفتح الذرائع في نصوص من مثل قول القاضي أبي يعلى : " إذا أمر الله تعالى عبده بفعل من الأفعال وأوجبه عليه ، وكان المأمور لا يتوصل إلى فعله إلا بفعلٍ غيره ، وجب عليه كل فعل لا يتوصل إلى فعل الواجب إلا به " .
وقول القرافي : " اعلم أنَّ الذريعة كما يجب سدّها ، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح ؛ فإن الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنَّ وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة ؛ كالسعي للجمعة والحج " .
وإنما أذكر عددا من النقول ليُعلَم أنَّ هذه القاعدة ليست غائبة عن فقهائنا .

حجية فتح الذرائع :
مما استُدِلّ به على حجية فتح الذرائع ما يلي :
1- قول الله عز وجل : {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ، ففيه اعتبار الشارع للوسائل ؛ وهذا يدل على حسن الوسائل الحسنة ، وفيه تنبيه على اعتبار الوسائل ، حيث اعتبر أعمال المجاهد في سبيل الله من حين يخرج من محله إلى أن يرجع إلى مقرِّه وهو في عبادة ، لأنَّ هذه الأعمال ووسائل لهذه العبادة ومتممات لها .

2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ )) رواه مسلم ؛ ووجه الدلالة منه كما في الدليل السابق .

3- أنَّ الذرائع التي لابد منها في فعل المأمور من مقتضيات الأمر به ؛ فيكون دليلها ما أفاد الأمر من الأدلة .
قال الجويني : " الأمر بالشيء يتضمن اقتضاء ما يفتقر المأمور به إليه في وقوعه ؛ فإذا ثبت في الشرع افتقار صحة الصلاة إلى الطهارة فالأمر بالصلاة الصحيحة يتضمن أمراً بالطهارة لا محالة ، وكذلك القول في جميع الشرائط . وظهور ذلك يغني عن تكلف دليل فيه ؛ فإن المطلوب من المخاطب إيقاع الفعل الصحيح ، والإمكان لابد منه في قاعدة التكليف ولا تَمَكُّن من إيقاع المشروط دون الشرط " .
وقال الموفق ابن قدامة : " لكن الأصل وجب بالإيجاب قصداً ، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود فهو واجب كيف ما كان وإن اختلفت علة إيجابهما " .

وقال ابن سعدي : " فإذا أمر الله بشيءٍ كان أمراً به وبما لا يتم إلا به ، وكان أمراً بالإتيان بجميع شروطه : الشرعية ، والعادية ، والمعنوية والحسية ؛ إنَّ الذي شرع الأحكام عليم حكيم ، يعلم ما يترتب على عباده من لوازم وشروط ومُتَمِّمَات ؛ فالأمر بالشيءِ أمر به وبما لا يتم إلا به ، والنهي عن الشيءِ نهي عنه وعن كل ما يؤدي إليه " .
وبهذا يتبين أنَّ فتح الذرائع مأمور به شرعاً ، مُتَقَرِّرٌ لدى العلماء ؛ فيكون طريقاً من طرق الاستدلال الصحيح ؛ قال المجد ابن تيمية : " فقول من قال : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ، صحيح " .

بـل قد تكون ذريعة المحرم ووسيلته غير محرمة ؛ فتفتح ، وذلك إذا أفضت إلى مصلحة شرعية راجحة . وهذه من مستثنيات قاعدة : " للوسائل أحكام المقاصد " .
قال أبو العباس ابن تيمية : " النهي إذا كان لسدِّ الذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة " ، ومثَّل له بمنع التنفّل في أوقات النهي سدّاً لذريعة الشرك ؛ لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ، ومشروعية فعل ذوات الأسباب فيها ؛ حيث يحتاج إلى فعلها في هذه الأوقات ، وهو أمر يفوت فتفوت مصلحتها ، فشرعت ؛ لما فيها من المصلحة الراجحة .

وقال القرافي : " قد تكون وسيلة المحرّم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة ؛ كالتوسل إلى فداءِ الأسرى بدفع المال للكفار ، الذي هو محرم عليهم الانتفاع به ؛ بناءً على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة عندنا ، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يـزني بامرأة ، إذا عُجِزَ عن دفعه عنها إلا بذلك ... ؛ فهذه الصور كلها : الدفعُ وسيلة إلى المعصية بأكل المال ، ومع ذلك فهو مأمور به ؛ لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة " .
وقال ابن القيم : " ما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة ، كما أباح من المزابنة العرايا ؛ للمصلحة الراجحة ، وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها " .

ومن تأمّل هذه النقول تبيّن له أنَّ للمسألة قيوداً وضوابط ، تجعل أمر إعمالها ، ليس إلا لمن توافرت فيه شروط الاجتهاد ، وأدرك مقاصد التشريع ، وموازين المصالح ، وقد مرّ الحديث عن قيود العمل بها ، فلا يعزب عن بالنا ذلك ، فالكلام في أحكام الشرع توقيع عن ربِّ العالمين ، لا يقبل من عابد غير فقيه ، بله متهمٍ في الدين .

وكثير من تطبيقات قاعدة فتح الذرائع لا يتفطن له كثير من النّاس ؛ وهذا يجعلني أقدِّم مثالاً لتطبيق علمائنا لهذه القاعدة ، وهو : تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ، الذي لم يحرِّمه لذاته أحد من العلماء - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي منع فيها ، ولذلك استنكره حينها كثير من المواطنين حمية وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بتطبيق ( قاعدة فتح الذرائع ) بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله ، فلمّا رأى النّاس ذلك اطمأنّوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه ، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ، وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولله الحمد والمنة .

أسس السياسة الشرعية
(5)
مراعاة العرف

د. سعد بن مطر العتيبي

قاعدة : مراعاة العرف .

والمراد به العرف الصحيح ، وهو : ما تعارفه أكثر الناس ( وهذا قيد يخرج العادات الخاصة ) من قول أو فعل اعتبره الشرع ؛ أو أرسله ، مما شأنه التَّغَيُّر والتَّبَدّل .
وهذا القيد يخرج العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، كالأمر بإزالة النجاسات ، وستر العورات ؛ لأنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع بخصوصها ، فلا تبديل لها ، ولو اختلفت فيها آراء المكلفين ، كما لو تعارف الناس على كشف العورات ، كما يقول الشاطبي ، أو الاختلاء المحرم أو غيره .

ومجال إعمال العرف ما يلي :
1) الحالات التي أحال الشارع فيها على العمل بالعرف .
ومن أمثلته : إحالة الشارع إلى العرف في مقادير الإنفاق ، كما سيأتي في إثبات حجية العرف إن شاء الله تعالى .

2) تفسير النصوص التي وردت في الشريعة مطلقة ، مما لا ضابط له فيها ولا في اللغة .
ومن أمثلته : تحديد ما يكون حرزاً في السرقة ؛ وما يكون به إحياء الموات .
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف " .
وقال السيوطي : " قال الفقهاء : كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ، ولا في اللغة ، يرجع فيه إلى
العرف " .

3) الأعراف التي تكون أسباباً لأحكام شرعية تترتب عليها ، أو بعبارة أخرى : التي هي مناط لأحكام شرعيَّة ، مما لم تأمر به الشريعة على نحو معين ، ولم تنه عنه ، وتُلحظ فيه المصلحة تبعاً لذلك . وهذه لها صور ، منها :
- الأعراف التي تكشـف عن مرادات المكفين فيما يصدر منهم من أقوال وتصرفات ؛ ويدخل فيها صيغ العقود والفسوخ ، من بيوع و إجارات وإقرارات وأيمان ووصايا وشروط في عقود ، ومعاهدات ومواثيق دولية ، وغيرها .

- الأعراف التي تكشف عن العلل والحكم التي تترتّب عليها الأحكام الشرعية ، أو انتهائها . وسيأتي بيان لها إن شاء الله تعالى في مجالات السياسة الشرعية .

- الأعراف التي تكشف عن الصفات الشرعية ، أو صفات المحال التي تتعلق بها الأحكام ، كالكشف عن مالية المعقود عليه ، وما يعتبر عيباً في المبيع ، وما يتحقق به خيار الرؤية ؛ والكشف عما تتحقق به صفة الضرورة أو الحاجة ؛ والكشف عما أجمله الشارع من الجرائم الموجبة للتعزير كألفاظ الشتم من غيرها ، وما يقع به التعزير الرادع ، وغير ذلك .

هذا مجملٌ لمجالاتِ إعمالِ العرف شرعاً .

و ضابطه : " كل فعل رُتِّب عليه الحكم ، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة ؛ كإحياء الموات ، والحرز في السرقة ، والأكل من بيت الصديق ، وما يعد قبضاً ، وإيداعاً ، وإعطاء ، وهدية ، وغصباً ، والمعروف في المعاشرة ، وانتفاع المستأجر بما جرت به العادة ، وأمثال هذه كثيرة لا تنحصر " .

شروط اعتبار العرف :
نص العلماء على شروط لا بد منها في اعتبار العرف طريقا صحيحا للاستدلال ، وهي :
1) أن لا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية .
2) أن يكون موجوداً عند إنشاء التصرف .
3) أن يكون مطرداً ، أي : مستمراً في جميع حوادثه ؛ أو غالباً، أي : في أكثرها ؛ والمراد : اطِّراد أو غلبة العوائد المتجددة في كل زمان وفي كل مكان .
4) أن لا يُصَرِّح المتعاقدان بخلافه إن كان ثمّ عقد .

حجية الأخذ بالعرف واعتباره .
استُدِلَّ لحجية العرف بأدلة كثيرة ، يكفي منها في إثبات اعتباره : إحالة الآيات والأحاديث الأحكام المطلقة إليه لتحديدها به ، من مثل :
1) قول الله عز وجل : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة233] ؛ إذ أرجع الله سبحانه وتعالى تقدير نفقة المرضع إلى العرف غنىً وفقراً .
2) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهند بنت عتبة رضي الله عنها : (( خُذِي مَا يَكْفِيكِ َوَولَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ )) رواه الشيخان ؛ حيث أحال في نفقة الزوج والولد إلى العرف .

ثم هو معتبر في الجملة في جميع المذاهب ؛ وهو معنى قول العلماء : إنَّ العادة محكمة .

فالعرف قاعدة تطبيقيّة مهمّة ، يرجع إليها في تطبيق كثير من الأحكام العملية ؛ فهو في واقع الأمر ليس دليلاً ؛ بل الدليل مستنده الذي أحال إليه ؛ فالعلماء عند اعتبارهم الأعراف وملاحظتها عند تطبيق الأحكام ، يستندون إلى أصل شرعي ودليل معتبر ؛ يؤكد ذلك أهم شروط اعتبار العرف ، وهو : أن لا يخالف نصاً شرعياً .

ما يشترط فيمن يفتي باتباع العرف الحادث :
لا يسوغ الإفتاء على مقتضى العرف الحادث لكلّ أحد ؛ فقد نصَّ العلماء على شروط لابد من توفّرها ، في من يتصدَّى لذلك ، أهمها ما يلي :

1- أن يكون ممن له رأي ونظر صحيح ، ومعرفة بقواعد الشرع ، وأن يكون على علم بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها ؛ وذلك حتى يُمَيِّز بين العرف الذي يجوز بناءُ الأحكام عليه وبين غيره ؛ فإنَّ المتقدمين شرطوا في المفتي : الاجتهاد ؛ وهذا مفقود في زماننا ، فلا أقلَّ من أن يُشترط فيه معرفة المسائل بشروطها وقيودها التي كثيراً ما يُسقطونها ولا يصرِّحون بها اعتماداً على فهم المتفقه كما يقول ابن عابدين .

وقد عزى القرافي غلط كثير من الفقهاء المفتين ، إلى فقدان هذا الشرط منهم ؛ حيث قال : " فهذه قاعدة لابدَّ من ملاحظتها [ يعني تغير الأحكام بتغير الأعراف ] ؛ وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين ؛ فإنَّهم يُجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار ، و ذلك خلاف الإجماع ، وهم عصاة ، آثمون عند الله تعالى ، غير معذورين بالجهل ؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلاً لها ، ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها " .

2- أن يكون عارفاً بوقائع أهل الزمان ، مدركاً أحوال أهله . فلابد له من معرفة عرف زمانه ، وأحوال أهله ، والتخرّج في ذلك على أستاذ ماهر ؛ يقول ابن عابدين مبينا ذلك : " لو أنَّ الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لابد أن يتّلمذ للفتوى حتى يهتدى إليه ؛ لأنَّ كثيراً من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة . والتحقيق أنَّ المفتي لابد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس " .

و هذه القاعدة من القواعد التي زادت أهميتها في هذا العصر ؛ حيث تَعَدُّدُ الأقاليم الإسلامية ، و تناثر الجاليات المسلمة في غيرها ؛ مما ينبغي معه تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زماناً ومكاناً وحالاً ؛ فقد تصل – مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة - فتوى أهل بلد غير مقيدة به ، إلى غيره ممن لا تشملهم الفتوى ؛ فيُظنّ شمولها ؛ فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج ، أو توسع غير مشروع في حقهم ، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى ، أو سُبَّة بها على أهل الإسلام ، من أهل الباطل المتربصين ، والله أعلم .

أسس السياسة الشرعية
(6)
تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة

د. سعد بن مطر العتيبي

ومن طرق الاستدلال السياسي : تنزيـل الأدلـة على أحوالهـا المختلفـة .

أولاً : المراد بهـذه الطريـق .
المراد بها : حمل الأدلة التي يظهر بينها اختلاف وتعارض في نظر المجتهد - مما ليس منسوخاً - على الأحوال التي وردت هذه الأدلة في بيان أحكامها ؛ بحيث يلزم المجتهدَ البحثُ في موارد هذه الأحكام تنظيراً وتطبيقاً ، وتنزيل هذا الاختلاف الذي ظهر له على اختلاف هذه الموارد (1) .

مثالـه : أحكام الأسرى ؛ فقد جاء ما يدلّ على قتلهم ، وجاء ما يدلّ على استرقاقهم ، وجاء ما يدلّ على المنَّ عليهم بلا شيءٍ ، وجاء ما يدلّ على إطلاقهم بفداء ؛ فهذه الأحكـام لا تعارض بينها – كما سيأتي بيانه في التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية ، إن شاء الله تعالى - و إنَّما جاءت بياناً لأحكام أحوالٍ مختلفة .

ثانياً : حجية تنزيل الأدلة التي ظاهرها التعارض على أحوالها .
لم يطل العلماء في تقرير هذه الطريق بذكر الدلائل ، ولعلَّ ذلك ؛ لظهورها ، وتقرَّر الاستدلال بها لديهم ، لاستنادها على أصول متقرِّرة ؛ فمن الدلائل على حجيَّة هذه الطريق ما يلي :

1) ما هو مُتقَرِّرٌ من أنَّ الشريعة لا تُثْبِت حكمين مختلفين في مسألة واحدة ؛ بحيث يفيد أحدهما – مثلاً – الوجوب والآخر الحرمة ، في نفس الأمر ؛ وذلك بناءً على ما هو مسلَّمٌ من امتناع الاختلاف بين الأدلة الشرعية في واقع الأمر ، ورجوع الشريعة كلها إلى قول واحد ؛ ولأنَّ من لازم ذلك التناقض والعبث والجهل ، و الشارع الحكيم منَزَّهُ عن ذلك سبحانه وتعالى ، والدلائل على هذا أظهر من أن تذكر ، فلا حاجة للإطالة بذكرها ؛ وهذا لا ينافي وجود تعارض واختلاف ظاهري في فهم الناظر وظنِّه .
وفي هذا يقول الشاطبي : " الشريعة كلُّها ترجع إلى قول واحد في فروعها ، وإن كثر الخلاف ، كما أنَّها في أصولها كذلك ، ولا يصلح فيها غير ذلك " (2) .

2) إجماع العلماء على اعتبار هذه الطريق في الاستدلال .
قال الشوكاني : " ومن شروط الترجيح التي لابد من اعتبارها : أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول ؛ فإن أمكن ذلك تعيَّن المصير إليه ، ولم يجز المصير إلى الترجيح ، قال في المحصول : العمل بكلٍ منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه ، وترك الآخر . انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً " (3) .

وقال الشنقيطي : " … والمقرّر في علم الأصول وعلم الحديث أنَّه : إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعاً ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ؛ لأنَّهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنَّما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأنَّ إعمال الدليلين معاً أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " (4) .

3) من المعنى ، وهو ما عبَّر عنه العلامة أبو الوليد الباجي بقوله في الأخبار إذا اختلفت : " والحجّـة في ذلك أنَّ الخبرين إذا ثبتا جميعاً ليس أحدهما أولى من صاحبه ، ولا طريق إلى إسقاطهما ، ولا إلى إسقاط أحدهما ، وقد استويا وتقاوما وأمكن الاستعمال ؛ فلم يبق إلا التَّخَيُّر فيهما ، وإن كان كلُّ واحد منهما سدَّ مَسَدَّ الآخر ، وصار بمنزلة الكَفَّارة التي دخلها التخيُّر والله أعلم " (5).

ثم العملُ بها ظاهر في كتب أهل العلم المحققين من أهل الفقه والحديث ؛ بل ومن غيرهم ، لا يحتاج في إثباته أكثر من تَصَفُّحٍ سريع لأدلة المسائل التي تعدَّدَت فيها الروايات ؛ مما يؤكِّد حكاية الإجماع على هذه المسألة ؛ وهذا بعض كلام أهل العلم في تقريرها :

قال الإمام الشافعي : " وكلَّما احتمل حديثان أن يستعملا معاً استُعْمِلا معاً ، ولم يُعَطَّل واحدٌ منهما الآخر " ، ثم ذكر مثالاً لنوعٍ من الاختلاف الظاهري ، فقال : " ومنها ما يكون اختلافاً في الفعل من جهة أنَّ الأمرين مباحان " وذكر من أمثلته : تنوّع الحكم في الأسرى ، وقال : " فكان فيما وصفت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يمنّ عليه بلا شيْءٍ ، أو أن يفادي بمال يأخذه ، أو أن يفادي بأن يُطلق منهم على أن يُطلقَ له بعضَ أسرى المسلمين ؛ لا أنَّ بعض هذا ناسخٌ لبعض ، ولا مخالف له " (6).
وقرَّر ذلك وبيَّن وجهه في : الرسالة ، حيث قال : " فأمَّا المختلفـة التي لا دلالة على أيّها ناسخ ولا أيّها منسوخ ؛ فكلّ أمره مُتَوَفِّقُُ صحيح ، لا اختلاف فيه … ويسنُّ في الشيءِ سنة ، وفيما يخالفه أخرى ؛ فلا يُخَلِّصُ بعضُ السامعين بين اختلاف الحالين اللتينِ سنَّ فيهما . ويَسنُّ سنَّة في نصٍّ معناه ، فيحفظه حافظٌ ، ويسنُّ في معنىً يخالفه في معنىً و يجامعه في معنىً : سنَّةً غيرَها لاختلاف الحالين ، فيحفظُ غيرُه تلك السنَّة ؛ فإذا أدَّى كلٌّ ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافاً ، وليس منه شيءٌ مختلفٌ " ( 213-214) .

وقد نفى الإمام الطبري أن يكون الاختلاف في مثل ذلك مورداً من موارد النسخ ، وبيّن أنه من قبيل اختلاف الأحكام باختلاف المعاني ، الذي هو من الحكمة البالغة المفهومة عقلاً وفطرة ؛ حيث قال : " فإنَّما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة ؛ وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة ، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل " ( جامع البيان : 2/473) .

وبيَّن الحافظ الحازمي- بعد ذِكْرِهِ أنَّ من شروط النسخ كون الخطاب الناسخ متراخياً - أنَّ الخطابين المختلفين المتراخيين ، إن كانا متصلين فلا يسمى نسخاً ، ، وإن كانا منفصلين : " نظرت : هل يمكن الجمع بينهما أم لا ؟ فإن أمكن الجمع جمِعَ ؛ إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ؛ ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعمّ للفائدة كان أولى ؛ صوناً لكلامه عن النقض ؛ ولأنَّ في ادِّعاءِ النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد ، وهو على خلاف الأصل " (7).

وقال جمال الدين الإسنوي : " إذا تعـارض دليلان ، فالعمل بهما ولو من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكُلِّيـَّة ؛ لأنَّ الأصل في كلِّ واحدٍ منهما ، هو الإعمال" ( التمهيد في تخريج الفروع على الأصول :506) .

وقال ولي الله الدهلوي : " الأصل أن يعمل بكل حديث إلا أن يمتنع العمل بالجميع للتناقض ، وأنَّه ليس في الحقيقة اختلاف ، ولكن في نظرنا فقـط …" ، ثم ذكر طرائق للجمع ومنها : " أن يكون هناك علَّـة خفيـة توجب ، أو تحسِّن أحـد الفعلين في وقت ، والآخر في وقت ، أو توجب شيئـاً وقتاً وترخِّص وقتـاً ؛ فيجـب أن يُفحص عنها …" ( الحجة البالغة : 1/398) .

هذه بعض نصوص العلماء في تقرير هذه الطريق وهذه القاعدة في فهم نصوص الشارع ، وإليها يرجع الاختلاف بين الفقهاء في جملة من مسائل السياسة الشرعية عند التنظير والتطبيق ، من حيث ترتيب سلوكها وعدمه . (8)

مراعاة نوع التصرف النبوي

ومن أهم قواعد تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، قاعدة : مراعاة نوع التصرف النبوي .

تنزيل الأدلة على أحوالها المختلفة ، له قواعده المعتبرة ؛ من مثل النظر في أسباب نزول الآيات ، وأسباب ورود الأحاديث ، وما تتضمنه من الأدلة من قيود وأوصاف مؤثِّرة ؛ وهذه قواعد ووسائل ظاهرة ؛ لكن من القواعد - التي قد تخفى مع أهميتها في مباحث السياسة الشرعية - :

النظر في نوع التصرف النبوي ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتصرف بصفات عدَّة ؛ إذ هو الرسول ، وهو المفتي ، وهو الإمام ، وهو الحاكم ؛ ولكلِّ صفة منها خصائص استنباطية ؛ وعليه فلا بد من مراعاة معرفة نوع التصرف النبوي الذي يراد الاستنباط منه :

هل صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مُبَلِّغاً عن الله تعالى ، الذي هو مقتضى الرسالة ؟
أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه مفتياً ( يُنظر فوائد متعلقة بالمسألة في آخرها ) ، يخبر بالحكم الذي فهمه عن الله عز وجل ؟

أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته إماماً أعظم ، يسوس الأمَّة ؛ " لأنَّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامّة في الخلائق ، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد ، وقمع الجناة ، وقتل الطغاة ، وتوطين العباد في البلاد ، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" (9) ؛ فيقتدي به الخلفاء والأئمة في هذه التصرفات ؟

أو صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكماً ، يصدر أحكاماً قضائية ؟

هذه أسئلة ينبغي على الفقيه بعامة والفقيه السياسي بخاصة أن يراعيها عند نظره في الدليل الشرعي من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القرافي رحمه الله : " اعلم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام الأعظم ، والقاضي الأحكم ، والمفتي الأعلم ؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة ، وقاضي القضاة ، وعالم العلماء ؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته … غير أنَّ غالب تصرّفه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ ؛ لأنَّ وصف الرسالة غالب عليه ، ثم تقع تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - :

منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً [ كإبلاغ الصلوات ، وإقامتها ، وإقامة مناسك الحج ] (10) ،

ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالقضاء [ كإلزام أداء الديون ، وتسليم السلع ، وفسخ الأنكحة ] (11) ،

ومنها ما يُجمع النَّاس على أنَّه بالإمامة [ كإقطاع الأراضي ، وإقامة الحدود ، وإرسال الجيوش ] (12) ،

ومنها ما يختلف العلماء فيه [ كإحياء الموات ، والاختصاص بالسلب لمن قتل الحربي ] (13) ؛ لتردُّده بين رتبتين فصاعداً ، فمنهم من يُغلِّب عليه رتبة ، ومنهم من يُغَلِّب عليه أخرى .

ثم تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة ؛ فكان ما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة …

وكل ما تصرف فيه - عليه السلام - بوصف الإمامة ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليـه إلا بإذن الإمام … وما تصرف فيـه - صلى الله عليه وسلم - بوصف القضاء ، لا يجوز لأحد أن يُقدم عليه إلا بحكم حاكم … " (14) .

ومما يجب التنبّه له هنا ، أنَّ المسألة من أخطر مسائل الاستدلال ، وهذا أمر يدركه محققوا الفقهاء ولهم في التحقق منه ضوابط لا يتجاوزونها ، غير أنَّ بحث هذ المسألة في هذا العصر الذي كثر فيه المشغِّبون على شرع الله والمتهاونون في التثبت من سلامة طرقهم في الاستدلال - يقتضي التنبيه على أهم ضوابط هذه القاعدة عند العلماء ، وذلك بإيجازها في أمرين :

الأول : أنَّ جميع تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بجميع صفاته ، مما لم يثبت اختصاصه به صلى الله عليه وسلم ، فهي تشريع لأمته ، سواء منها ما كان عاما ككل ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بصفته مبلغاً ومفتياً ، أو ما كان خاصاً ، كالصادر عنه بصفة الإمامة العظمى والولاية أو الحكم والقضاء . وهذا أمر متقرِّر عند علماء الأمَّة.

الثاني : أنّ الأصل في تصرفاته صلى الله عليه وسلم ، هو الفتيا ، فلا يجوز قصر تصرف على وصف سواه ، إلا بدليل شرعي معتبر عند أهل العلم ، سواء كان دليلاً خاصاً أو إجماعاً ، كما في الأمثلة السابقة .

قال الشيخ العلامة المحقق سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله : في بيانه أمثلة قاعدة الشريعة في الحمل على الغالب والأغلب : " ومنها : أنَّ من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة ، ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كلِّ واحد من تلك الأسباب ، فإنَّه يُحمل على أغلبها .
فمن هذا تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والإمامة العظمى ، فإنَّه إمام الأئمة ، فإذا صدر منه تصرُّف ، حُمِل على أغلب تصرفاته ، وهي الإفتاء ، ما لم يدل دليل على خلافه . " (15) .

فهذه قاعدة مهمَّة جدّاً ؛ و قد نبَّه إلى مراعاتها عددٌ من المحققين من العلماء ، و بيَّنو بعض قواعد ضبطها (16) ؛ وإن كانت لا تزال في حاجة إلى دراسة تأصيلية أعمق ، وأضبط ؛ تعتمد استقراء التصرفات النبوية من مصادرها ، ثم إعمال النظر التأصيلي فيها .

فــوائد ذات صلــة :

الفائدة الأولى :
فرق القرافي رحمه الله بين التبليغ ( الرسالة ) والفتيا ، بـ: أنَّ الأوّل : تبليغ ونقل من الله تعالى إلى الخلق ، والثاني : إخبار عن حكم الله عز وجل بما يجده في الأدلَّة ؛ فهو كالفرق بين الرسالة والفتيا . (17)

الفائدة الثانية :
ولعل من أوائل من نصُّوا على ذلك في تقسيماتهم بوضوح ، الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي ، في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع (المشهور بصحيح ابن حبَّان) ؛ حيث ذكرها في خطبة كتابه ، ونصّ عليه بعدُ آخرون .
تنظر: مضمَّنة في: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان ، للأمير علاء الدين الفارسي؛ الفصل الثاني : 1/103-107، القسم الخامس من أقسام السنن ، الأنواع (3،11،27،36،38،40،42،45) .

ولعلّ من أكثر العلماء السابقين اهتماماً بتأصيل ذلك وتحريره والتنبيه إلى أهميته في فهم التشريع ، العلامة القرافي ولعلّه أفاد ذلك من شيخه العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى .

-----------------------------
(1) يبحث العلماء هذه الطريق تحت ما يعرف بـ( الجمع بين الأدلة ) ؛ و يذكرها آخرون في : مباحث الترجيح ، و مباحث النسخ ، وما يتعلق بذلك في علمي الأصول ، ومصطلح الحديث ، كما يتعرضون لها عند الجمع بين الأدلة في مسألة فقهية متفرعة عن هذه الطريق .
(2) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/59
(3) إرشاد الفحول : 2/ 381-382 . و ينظر : المحصول ، للرازي [ مع شرحه : نفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي ] : 8/3846 .
(4) أضواء البيان : 3/242 ، (الحج : 27)
(5) الإشارة في أصول الفقه أبو الوليد سليمان بن خلـف الباجي (ت/450) :251 ، ط2-1418 ، ت/ عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد عوض ، مكتبة نزار مصطفى الباز : مكة المكرَّمة . وهذا مقيَّـد بالنسبة للحاكم في إدارة الأمـور العامـة بالمصلحة ، كما هو معروف في قاعدة : " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ". ينظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي: 233 ؛ والمنثور في القواعد ، للزركشي : 1/309
(6) اختلاف الحديث ، ملحق بآخر كتاب " الأم " : 9/541 ، 551 ، ط1-1413 ، بتخريج وتعليق/ محمود مطرجي ، دار الكتب العلمية : بيروت .
(7) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ، للحازمي : 54 .
(8) ينظر مزيداً من بحث هذه المسألة - إضافة إلى المصادر السابقة - عدداً من الكتب ، من مثل : المستصفى ، للغزالي : 2/476 وما بعدها ؛ ونفائس الأصول ، للقرافي : 8/3846 وما بعدها ؛ و شرح الكوكب المنير ، لابن النجَّار : 4/609 ؛ والذخيرة ، للقرافي : 1/135 ؛ وتيسير التحرير ، لأمير باد شاه : 3/137 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 2/338 ، 349، وذكر ضمن ذلك أمثلة للجمع بين الأدلة ؛ وقواعد التفسير جمعاً ودراسة ، د. خالد بن عثمان السبت : 2/698، ط1-1417، دار ابن عفان : الخبر ، السعودية ؛ وجميع ما كتب في اختلاف الحديث ، ومن أواخر ما كتب في ذلك كتاب : مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ، د.نافذ حسين حمّاد ، ط1-1414 ، الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة . وفيه جمع حسن وبيان لقاعدة الجمع ، وبيان لشروطه ، وأنواعه من مثل : الجمع ببيان اختلاف مدلولي اللفظ والحال والمحل والأمر والنهي ، والعام والخاص بأقسامه والمطلق والمقيد
(9) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 105 .
(10) (11) (12) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 109 .
(13) ينظر : المصدر السابق : 109 ، 116 ؛ والفروق : 207-209 .
(14) الفروق : 1/206 .
(15)قواعد الأحكام في مصالح الأنام :2/244 .
(16) ينظر في بيان هذه القاعدة : المصدر السابق ؛ والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : السؤال الخامس والعشرون – ولا سيما – ص : 108 وما بعدها ؛ والفروق ، له : الفرق السادس والثلاثون : 1/205-209 ؛ وإدرار الشروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط (ت/723) [ بهامش الفروق ] : 1/206-207 ؛ و زاد المعاد ، لابن القيم : 3/490-491 ؛ و حكم الجاهلية ، للشيخ/ أحمد بن محمد شاكر (ت/1377) : 129-130، ط1-1412، عناية/ محمود شاكر ، مكتبة السنة : القاهرة ؛ وتعليق الشيخ/ أحمد شاكر على : الرسالة ، للشافعي : 240-242 ، بتحقيقه .
(17) ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي : 99-100 .

أسس السياسة الشرعية
(7)
قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم

د. سعد بن مطر العتيبي

قاعدة : الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم .

هذه القاعدة تجمع أصلين :

الأول : الأصل في المنافع الإباحة .

والمراد به : أنّ المنافع (1) التي لم يرد بشأنها دليل من الشارع ؛ فالقـاعدة في حكمها : الإباحة ؛ حتّى يثبت خلافها الذي هو المنع.

قال إمام الحرمين الجويني : " فما لم يُعلَم فيه تحريم يجري على حكم الحِلِّ ؛ والسبب فيه أنَّه لا يثبت لله حكمٌ على المكلفين غير مستند إلى دليل ؛ فإذا انتفى دليل التحريم ثَمَّ ، استحال الحكم به " (2) .

وقال : " من الأصول التي آل إليها مجامع الكلام أنَّه إذا لم يُسْتَيْقَن حجرٌ أو حظرٌ من الشارع في شيءٍ ؛ فلا يثبت فيه تحريم في خلو الزمان " (3) .

وقال أبو العباس ابن تيمية : " وأمَّا العادات فهي ما اعتاده النَّاس في دنياهم مما يحتاجون إليه ؛ والأصل فيها عدم الحظر ؛ فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى … والعادات الأصل فيها العفو ؛ فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه وإلا لدخلنا في قول الله تعالى : {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا} … " (4) .

حجية الاستدلال بهذا الأصل :

استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :

1- قول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [ المائدة :4] قالوا : إذ ليس المراد بالطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً ، وذلك يقتضي حلّ المنافع بأسرها (5) .

2- وقوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [سورة البقرة : 29] ؛ حيث إنَّ الله عز وجل ذكر ذلك في معرض الامتنان ، ولا يمتن إلا بالجائز ، واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة (6).

3- وقوله سبحانه : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام : 145] ؛ حيث جعل الله عز وجل الأصل الإباحة ، والتحريمَ مستثنى منه (7) .

وتأمل استدلال أبي العباس ابن تيمية رحمه الله بآية يونس في النقل عنه أعلاه ، فما ألطفه من استدلال !

4- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ )) (8) ؛ حيث ربط صلى الله عليه وسلم التحريم بالمسألة ، ومقتضاه أنَّه كان مباحاً قبل ذلك (9).

5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( مَا أَحَلَّ اللهُ في كِتَابِهِ فَهو حَلالٌ ، وَ مَا حَرَّمَ فهو حرَامٌ ، وَ ما سَكَتَ عنهُ فهو عَفْوٌ ، فَاقبَلُوا من اللهِ عافِيَتَه ، فَإنَّ اللهَ لم يكنْ لِيَنْسى شَيْئاً )) وتلى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] (10) ؛ إذ هو صريح في العفو عمَّا سُكِتَ عنه ، و المعفو عنه هو ما لا حرج في فعله ، وما لا حرج في فعله هو المباح ، وهو محمول على المنافع لا على غيرها ؛ لأنَّ المضار ورد بِشأنها ما يدلُّ على تحريمها مطلقاً ، كما سيأتي في الاستدلال للشطر الثاني من هذه الطريق (11) .

والثاني : الأصل في المضارّ التحريم .

وقد يعبر بـ( ـالمنع ) أو ( الحظر ) بدل ( التحريم ) .

والمراد به : أنَّ ما لم يرد بشأنه دليل من الشارع من المضار فالقاعدة في حكمه ، التحريم (12) ؛ حتى يثبت خلافه .

قال القرافي : " الأصل في المنافع : الإذن ، وفي المضار المنع ، بأدلة السمع " (13) .

وقال الإسنوي : " وأمَّا بعد الشرع ؛ فمقتضى الأدلة الشرعية أن الأصل في المنافع الإباحة … وفي المضار – أي مؤلمات القلوب – هو التحريم " (14) .

حجية الاستدلال بهذا الأصل :

استُدِلَّ لهذا الأصل بأدلة كثيرة ، منها :

1- جميـع الآيـات التي دلَّت على تحريـم الضـرر ومنعـه ؛ من مثل قـول الله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة :233] ، وقوله سبحانه : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [البقرة:231] ، وقوله تعالى : {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة :282] ، وقوله سبحانه : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } [النساء : 12] ، وقوله تعالى : {وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } [الطلاق :6] ، وقوله تعالى : } وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف : 56] ؛ فهي وإن كانت في قضايا جزئية إلا أنَّ استقراءها يدل على قصد الشارع تحريم كلَّ أنواع الضرر ، ويفيد ذلك أصلاً كلياً يُرجع إليه في كلِّ ما كان من هذا القبيل (15) .

2- قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ضَرَرَ و لا ضِرَار )) (16) ؛ فإنَّه دالٌّ على نفي الضرر مطلقاً ؛ لأنَّه جاء نكرةً في سياق النفي ، والنَّكرة في سياق النفي تعم (17) ؛ قال الزرقاني : " فيه تحريم جميع أنواع الضرر إلا بدليل " (18) .

وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن سنة الخلفاء الراشدين ، وهي ختام محور أسس السياسة الشرعية وأهم طرق استنباطها التي ينبغي بيانها وتقريبها لمن رام تمييز السياسة الشرعية عن غيرها من السياسات .

----------------------------------
(1) وقد يعبر عنها بـ " العادات " ؛ لتكون في مقابل العبادات ، إذ الأصل فيها التوقيف .
(2) غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 490 ، وينظر : 502 .
(3) المصدر السابق : 509-510 .
(4) القواعد النورانية الفقهية : 176 ، ط1-1416 ، طبعة دار الفتح : الشارقة .
(5) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 ؛ و رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 396
(6) الإمام في بيان أدلّة الأحكام ، لابن عبد السلام : 86 ، 173 ؛ والمصدرين السابقين .
(7) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411 .
(8) رواه البخاري : ك/ الاعتصـام بالكتـاب والسنَّة ، ب/ ما يُكره من كثرة السُّؤال ، ومن تكلُّف ما لا يعنيه وقولـه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [المائدة :101] ، ح(7289) ؛ ورواه مسلم : ك/ الفضائل ، ب/ توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار السؤال عمَّا لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك ، ح(2358) واللفظ له .
(9) إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/411-412 ؛ ورفـع الحـرج في الشريعـة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 399.
(10) رواه البزار - كما في - كشف الأستار عن زوائد البزار ، لنور الدين الهيثمي : 1/78، ح(123) و 3/58 ، ح(2231) ، ط2-1404، ت/حبيب الرحمن الأعظمي ، مؤسسة الرسالة : بيروت – ؛ والحاكم : 2/375 ؛ والدار قطني في السنن [ مع التعليق المغني ] : 2/137، ط- فالكون ، حديث أكادمي : لاهور ؛ والبيهقي في السنن الكبرى : 10/12 ؛ وغيرهم .
(11) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 398 ، وقد استَدَلَّ بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّه قال : (( الْحَلالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَـتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّـا عَفَـا عَنْهُ )) وهـذا حديث فيه مقال ، ويغني عنه الحديث المذكور هنا بمعناه ؛ وينظر : العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي ، منيب بن محمود شاكر : 112 .
(12) ينظر : إرشاد الفحول ، للشوكاني : 2/409 ؛ و المصدر السابق : 393-394 .
(13) الذخيرة : 1/151 .
(14) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول : 487 .
(15) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د. يعقوب الباحسين : 406 .
(16) رواه ابن ماجه : ك/ الأحكام ، ب/ من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره ، ح(2340) ؛ وغيره .
درجته : صححه الحاكم ، ولم يتعقبه الذهبي (المستدرك : 2/58) ؛ وقال ابن الصلاح : " هذا الحديث أسنده الدار قطني من وجوه ، و مجموعها يقوِّي الحديث ويُحَسِّنه ، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به " . ذكره عنه ابن رجب ، في : جامع العلوم والحكم : 2/211 ؛ وقال النووي : " له طرق يقوي بعضها بعضا " . الأربعين النووية [مع جامع العلوم والحكم ] : 2/207 ؛ وقال العلائي : " للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به " . ذكره عنه المناوي ، في : فيض القدير :6/432 ، دار الفكر : بيروت ؛ وأكد ابن رجب قول النووي السابق (جامع العلوم والحكم :2/210) ؛ ومن المعاصرين قال الشيخ أحمد شاكر : " وخلاصة القول أنا نرى أنَّ حديث أبي سعيد ، حديث صحيح ، والروايات الأخرى شواهد له ، تقوي القول بصحته ، والله أعلم " . تحقيقه لكتاب : الخراج ، ليحيى بن آدم (ت/203) : 95 [ آخر الحاشية (3) من ص : 93] ، ط2، تحقيق وشرح وفهرسة / أحمد محمد شاكر ، مكتبة دار التراث : القاهرة ؛ وصححه الألباني في أكثر من موضع من كتبه ( إرواء الغليل : 3/408) ح(896) .
(17) ينظر : التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ، للإسنوي : 487 .
(18) شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4/32 .

أسس السياسة الشرعية
(8)
اتباع سنة الخلفاء الراشدين

د. سعد بن مطر العتيبي

طريق الاستدلال باتِّبَاعُ سُنَّة الخُلَفَاءْ الراشدين

ومن أسس السياسة الشرعية اتِّباع سنة الخلفاء الراشدين فيها ، وهو طريق مهم من جهة اتباعهم في الجزئيات وفي طريقة النظر الفقهي المضبوط بحماية المقاصد الشرعية .

والمراد بالخلفاء الراشدين : الخلفاء الأُول الأربعة : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين .

فهم المعنيّون عند جماهير العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي … )) " ؛ بل قد حكى الإجماع على ذلك ، ودلَّل عليه غير واحد من العلماء المحققين (1) .

والمراد بسنَّة الخلفاء الراشدين : ما أفتى به وسنَّه الخلفاءُ الراشدون أو أحدُهم ؛ للأمَّة ، وجمعوا الناس عليه ، ولم يخالف نصّاً ، وإن لم يتقدم من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ . ذكره ابن القيم رحمه الله في معرض استدلاله للاحتجاج بأقوال الصحابة ، والخلفاء الأربعة هم صفوة الصفوة رضي الله عنهم أجمعين (2) ؛ وهذه المسألة أخص ؛ وهي من باب أولى .

فهذا يُتَّبع الخلفاء فيه متى تحقق مناطه ، وإن خالف فيه بعض الصحابة باجتهاد ؛ فقد أقرَّ الصحابة بعضهم بعضاً في مسائل تنازعوا فيها ولم يعنف بعضهم بعضاً بها ، قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : " وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها ، على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم ؛ كمسائل في العبادات ، و المناكح ، والمواريث والعطاء ، والسياسة وغير ذلك ... وهم الأئمة الذين ثبت النص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم " (3) .
أمَّا مَا سنَّه الخلفاء الراشدون ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ؛ فهذا من مسائل الإجماع . قال أبو العباس ابن تيمية : " والذي لا ريب فيه أنَّه حجة : ما كان من سنَّة الخلفاء الراشدين الذي سنُّوه للمسلمين ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ؛ فهذا لا ريب أنَّه حجَّة ؛ بل إجماع . وقد دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي … )) " (4) .

ومما يحسن التنبيه إليه أنَّ عمل الخلفاء الراشدين يعدّ من مرجحات معاني المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم فيه (5) .

-ويدل على حجيَّة الأخذ بسنَّة الخلفاء الراشدين أدلَّة ، منها :
1) قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )) رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم . و صححه جمع من أهل العلم ، منهم الترمذي ، والبزار ، والحاكم (6) .

فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرن سنة خلفائه الراشدين بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وأنَّ سنتهم في طلب الاتباع كسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم ، " وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأنَّ يُعض عليها بالنواجذ ؛ وهذا يتناول ما أفتى به جميعهم ، أو أكثرهم ، أو بعضهم ؛ لأنَّه علّق ذلك بما سَنَّه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنَّهم لم يسنُّوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد ؛ فعلم أنَّ ما سنَّهُ كل واحد منهم في وقته فهو من سنَّة الخلفاء الراشدين " قاله ابن القيم رحمه الله (7) ؛ ولو خالفه غيره من الصحابة كان المصير إلى قوله أولى ،كما قال الخطابي رحمه الله (8) .

2) قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ )) رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم . ففي هذا الحديث أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما - زيادة تأكيد على ما في سابقه من الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .

3) أنَّ رأيهم أقوى من رأي غيرهم ؛ لأنهم شاهدوا طريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان أحكام الحوادث ، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص ، والمحال التي تتغير باعتبارها الأحكام ؛ فبهذه الأحوال يترجّح رأيهم على رأي من لم يشاهدوا شيئاً من ذلك (9) ؛ وهم أعرف بالمقاصد ؛ فهم القدوة في فهم الشريعة وما يجري على مقاصدها (10) .

هذه جملة مختصرة في بيان هذه الطريق ، التي هي من طرائق الاستدلال المهمَّة في مجال السياسة الشرعية ؛ وهي أخصّ من مسألة الأخذ بقول الصحابي التي كثر كلام الأصوليين فيها .

بخلاف هذه المسألة ، مع تخصيص بعضهم لشواهدها ، من مثل حمل بعض الأصوليين تولية عثمان بن عفان رضي الله عنه بشرط اتباع سيرة الخلفاء الراشدين بقوله : " المراد متابعته في السيرة والسياسة ".
وظاهر الأدلة أنَّ المراد أعم من ذلك كما سبق بيانه ، والله تعالى أعلم .

--------------------------
(1) ينظر : عارضة الأحوذي ، لأبي بكر ابن العربي : 10/146 ؛ وإجمال الإصابة في أقوال الصحابة ، للعلائي : 49 ؛ وشرح الطيبي :1/330 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/122 ؛ ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، لملا علي القاري : 1/109 ؛ و سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :98 ، جامعة محمد الخامس بالمغرب .
(2) ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/176 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/ 123- 126 ؛ و سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :98 ، وما بعدها .. وينظر : تحرير مسألة حجية قول الصحابي في كتب الأصول ، ومن أجمع ما كتب في ذلك كتاب : الصحابي وموقف العلماء من الاحتجاج بقوله ، لشيخنا / د. عبد الرحمن بن عبد الله الدرويش .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 19/122-123 .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/573-574 .
(5) ينظر : سنة الخلفاء الراشدين – بحث في المفهوم والحجية ، لزيد بو شعراء :306 .
(6) قال الحاكم : " وقد استقصيت في تصحيح هذا الحديث بعض الاستقصاء على ما أدى إليه اجتهادي … وقد صحّ هذا الحديث والحمد لله " (المستدرك :1/96-98) ؛ وينظر : جامع العلوم والحكم ، لابن رجب : 2/109 ؛ و إرواء الغليل ، للألباني : 8/107 .
(7) إعلام الموقعين : 4/176 ؛ وينظر : الاعتصام ، للشاطبي :1/87-88 ؛ والموافقات ، له : 4/290-293،449 ؛ وإجمال الإصابة في أقوال الصحابـة ، للعلائي :49-50 ؛ وجامع العلوم والحكم ، لابـن رجب : 2/120-121 ؛ وكشف الأسرار ، للبخاري : 3/407 ، 414 .
(8) معالم السنن : 7/12 ، بحاشية مختصر سنن أبي دواد ، للمنذري ؛ وينظر : شرح السنـة ، للبغوي :1/207 ؛ وتهذيب سنن أبي داود ، لابن قيم الجوزية : 7/12، بحاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري .
(9) ينظر : أصول السرخسي : 2/108 .
(10) ينظر : روضة الناظر ، لابن قدامة : 1/405 ؛ والموافقات ، للشاطبي : 4/132-133، 293، 409 ؛ وينظر لمزيد الفائدة : عصر الخلافة الراشدة ، لأكرم ضياء العمري :82-85 .

مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة
(1)
من حيث الموضوعات

د. سعد بن مطر العتيبي

بعد أن انتهى الحديث عن محور مدلول السياسة الشرعية ، ثم محور أسسها ( وهو محور اكتفيت فيه بما أراه أهم من غيره ) - يبدأ الحديث الآن عن المحور الثالث ، وهو : مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها ، وهو الجانب التطبيقي في الموضوع :

وسيكون – إن شاء الله تعالى - في مقالات :

المقالة الأولى : مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث الموضوعات (1)

لا يكاد يخرج عن مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، من حيث موضوعاتها فرع من فروع القانون المعاصر ، وأوجز بيان مجال السياسة الشرعية من حيث الموضوعات فيما يلي :

المجال الأول :
الولاية العامّة وما يتفرع عنها من شؤون الحكم ، وإدارته ، وإجراءات تطبيقه ، وآليات تنفيذه ، ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام : ( نظام الحكم في الإسلام ) ، و ( النظام الإداري الإسلامي ) وهو فن مستقل عن سابقه .

وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( القانون الدستوري ) وما يعرف بـ(القانون الإداري) - وهو مستقل عن سابقه في الحقيقة والتصنيف القانوني الوضعي - ؛ إضافة إلى ما يعرف بعلم السياسية وعلم الإدارة .

المجال الثاني :
الشؤون المالية في الدولة ، وما يشرع لولي الأمر سلوكه في إدارة بيت المال ، موارده ومصارفه ، وما يتعلق بذلك من إجراءات تنظيم بيت المال ، وطرائق جباية الأموال إليه وصرفها منه وآليات تنفيذ أحكامها ، ونحو ذلك ، ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام : ( النظام المالي في الإسلام ) .
وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( القانون المالي ) .

المجال الثالث :
الشؤون المالية العامّة ، من حيث تنظيم التداول ، والاستثمار ، وقيم النقود وسبل رفعها والمحافظة عليها ، وما تقتضيه المصلحة الشرعية من تقييد الحاكم لبعض التعاملات المالية ، وما يُسْتَحْدث في ذلك من نظم مشروعة نافعة ؛ و من مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام : ( السياسة الاقتصادية في الإسلام ) ، و( المعاملات المالية العاصرة ) .
وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( القانون التجاري ) .

المجال الرابع :
الشؤون القضائية ، وما يتعلق بها من تنظيمات ، وطرائق إثبات ، ونحوها ؛ ومن مصطلحاتها العصرية : ( السياسة القضائية في الإسلام ) و ( علم القضاء ) وفروعها .
وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( قانون المرافعات ) وما يعرف بقوانين الإجراءات .

المجال الخامس :
الشؤون الجنائية والجزائية ، من حيث تنظيم إجراءات تنفيذ ما يثبت من أحكام مقدَّرة شرعاً أو تقدير جزاءات شرعية ملائمة لما يرتكب من جرائم تقتضي التعزير شرعاً ؛ ومن مصطلحاتها العصرية : ( النظام الجنائي في الإسلام ) ، و ( التشريع الجنائي الإسلامي ) .
وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( القانون الجنائي ) .

المجال السادس :
الشؤون المتعلقة بالسِّيَر ( العلائق الدولية ) - من شؤون الأمن ، والسلم ، والحرب ؛ ومن مصطلحاتها العصرية : ( النظام الدولي في الإسلام ) ، و ( العلاقات الدولية في الإسلام ) ، ونحوها .
وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ ( القانون الدولي العام) ، و ( القانون الدولي الخاص ) .

وهناك موضوعات أخرى وتفاصيل ، هي عند التأمُّل داخلة في بعض هذه الموضوعات ، وإن أُفردت عند البحث ؛ من مثل ما يُعرف بـ( الأحوال الشخصية ) ؛ إذ إنَّ ما يستند إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة منها راجع إلى الشؤون القضائية أو الشؤون الجنائية والجزائية ، أو مشترَك بينها . وكذلك ما يعرف بـ( النظام الإداري ) ؛ فإنَّه داخل في شؤون الحكم ، والشؤون المالية بفروعها . ولكني أردت تقريب الصورة للقاريء الكريم فذكرت بعضها فيما هو الأقرب إليه .

----------------------------
(1) ينظر على سبيل المثال : السياسة الشرعية والفقه الإسلامي ، للشيخ عبد الرحمن تاج : 7-8 ؛ ونظام الحكم في الإسلام ، للشيخ عبد العال عطوه : 13-14 ؛ والمدخل إلى السياسة الشرعية ، له : 33 وما بعدها ؛ و محتوى : مصنفة النظم الإسلامية الدستورية والدولية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية ، لد. مصفطى كمال وصفي ، حيث وصف جلَّ هذه الموضوعات .

مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة
(2)
من حيث المسائل والأحكام

د. سعد بن مطر العتيبي

(1)
المقالة الثانية :
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكام (1)

مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث مسائلها لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التَّغَيّر لبنائها على مناط متغيِّر يتغيَّر الحكم الشرعي لمسألته تبعاً لتغيِّر المناط .
وعليه ، فلا يدخل في مجالات إعمال السياسة الشرعية ما يُعرف بالثوابت في ذاتها ، التي منها ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العقدية ، كالإيمان بالله ووحدانيته والإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتصديقهم ، والإيمان بالكتب والملائكة ، والإيمان باليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشرِّه ، وتحريم الشرك ، وتحريم موالاة الكفَّار ؛ فهذه وأمثالها ثوابت في الدِّين لا يمكن أن تتغير ، وكذا " الأحكام الشرعية التي تتضمن قواعد هذا الدِّين وأسسه ، والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ، والأحكام التي تحث على الأخلاق والفضائل ، بل وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تُبن على العرف أو المصلحة أو التي لم تُناط بعلة أو التي لم تصحبها ضرورة ؛ فإنَّها ثابتة ولا يصح جعلها محلّ نظر وتغيير " (2) .

و الجوانب العملية في الشرعيات ليست على إطلاقها ، بل هي من الأمور المتشعِّبة المتشابكة التي تتطلب استقراءً لمسائلها ليصدق ضبطها ضبطا دقيقا يقرِّب فقه السياسة الشرعية فيها لطالب العالم تقريباً يعينه في تطبيقها ؛ وإنما هذه خطوط عريضة في بيان مجالات السياسة الشرعية من حيث المسائل والأحكام ، مع شيءٍ من ضبط هذه المجالات ؛ فيُقال :
المسائل الفقهية من حيث دخولها تحت السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، وعدمه ، تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يختص به أولو الأمـر ، وليس داخلاً في تدبيرهم بالولاية .
ومجال هذا القسم : الأحكام التي أنيطت وربطت بأسبابٍ متى وُجِدَت وُجِدَت هذه الأحكام ، دون تعلق بالولاية ، فهذا القسم ليس مختصّاً بأولي الأمر ؛ إذ إنَّه يتبع سببه الشرعي (3) ، فمتى وُجِدَ السبب وُجِدَ الحكم ، كإقام الصلاة ، وإيتاء ما يجب في الأموال من زكاة . ويتجلَّى هذا الأصل في عامَّة المسائل التي توصف بالثوابت كالعبادات ، وأصول الأخلاق والآداب الشرعيَّة وما في معناها .

وهذا القسم ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، التي هي من تدبير أولي الأمر وتصرفاتهم المنوطة بالمصلحة الشرعية .

تنبيه :
لا يدخل في هذا القسم ما يتعلق بإطلاق ولي الأمر الشرعي ( قاضيا شرعيا أو مفتياً خبيرا ) وصفاً عقدياً يترتب عليه أحكام عملية للموصوف به في ذاته أو في علاقته بغيره أو علاقة غيره به ، فقد يوجد فيها جوانب عملية تتطلب حكماً شرعياً سياسياً ، ومنها ما يعرف اليوم بأسس التعايش السلمي في المجتمعات وكذلك ما يناقضه ، ولعله يتضح بالمثال في حينه إن شاء الله تعالى ، وإنما أشرت إليه هنا لأهمية استحضاره .

القسم الثاني : ما كان موكولاً إلى تدبيـر أولي الأمـر .
ويتجلَّى هذا القسم في المسائل التي تتوفر فيها الأسباب والأوصاف التالية ، أو بعضها (4) :

1) أن تكون هذه المسائل مما يحتاج إلى نظر وتحرير ، وبَذْل جُهدٍ من عالم بصير ، حَكمٍ عَدْلٍ ، في تحقيق أسبابها ، ومقدار مسبَّباتها ؛ كالتعزيرات ؛ فإنَّها تفتقر إلى تحرير في مقدار الجناية وحال المجني عليه ، حتى تقع المؤاخذةُ على وفق ذلك من غير حيف ؛ وهكذا جميع ما وُكِلَ تقديره إلى اجتهاد الأئمة والحكَّام ، ومن في حكمهم .

2) أن تكون مما يفضي تفويضه لجميع الناس إلى الفتن و الشحناء ، والقتل والقتال ، وفساد النفس والمال ؛ كإقامة الحدود ، فمع " أنَّها منضبطة في أنفسها ، لا تفتقر إلى تحرير مقاديرها ، غير أنَّها لو فُوِّضت لجميع الناس ، فبادر العامة لجلد الزناة ، وقطع العُداة بالسرقة وغيرها ، اشتدَّت الحَمِيَّات ، وثارت الأَنَفَات ، وغَضِبَ ذوو المُروءات ، فانتشرت الفِتَنُ ، وعَظُمت الإحَنُ ؛ فحسم الشرعُ هذه المادَّة وفَوَّض هذه الأُمورَ لولاةِ الأمور ، فأذعن الناس لهم ، وأجابوا طوعاً وكرهاً ، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة " (5) ، وجباية الجزية ، وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها (6) .

3) أن تكون مما قَوِيَ الخلاف فيه مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق ؛ أو تقاربت فيه المدارك ، وكان النِّزاع فيه في أمر دنيوي ؛ كالأملاك و الرهون والعقود وغيرها ؛ فهذا مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ الحَاكِم - و إنشاء حكم من هذا القبيل ليس لكل من ولي ولاية ؛ قال العلامة القرافي : " لا خلاف بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكلّ أحد ، بل إنَّما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وهو ولاية خاصَّة ، ليس كل الولاية تفيد ذلك " ؛ ثم سرد رتب الولايات وبيَّن أحكامها ، وأنَّ من رتب الولايات التي يدخل فيها هذا النوع من الأحكام : الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء - (7)؛ فإذا حكم فيها حُكماً مما يقبله ذلك المحلُّ تعين فيه ؛ فلم يُنقض ، ولزم الإذعان إليه (8)؛ لمصلحة الحكم ؛ " لأنَّ الأحكام لو نُقِضت بالاجتهاد لَمَا استقرَّ حكم ؛ لأنَّ القضاة لو نقضوا الحكم بالاجتهاد لأدَّى ذلك إلى أن ينقض كلُّ حاكم حكمَ من قبله ، ويفضي ذلك إلى تضرُّر المحكوم لـه ، والمحكوم عليه ؛ لأنَّه يُنْزَعُ الحق من أحدهما ، ويُعطى الآخر ، ثم يُنزع من الآخر و يُعطاه غريمه ، ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية لـه ، ولا يخفى ما فيه من الفساد " (9) ؛ سواء كان ذلك بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر ؛ كما يلزم من ذلك اضطراب الأحكام و عدم وثوق الناس بحكم الحاكم ؛ فتفوت المصلحة التي نُصب الحاكم لأجلها ، ولا تُفصل الخصومات (10) .

4) أن تكون مما يُشرع نقضه من تصرفات الولاة والحكَّام ، وهي المسائل التي صدرت عن حكم قضائيٍ مخالفٍ لما يوجِبُ نقضَه ، من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ (11)؛ أو التي لم تصدر عن حكم قضائيٍ ، ويسوغ لغيرهم من الولاة والحكام النظر فيها ونقضها أو تغييرها ؛ للمصلحة الشرعية ، لا لمجرد التشهي والغرض ، ومن أمثلة ذلك (12) :
- تولية النوَّاب في الأحكام ، و تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا وغير ذلك من الولايات .
- و الصرف من بيت المال وتقدير مقاديره في كل عطاء ، في الأرزاق للقضاة والعلماء وأئمة الصلاة ، وفي أجور موظفي الدولة عموماً .
- وتقدير الخراج على الأرضين ، و ما يؤخذ من التجار الأجانب غير المسلمين .
- واتخاذ الأحمية (13)، من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين .
- وعقد الصلح بين المسلمين والكفار .
فهذا كلُّه ؛ لمنْ تصرَّف به ولغيرِ مَنْ تَصَرف به أو قرَّره أو عقْده من الولاة أن يعيد النظر في السبب المقتضي لذلك هل يقتضيه فيبقيه ، أو لا فغيره أو ينقضه ويبطله . وهذا كله مقيد بقاعدة : (تصرف الولاة على الرعية منوط بالمصلحة ) ؛ " فإنَّ كـل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحلّ له أن يتصرف ، إلا بجلـب مصلحة أو درء مفسدة " (14). فهذه الأسباب تكاد تكون ضوابط ، لما هو موكولٌ إلى تدبير الحكام و ولاة الأمور ؛ بل ذكر القرافي أنَّ ما اشتمل على أحد الأسباب الثلاثة الأولى ، أو اثنين منها ، صار مفتقراً للحاكم إجماعاً ؛ فإذا لم يوجد شيءٌ منها تَبِعَ حُكْمُ المسألة سَبَبَهُ الشرعي كالقسم الأول ، حَكَمَ به حاكم أو لا (15) .

والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم – الذي وُكِل تنفيذه إلى أولي الأمر - أنواع ، يأتي بيانها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

(2)

والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم - أعني الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه غيرهم - أنواع :

النـوع الأول :
مسائل شرعت أحكامها ثابتة لازمة ، لا تتغير عن حالة واحدة ؛ فلا تختلف أحكامها باختلاف الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة .

وهذا النوع ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ( المتغير ) ؛ إذْ ليس أمام أولي الأمر في هذا النوع سوى الحكم به كما ورد ، واجتهاد أولي الأمر فيه يقتصر على صحة التطبيق ، الذي هو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور و الوقائع ، المعروف بـ( تحقيـق المناط ) (16) .

ويتجلَّى هذا النوع فيما ليس معلَّلاً من الأحكام من العادات والمقدَّرَات ( و ما يدخله تدبير أُولي الأمر منها ، فعلى سبيل التبع والتضمُّن ) (17) ؛ ومنه مقادير الزكاة ، وتعيُّن الحدود المقدرة على الجرائم كما هي ، ونحو ذلك ، ويدخل فيه كثير من الأحكام التي يتعين القضاء بها عند ثبوت أسبابها .

النـوع الثاني : أحكام جزئية ، شرعت أو استنبطت لمسائل يتغير مناط الحكم فيها بحسب اقتضاء المصلحة ، زمانا ومكانا وحالا ؛ سواء كان هذا المناط عُرفاً أو علَّة مُتَغيِّرَة ، أو نحو ذلك ؛ وتتجلَّى مسائل هذا النوع في الأحكام المعلَّلة أو التي تقبل التعليل (18) .

ومسائل هذا النوع مندرجة تحت السياسة الشرعية ؛ وهي على أضـرب :

الضـرب الأول : مسائل ثبتت أحكامُها بنصٍّ أو إجماع أو قياس أو استدلال معتبر ؛ لكن من شأنها ألا تبقى على حال ؛ ومن ثم يتغير الحكمُ فيها ، تبعا لتغير مناطه من حال إلى حال ، لا تغيراً في أصل الحكم ؛ بحيث يرى المجتهد أن الحكم تغيَّر في تلك المسائل تبعاً لذلك ؛ فيحكم بحكم يستلزمه هذا التغيُّر ؛ فالحكم الثاني هنا يُسمَّى سياسة شرعية (19) .

وهذا الضرب له صور ، تتعدد بتعدد أسباب تغير الحكم المعتبرة ، و منها :

- تغيَر العرف الذي جاء التشريع موافقاً له . ومنه : إخراج زكاة الفطر في كل بلد من قوت أهلُها ؛ و لا يلزم إخراجها من قوت أهل المدينة النبوية تقيّداً بما ورد ، من تكليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ المدينة بإخراجها من : التمر والشعير والأقط والزبيب (20) ؛ " لأنَّ هذا كان قوت أهل المدينة ، ولو كان هذا ليس قوتهم بل كانوا يقتاتون غيره ، لم يُكَلِّفهم أن يُخرجوا مما لا يقتاتونه ؛ كما لم يأمر الله عز وجل بذلك في الكفَّارات …" (21) .

وقد تقدم ذكر الكلام في حرمة الفتوى على من لم يعرف حال المستفتي وعرف مجتمعه .

- زوال المصلحة التي جاء الحكم معلَّلاً بها . ومنه : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس في ادَّخَارِ لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، بعد نهيهم عن ذلك وأمرهم بالتصدق بما بقي ؛ فإنَّه لما كان العام الذي يليه ، ( قالوا : يا رسولَ الله نفْعَلُ كما فعَلْنا العَامَ الْمَاضِي ؟ ) ، قَالَ : (( كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا )) (22) ، وفي رواية : (( إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا )) (23) ؛ حيث بين أنَّ الحكم الأول قد تغيَّر من المنع إلى الإذن ؛ بزوال علَّة النهي (24) .

- تغير الحال التي قُيِّد الحكم بها . ومنه : الإذن بقتال الكفَّار في العهد المدني ، دون العهد المكي على اختلاف أحواله ، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلافُ الأحوال ، لا وجودُ ناسخ ومنسوخ بينها ، فهي من هذا القبيل .

وهو أخطر مجالات السياسة الشرعية فيما ورد فيه أكثر من حكمٍ بدليل نصي جزئي . فنحن نرى العلماء الربانيين الذين يشهد لهم من يعرفهم من الأمة بالصدق والإخلاص والديانة وسعة الأفق الفقهي والتجربة في ميدان العمل الدعوي ، المطلعين على أحوال الأمة - نجدهم يفتون بمشروعية الجهاد بالسنان في مكان وزمان ويمنعونه في آخر موجهين الخيار المناسب من خيارات جهاد القلم والبيان ، ونحن أيضاً نرى العلماء الربانيين يحكمون على قاتلِ كافر بأن له أحكام الشهيد ، وعلى قاتل كافر آخر بأنه عمله يُعدّ من الأعمال التي تجرِّمها الشريعة الإسلامية ويفتون الأمة بدعم المجاهدين والمرابطين في مكان ويحرمون دعم آخرين ويجرِّمون التعاون معهم بأي وسيلة !

وإذا قرأنا كليات الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار من السابقين واللاحقين ، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم . وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها : الواقعية الشرعية .

ولعلّ من المناسب إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك في قضية يعد الخطأ في فهمها من أخطر قضايا العصر على أهل الإسلام (25) ، وعرض ذلك بلغة عصرية تُقرٍِّب المراد ، ولا سيما أنّ بعض مسائل هذا الضرب صارت مثار جدلٍ بين فئات جافية التي تلوي أعناق النصوص جهلاً أو تهرباً ، أو لا تقيم لها وزنا وتتستر خلف دعوى تجديد الخطاب الديني في تحريفها أو سوء فهم أصحابها على أحسن حال ؛ وأخرى غالية تجاوزت المشروع بتطبيق النصوص على غير مواردها فأخذت بعضها وأولت الآخر أو ادعت نسخه ، وكلا الفئتين - بغض النظر عن النوايا - قد عانت منها الأمة بعدا عن منهاج ربها ، فجلبت الأولى إلى نفسها وإلى الأمة شقاء البعد عن الله ، وعانت الأخيرة من الشقاء الفقهي وجلبته إلى الأمة ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) .

وهذا هو موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى تحت عنوان :
تطبيق السياسة الشرعية على أصل علاقة الدولة الإسلامية بغيرها

(3)

ذكرت في الحلقة الماضية المسائلَ الفقهية المندرجة تحت القسم الذي وُكِل تنفيذُه إلى أولي الأمر من الأمراء والحكام العلماء أو العلماء إن خلا الزمان عن حاكم مسلم ( الفراغ السياسي ) ، وتم الحديث عن النوع الأول منه ، وعن النوع الثاني والضرب الأول منه ، ثم عن بعض صوره وكان آخرها الصورة التي : تتغير فيها الحال التي قُيِّد الحكم بها . وأن منها : الإذن بقتال الكفَّار في العهد المدني ، دون العهد المكي على اختلاف أحواله ، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلافُ الأحوال ، لا وجودُ ناسخ ومنسوخ بينها ، فهي من هذا القبيل .
وقد وعدت في الحلقة الماضية بإيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك في قضية يعد الخطأ في فهمها من أخطر قضايا العصر على أهل الإسلام ، وعرض ذلك بلغة عصرية تُقرٍِّب المراد ، ولا سيما أنّ بعض مسائل هذا الضرب صارت محل غواية وفتنة بين فئات من المسلمين مع ما شغّب بسوء فهمه منها أعداء الدين .

بيان فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين

تقوم حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية بغير المسلمين على أساس مقصدي ، هو تبليغهم رسالة الإسلام ( الدعـوة ) ، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال ، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة ، سبق المرور على أصولها في بيان أسس السياسة الشرعية ؛ ولعلَّ فهم هذه الحقيقة يفسِّر بعض مظاهر الشذوذ الفكري في تصرفات بعض المسلمين ، ولا سيما ممن ليس لديهم فهم كاف لذلك ، سواء من ناحية التنظير أو التطبيق .

وتعامل الدولة الإسلامية مع غيرها - من الدول والكيانات - وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ؛ يختلف باختلاف موقفها من الدعوة الإسلامية ؛ فهو لا يخلو من أحوال يمكن إجمال القول فيها فيما يلي :

الحال الأولى : أن تقتنع تلك الدول والكيانات بالدعوة الإسلامية ، وتتحول إلى الإسلام ؛ وحينئذ فتعامل معاملة بقية المسلمين تماماً ؛ دون أي اعتبار للعرق أو اللون أو حتى المواقف السابقة من الدعوة الإسلامية . وهذا ما يحصل في زمن الفتوحات كما جرى في العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة وما تلاها في عدد من الأقطار كفتوحات الدولة الإسلامية في الأندلس ثم ما جرى بعد ذلك من فتوحات الدولة الإسلامية العثمانية .

الحال الثانية : أن تبقى تلك الدول والكيانات على ما كانت عليه ؛ و تقبل العيش في ظل الحكم الإسلامي ، والانضمام إلى الدولة الإسلامية ؛ وهنا تتمتع رعاياها بحقوق رعايا الدولة الإسلاميـة من غير المسلمين ؛ من الحمايـة الإسلامية والحرية الدينية الأصلية ، مقابل دفع الجزية ، ممن يلزمه دفعها وهو القادر على العمل والكسب من الذكور (25) .

أمَّا غير البالغين ، والنساء ، وكذا غير القادرين على العمل والكسب ؛ كالعجزة والمقعدين ، أو غير المتفرغين لذلك لانقطاعهم في الكنائس و المعابد ، كالرهبان ؛ فهؤلاء يتمتعون بالعيش في ظل الحكم الإسلامي دون أي مقابل ، كما يُفيدون وينتفعون من المرافق والمصالح العامة في الدولة ؛ بل إذا احتاج أحد من هؤلاء للمعونة وجب على الدولة الإسلامية تقديم المعونة له ؛ حتى الذي كان يدفع الضرائب إذا عجز عن دفعها لعجزه عن العمل ، تتوقف الدولة الإسلامية عن مطالبته بالضريبة .

الحال الثالثة : أن تبقى تلك الدول والكيانات على ما كانت عليه ؛ ولا تقبل العيش في ظل الحكم الإسلامي ، وهي على أضرب :

الضرب الأول : أن تكون تلك الدولة أو ذلك الكيان قوياً ؛ فهذا لا يُعطى حكماً تطبيقياً واحداً ؛ وإنَّما يختلف التعامل معه باختلاف ظروف الزمان والمكان والحال ؛ وحينئذ فهو على أقسام :

القسم الأول : الدول والكيانات التي يكون بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ فهذه يجب التعامل معها وفق ما تم الاتفاق عليه في بنود تلك المعاهدات ؛ والوفاء بذلك وفاء تاماً ، فإنَّ من يخل به - من فرد أو دولة - متوعدٌ في الإسلام ، بالإثم الأخروي والعقوبة الشديدة .

وحينئذٍ ، يجب على المسلمين دولاً ومنظمات وأفراداً الاستمرارُ في أداء رسالة الدولة الإسلامية في الدعوة ، بسلوك الطرق السلمية الممكنة ، للدعوة إلى الله في تلك الدول والكيانات ؛ وسلوك جميع السبل السلمية التي تسلكها الدولة الإسلامية في تقوية إيمان المسلمين في الداخل والخارج ، وإقناع غير المسلمين من رعاياها بالإسلام ؛ والإفادة من جميع القوانين المعمول بها في تلك الدولة أو الكيان المعاهَد في ذلك ، ودعم الجمعيات والمنظمات والأحزاب التي تقدم خدمات للجالياتِ الإسلامية ، وتتعاطف مع قضايا المسلمين . ولا يجوز سلوك طرق حربية عسكرية في ذلك .

وهذا ينطبق على كثير من الدول المعاصرة التي بينها وبين أهل الإسلام معاهدات ، وخاصة تلك الدول التي تجد الجاليةُ الإسلامية فيها قدراً من الحريَّة التي تُمكِّنها من التزام دينها والدعوة إليه تحت سقف مقبول من الحرية في ذلك (27) .

القسم الثاني : الدول والكيانات التي ليس بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ وهذه لا تخلو :

إمَّا أن تعلن الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وحينئذٍ فيجب على الدولة الإسلامية ، وعلى المسلمين ردّ الاعتداء ودفع العدوان ، واسترداد ما قد يؤخذ من الحقوق وما قد يحتل من الأراضي ؛ وهذا الوجوب على نوعين : وجوب عيني على الدولة التي اعتدي عليها مباشرة ، ووجوب كفائي على بقية المسلمين (الأمّة ).

وهذا كحال الصهاينة المحتلين في فلسطين والأمريكان المحتلين في العراق . وهو ما يفسِّر لنا فتاوى العلماء الربانيين في مشروعية وفرضية الجهاد فيها .

ومن السياسة الشرعية توقف الوجوب على فئة من المسلمين دون فئة ، إن اقتضته المصلحة الشرعية ، سواء كان بقصد جلب نفع يشرع جلبه أو دفع ضرر يجب دفعه (28) .
وإمَّا أن لا تعلن تلك الدول والكيانات الحرب على الدولة الإسلامية ؛ لكنها تمنع انتشار الدعوة الإسلامية ، وتحجبها عن الشعب ، وتمنع رعاياها من الدخول في الدين الإسلامي ؛ وبهذا السلوك وهذه السياسة ، يعدّ نظام هذه الدولة نظاماً استبدادياً ؛ يعارض حقوق الإنسان ؛ فيسلب الإنسان حقه في حريته الدينية ، و من ذلك حقّه في اختيار الإسلام ؛ كالشأن في الدول التي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سراياه ورسله لدعوتهم فوقفوا من الدعوة موقف العداء ، فنتج عن سلوك السياسة الشرعية معهم ما عُرِف فيما بعد بالفتوحات الإسلامية .
ومنه في الزمن المعاصر ما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي سابقا ، وبعض الجمهوريات التي ورثته ، وكالحال في كوبا وغيرها من البلدان الاستبدادية ، وهنا يراعى الفقه السياسي الشرعي بالنظر في حال الدولة الإسلامية وإمكاناتها ، وما تكون فيه من حال قد توجد في زمن دون غيره أو مكان دون غيره ؛ وهذا ما سيأتي تفصيله في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

(4)

جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحت مسائله في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك ببيان
فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين
وأنَّ الأساس المقصدي الذي تقوم عليه حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها على أساس مقصدي ، وهو تبليغ رسالة الإسلام لغير المسلمين ( الدعـوة ) ، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال ، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة وهذه تتمة ذاك التطبيق (29):

توقفنا في الحلقة الماضية عند الاحتمال الثالث من القسم الثاني المتعلق بالدول والكيانات التي ليس بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ إذ فيه أن هذه الدول لها أحوال ، وهي :

إمَّا أن تعلن الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وتم الحديث عنه .
وإمَّا أن لا تعلن تلك الدول والكيانات الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وهنا يراعى الفقه السياسي الشرعي بالنظر إلى الدولة الإسلامية ويضعها في أحوال قد توجد في زمن دون غيره أو مكان دون غيره :

فإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال قوة وتمكّن ؛ وهنا تسلك الدولة الإسلامية والأمةُ الطرقَ السلمية أولاً ، للتأثير على هذا النظام وهذا الكيان - مع إشعاره بطريق ثالثة تُفرِض عليه إن لم يقبل الطرق السلمية - من خلال عرض الخيارين التاليين عليه ، وهما :

1) التحول إلى المنهج الإسلامي عقيدة وشريعة ؛ ويتم بذلك الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي ، ومنها المزايا : السياسية ، والعسكرية ، والقضائية ، والاقتصادية .
2) القَبول بالحكم الإسلامي ، والانضواء تحت رعاية الدولة الإسلامية ؛ مع بقاء من شاء من الرعايا على الديانة التي هم عليها أفرادا كانوا أو جماعات ؛ ويتم بذلك لهؤلاء الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي الخاصة بالرعايا غير المسلمين ، والتي سبق الإشارة إليها .

فإن لم يقبل هذا الكيان بذلك ، فإنّ الدولة الإسلامية تسلك طريق فرض العدل المفقود والحرية المسلوبة ؛ للتأثير على هذا النظام من خلال خيار الدولة الإسلامية الثالث ، وهو :

3) اللجوء إلى الجهاد المشروع من أجل نشر الحرية في اختيار توحيد الله أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ ( جهاد الطلب ) أو ( جهاد الدعوة ) وغايته إتاحة الحرية الإنسانية ؛ لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله عز وجل هو إلهه ، فينضم باختياره إلى الأمة الإسلامية ، أو أن يبقى على دينه ، ويتخلص من الحكم الاستبدادي الظالم ، ويتمتع بالحكم الإسلامي العادل مقابل الضريبة الرمزية التي هي ( الجزية ) التي هي أقل من الزكاة التي يؤتيها المسلم .

والجهاد الإسلامي يتميز عن غيره من أنواع القتال بأنَّه : يتصف بالمثالية الواقعية ؛ لما يشتمل عليه نظامه من ضمانات إنسانية راقية ؛ فلا عنصرية ولا عرقية ولا إبادة . وتمنح السياسةُ الشرعية الدولةَ الإسلامية مرونة في تسمية الجزية ، فيجوز أن تفرض باسم آخر كـ ( الضريبة ) في مقابل الزكاة . ويمكن أن يطلق عليها مسمى الزكاة لو اقتضت الحال ذلك ، وله أصل من عمل الخلفاء الراشدين ليس هذا محل تفصيله .

ففي حال قـوة الدولـة الإسلامية قد تبدأ هي بالقتال ، ولا تقبل المسالمة ولا المهادنة ، حتى يُزال الكيان الظالم الجائر ، الذي يقف في وجه إبلاغ الرسالة ، ويمنع النّاس من التعرف عليها و اتباعها ؛ وفي هذا إعمال للآيات الواردة في ذلك ، والتي اتفق العلماء على الأخذ بها وتطبيقها عند تحقق ظروفها .
ولكنّ هذا الخيار ليس حتماً في حال قوة الدولة الإسلامية ؛ فقد تكون المهادنة والمسالمة لفترة من الزمن تحقق مكاسب عظيمة تفوق مكاسب الحرب والقتال ؛ كما حدث في صلح الحديبية (30) ؛ ومن ثمَّ يشرع للقيادة الإسلامية مهادنة العدو حتى مع القوّة .
وإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال ضعف ؛ وهنا يجب عليها سلوك الطرق السلمية الممكنة ، للدعوة إلى الله وإبلاغ الرسالة الخاتمة والدين الحق ؛ وسلوك جميع السبل السلمية الممكنة التي تسلكها الدولة الإسلامية في تقوية إيمان المسلمين في الداخل بشتى صور الدعوة وتهذيب السلوك وتقوية الإيمان وحمايته من أهل الباطل ، وفي الخارج بتقوية إيمان الأقليات الإسلامية ودعوتها للصراط المستقيم ، وإعانتها في تطبيق الإسلام على الوجه الصحيح ، وحل إشكالاتها الدعوية والفقهية ، والسعي في إقناع غير المسلمين من رعايا الدول المسلمة باعتناق الدين الحق ، كما هو الشأن في حال الدولة المعاهدة من خلال المشاريع الدعوية المباشرة أو الموجودة على أرض الواقع بجهود المسلمين فيها أو من خلال دعم الأقليات وحثها على نشر رسالة الإسلام التي تنتمي إليه ، ونحو ذلك مما هو واقع ومعمول به اليوم في صور كثيرة تحتاج مزيدا من الدعم والتواصل .

وفي هذه الحال تقتضي المصلحة الشرعية - في الغالب - عقد معاهدة مع الدول والكيانات الأخرى التي ليس بينها وبينها عهد ؛ فيشرع لها حينئذ المسالمة والصلح - بالمعنى الشرعي الذي يعني الهدنة المؤقتة أو المطلقة ، وليس المعنى القانوني الذي يعني الصلح الدائم – لكف شرها أو تحييدها والانتفاع بما يمكن الانتفاع به من العلاقات ضمن هذا العهد ؛ وتكتفي في سياستها العسكرية بالرد على من يبدؤها بالقتال ، مع العمل على تقوية الجيش الإسلامي وإعداد المقاتلين في الأمة ، ونصر المستضعفين ونشر الدين بالوسائل المشروعة قدر المستطاع ، وهذا يعني أنّ جهاد الطلب ( نشر الحرية ) قد يتأخر مدّة الإعداد للقوة الطالبة ، ولكن جهاد الدفع ( ردّ الغزاة وطرد المحتل ) لا يسقط في هذه الحال ولا يؤخّر ؛ لأنَّه فرض عين ، ولا تصح معه المهادنة (31) .

ومما يندرج تحت ذلك : حال الضرورة ، وذلك أنَّ الضرورة قد توجد مع قوة الدولة الإسلامية وظهورها على غيرها ؛ فقد تمر بضائقة مالية وحالة تزيد الحرب فيها الحال سوءا ، ومع توافر الجند وكثرة العتاد قد يحصل انشغال بحروب المصالح ، كمقاتلة مرتدين ، أو بغاة ، أو دفع كيد الطابور الخامس ، أو نحو ذلك مما لا يسمح بخروج الجند إلى ما وراء الثغور ، لتحقيق أهداف الدولة الإسلامية في نشر الحق والعدل ، وإزالة الكيانات التي تتبنى الظلم والجور ، وتقف في وجه الحرية والعدل ؛ فهنا قد تهادن الدولة الإسلامية تلك الكيانات ، بمال يدفع إليها وتتقوّى به ، أو بغير مال ، أو بمال تدفعه هي دفعاً لما هو أشدّ ضرورة وأعظم ضرراً ؛ كلّ ذلك حسب ما تقتضيه الضرورة الشرعية التي يجب أن يقرِّرها أولو الأمر من العلماء والولاة ؛ على النحو الذي يقرِّره الفقهاء في بيان مشروعية الهدنة ، وبيان مناط تلك المشروعية .

وهكذا تبقى قاعدة : ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعاً (32) ؛ وتحصيل أعلا المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعاً (33) .

وإذا قرأنا الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار ، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم . وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها : الواقعية الشرعية . وفي هذا التقعيد الفقهي و التطبيق السياسي الشرعي الوصفي ، ما عليك إلا أن تنزّله على ما يوافقه مما تفوه به علماء الشريعة الربانيون المعاصرون من أحكام وفتاوى بشأنه ، لتظهر الخلفية السياسية الشرعية لتلك الأحكام والفتاوى في البلاد على اختلافها ، وهكذا كل ما تفرع عن هذه الأحكام من مسائل جليلة ودقيقة . ولا أظنك بحاجة إلى أن أعرض فتاوى علماء بعينهم الآن ، وإن رأيت ذلك فإني فاعل ذلك في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى .

وثمة تفاصيل تحت هذا التطبيق تتفرع عن مسائل مندرجة عنه أو عن مسائل من مجالات سياسية أخرى ، سيأتي الحديث عنها في حينه إن شاء الله تعالى .
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى سيكون الحديث عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني .

(5)
[ من صور الضرب الأول والثاني وتطبيقاتهما المعاصرة ]

جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها .

وفي هذه الحلقة نواصل الحديث – إن شاء الله تعالى - عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني ، فمن تلك الصور أيضاً :

- تغيُّر الحكم التطبيقي لتغيُّر العلَّة التي بُني عليها ؛ بالنظـر إلى تغير حال الناس أو تغير الحال في محل الحكم .

(34) ومن أمثلته التي يذكرها أهل العلم : ما ورد من أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوالّ الإبل لمصلحة أهلها ؛ مع أنَّ النَّصَّ جاء آمراً بتركها (35) ؛ لتغير المصلحة التي بني عليها المنع ؛ فالأمر بتركها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يحقق المصلحة منه ؛ لغلبة الصلاح في الناس حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربُّها .
وأمّا في زمن عثمان رضي الله عنه فقد حصل تغيّر في حال الناس أورث خوفاً على أموال الرَّعيَّة من أن تمتدّ إليها يد الخيانة ؛ فرأى عثمان رضي الله عنه أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها ، كسائر الأموال ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ، إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلح ؛ ولو عادت علَّة المنع من الالتقاط كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لعاد الأمر بالمنع من الالتقاط (36) .
ومنها : وقف عمر رضي الله عنه لسهم المؤلفة قلوبهم لما نتفت علة التأليف في القوم الذين كانوا يؤلفون إلى بعض عهد الصديق رضي الله عنه .

ومن أمثلته المعاصرة : مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوار ؛ لما يترتب على ذلك من تحقيق المقصد الشرعي بحفظ المال ، وإمكان إيصاله إلى صاحبه ، أو مراجعة صاحبه للجهة المختصة لتسلّم ماله المفقود منها ، ولا سيما مع غلبة الظن بفقدها لتركها عرضة للسرّاق وضعاف النفوس ممن يتصيدون غفلة الزائرين وانشغال الطائفين والعاكفين والركع السجود .

ومنها : مسألة منع بيعِ واقتناءِ أطباق البث الفضائي ، ثم الإذن بها بضوابط تتعلق بالمشاهِد والمشاهَد ؛ وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ ، وغلبته فيما بعد ؛ ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة ، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب ، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ، كقناة المجد ، وقناة الناس في وضعها الحالي ، مثلاً، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة ، وتشجيع البَدَل المشروع ، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك .

ومنها : مسألة تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية تعليما نظامياً ، فلم يمنعه شرعاً أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها ، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله.

- ومن تلك الصور : تغيُّر الحكم التطبيقي المبني على العرف ؛ لتغير العرف الذي بني عليه الحكم الأول . ومن أمثلته : تعجيل المهر بعضه أو كله ، أو تأجيله ؛ بحسب العرف ، وما يترتب على ذلك لدى القضاة ، من اعتبار الزوجة ناشزاً أو غير ناشز إن هي امتنعت عن الدخول في طاعة الزوج (37) .

الضرب الثاني : مسائل ثبت في كل واحدة منها أكثرُ من حكم ، بنص أو إجماع أو قياس ؛ بحيث يجتهد أولو الأمر في اختيار الأصلح (38) منها - شرعا - للواقعة المماثلة .

ومن أمثلته : أحكام المهادنة التي مرّ ذكرها في التطبيق السابق ، وكذا الخيارات المصلحية في أحكام الأسرى .

ومن أمثلته المعاصرة : فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود ، فقد نال منه بها قومٌ ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ ، مع أنَّ فتواه رحمه الله جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ( الهدنة ) .
والشيخ رحمه الله قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود ، وأكَّده في الفتوى ذاتها ، وفي بيانه لمراده - رحمه الله - في فتاوى لاحقة (39) ، وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ؛ ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية ، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة في أرضه كلها وماله ، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح ( الهدنة ) مع هذا الكيان .

هذا ما ما ناسب ذكره في هذه الحلقة . وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن الضرب الثالث من هذا النوع ، وذلك الضرب هو : مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية ، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها ، أو استثنائها من أحكام نظائرها . وهو من أهم مجالات السياسة الشرعية وأكثرها تطبيقا في واقعنا المعاصر ، ولذلك سأورد إن شاء الله تعالى في الحلقة القادة جملة مهمة من التطبيقات العصرية .
والله الموفق .

(6)
[الضرب الثالث وبعض تطبيقاته العصرية ]

الضرب الثالث : مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية ، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها ، أو استثنائها من أحكام نظائرها . ولذلك أسباب ، منها :

1) عدم فعل المشروع –من حيث الأصل– بالنظر إلى ما يؤول إليه الحال عند تطبيق الحكم .
ومن أمثلته التشريعية : قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – رضي الله عنها - : (( يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ )) (40)فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مشروع من حيث الأصل ، لكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ناظراً إلى ما يؤول إليه من مفسدة – في وقته – أعظم من مصلحة نقض الكعبة وردِّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً باستعظامهم ما لم يعهدوه (41) .

وقد بيَّن الشاطبي رحمه الله أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله ، قد راعى قاعدة : ( النظر إلى المآل ) ، عندما شاوره أبو جعفر المنصور أن يهدم ما بنى الحجاج من الكعبة ويردَّها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم عملاً بهذا الحديث ، كما كان قد صنع عبد الله بن الزبير في خلافته ، فقد قال له : " أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيَّرَه ؛ فتذهب هيبته من قلوب النَّاس " ، فصرفه عن رأيه فيه خشية أن يؤول بناء الكعبة إلى التغيير المتتابع باجتهاد أو غيره ، فملك يبني ليكون بناؤها على القواعد من أعماله ومآثره وآخر يهدم ليجعل إعادتها من أعماله ومآثره مثلا ؛ فلا يثبت بناء الكعبة على حال (42) .

2) حصول ما يقتضي استثناء الواقعة من أحكام نظائرها .
ومن أمثلته المهمة : أنَّ النجاشي الملك الصالح رحمه الله ، كان يتحرى العدل ما أمكنه ذلك ، وكان يحكم يما يمكنه من الشرع ، ومما ثبت في ذلك ما روته أم حبيبة _رضي الله عنها_ أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مع شرحبيل بن حسنة. رواه أبو داود واحتج به وصححه غير واحد من أهل العلم .

وكان النجاشي معذوراً فيما لم يمكنه الحكم به من شريعة الإسلام ؛ لكونه بدار كفر لا شوكة له فيها ، وخوفه على دينه ، وعدم علمه بكثير من الأحكام الشرعية ، وعجزه عن الحكم ببعض ما بلغه .
قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ : " لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل ، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر ، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك " (43) .

ومن ذلك ما أفتت به اللجنة الدائمة أن من " أمن على نفسه من الفتنة في دينه ، وكان حفيظاً عليماً يرجو الإصلاح لغيره ، وأن يتعدى نفعه إلى من سواه وألا يعين على باطل ، جاز له العمل في الدول الكافرة ، ومن هؤلاء يوسف _عليه الصلاة والسلام_ ، وإلا لم يجز " (44) .
ومنها : تأخير إقامة الحدود في حال الغزو وقد ورد به النص (45) ؛ درءاً لمفسدة اللجوء للكفار ، ومناصرتهم على المسلمين ، أو كشف أسرار المسلمين لهم .

ومن أمثلته أيضاً : عدم إقامة حدّ السرقة في أوقات المجاعات (46) ؛ درءاً للحد بشبهة الضرورة إلى المسروق .

ومنه : فتوى بعض العلماء بجواز التسعير في بعض الحالات (47) .

ومن أمثلته المعاصرة : التوقف عن جهاد الطلب ( الدعوة ونشر الحرية ) - لا ابتداع القول بإلغائه - مع إمكان النكاية في العدو في بعض الظروف والأحوال ، كما إذا غلب على الظّنّ تسبب ذلك في جلب لعدو إلى بلاد المسلمين ، أو القضاء على المكتسبات الدعوية التي تحقق مقاصد الجهاد في البلد الذي يراد إعلانه فيه .

ومن صوره : منع العلماء الربانيين والولاة المخلصين بعضَ الراغبين في الجهاد من المسلمين من بعض البلاد أو الأقليات الإسلامية إلى بلاد يوجد فيها جهاد شرعي يقوم به أهلها ؛ إذا بني المنع على ما يؤول إليه ذهابهم من أضرار على البلاد التي ينتمون إليها أو المسلمين الذي يعيشون بينهم ، بما يعود في المآل على أصل المشروعية في الحال المذكورة بالبطلان ، أو لكون تلك الأضرار مما يجب درؤه شرعا .

ومن أمثلته وتطبيقاته المعاصرة : جواز التجنس بجنسية بلد غير إسلامي في حالات استثنائية يقدرها العالم الرباني ، مع أن الأصل منع البقاء في بلاد الكفر والقبول بجنسيتها .

ومنها : جواز المشاركة في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في بلد كافر بانتخاب مسلم أو انتخاب كافر هو الأقل ضررا على المسلمين أو الأعدل فيما يتعلق بالمسلمين .

ومنها : المشاركة في المظاهرات التي يراد بها التعبير عن حق أو دفع ظلم أو نفع المسلمين في البلدان التي تأذن للناس بها ، وذلك بضوابط معينة ، ولو مع غير المسلمين (48) .

وفي الحلقة القادمة – إن شاء الله تعالى - نكمل بإيراد أمثلة أخرى وذكر تنبيهات مهمّة في طريقة طريقة ذكر العلماء لمثل هذه الصور ، وكيفية الإفادة الشرعية من مثل هذه الأحكام مما ورد عن أهل العلم الربانيين .

(7)
[تتمة الضرب الثالث وذكر مزيد من تطبيقاته العصرية]

ومن أمثلة المسائل والوقائع التي تستثنى من أحكام نظائرها أيضاً : ما يفتي به بعض العلماء من منع المسلم من رعايا الدول الإسلامية من الزواج بالنساء الغربيات من أهل الكتاب ، إلا في حالات استثنائية ، مع أن الأصل جواز نكاح نساء أهل الكتاب ؛ وذلك لما يترتب على الزواج منهن اليوم من آثار لا تحمد عقباها على الزوج وذريته .

ومنها : منع الأنظمة عندنا في المملكة العربية السعودية من زواج بعض أصحاب المناصب المهمة كأصحاب الوظائف العسكرية والأمنية ، بغير السعوديات ، مع أن الأصل حل زواج المسلمات من أي بلد وأي عرق ، ومع أن الأصل أيضا حل النساء المحصنات من أهل الكتاب من أي بلد وأي عرق .

ومنها : تدخّل ولي الأمر في شؤون الأفراد في كل ظرف يغلب على الظنّ فوات مصلحة شرعية عامَّة بعدم التدخل فيه ، كمنع التدخل في أصل حق التملك ، في مسألة منع الاحتكار ، أو حق التصرف في السلعة بالبيع بالثمن المشروع في الأصل ، كما في الإلزام بالتسعير ، وهكذا التدخل بإجراءات توقف ضررا عاما في الناس .
ولعلَّ منها : التدرج في تنفيذ ما يجب تنفيذه من تطبيقات الشريعة مما يعسر تطبيقه بجملته ، و ذلك في ضوء قول الله عز وجل : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) [التغابن :16] . وقد مرّ ذكر حال النجاشي رحمه الله في ذلك وما استنبطه العلماء من قصته . ويلحق به كل مخلص من فرد أو جماعة ، قدر أن يعمل لهذا الدين بما يحقق مقاصده ولو بالتدرج ، دون تنازل عن الثوابت ، أو تهاون في الأصول ، أو عمل ما يعود على أصل تشريعي أو حكم شرعي بالبطلان .

وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، بل يمكن القول - والله تعالى أعلم - : إنَّ جلّ فروع أنواع الاستحسان بالاجتهاد ، مندرجة تحت هذا الضرب من المسائل ، وهو باب واسع خطير .

ومن هنا نلحظ أن أهل العلم ولا سيما الأوائل منهم ، لم يكونوا يقرِّرون أحكاماً عامّة في هذا الباب ، لكنهم يفتون في كل مسألة وواقعة منه وفق الظرف والحال وما يحتف بذلك من مؤثِّرات في الحكم .

وكذلك لم نجد العلماء الربانيين يأخذون من تلك الفتاوى والتصرفات الاستثنائية أحكاما نهائية عامّة ، فلم نر منهم من قال - مثلاً - إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ألغى حدّ السرقة ! كما يزعم بعض تلاميذ المستشرقين وتلاميذ تلاميذهم في هذا العصر .

وعليه فإنَّ كل مسألة من المسائل الممثل بها هنا ، لا يؤخذ منها جواز تطبيقها من كل أحدٍ وفي كل ظرف ، بل لا بد من الرجوع إلى أهل العلم ، والصدور عنهم في تقرير المشروعية من عدمها في كل مسألة مماثلة بعينها .

وهذه الأمثلة تعود في طريقة استنباطها إلى أحد أسس السياسة الشرعية التي تستند إلى أسس أخرى ، فهي من مسائل ( الاستحسان ) ووجه الاستحسان فيها هو مستند المشروعية التي عدل بها عن نظائرها لكون وجه الاستثناء فيها أقوى من وجه إبقائها على حكم النظائر الأخرى .

هذا ما ما ناسب ذكره في هذه الحلقة . وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن النوع الثالث ، وهو : أحكام وقائع أو إجراءاتٍ وأمور إدارية ، لم يوقف لها على دليل جزئيِ خاصِ ، من نصٍّ أو إجماع أو قياس .

(8)
النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص جزئي خاص

النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص جزئي خاص

بعد الانتهاء من الحديث والتمثيل للنوعين الأول والثاني ، من المسائل الفقهية المندرجة تحت القسم الثاني من مجالات السياسة الشرعية في المسائل والأحكام - وهو الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه – يأتي الحديث هنا عن النوع الثالث من هذه المسائل ، وبيانه في هذه الحلقة على النحو التالي :

النـوع الثالث : أحكام وقائع أو إجراءاتٍ وأمور إدارية ، لم يوقف لها على دليل جزئيِ خاصِ ، من نصٍّ أو إجماع أو قياس .

وتعالج أحكام هذا النوع من بالاستنباط الاجتهادي ، وذلك بإعمال طرق ( الاستدلال ) ولا سيما التي سبق ذكرها في المطلب الأول من المبحث الثاني وهي ما يعرف بـ ( الأدلة المختلف فيها ) أو ( الأدلة التبعية ) أو طرق استثمار النصوص ، أو ( الاستدلال ) وهو المصطلح المرتضى في هذه الدراسة وهي ما وُصِفت أيضا بأسس السياسة الشرعية .

ومن أمثلة هذا النوع : من الأحكام والوقائع :

- توظيف ولي الأمرِ الأموالَ ، على الأغنياء لدفع خطر طارئ على البلاد ، إذا لم تف خزينة الدولة مع ما يجب جبايته من الزكاة والصدقة وما يجب الحفاظ عليه من المال العام ، بما يُحتاج من مالٍ لدفع الخطر ، وهو مقيد بالشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى .

ومنها : اتخاذ الإجراءات الرادعة ، التي تحول دون تساهل الناس في أحكام الشرع ، ومن ذلك إساءتهم لاستعمال ولاياتهم الشرعية الخاصة مثلا ، ومن أمثلته : الإجراء الذي اتخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بإمضاء طلاق الثلاث بلفظة واحدة كما لو كانت ثلاثا ، من غير تغيير للحكم الأصلي ، وهو وقوعه الثلاث طلقة واحدة . فهو إجراء تعزيري لا حكم شرعي أصلي ؛ وليس في هذا الإجراء الذي اتخذه عمر رضي الله عنه مخالفة للشرع كما قد يُظنّ ، وغاية ما فيه : أنّ عمر رضي الله عنه منع المطلق ثلاثا بلفظ واحد من مباح وهو مراجعة الزوجة ، ومن المتقرِّر في علم السياسة الشرعية أن لولي الأمر أن يمنع الناس من بعض المباحات إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة ، ومن يتأمل عبارة عمر رضي الله عنه يجد فيها هذا المعنى ، فقد قال رضي الله عنه : ( إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ! فأمضاه عليهم ) رواه مسلم .

فتأمل قوله : ( كانت لهم فيه أناة ) وقوله ( فلو أمضيناه ) .

- ومنها : كل ما يدخل في باب الجرائم التي يستحق مرتكبها التعزير شرعا ، من حيث تنظيم تفصيلاتها وتنظيم تقدير عقوباتها بحد أعلى وآخر أدنى ، كالأنظمة التي تحدد عقوباتٍ لمرتكبي جريمة الرشوة أو جريمة تزوير في المحررات أو تزييف النقود ، أو اختلاس المال العام ، أو إساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ ، وغير ذلك من الجرائم التي تتعلق بالموظفين العموميين . شريطة أن يتولى تنظيم ذلك ألو الأمر المختصين الشرعيين وأهل الخبرة ، وأن يكون الحكم فيها للقضاء الشرعي ، وعلى هذا جرى العمل لدينا في المملكة العربية السعودية فيما يعرف لدى المختصين في الأنظمة بالجرائم المنظمة في المملكة العربية السعودية .

- ومن أمثلتها أيضا : طلب ولي الأمر - أو من يقوم مقامه عند عدمه - من بعض الجنود أو الفدائيين ، تنفيذ عمليات عسكرية فدائية ، ولو تيقن الجنديُّ أو المجاهد المسلم فيها قتل نفسه تبعا لنكايته بالعدو بنية الجهاد ، لا قصداً للتخلص من الحياة ، ولهذا أدلته وشواهده في القرآن الكريم والسنة الصحيحة .

وينبغي أن يُتفطن إلى أن المسألة أوسع من الصورة الحالية في العمليات الاستشهادية في فلسطين مثلا ، فلو نظّم ولي الأمر فرقا فدائية استشهادية ضمن فرق الجيش الإسلامي ، لكان لهذا وجهه من السياسة الشرعية ، وله شروط وقيود مهمّة ليس هذا محلّ التفصيل فيها ، وإنما قصدت التمثيل هنا ليس إلا .
بل لولي الأمر حتى لو لم ير مشروعية العمليات الاستشهادية أن يدرب فرقة من الجيش على ذلك لحال الضرورة ، وسواء كان ذلك في قطاع البرية أو البحرية أو الجوية .
ولولي الأمر أن يقصر ذلك على مسألة الردع بمثل هذا التقسيم إن لم ير مشروعية ذلك ، ويكون صنيعه هذا من باب السياسة الشرعية .

- ومنه تصنيع الأسلحة الكيماوية ، وبناء المفاعلات النووية ، لغرض الردع ، والمعاملة بالمثل في حال الاعتداء على الدولة الإسلامية ؛ لا لغرض البدء بذلك .

ومنـه : من الإجراءات والأمور الإدارية (49) :

- إنشاء الدواوين (50) ؛ وتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال ، وتنظيم مرور السيارات ، وإجراءات التقاضي ، وعيكلة الأجهزة التنفيذية والقضائية ، وغير ذلك من النظم ، إذا كانت على وجه لا يخالف الشرع ولا يخرج عن قواعده ؛ فإنها حينئذ تكون من الأنظمة الوضعية المشروعة ، أي : التي ينظمها البشر ويسنونها ، مما هو داخل في السياسة الشرعية ؛ وتختلف أحكامها في المشروعية باختلاف حاجة الأمة إليها .

- وكذلك ما يندرج في الإجراءات من وسائل تنفيذ العبادات ، من مثل تنظيم بناء المساجد ، و وضع شروط لتعيين الأئمة والمؤذنين ، وتنظيم دفع الحجيج في المشاعر (51) ، وتحديد أعداد الحجيج بنسب معينة ، بما يكون سبباً في تيسير الحج وتقليل المخاطر ؛ وغير ذلك من الإجراءات والتنظيمات التي تشرع لولي الأمر من طريق المصالح المرسلة ، و قاعدة : فتح الذرائع (52) ، وغيرها من المستندات الشرعية المعتبرة ؛ وهذه الأمور لا بأس باستفادتها من أي مصدر ، ولو من تجارب الأعداء من غير المسلمين .

وقد تحدث فقهاء السياسة الشرعية عن أمثلة قد لا يخطر على بال بعض طلبة العلم فضلا عن غيرهم . ومما ذكروه في ذلك تحديد معايير للجودة ، وترتيبات لحماية المستهلك ، بتفاصيل تثير الدهشة .

ومن يقرأ في كتب الحسبة بمختلف أنواعها ومسمياتها يجد من ذلك عجبا .

وخلاصة القول : أنَّ كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها ؛ والله تعالى أعلم .

-------------------------
(1) يحسن مراجعة حلقة مدلول السياسة الشرعية لاستحضار مدلولي السياسة الشرعية ، قبل الدخول في موضوع المجالات ليسهل على طالب العلم استجماع كلياته .
(2)ينظر : وسطية الإسلام وواقعيته ، للأستاذ الدكتور حسين الترتوري :47 وما بعدها ، مكتبة دنديس : الخليل .
(3)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي :158 ؛ و أنوار البروق في أنواء الفروق ( الفروق ) ، له أيضاً :4/48 .
(4)نصَّ على ضبط الأسباب والأوصاف الثلاثة الأولى وأفادها العلامة القرافي – رحمه الله – في جوابه على السؤال ( الثاني والثلاثون ) : ما ضابط ما يفتقر إلى حكم الحاكم ولا يكفي فيه وجود سببه الشرعي … ؛ فبيَّن أنَّ مُوجِب الافتقار إلى حكم الحاكم ثلاثة أسباب ، فبيَّنها بالأمثلة ، كعادته . ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 151-161 . وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 1/109 وما بعدها .
(5)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :153 .
(6)ينظر : المصدر السابق ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 41 .
(7)المصدر السابق ، للقرافي : 162 و ما بعدها .
(8)ينظر : المصدر السابق ، للقرافي : 157،80-81 ؛ والفروق ، له : 4/52 ؛ وإدرار الفـروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط : 4/52 ، وهي حاشية على " الفروق " مطبوعة معه ؛ و المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] : 4/511 ؛ و مختصر الفتاوى المصرية ، لأبي العباس ابن تيمية : 356 ؛ و فتاوى ابن الصلاح : 284- 289، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي ، دار الوعي : حلب، ومطبعة الحضارة العربية : القاهرة .
(9)قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين ابن عبد السلام : 405 ، ط1-1413، تحقيق/ عبد الغني الدقر ، دار الطباع : دمشق . و ج2 ص 47 من طبعة دار القلم بتحقيق الشيخين : د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية ( وهي الطبعة الأكمل ، والله أعلم ) .
(10)ينظر : الإحكام في أصول الأحكام ، للآمدي :4/203 ، تعليق الشيخ / عبد الرزاق عفيفي ، المكتب الإسلامي : دمشق ، بيروت ؛ وجمع الجوامع ، لتاج الدين السبكي [مع شرح المحلي بحاشية البناني] : 2/391 ، دار الفكر : بيروت ؛ والمختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، لابن اللحام : 166 ؛ والمصادر السابقة .
وعدم نقض الاجتهاد المستوفي لشروطه إذا اتصل به حكم حاكم ، من القواعد المقررة لدى العلماء في الجملة ، وإن اختلفوا في طريقة تأصيله ؛ وقد حكى الاتفاق على هذه القاعدة عدد من أهل العلم ، منهم الآمدي ، وتاج الدين ابن السبكي ، وابن اللحَّام ، في المصادر السابق ذكرها هنا . وواقع كتب الفقه وشروحها تشهد لذلك ، وإن وقع خلاف في بعض التفريعات .
(11)ينظر : موجبات نقض الأحكام ، في المصادر السابقة .
(12)ينظر تعداداً لكثيرٍ من هذه المسائل : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :180-190 ؛ وتبصرة الحكام ، لابن فرحون : 102-109 ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 38-41 .
(13)الأحمية : جمع حمى ، وهو الحريم ؛ لأنَّه يُحْمَى ، أي : يُحفظ . ينظر : طلبة الطلبة ، للنسفي : 103. وصفته في الأصل : أن يحمي إنسان أرضاً من الموات ، يمنع النَّاس رعي ما فيها من الكلأ ؛ ليختص بها دونهم . وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق ، و جاءت الشريعة بضبط ذلك بضوابط ؛ فليس لأحد من الناس سوى أئمة المسلمين ، وليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئا ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصدقة ، وضوال الناس منها ، التي يقوم الإمام بحفظها لهم ، وماشية الضعيف من الناس ؛ على وجه لا يستضر به من سواه من الناس . وينظر : المغني مع الشرح الكبير : 6/185( ط دار الفكر) .
(14)الذخيرة ، للقرافي :10/43 ، والقاعدة معروفة مشهورة .
(15)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 158.
(16) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/12 ؛ وإن كان ما تتطلبه صحة التطبيق من إجراءات قد داخلا في السِّيَاسـة الشَّرعيَّة ، لكنه داخل في النوع الثاني .
(17)ينظر أمثلة ذلك في : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 1/114 .
(18)ينظر : تقاسيم أبي حاتم محمد بن حبان التميمي (ت/354) في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ( صحيح ابن حبان ) ، وتلخيصها في خطبة الكتاب التي هي : الفصل الثاني من : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، للأمير علاء الدين الفارسي ؛ حيث ضمنها هذا الكتاب : 55 ، ت/ الشيخ : أحمد محمد شاكر/ مكتبة ابن تيمية . فمن القسم الأول : الأنواع : (3،4،16،55،79) ، ومن الثاني : (17) ، ومن الثالث : (34) ، ومن الرابع : (8 ، 11، 24، 40، 42) ، ومن الخامس : ( 3 ، 9 ، 16 ، 38 ، 41 ) .
وإنما أشرت إلى تاريخ وفاة المؤلف رحمه الله لبيان سبق علمائنا في مجال التقسيم الفقهي الدقيق الذي يتباهى به أهل القانون اليوم .
(19)ينظر : المدخل إلى السياسة الشرعية ، لشيخ مشايخنا الشيخ عبد العال عطوه رحمه الله : 45 . مع بعض التصرف .
(20)رواه البخاري : ك/ الزكاة ، ب/ الصدقة قبل العيد ، ح(1510) وغيره ؛ ومسلم : ك/ الزكاة ، ب/ زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير ، ح(985) ؛ وجاء التصريح بالفرض في حديث ابْنِ عمر - رضِي اللَّه عنهما - أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ …) . رواه البخاري : ك/ الزكاة ، ب/ صدقـة الفطر على العبد وغيره من المسلمين ، ح(1504) ؛ ومسلم ، الموضع السابق ، ح (984) .
(21) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 25/69 .
(22) رواه البخاري : ك/ الأضاحي ، ب/ ما يؤكل من لحوم الأضاحي ، وما يُتَزوَّدُ منها ، ح(5569) ؛ ومسلم : ك/ الأضاحي ، ب/ بيان ما كان النهي عن أكل لحـوم الأضاحي بعد ثلاث في الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء ، ح(1974) . والجَهد : المشقـة والفاقة ، وتعينوا : من الإعانـة .
(23) رواه مسلم : الكتاب والباب السابقين ، ح(1971) .
(24)ينظر : إكمال المعلم بفوائد مسلم ، للقاضي عياض : 6/424،426، ط1-1419، ت/ د. يحيى إسماعيل ، دار الوفاء : مصر ، ومكتبة الرشد : الرياض .
(25) كنت أود تأخير التطبيقات حتى لا يتأثر تسلسل التنظير الفقهي ، إلا أنني رأيت إلحاح كثير من الإخوة بطرح التطبيقات أثناء التنظير ، ولذا سأدخل بعض التطبيقات أخذاً برأيهم وتحقيقا لطلبهم ، وذلك مع معالجة انقطاع التسلسل بمحاولة تلخيص التقسيم بعد التطبيقات المطوّلة ، ثم المتابعة للتنظير إن شاء الله تعالى .
(26) فيطالب بإعطاء ( الجزية ) ، التي هي أشبه بالضرائب الرمزية ، وهذا مما يدفعه للعمل ، ومن ثم يساهم في الحد من البطالة ، فلا يبقى عاطلاً عن العمل مع قدرته عليه ؛ ويتمتع حينئذ بالحماية الإسلامية ، والإفادة من المرافق والمصالح العامة .
(27) وتحت هذا القسم كثير من قضايا السياسة الشرعية التي سيأتي التمثيل ببعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ومنها ما يتعلق بالدولة الإسلامية أو برعاياها أو بالجاليات الإسلامية في تلك البلاد .
(28) ومنه منع العلماء في المملكة العربية السعودية و العراق ، ذهابَ الشباب الراغب في الجهاد من المملكة إلى العراق ، مع أن الجهاد فيه جهاد مشروع ؛ وذلك لما يترتب على ذهاب بعض الأفراد من ضرر كبير يغلب على الظن وقوعه ، في حال السماح بذهاب الشباب للعراق قصد الجهاد ؛ ويتمثل ذلك في مخاطر كثيرة ، منها ما يعود إلى بلاد الإسلام المستقلة : كإيجاد مسوغ لقوى الظلم والطغيان في العراق للاعتداء على البلاد والعباد والمقدسات ، و وضع قلب العالم الإسلامي مأرز الإسلام في دائرة المخاطر التي لا تقارن بمخاطر عدم ذهاب بعض المتطوعين ؛ ومنها ما يعود للمجاهدين في العراق بوصفهم بأوصافٍ تخدِم المحتل ، مع عدم حاجتهم إليها ، والكلام في بيان المفاسد التي تترتب أو يغلب على الظن ترتبها ، يطول .
(29) تحسن قراءة الحلقة الماضية (21) ولو من بداية الحديث عن القسم الثاني .
(30) ينظر : مسائل من فقه الكتاب والسنة ، لعمر الأشقر : 261،262 .
(31) ينظر : المعيار المعرب ، للونشريسي : 2/207 - 209 .
(32) ينظر : المنثور في القواعد ، للزركشي :1/348 وما بعدها ؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم : 98 .
(33)ينظر : المنثور في القواعد ، للزركشي :1/345 ؛ وقواعد الأحكام في مصالح الأنام [ في عدة مواضع ، منها ] :96-97 ؛ ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، للشيخ عبد العزيز بن باز : 5/293 . وقد بين هذه القاعدة وأكثر التمثيل لها العز ابن عبد السلام رحمه الله في : قواعد الأحكام .
(34) ينظر : الموطأ ، للإمام مالك : ك/الأقضية ، ب/ القضاء في الضوال ، ح (51) .
(35) في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أعرابيٌّ : كيف ترى في ضالة الإبل ؟ فقال : (( دعها فإن معها حذاءها و سقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها )) ، رواه البخاري : ك/ اللقطة ، ب/ ضالة الغنم ، ح(2428) ؛ ومسلم : ك/ اللقطة ، في أول أحاديثها ولم يوضع فيه تحت باب ، ح (1722) .
(36) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 362 .
(37) ينظر : السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي ، لعبد الرحمن تاج : 82 ؛ و المدخل إلى السياسة الشرعية ، لعبد العال عطوه : 45 . ونشوز المرأة : عصيانها لزوجها ، وامتناعها عنه . ينظر : المصباح المنير ، للفيومي : (نشز) .
(38)ينظر : إجابة الغزّالي على سؤال المصيصي في : البحر المحيط ، للزركشي :6/258-259 ؛ و خطبة ابن حبان لكتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ، وهي في : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، لعلاء الدين الفارسي :55 ؛ وينظر : مقدمة أستاذنا د. فؤاد عبد المنعم لكتاب : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بِدده أفندي : 66 ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين :361 ؛ ونظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي ، لعبد السلام العسري :213 .
(39)ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم ، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية ، وفي القانون الدولي ، وبيانه : أنَّ المراد بـ ( الصلح ) بالمعنى القانوني الدولي ، هو : عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة . بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي . وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم من قبل ، وهذا رابطه : http://www.almoslim.net/rokn_elmy/show_question_main.cfm?id=10379
(40) رواه البخاري ، ك/ الحج ، ب/ فضل مكة وبنيانها … ح(1586) ؛ ومسلم ، ك/ الحج ، ب/نقض الكعبة وبناؤها ، ح(1333) . وفي رواية : (( فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ )) رواه البخاري : الموضع السابق ، ح(1584) .
(41) ينظر : الموافقات ، للشاطبي :5/181 .
(42) ينظر : الموافقات ، للشاطبي :5/181 ؛ و4/113 . وينظر : إكمال المعلم بفوائد مسلم ، للقاضي عياض : 4/428 ؛ و صحيح مسلم بشرح للنووي :9/89 .
(43) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : :19/225.
(44)فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء :2/75 .
(45)ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 3/14-61 ؛ وتنظـر المسألـة في : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] :10/528-530
(46)ينظر : إعـلام الموقعين ، لابن القيم :3/14-16، وينظر المسألة فـي : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] :10/286 .
(47)الحسبة في الإسلام ، لابن تيمية : 40-49 .
(48)ينظر هذا الرابط : http://www.almoslim.net/rokn_elmy/show_question_main.cfm?id=8716
(49)ينظر : جواب الغزالي على سؤال المصيصي . البحر المحيط ، للزركشي : 6/258-259 ؛ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، للعلامة / محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت/1393) : 2/377 ، [ الكهف : 26] ، ط1-1417، عناية/صلاح الدين العلايلي ، دار إحياء التراث العربي : بيروت ؛ وتعليق /د. محمد الأشقر ، على : المستصفى ، للغزالي : 1/416 .
(50)الدواوين : جمع ديوان ، وهو : اسم يطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء ، ثم أطلق على : الدفـاتر التي تستخدم في تسيير المصالح المختلفة في إدارة الدولة من الأموال ، والأعمال الإدارية والعسكرية ، وغيرها ، كما يطلق على الأماكن التي توجد بها هذه المصالح ، وموظفي الدولة . وقد اختلف في أصل الكلمة ، هل هي عربية أو معربة ؟ وصوَّب بعض العلماء القول بأنَّها عربية ؛ بأنَّها من دونت الكلمة : إذا ضبطتها وقيَّدتها ؛ لأنَّه موضع تضبط فيه أحوال الناس وتدوَّن .
(51)ينظر : سن الأنظمة في الدولة الإسلامية ، د. يوسف الخضير : 403-405 .
(52)ينظر : الحسبة في الإسلام : 32 ؛ وص : 148 .

نماذج من اعتبار فقهاء الشريعة للسياسة الشرعية

د. سعد بن مطر العتيبي

اعتبار الفقهاء للسِّيَاسة الشَّرعيَّة

بعد أن خلصت الحلقات السابقة إلى أنَّ مجالات السياسة الشرعية من جهة الأحكام والمسائل تشمل : كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها .

تنتقل هذه الحلقة إلى بيان اعتبار علماء الإسلام وفقهاء الشريعة رحمهم الله للسياسة الشرعية ، على نحو ما تم تأصيله في المقالات السابقة .. والحق أنه موضوع يستحق عناية الباحثين من طلبة العلم ، لكشف المسائل السياسية ومستنداتها الشرعية ، ومادته مادة ثرية واسعة شاملة ، تسع عشرات الباحثين الجادين ، كما أنه لطيف في مضمونه ، وعميق في مداركه .

ولمّا كان بهذه المنزلة ، رأيت أن أقتصر على نماذج من تلك المسائل ، مأخوذة من المذاهب الأربعة الذين يستنبطون مسائل السياسة الشرعية وفق طرق الاستدلال السابقة وغيرها ، كما رأيت إضافة أهل الظاهر ، لبيان اتفاقهم مع بقية المذاهب على اعتبار السياسة الشرعية ، عكس ما قد يوحي به ما عُرِف من طريقتهم في الفقهيات .

واعتبار الفقهاء العملَ بالسياسة الشرعيـة أمر لا ينكر ؛ فلا يخلو كتاب من كتب الشروح الفقهية وغيرها من كتب أهل العلم المطولة - في عدد من المباحث الفقهية ، ضمن المجالات التي سبق ذكرها - من تعليل الفقهاء لبعض الأحكام بـ( السياسة ) ، أو بمـا هو مرادف لمرادهم بها في الغالب ، كـ( المصلحة ) أو ( دفع الضّرر ) أو ( الافتقار إلى حكم الحاكم ) ، أو ما كان في معنى ذلك ؛ وقد تَتَبَّعت هذه التعليلات في مجال علم السِّيَر في بعض المراجع الفقهية المهمّة ، ولاحظت تتكرر التعليل بعبارات مرادفة لمعنى السياسة الشرعية ، هي أشبه بدلائل تفرع المسألة - محل التعليل - عن السياسة الشرعية – ومنها على سبيل التمثيل – قولهم : … ويجوز قتله سياسة ؛ … لأنّهم مضرّة على المسلمين ؛ … لأنّه جُعِلَ في مصلحة ؛ … لأنّ مصلحته تفوت بتأخيره ؛ … لئلا يرى الجاسوس قلَّتهم بتفرُّقهم ؛ … لأنّ المصلحة تتعين في قتالهم ؛ … وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة ؛ … لأنّ ضرره يعود على الجيش كلِّه ؛ … لا يقتل إن جرت العادة ألّا يقتل ؛ … فمتى رأى الإِمام المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعَّينَتْ عليه ولم يجز العدول عنها … ؛ … لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ؛ … أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا ؛ فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم ؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين ؛ … أو كانوا يفعلون ذلك بنا ، فيفعل بهم ذلك ؛ لينتهوا ؛ … ما لا تدعو إلى أخذه حاجة عامة ، لا يجوز أخذه ؛ … وإن دعت الحاجة جاز لأنّها حال ضرورة ؛ … لأنّـ الحاجة تدعو إلى هذا ، وفي المنع منه مضرّة بالجيش وبدوابِّهم ؛ … لأنّ القتال به معتاد ؛ … جائز عند شدَّة الحاجة إليه ، وتعيُّن المصلحة فيه ؛ … إن كان بالمسلمين حاجة إليه ، أو قوّة به ، أو شغل عنه أُخِّر … ؛ … لأنّه يتعلق بنظر الإمام ؛ … لأنّ ذلك ذريعة إلى إرقاق الولد ؛ وغيرها من التعليلات الفقهية التي تبين فقه الشريعة وتكشف عن مجالات السياسة الشرعية موضوعات ومسائل .

و لا يخلو منها مذهب من المذاهب الفقهية ؛ حتى مذهب أهل الظاهر ؛ وهذا يؤكِّد اعتبار الفقهاء قاطبة للعمل بالسياسة الشرعية في الجملة ، وإن اختلفت المسميات ، والتعبيرات ؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني ؛ يؤكِّـد ذلك أمور ، منها :

الأول : من الناحية النظرية :
فإن مسائل السياسة الشرعية منها ما يرجع في تأصيله إلى النصّ والإجماع ، ومنها ما يرجع إلى ما تفرَّع عن ذلك من قواعد كلية ، ومقاصد مرعية ؛ فأمَّا ما يرجع تأصيله إلى النصِّ والإجماع ، فليس مما يُشَكَّكُ في التسليم به ، وإن وُقِفَ فيه على نزاع ، فليس نزاعا في جملة العمل بالسياسة الشرعية ؛ وإنَّما هو في أمر آخر ؛ كصحة الدليل - إن لم يكن قرآناً - أو صحة الاستدلال وعدمه ، أو اعتبار طريق الاستنباط ، أو تحقيق المناط .

وأمَّا ما يرجع في تأصيله إلى طريق من طرق الاستنباط ( الاستدلال ) ؛ فالخلاف فيه في أهم مسائله ، خلاف لفظي ؛ ثم هو لا يقدح في اعتبار الفقهاء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة في الجملة .

الثـاني : من الناحية التطبيقية : وتتضح من خلال مجالين :

المجال الأول : التأليف الخاص ؛ حيث يوجد عدد من المؤلفات الفقهية الخاصَّة – في المذاهب الفقهية الأربعة - في السياسة الشرعية في عدد من مجالاتها ، ومن المجالات المتفق على مشروعيتها عندهم جميعا من حيث الأصل ( التعزير ) ، ومن الكتب التي أفردت فيه مثلا : السياسة الشرعية ، لإبراهيم خليفة المعروف بدده أفندي رحمه الله ، و من الكتب التي أفردت في طرق القضاء : الطرق الحكمية ، لابن القيم رحمه الله ، ومن الكتب المعاصرة التي أفردت في مجال أدق : السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية لعبد الفتاح عمرو عايش رحمه الله .

المجال الثاني : التأليف العام ؛ حيث يوجد كثير من المسائل الفقهية المندرجة تحت السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، منثورة في أمهات كتب أهل العلم من الشروح الفقهية وغيرها ، و لاسيما ما كان منها ذا عناية بفقه النوازل ، و التدليل والتعليل .

وهذه نماذج من نصوص العلماء في بعض مسائل السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، مما هو منثور في الكتب الفقهية العامَّة (1) :

أ- أمثلة مما جاء من السياسة الشرعية عند الحنفية :

قال ابن الهمام : فيمن سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت : " لو اعتاد لصٌّ ذلك ؛ للإمام أن يقطعه سياسة ، لا حدَّاً …" (2) .

وقال ابن نجيم : " وما ورد في الحديث من الأمر بقتل الفاعل والمفعول به ؛ فمحمول على السياسة أو على المستحلّ ، قال الزيلعي : ولو رأى الإمام مصلحة في قتل من اعتاده ، جاز له قتلُه " (3) .

وقال ابن عابدين : " قوله : للإمام أن يقتله سياسة ، أي : إن سرق بعد القطع مرتين ، لا ابتداءً ، كذا ذكره بعضهم …" (4)

و قال " ولا جمع بين جلد ورجم في المحصن ، ولا بين جلد ونفي أي تغريب في البكر ، وفسره في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من التغـريب لأنَّه يعود على موضوعه بالنقض إلا سياسة وتعزيرا ؛ فيفوض للإمام وكذا في كل جناية " (5)

وكلام الحنفية في ذلك ، كثير جداً (6) .

ب- أمثلة مما جاء منها عند المالكية :

قول بعض فقهائهم : " وإن كتب شهادته على من لا يعرفه بالعين والاسم لم يصح أن يشهد بها إلا على عينه وإنما تسامح العلماء والخيار في وضع شهادتهم على من لا يعرفونه سياسة في نفع العامة " (7) .

وقول ابن رشد : " يمنع من ذبح الفتى من الإبل مما فيه الحمولة ، وذبح الفتى من البقر مما هو للحرث ، وذبح ذوات الدرّ من الغنم ؛ للمصلحة العامَّة للناس ، فتمنع المصلحة الخاصة " (8) .

وقال الزرقاني مبيناً محلَّ وجوب قتل قاطع الطريق إذا قتل : "… محل وجوب قتله … ما لم تكن المصلحة في إبقائه ؛ بأن يُخشى بقتله فساد أعظم من فئته المتفرقين ؛ فلا يجوز قتله بل يطلق ارتكاباً لأخف الضررين …" (9) .

وكم يلحق بهذه المسألة من مسائل في هذا العصر !

وللمالكية بروز في العمل بالسياسة الشرعية (10) ؛ ولهذا قال ابن القيم : " وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك ، فمشهور " (11) .

هذا اتسع المجال لذكره في هذه المقالة ، وللمقالة بقية كما هو ظاهر من ترقيمها ، والله أعلم .

جـ- أمثلة لما جاء منها عند الشافعية :

- قال بدر الدين الزركشي - رحمه الله - عند ذكرهِ قاعدة : ( تصرف الإمام على الرعيّة منوط بالمصلحة ) - : "… نصَّ عليه … قال الشافعي : منزلة الوالي من الرعيَّة ، منزلة الولي من اليتيم انتهى ، وهو نصّ في كلِّ والٍ … وحيث يُخيَّر الإمام في الأسير بين القتل ، والاسترقاق ، والمنّ ، والفداء .. لم يكن ذلك بالتشهـي ؛ بل يرجع إلى المصلحة ، حتى إذا لم يظهر له وجه المصلحة ، حبسهم إلى أن يظهر " (12) .
- و جاء في إعانة الطالبين : " غالب الأحاديث لا تكاد تخلو عن حكم ، أو أدب شرعي ، أو سياسة دينية " (13) .
- وجاء عندهم في عقوبة الذميِّ إذا قتل المرتدَّ ثلاثة أقوال : وجوب القصاص ، وعدمه : " والثالث : يجب القصاص سياسة ، ولا تجب الدية ؛ لأنَّه غير معصوم " (14) .
- وجاء في روضة الطالبين : " والرابع إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لم يلاعن ، وإن قذفها بزنا في الزوجية ، وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لاعن ؛ وحمل النصين عليهما ، ثم ظاهر نصه في الروايتين أنه لا يُعزَّر إلا بطلبها ، وحكى الإمام وجهاً : أنه يعزِّره السلطان سياسةً وإن لم تطلب ، كما يعزِّر من يقول : الناس زناة ، والصحيح الأول … " (15) .
واعتبارهم للسياسة الشرعية ظاهر لمن له نظر في كتبهم ، وإن كانوا أقل المذاهب استعمالاً لمصطلح ( السياسة ) )17( ، فإنهم يعللون بـ( المصلحة ) ونحوها مما هو رديف له (16) .

د- أمثلة لما جاء منها عند الحنابلة :
ذكر ابن القيم أمثلة لاعتبار الإمام أحمد ، للسياسة الشرعية ، ومن ذلك :
- قوله في المُخنَّث (18) : " والمُخَنَّثُ ينفى ؛ لأنَّه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له ، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله ، وإن خاف به عليهم حبسه " (19) .
- ونصُّه فيمن طعن في الصحابة : " أنَّه قد وجب على السلطان عقوبته ، وليس لسّلطان أن يعفو عنه ؛ بل يعاقبه ويَسْتَتِيبه ؛ فإن تاب وإلا أعاد العقوبة " (20) .
-و قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون : " للسلطان سلوك السياسة وهو الحزم عندنا ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع (21) ؛ إذ الخلفاء الراشدون رضي الله عنه قد قتَّلوا ومثَّلوا وحرَّقوا المصاحف ، ونفى عمرُ نصرَ بن حجَّاج خوف فتنة النساء " (22) . قال ابن مفلح في بيان هذه العبارة : " قال شيخنا : مضمونه ، جواز العقوبة ، ودفع المفسدة ، وهذا من باب المصالح المرسلة ، وقد سلك القاضي في الأحكام السلطانية أوسع من هذا " (23) .

- ونقل عنه ابن القيم قوله : " جرى في جواز العمل في السلطنة ، بالسياسة الشرعية : أنَّه هو الحزم عندنا ، ولا يخلو من القول به إمام " (24) .
- وقال : " وصرح أصحابنا في أنَّ النساء إذا خيف عليهن المساحقة (25) ، حرم خلوة بعضهن ببعض " (26).
قلت : وقد رأينا في هذا العصر شيئا من حكمة هذا الحكم ، الذي لا يماري في صحته عارف بالواقع فقيه في السياسة . وفي بلاد الإفرنج وجدناهم يضعون من القوانين في أماكن التجمعات النسائية ما يحفظ النساء من النساء !
- ومما جاء عند الحنابلة - أيضاً - تقييد ما حكي من الإجماع على وجوب طاعة الإمام في غير المعصية بقولهم : " ولعل المراد : في السياسة والتدبير والأمور المجتهد فيها ، لا مطلقاً ؛ ولهذا جزم بعضهم : تجب في الطاعة ، وتسنُّ في المسنون ، وتكره في المكروه …" (27) .

هـ – أمثلة لما جاء من السياسة في فقه أهل الظاهر :
- من ذلك أنَّ القاضي يحجر على المدين ، ويمنعه من التصرفات الضارَّة بالغرماء ؛ كالإقرار ، والبيع بأقل من القيمة ؛ وللقاضي بيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص (28) .

- وقال أبو محمد ابن حزم : " ومن أتى منكرات جمَّة ؛ فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل بالغاً ذلك ما بلغ ؛ لأنَّ الأمر في التعزير جاء مجملاً فيمن أتى منكراً : أن يُغير باليد …" (29) .

- وقال : " الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسِّيَر الفاضلة ، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة (30) عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكِما للقراءة …" (31) .
قلت : والشاهد قوله : " عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكما للقراءة " .

و – أمثلة لما جاء من السياسة في فقه أهل العصر :
وهي كثيرة جدا ، يمكن الباحث تمييزها بالنظر في تعريف السياسة الشرعية وتطبيقه عليها – وسأقتصر منها هنا على مثالين جمعا رأي جمع من كبار علماء العصر :

- أولهما قرار فتوى نظرية ، جاءت في قرار من المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة مدعما بقرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، ونصه :
" الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد أما بعد : فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، قد نظر في الكتاب الوارد إلى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي ، من معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في الأردن الأستاذ كامل الشريف، والبحث المقدم من معاليه إلى مجلس الوزراء الأردني بعنوان "الأرقام العربية من الناحية التاريخية" ، والمتضمن أن هناك نظرية تشيع بين بعض المثقفين، مفادها أن الأرقام العربية في رسمها الراهن (1-2-3-4-الخ) هي أرقام هندية ، وأن الأرقام الأوروبية (..etc , 1,2,3,4). هي الأرقام العربية الأصلية، ويقودهم هذا الاستنتاج إلى خطوة أخرى ، هي الدعوة إلى اعتماد الأرقام في رسمها الأوربي في البلاد العربية ، داعمين هذا المطلب، بأن الأرقام الأوروبية أصبحت وسيلة للتعامل الحسابي مع الدول والمؤسسات الأجنبية ، التي باتت تملك نفوذًا واسعًا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية، وأن ظهور أنواع الآلات الحسابية و (الكمبيوتر) التي لا تستخدم إلا هذه الأرقام يجعل اعتماد رسم الأرقام الأوروبية في البلاد العربية أمرًا مرغوبًا فيه، إن لم يكن شيئًا محتومًا لا يمكن تفاديه .

ونظر أيضًا فيما تضمنه البحث المذكور، من بيان للجذور التاريخية لرسم الأرقام العربية والأوربية.
واطلع المجلس أيضًا، على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، في دورته الحادية والعشرين، المنعقدة في مدينة الرياض مابين 17-28 من شهر ربيع الآخر عام 1403هـ في هذا الموضوع والمتضمن أنه لا يجوز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حاليًّا إلى رسم الأرقام المستعملة في العالم الغربي للأسباب التالية :
أولاً: أنه لم يثبت ما ذكره دعاة التغيير، من أن الأرقام المستعملة في الغرب هي الأرقام العربية، بل إن المعروف غير ذلك، والواقع يشهد له . كما أن مضي القرون الطويلة، على استعمال الأرقام الحالية في مختلف الأحوال والمجالات، يجعلها أرقامًا عربية، وقد وردت في اللغة العربية كلمات لم تكن في أصولها عربية، وباستعمالها أصحبت من اللغة العربية، حتى إنه وجد شيء منها في كلمات القرآن الكريم (وهي التي توصف بأنها كلمات معرَّبة).

ثانيًا: أن الفكرة لها نتائج سيئة وآثار ضارة ، فهي خطوة من خطوات التغريب للمجتمع الإسلامي تدريجيًّا ، يدل علـى ذلك ما ورد في الفقرة الرابعة من التقرير المرفق بالمعاملة ، ونصها : (صدرت وثيقة من وزراء الإعلام في الكويت تفيد بضرورة تعميم الأرقام المستخدمة في أوربا، لأسباب أساسها وجوب التركيز على دواعي الوحدة الثقافية والعلمية، وحتى السياحية على الصعيد العالمي).
ثالثًا: أنها (أي هذه الفكرة)، ستكون ممهدة لتغيير الحروف العربية، واستعمال الحروف اللاتينية، بدل العربية، ولو على المدى البعيد.
رابعًا: أنها (أيضًا) مظهر من مظاهر التقليد للغرب واستحسان طرائقه.
خامسًا: أن جميع المصاحف والتفاسير، والمعاجم، والكتب المؤلفة كلها تستعمل الأرقام الحالية في ترقيمها، أو في الإشارة إلى المراجع، وهي ثروة عظيمة هائلة، وفي استعمال الأرقام الإفرنجية الحالية (عوضًا عنها) ما يجعل الأجيال القادمة، لا تستفيد من ذلك التراث بسهولة ويسر.
سادسًا: ليس من الضروري متابعة بعض البلاد العربية، التي درجت على استعمال رسم الأرقام الأوربية، فإن كثيرًا من تلك البلاد قد عطلت ما هو أعظم من هذا وأهم ، وهو تحكيم شريعة الله كلها، مصدر العز والسيادة، والسعادة في الدنيا والآخرة، فليس عملها حجة.
وفي ضوء ما تقدم يقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي:
أولاً : التأكيد على مضمون القرار الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في هذا الموضوع والمذكور آنفًا، والمتضمن عدم جواز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حاليًّا، برسم الأرقام الأوربية المستعملة في العالم الغربي للأسباب المبينة في القرار المذكور.
ثانيًا: عدم جواز قبول الرأي القائل بتعميم رسم الأرقام المستخدمة في أوربا بالحجة التي استند إليها من قال ذلك، وذلك أن الأمة لا ينبغي أن تدع ما اصطلحت عليه قرونًا طويلة، لمصلحة ظاهرة وتتخلى عنه تبعًا لغيرها.
ثالثًا: تنبيه ولاة الأمور في البلاد العربية، إلى خطورة هذا الأمر، والحيلولة دون الوقوع في شرك هذه الفكرة الخطيرة العواقب على التراث العربي والإسلامي.

والله ولي التوفيـق. وصـلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم "( توقيع الرئيس ونائبه والأعضاء )(32) .

- وثاني المثالين اللذين رأيت الاقتصار عليهما : تطبيق عملي ، وهذا نصه :
" الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد أما بعد : فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، قد نظر في جلسته الأولى من صباح يوم الأحد 9/4/1403 هـ في موضوع انتخاب رئيس للمجلس ، خلفا لسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – وبناء على ما ورد في المادة الرابعة من نظام المجمع الفقهي الإسلامي ، والذي جاء فيها : " يتم انتخاب الرئيس من قبل مجلس المجمع بأكثريته المطلقة " . وعليه فقد قرر المجلس بالاتفاق أن يكون صاحب السماحة معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي . والله ولي التوفيق ، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم " ( توقيع الرئيس ونائبه والأعضاء )(33).

وبهذا يتبين أنَّ الفقهاء يعتبرون العمل بالسياسة الشرعية في الجملة ؛ وإن اختلفوا في العمل بها بين موسِّعٍ ومضيِّق ؛ ولهذا قال أبو الوفاء ابن عقيل : " ولا يخلو من القول به إمام " (34) .

وللحديث في اعتبار السياسة عند الفقهاء بقية أستكملها في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى .

-----------------------
(1)أمَّا ما جاء من مسائل السياسة الشرعية في كتب السِّيَاسة الشَّرعيَّة المتخصصة ، فأظهر من أن يُذكر ؛ فلا يطال بذكر شيءٍ منه ؛ بل تكفي عناوينها أو تصفحها في بيان المقصود .
(2)فتح القدير شرح الهداية ، لابن الهمام : 5/376 . وانظر ذكراً لمفهوم السياسة في أخذ السلطان الزكاة ممن لم يدفعها للإمام مدعياً دفعها للفقراء. في المصدر نفسه : 2/225.
(3)البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، لابن نجيم : 5/18 . ونص الحديث المشار إليه : (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )) . رواه أبو داود : ك/ الحدود ، ب/ فيمن عمِل عمَل قوم لوط ، ح(4462) ؛ و الترمذي : ك/الحدود ، ب/ ما جاء في حد اللوطي ، (1456) ؛ وابن ماجه : ك/الحدود ، ب/ من عمِل عمل قوم لوط ، ح(2561) .
وقد صححه ابن حبان (11/103) ، والحاكم (4/355) ؛ والذهبي ( تلخيص المستدرك ) ؛ وابن القيم : ( في مواضع من كتبه ، منها : زاد المعـاد في هـدي خير العباد :5/40) ؛ وينظر : التلخيص الحبير ، لابن حجر : 4/54-55 ؛ و إرواء الغليل ، للألباني : 8/17،ح(2350) ؛ وتعليق د. سعد بن عبد الله الحميد على : مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم ، لابن الملقن : 7/3125 .
(4)منحة الخالق على البحر الرائق ، لابن عابدين ، بهامش البحر الرائق : 5/67 ؛ وينظر : رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، لابن عابدين :4/16 . والعبارة أوردها ابن نجيم نقلاً عن الفتاوى السراجية ؛ وجاء فيه : " إذا سرق ثالثاً ورابعاً ، للإمام أن يقتله سياسة ؛ لسعيه في الأرض بالفساد " ، نقله عن السراجية . وفيه : قال : " فما يقع من حكام زماننا من قتله أول مرَّة زاعمين أن ذلك سياسة ، جور وظلم وجهل ، والسياسة الشرعية عبارة عن شرع مغلظ " . نفس الموضع .
(5)الدر المختار شرح تنوير الأبصار ، للحصكفي ، مطبوع بأعلى حاشيته : رد المحتار على الدر المختار ، لابن عابدين :4/15 . وفي هذه الحاشية ، بحث في السياسة معنون بـ" مطلب في الكلام على السياسة " : 4/15-17.
(6)ينظر فوق ما سبق : رسائل ابن نجيم : 117 .
(7)التاج والإكليل لمختصر خليل [ بحاشية مواهب الجليل ] : 8/225 .
(8)نقله عنه صاحب : مواهب الجليل لشرح مختصر خليل : 4/347
(9)شرح الزرقاني على مختصر خليل ، لعبد الباقي الزرقاني : 4/110 . وعدَّ بعض من أفتى به من المالكية ؛ وينظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، لمحمد عرفة الدسوقي : 4/350 .
(10)ينظـر : الذخيـرة ، للقرافي :10/42 وما بعدها ؛ وتبصرة الحكام ؛ فقد عقد مؤلفه ابن فرحون المالكي ، القسم الثالث من الكتاب : " في القضاء بالسياسة الشرعية "، و ذكر فيه كثيـراً مـن الأمثلة ، من شتَّى أبواب الفقه : 2/ 137-366 .
(11)إعلام الموقعين : 4/458 .
(12) المنثور في القواعد :1/309 .
(13) للدمياطي :4 /351 .
(14) الوسيط في المذهب ، للغزالي : 6/246 .
(15) للإمام النووي : 6/308 .
(16) قال ابن القيم رحمه الله : " وأبعد الناس من الأخذ بذلك الشافعي مع أنَّه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع … وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب …" . إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(17) ينظر فوق ما سبق : نهاية المحتاج ، للرملي : 8/240 ؛ والتلخيص ، لأبي العباس الطبري ابن القاص : 74-75 ؛ والتجريد لنفع العبيد ، للبجيرمي : 4/232 .
(18) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، علي بن سليمان المرداوي :10/250 . والمخنَّث : الذي يتشبَّه بالنساء والذي يمكن غيره من نفسه. قال أبو العباس ابن تيمية : " فإنَّ المخنَّث فيه إفساد للرجال والنساء ؛ لأنَّه إذا تشبه بالنساء فقد تعاشره النساء ويتعلمن منه ، وهو رجل فيفسدهن ؛ ولأنَّ الرجال إذا مالوا إليه فقد يُعْرِضُون عن النساء ؛ ولأنَّ المرأة إذا رأت الرجل يتخنَّث فقد تترجل هي ، وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين ، وقد تختار هي مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال ؛ وأما إفساده للرجال فهو أن يُمَكِّنَهم من الفعل به - كما يفعل بالنساء - بمشاهدته ومباشرته وعشقه …" . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 15/310 . وينظر : 15/322 ؛ و الكليات ، للكفوي : 872 .
(19) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/457 .
(20) المصدر السابق : 4/458 .
(21) قال البهوتي بعد أن نقل هذه العبارة : " قلت : ولا تخرج عما أمر به أو نهى عنه ". كشاف القناع عن متن الإقناع ، لمنصور البهوتي : 6/126-127 .
(22) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ ينظر : الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، للمرداوي :10/250 . ولم أقف على هذه العبارة في المطبوع من كتاب الفنون ( جزآن ) مع استعراضه وتكرار البحث فيه ؛ فلعله في الأجزاء التي تُقدر بالمئآت مما لم يطبع بعد ، إن كان موجودا .
(23) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 .
(24) الطرق الحكمية : 14؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/451 .
(25) المساحقة : إتيان المرأة المرأة ، و قد يعبر عنه بـ : تدالك المرأتين . ينظر : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير] :10/157 ؛ وكشاف القناع عن متن الإقناع ، للبهوتي : 6/121.
(26) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(27) الفروع ، لابن مفلح : 2/158. ويذكرون ذلك في كتبهم عند بيانهم أحكام صلاة الاستسقاء .
(28) ينظر : الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي ، د. عارف خليل أبو عيد : 437
(29) المحلَّى : 11/404 .
(30) صليبة ، أي : خالص النسب ، من صلب قريش ، مجازي . ينظر : أساس البلاغة ، للزمخشري :358 مادة ( صلب ) .
وشرط النسب القرشي في الخليفة هو ما عليه جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة ، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء المتقدمين . ولكن هذا الشرط إنما يراعى عند الاختيار من قبل أهل الحل والعقد ، أما من تولّى إمامة المسلمين بغير هذه الطريقة فلا يشترط فيه القرشية ، كالمتغلب مثلا ومن عُهد إليه من إمام سابق وخشيت الفتنة إن عُزِل ؛ ففي مثل هذه الحالة تجب طاعته في غير معصية والجهاد معه ونحو ذلك ، وله من الحقوق ما جاءت به النصوص في وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية ، وما جاءت به من النهي عن الخروج عليهم ، وإن لم تكتمل شروط الخلافة فيه .
ينظر : الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة ، للشيخ د. عبد الله بن عمر الدميجي :265-295 .
(31) الإحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم : 7/1268 .
(32) القرار الثالث للدورة السابعة المنعقدة من يوم 11/16 1404هـ .
(33)القرار الأول من الدورة السادسة سنة 1403هـ .
(34) الطرق الحكمية : 14 ؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/451 .

هل ثم اختلاف في اعتبار العمل بالسياسة الشرعية ؟

د. سعد بن مطر العتيبي

مما سبق يتبين أنَّ الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين يعتبرون العمل بالسياسة الشرعية في الجملة ؛ وإن اختلفوا في العمل بها بين موسِّعٍ ومضيِّق ؛ على ما سبقت الإشارة إليه .
و لم يقف كاتب هذه الموضوعات على خلاف عن أحد من الأئمة والمحقين في ردِّ العمل بالسياسة الشرعية مطلقاً ؛ نعم ، اشتهر أنَّ بعض الشافعية (1) قال : " لا سياسة إلا ما وافق الشرع " ؛ وذلك من مناظرة جرت بينه وبين أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ؛ وهذا كما هو ظاهر ، ليس فيه نفي للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وإنَّما هو إثبات للعمل بها بشرط موافقة الشرع ؛ وهذا محلُّ وفاق ، إذ مراده بموافقة الشرع : موافقة نصوصه وقواعده ، أو : عدم مخالفة ما نطق به الشرع - كما عبَّر ابن عقيل .

وهذا الذي ينبغي أن يُفَسَّر به قول هذا الفقيه الشافعي ؛ لأنَّ التقييد بموافقة الشرع ، اقتضاه ما اشتهر من بعض الولاة في تلك الأزمان ، من الحكم بـ( السياسة ) المخالفة للشرع ؛ " حتى صار يقال : الشرع والسياسة ، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة ، سوغ حاكماً أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة " (2) .

ولهذا الملحظ أجاب ابن عقيل رحمه الله ذاك الفقيه الشافعي ، بأنَّ مراده بالسياسة : السياسة الشرعية ، لا مطلق السياسة .
ولمَّا كان قوله : " ما وافق الشرع " يحتمل معنىً آخر قد يكون مقصوداً للمعترض ؛ فقد فرضه ابن عقيل – كما هو شأن المناظر الحاذق – وأجاب عنه ؛ حيث قال : " وإن أردت : ما نطق به الشرع ؛ فغلط ، و تغليط للصحابة ؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة … " . تنظر الحاشية التالية . ولم يذكر من ساق هذه القصة - ممن وقف الباحث على كلامهم - جواباً لهذا الشافعيِّ على ابن عقيل ؛ فلعلَّه ، لمَّا تحرَّر له محلَّ المناظرة ؛ و دقق له ابن عقيل صياغة العبارة - زال اعتراضه . وعلى كل حال فهو خلاف منسوب إلى فقيه لم يسم حتى يُعرف قدره في العلم (3) .

؛ ومن هنا رتَّب د. عبد الفتاح عمرو عايش - رحمه الله
تعالى - المذاهب الفقهية وعلماءها ، من جهة الأخذ بالسياسة الشرعية واعتبارها ، سعة وضيقاً ؛ على النحو الآتي : المالكية ، وخاصًّة : ابن فرحون ، والشاطبي ، والقرافي ، ثم متأخِّروا الحنابلة ، وخاصَّة : ابن عقيل ، وابن تيمية ، وابن القيم ، ثم الحنفية وخاصَّة : ابن نجيم ، ثم الشافعية ، وخاصَّة : العزّ ابن عبد السلام ، ثم ابن حزم الظاهري(4).

ويظهر أنَّ هذا الترتيب نُظِرَ فيه إلى التصريح بلفظ " السياسة " ، لا مطلق اعتبارها ؛ ذلك أنَّ كثيراً من العلماء المتقدمين يعتبرون العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة ؛ لكنهم لا يصرِّحون بهذا اللفظ ؛ بل كثيراً ما يعبرون بأصول السياسة الشرعية ؛ كالمصلحة ، والضَّرورة ، والاستحسان ، وغيرها ؛ ومن استعرض كتبهم : كالخراج ، والأم ، وفتاواهم كمسائل الإمام أحمد ؛ تأكَّد له ذلك

ومن هنا - أيضا - فما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ، غير مسلَّم ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض وجوه أسس السياسة الشرعية وتطبيقات تلك الوجوه ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى أمور ، منها :

- حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، فيما لم يرد فيه نصٌّ ، مطلقاً ، سواء كان نصاً جزئياً خاصاً متعيناً أو غير متعين . وهذا مفهوم ضيق للسِّيَاسة الشَّرعيَّة .

- الخلط بين اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية ، الذي سبقت الإشارة إلى كونه لفظياً في عدد من أمهاتها في الحديث عن الأسس - وبين العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة.
- الخلط بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها ( سِّيَاسة ) أو ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء للعمل بالسياسة الشرعية ؛ وإن كان الفرق بين الأمرين ، لا يخفى .
- الخلط بين سوء تطبيق السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛ وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة .

وهذا مدار الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

----------------------------------------------
(1)ينظر : الطرق الحكمية ، لابن القيم :14.
(2)مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/392 -393 .
(3)وهذا سياق المناظرة كما أورده ابن القيم ، قال : جرت في جواز العمل في السلطنة ، بالسياسة الشرعية " مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء :
- فقال ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ، ولا يخلو منه إمام .
- وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع .
- فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي ؛ فإذا أردت بقولك : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، أي : لم يخالف ما نطق به الشرع ؛ فصحيح . وإن أردت ما نطق به الشرع ، فغلط ، وتغليط للصحابة ؛ فقـد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحـده عالم بالسير ، ولو لم يكن إلا تحريـق المصاحف ، كان رأياً اعتمـدوا فيه على مصلحة ، وكذلك تحريق عليٍّ كرَّم الله وجهه الزنادقةَ في الأخاديد ، ونَفْى عمرُ نَصْرَ ابن حجاج " . إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/372 ط دار الفكر .
(4)السِّيَاسة الشَّرعيَّة في الأحوال الشخصيَّة : 37 .

العمل بالسياسة الشرعية بين مكر الأعداء وعجز العلماء وجهل الأبناء

د. سعد بن مطر العتيبي

سبق في الحلقة الماضية أن ما يذكر من خلاف في جملة العمل بالسياسة الشرعية ، غير مسلَّم به قادحاً في الاتفاق على العمل بها ؛ إذ المتأملُ يتضح له أن ما يُحكى من خلاف في العمل بالسياسة الشرعية ، غايته أن يكون خلافاً في بعض مصادر السياسة الشرعية ، لا في العمل بالسياسة الشرعية ، وأنَّ لذلك أسبابا ، منها : حصر مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، في مفهومٍ ضيق ؛ والخلط بين اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض مستندات السياسة الشرعية وبين العمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة من جهة ، و بين رفض العلماء لتصرفات بعض الولاة التي يسمونها ( سِيَاسة ) أو ربما ينسبونها إلى السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، وبين اعتبار العلماء للعمل بالسياسة الشرعية من جهة أخرى ؛ والخلل في إدراك الفرق بين سوء تطبيق السِّيَاسة الشَّرعيَّة من بعض الولاة والحكَّام ، واعتراض العلماء على ذلك ؛ وبين اعتبار العلماء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة .

ومما ينبغي العلم به هنا أنَّ سوء النظر وسوء التطبيق هذا عائد إلى تفريط طائفة ، وإفراط أُخرى :
فالأولى : طائفة سدٌّت على نفسها وعلى الناس ، من طرق السياسية الشرعية ما تستقيم به أمورهم ؛ ظنَّاً منهم منافاتها لقواعد الشرع ؛ " والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصيرٍ في معرفة حقيقة الشريعة ، والتطبيق بين الواقع وبينها " (1) .
ولا زال منهم أقوام في هذا العصر ممن ينتمون إلى أهل الإسلام ، لكنهم لم يأخذوا الكتاب بقوّة ، ولم يتعلموا الشرع بوعي ، وبلغ الأمر ببعضهم أن صار جاهلاً مركباً ، يبحث عن تأويلات فاسدة للوازم نظره الفاسد من سوء الظنّ بالمشرِّع ، والتشكيك في لزوم حمل الكافّة على النظر الشرعي في جميع شؤونهم .
والثانية : سوَّغت باسم السياسة ما يناقض حكم الله ورسوله ، من السياسات والقوانين ؛ لمَّا رأت أن النَّاس لا يستقيم أمرهم إلا بشيءٍ زائدٍ على ما فهمه أولئك المفرِّطون ، من الشريعة ؛ " فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة ، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل ، وفسادٌ عريض … وكلا الطائفتين أُتيت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعثَ الله به رسولَه …" (2) .

وهذه الفئة هي في عصرنا أشرّ مأخذاً وأخطر أثراً ، إذ قادها في عصرنا أعداء الملّة ، ووسع دائرتها وأبرز شبهها بعض من انخدع بالأفكار الوافدة من تلاميذ المستشرقين ، وهي في كثير من شبهها مستقاة من مياه الفكر الفلسفي الغربي الآسنة .
وثمة فئة معاصرة تجاوزت حدّ الإيمان والتسليم بشرع الله ، ووصل بها الحال إلى المطالبة بالأحكام الوضعية التي تناقض مسلمات الشرع الحكيم ، وتتعدى على ثوابت الدين الحنيف ، فيما يشبه موجة الزنادقة التي ظهرت في مراحل ضعف الدول الإسلامية السالفة ؛ وكان فيهم من يصرح بردته ويتباهى بأيديلوجية كافرة ، وربما ألبست بلبوس مصطلحات معاصرة حكم بكفر أفكارها علماء الإسلام ، كالعلمانية الرافضة لسياسة الدنيا بالدين والليبرالية الملحدة المطالبة بتجاوز أحكام كل دين ؛ وهؤلاء لم يدعوا مجالا لمناقشة فكرهم في دائرة الإسلام ، ولذلك يناقش فكرهم ويفند كما يناقش فكر أهل الكفر والزندقة سواء بسواء .

ولكنَّا وجدنا من بني جلدتنا من علقت بفكره بعض شبههم ، وظهر تأثره ببعض طرحهم ولو على سبيل المطالبة بتفنيد الشبهة لا تبنيها ، فقرأنا لمن يشكك في إمكان تطبيق الشريعة بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة ، زاعمين أن الشرع لم يطبق بعد ذلك ! وسمعنا من يلوك ذات الجهالة .
ومن هنا فإنَّ من المناسب التعريج على شيء مما يكشف حقيقة هذه الشبهة أو الجهالة التي يحسن وصفها بالفرية ، إذ يكذبها واقع القضاء على مرّ العصور الإسلامية ، ويردّها التاريخ بأخباره ووقائعه وأحداثه وطبقات الرجال من قضاته ، ويقطع دابرها التفاتة عابرة إلى ضخامة التراث الفقهي الإسلامي الذي دون كثيرا منه قضاةُ الإسلام ، حتى كان وصف القاضي من أظهر أوصاف الفقهاء فيما مرّ من الأزمان ؛ بل وجدنا في تاريخ الفقه نقلة في خدمة القضاة ، تتمثل في تدوينٍ فقهيٍ على نمط التنظيم والتقنين الحديث تقريبا للأحكام من غير إلزام فيما لا يشرع الإلزام به ، وتميز بذلك أشهر مذهبين حكَم أتباعهما الدول الإسلامية السالفة ، وهما المذهب الحنفي في المشرق والمالكي في المغرب ، فلن يعسر على باحث منصف أن يرجع إلى كتبٍ من هذا النوع لبعض قضاة الحنفية من مثل : خزانة الفقه ، لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي (ت/373) ؛ وهو الكتاب الذي تبعه في ذات النهج مهذبا ومطوِّراً القاضي أبو الحسين علي بن الحسين السّغدي (ت/461) في كتابه المنظّم : النتف في الفتاوى ، وكان يذكر الآراء إن تعددت دون ترجيح ليُرَجِّح المتفقه والقاضي منها ما يراه راجحا ؛ ولن يعسر على الباحث أيضا أن يطلع على ما جاء عند المالكية شبيها بذلك من مثل : أصول الفتيا في الفقه ، لمحمد بن حارث الخشني (ت/361) . وأما كتب القضاء وسياساته وتراتيبه في ظلال الدول الإسلامية فأمر لا يخفى على عوام باعة الكتب .

أما الحديث المصنفة في القضاء ونوازله فأمر من الظهور بمكان ، حتى إنه لحري أن يعاب جهله على من يدعي ثقافة ، بله طالب فقه . بل إنَّ استشعار حقيقة الجهل حمل د. خالد محمد خالد وهو من أشهر من أثار هذه الفرية إن لم يكن أشهرهم إلى التراجع عنها وعن علمانية الحكم ، وكشف ستر الفكر المنحرف الذي دفعه إلى القول بها ، وأصدر بكل شجاعة كتاباً سماه " الدولة في الإسلام " أعلن فيه أنَّ الإسلام دين ودولة بلا مراء (3) .

وما أعسر الحديث في إثبات الواضحات ، ولمن قلّ اطلاعه على علوم أهل الإسلام وأراد تثقيف نفسه في هذا المجال حتى لا يمرِّر عليه الجائرون ظلمهم للتاريخ ، ومكابرتهم للواقع – أُرشد الباحث عن الحقيقة إلى الاطلاع على الكتب المتخصصة في نظام القضاء الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته ، ما بين مؤصّل مطوّل مثل : القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، للدكتور عبد الرحمن الحميضي ، وهو رسالة دكتوراه محكّمة ، ووجيز كاشف للحقيقة بلغة الواقع ، مثل : دراسة في تاريخ القضاء الشرعي في الإسلام وتطوراته منذ عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر ، للدكتور إبراهيم الربابعة ، وإن شاء نوعا آخر من التأليف الكاشف لجهل المنكرين الموضِح لمكانة قضاة المسلمين ، فليطع على كتاب من مثل : أثر القضاء في الدعوة إلى الله تعالى دراسة تأصيلية وتطبيقية في العصر العباسي .

ولست هنا أرمي إلى قصد تفنيد تلك المقولة التي لم يع أصحابها معنى استشهاد الفقهاء بسنن الخلفاء الراشدين دون غيرهم من الخلفاء ، امتثالا لوصية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم باتباع سنتهم ، دون غيرهم من خلفاء الإسلام – وإنما القصد الإشارة إلى هذا الانحراف المبني على هذه الفرية الواهية ، وإلا قد فنّدها علماء الإسلام ومفكروه المعاصرون ، وبيّنوا سذاجتها وفكَّكوا فكرتها . ومنهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في الباب السادس من كتابه القيم : " الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه " ؛ والدكتور المستشار طارق البشري في كتابه المفيد : " الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي " ؛ ومما كُتب حديثا في رد هذه الفرية ، سلسلة من المقالات لم تكتمل بعد ، بعنوان : " تحكيم الشريعة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي " ، لأخينا الدكتور علي الصلابي وفقه الله (4) .

وعوداً على بدأ ؛ فإنَّ مِمَّا يؤيد ما سبق من أسباب توهم الخلاف في إعمال السياسة : أنَّ العلم بطرق استنباط السياسة الشرعية الرئيسة ؛ كالعلم بفقه القواعد الكلية ، والمقاصد المرعيّة ، والمنفيّة ، وإلحاق فروع كلٍّ منها بها - من العلوم التي تُعدّ مزية للفقيه المتبحِّر - لا ينهض بها كلُّ أحد ؛ لما قد يظهر من معارضة جزئياتها للأدلة ؛ وحيث قد اشتهر فقه بعض الأئمة بتعليل فروع تلك الكليات بها أكثر من غيرها ، كمذهب الإمام مالك ؛ فقد كان ذلك منهم محلَّ ثناء وتبجيل ؛ فهذا الحافظ الذهبي يُثني على فقه الإمام مالك ، بقوله : " وبكل حال فإلى فقه مالك المنتهى ؛ فعامَّة آرائه مُسَدَّدَة ، ولو لم يكن له إلا حسم مادّة الحيل ، ومراعاة المقاصد (5) لكفاه " (6) ، وهذه من حقائق السياسة الشرعية وكبرى ملامح فقهها .

وقال أبو العبَّاس ابن تيمية - بعد أن ذكر وجوب سياسة الناس سياسة شرعية يكون السيف فيها تابعاً للكتاب كما كان الأمر على عهد الخلفاء الراشدين ، وكان أهل المدينة بعد ذلك أرجح فيه من غيرهم - : " وهذه الأمور من اهتدى إليها ، وإلى أمثالها ؛ تبين له أن أصول أهل المدينة أصح من أصول أهل المشرق ، بما لا نسبة بينهما " (7) .
وقال : " خاصَّة الفقه في الدين … معرفة حكمة الشريعـة ومقاصدها ومحاسنها " (8) .
وقال : " … العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم ، وإنَّما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده ، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ، والعدل التامّ " (9) .
وقال شهاب الدين القرافي : " تخريج الأحكام على القواعد الأصولية الكلية أولى من إضافتها إلى المناسبات الجزئية ، وهو دأب فحول العلماء ، دون ضَعَفَةِ الفقهاء" (10) . و جلّ فقه السياسة الشرعية من هذا الباب .

وهذا مما يدل على فضيلة علم السياسة الشرعية وعلو منزلته من الفقه في الدين والله تعالى أعلم .
وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

---------------------------
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لابن القيم : 4/137 .
(2) المصدر السابق : 4/451-452 ؛ وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 2/137 .
(3) ينظر : الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه ، د. يوسف القرضاوي : 170 . وقد كشف الشيخ القرضاوي أن الفرية ليست من بنات أفكار فؤاد زكريا ، وهي ملاحظة تكشف قلّة أمانة القوم . وهكذا الشأن في كثير من طرحهم ما هم إلا نقل عن المستشرقين أو تلامذة المستشرقين ، وما أقبح التعالم بالغوية ، فكيف إذا كان مصدرها تقليد إمعة .
(4) وهذه السلسة على هذا الرابط : http://almanara.org/new/index.php?scid=32&pid=122
(5)المقاصد هي : " المعاني [ العلل ] والحِكَم [ ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة وتكميلها أو درء مفسدة وتقليلها ] ونحوها [ من الألفاظ التي بمعناها كالغاية ] التي راعها [ أرادها ] الشارع في التشريع عموماً [ المقاصد العامة التي تجتمع عليها جميع الأدلة أو أكثرها ] وخصوصاً [ المقاصد الخاصة التي قصدها الشارع في كل حكم من الأحكام ، من حِكَم وعلل ] ، من أجل تحقيق مصالح العباد " . مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية ، د. محمد سعد اليوبي : 37-38 . وعرفها د. عوض القرني بأنَّها : " الغايات التي أنزلت الشريعة لتحقيقها لمصلحة الخلق في الدارين " . المختصر الوجيز في مقاصد التشريع : 19، ط-1419 ، دار الأندلس الخضراء : جدة .
(6) سير أعلام النبلاء : 8/ 92.
(7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/393 ، وينظر : 395 .
(8) المصدر السابق : 11/354 .
(9) المصدر السابق : 20/583 .
(10)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 90 . وينظر : تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية ، لمحمد بن علي بن الحسين المالكي [ بهامش الفروق ] : 4/97 .

معيار التفريق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(1)
د. سعد بن مطر العتيبي

السياسة الشرعية بمدلوليها العام والخاص هي : كل حكم أو إجراء وتدبير تُساس به الكافَّة (1) ، على مقتضى النظر الشرعي (2) ( أي تطبيق الشريعة الإسلامية وقوانينها ) .
والسياسة الوضعية في النظر الإسلامي الشرعي هي : كل سياسة تُحمل فيها الكافَّة ، على غير مقتضى النظر الشرعي (3) ( أي لا يراعى فيها تطبيق الشريعة الإسلامية وقوانينها ) .

وهذا التوصيف ينطلق من معيار علمي عملي هو : النظر في السياسات المقننة أو التي عليها العمل ، التي يُعَبَّر عنها بـ( النظام السياسي ) ؛ الذي يقصد به نظام الحكم في أي بلد من البلاد ، و يتناول شرحه ما يُعرف بـ( علم القانون الدستوري ) (4) ؛ فالسياسات الوضعية ، رديف لما يُعرف في هذا العصر بـ" الدساتير الوضعية " ، وما يتفرع عنها (5) ، مِمَّا لا تُقِرُّه الشريعة الإسلامية ؛ إذ إنَّ ما تقرُّه الشريعة الإسلامية يعدّ حقاً ولو صدر من غير المسلمين .
وهي داخلـة في مصطلح ( القانون ) بمدلوله الواسع ، الذي هو : " مجموعة القواعد و المبادئ والأنظمة ، التي يضعها أهل الرأي (6) ، في أمَّةٍ من الأمم ؛ لتنظيم شؤون حياتهم الاجتماعية ، والاقتصادية ، تنظيماً آمِراً مُلْزِماً ، استجابةً لمتطلبات الحياة وسدّاً لحاجاتها " (7) .

وتعريف النظام السياسي بـ ( النظام الدستوري ) ، يقوم على ما يعرف بـ ( النظرية القانونية التقليدية ) ، التي تستند إلى قاعدتي : الدولة ( السلطة ) ، ونظام الدولة ، التي تعتبر أوضح معايير التعرّف على الأنظمة السياسية ، وتقييمها ، وأسلمها ، حيث تعتمد على حقيقة واقعة رسمية ، هي : أنَّ النظام السياسي هو النظام الدستوري بذاته (8) ؛ إذ النظام السياسي هو : " الشكل الخارجي للسلطة العامّة وما يحيط به من قواعد تُحَدِّد شكل الدولة أو الحكومة ووظائفها القانونية ، وكيفية ممارسة السلطة من خلال دراسة النصوص الواردة في الدستور " (9) .
والدّستور هو : مجموعة القواعد التي يرجع إليها في تنظيم الدولة والمجتمع (10) .

ويستند التصنيف السابق للدول والسياسات وفق معيار الدستور ، في النظر الفقهي الشرعي إلى التقسيم الفقهي للدول في القانون الدولي الإسلامي :
إذْ يقسم الفقهاء الدول إلى : دولة إسلامية : يحكمها المسلمون ، وتنفذ فيها الأحكام الإسلامية ، ويكون النُّفُوذ فيها للمسلمين ، ولو كان غالب أهلها من غير المسلمين . ودولة غير إسلامية أو دولة كفر ، وهي : كل دولة يحكم فيها بغير القانون الإسلامي ، ويتأكد ذلك بأن يتولى قيادتها رئيس غير مسلم .

ويُلحَظ أنَّ المعتبر في التمييز بين الدّولة الإسلامية وغيرها : وجود السلطة ، وسريان الأحكام ؛ فإذا اجتمعت السلطة الإسلامية التي تُنَفِّذ أحكام الإسلام ، وتبسط الأمن في البلاد ، كانت سياسة إسلامية ودولة إسلامية ؛ وإذا اجتمعت السلطة وتنفيذ الأحكام الوضعية ، كانت سياسة غير إسلامية ودولة غير إسلامية .
فمعيار وصف السياسة والدَّولة بأنَّها إسلامية أو غير إسلامية : القوانين التي يُحكم بها ؛ فإن كانت قوانين إسلامية فهي دولة إسلامية ، وإن كان جل أهلها من غير المسلمين ؛ وإن كانت قوانين غير إسلامية فهي دولة غير إسلامية ، وإن كان جُلّ أهلِها من المسلمين .
وإن جمعت دولة صفاتٍ من الدولتين ، أَخَذَت من حُكمِ كلٍ منهما ما يلتحق بها ؛ فيصير لها حال ثالثة من حيث المعاملة .
وهذا المعيار - السابق ذكره - هو المهمّ في الدراسات الفقهية والتنظيمية .

وقد قسم العلامة ابن خلدون السياسات الوضعية إلي قسمين :

القسم الأول : السياسات الطبيعية أو الملك الطبيعي .
وهي : التي تحمل فيها الكافة على مقتضى الغرض والشهوة . فهي تتبع طبع الحكّام من حيث شهواتهم وأغراضهم ، دون مراعاة لشرعٍ مستقيم أو عقـل سليم .
ومثالها في هذا العصر ما يعرف بالسياسة الاستبدادية (الدكتاتورية) ؛ وهي : نهج سياسي يقوم على حكم الفرد أو القلة للشعب وسياستِه في كل صغيرة وكبيرة ، قهرا دون إرادة ، ولا تخضع الحكومة فيه لنظام شرعي ولا لقانون وضعي معين ، ولا توجد فيه قيود على سلطات الحاكم وتصرفاته ، فهو الذي يصدر القوانين والأوامر واللوائح ، ويغيِّرها ويبدِّلها ، وفق ما يري ويهوى بل ويغير الدّستور ويبدِّله ؛ سواء كان الحكم عسكرياً أو مدنيا .
فأحكام هذه السياسات ، مستبِدَّة قاهرة ، مائلة عن الحق غالباً ؛ يحمل فيها النَّاس على ما ليس في طوقهم من الأغراض والشهوات ، ومن ثم تعسر الطاعة ؛ فيفضي ذلك إلى الخلل والفساد دفعة ، وتنقضي الدولة سريعاً ؛ بما ينشأ من الهرج والقتل ؛ نتيجة تعسُّرِ الطاعة وانتشار الظلم ؛ ولهذا أوجب ذوو الرأي الرجوع في السياسات إلى قوانين سياسية مفروضة ، على الكافَّة ، فينقادون لأحكامها ، وهو القسم التالي من قسمي السياسات .

القسم الثاني : السياسات العقلية أو الملك السياسي أو السياسات المدنية .
وهي : التي تحمل فيها الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ، ودفع المضار ؛ فهي سياسة تنظيمية عقلية دنيوية فقط ، تقوم على مجموعة الأحكام التي اصطلح أو تعارف شعب ما على لزوم الانقياد لها ، وتنفيذها ؛ لتنظيم الحياة المشتركة في هذا الشعب .
ومثال تلك السياسة في هذا العصر : السياسات " الديمقراطية " الغربية ، التي تستند إلى جملة من الأفكار والمبادئ ، التي أهمها : مبادئ الثورة الفرنسية ؛ حيث صارت صفة " الوضعية " مذهباً فكرياً ونظرية سياسية ، لا مجرد آليات كما قد يظن البعض .
والمراد هنا الديمقراطيات الغربية ، التي مظهرها : الديمقراطية النيابية : التي يمارس الشعب فيها مظاهر السيادة - مصدرية الأحكام والتشريعات - بواسطة مجلس نواب يرشحهم الناخبـون من الشعب ؛ فهي عند منظريها : حكم الشعب بالشعب ، حيث يحتفظ فيها الشعب بحـق التدخل المباشر لممارسة السيادة عن طريق وسائل مختلفة ، كحق الاقتراع ، والاستفتاء ، والاعتراض ؛ وهي سياسات بدأت تفقد ميزاتها بالتدخل في تغيير مسارها بالتزوير تارة وبالضغوط تارة وبالأحكام القضائية تارة أخرى ؛ و ها هي الديمقراطية الأمريكية تفتـح محاكم عسكرية في مطلع القرن الجديد !؟ وتقبض على العرب والمسلمين ؛ لتطبق عليهم قاعدة معكوسة ، كانت مثار سخرية الأمريكي يوماً ما ، تقول : المتهم مدان حتى تثبت براءته !؟

ومن أمثلة تلك السياسات – كذلك - : السياسات " الماركسية " غير الاستبدادية ؛ أو الاشتراكية العلمية ، المذهب السياسي الاقتصادي ، الذي نادى به ( كارل ماركس ) رداً على " الاشتراكية " التي : سماها الخيالية – بشَّرَ فيها بإقامة مجتمع ينعم بالمساواة السياسية والاقتصادية التامة ، والماركسية تقيم حكماً غليظاً يتصرف في كافة أمور المواطنين ، مع أنها تدعو لزوال الدول ؟‍ وتقوم على الحتمية التي لا ترد وقد ثبت فشلها عياناً وتهاوت أمام العالمين .
وتوصف هذه السياسات في الاعتقـاد الإسلامي بأنها أحد صور الشرك في الطاعة والانقياد أو التشريع ، حيث يُمنح المخلوقون حق التشريع المطلق ، الذي هو كالخَلْق ، من خصائص الله تعالى : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 54) [ الأعراف] ؛ إذ يمنع الإسلام تشريع الإنسان للإنسان تشريعاً مطلقاً . ويشير القرآن الكريم إلى سبب تعدد السياسات غير الشرعية ونتائجها على البشرية في آيات ، منها الآية الخامسة من سورة ق : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ) ؛ فها هي النظريات السياسية تُستحسن فتقدس ثم ما تلبث أن يَتَبَدَّى انتكاسها ؛ فتُنْتَقص ، ثم تُنبذ شيئاً فشيئاً حتى يَحلّ غيرُها محلَّها ، وهكذا دواليك ، أمر مريج مختلط ؛ وانتكاسات متتالية ، نهايتها الانهيار التام ، بل ربما العداء الشديد لها من قيادات الجيل الجديد (11) .

وإلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

---------------------------
(1)الكافَّة : الجميع من الناس . ينظر : الصحاح ، للجوهري : باب الفاء ، فصل الكاف . والمراد هنا : الأمَّة المسوسة " المحكومة " .
(2)ينظر : مقدمة ابن خلدون : 191 ؛ وبدائع السلك في طبائع الملك ، لابن الأزرق : 1/291.
(3)نفس الإحالة السابقة .
(4)ينظر على سبيل المثال : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لعبد الحميد متولي : 1/24 ؛ والنظم السياسية والقانون الدستوري ، لحسين عثمان : 14 .
(5)ينبغي التنبه إلى أن القواعد الدستورية لا تنحصر في ( القانون الدستوري ) . ينظر : القانون الدستوري والمؤسسات السياسية ، لأندريه هوريو :1/284 ؛ والقانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لعبد الحميد متولي : 1/ 21 ، الحاشية رقم (1) والقانون الدستوري والنظم السياسية ، لعبد الحميد متولي ، وسعد عصفور ، ود. محسن خليل : 15-16 .
(6)ينظر بدائع السلك في طبائع الملك ، لابن الأزرق :1/291 .
(7)مدخل الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة ، لعبد الله العجلان ، ونبيل طاحون : 19-20 .
(8)ينظر : الوسيط في القانون الدستوري العام ، آدمون رباط : 2/126،577 وما بعدها ، بواسطة : الدساتير والمؤسسات السياسية ، د. إسماعيل الغزال :11 .
(9)الدساتير والمؤسسات السياسية ، لإسماعيل الغزال : 10 .
(10)الدُّستور ، كلمة مُعَرَّبة عن الفارسية ، وأصلها فيها : الأساس أو القاعدة ؛ قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط : " الدستور ، بالضم : النسخة المعمولة للجماعات التي منها تحريرها ، مُعَرَّبة ، ج[ جمعها ] : دساتير ". باب الراء ، فصل الدال . كما تطلق على الأصل والقانون ، والوزير الكبير الذي يرجع في أحوال الناس إلى ما يرسمه . ينظر : قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل ، للمحبي : 2/ 28 . وجاء في المعجم الوسيط : الدستور : القاعدة يعمل بمقتضاها ، والدفتر تكتب فيه أسماء الجند ، ومرتَّباتهم . معربة ؛ وفي الاصطلاح المعاصر : مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ، ونظام الحكم فيها ، ومدى سلطتها إزاء الأفراد ، جمعها : دساتير ، محدثة . ينظر : كلمة : دستور .
واصطلاح (القانون الدستوري) حديث النشأة ، يُرجَعُ تاريخُه إلى سنة : 1834م ، عندما أنشئ - لأوَّل مرَّة - كرسي لمادة " القانون الدستوري في كلية الحقوق بباريس ، في فرنسا ، ويحتمل أنها نُقِلت عن الإيطاليين ؛ وكانت موضوعاته تُبحث تحت عنوان (القانون العام) أو (القانون السياسي)" ؛ وانتشرت هذه التسمية في مصر سنة : 1923م ، وقد كان الشائع استعمال (القانون النظامي) أو (القانون الأساسي) ، وقد شاع استعمالها في دساتير الدول العربية الحديثة ، وإن كان يستعمل فيها الاصطلاحان معاً . و النظام الأساسي هو الذي اعتمد في تسمية دستور المملكة العربية السعودية ؛ حيث سُمِّي ( النظام الأساسي للحكم ) ، ينظر الأمر الملِكي ذي الرقم أ/90 ، بتاريخ 27/8/1412.
(11)فها هي ( الديمقراطية ) – أنفس ما يظن عموم الغربيين - ومن غرّهم تقلبهم في البلاد - أنَّهم وصلوا إليه من السياسات الوضعية – تُعاب وتُنتقص من أربابها ؛ بل في دار نشأتها ، مع ما تحاط به من هالات إعلامية ؛ ويمكن تلخيص العيوب التي رصدها " بعض الغربيين المعروفين في وقت مبكر ، ومنهم : بوسكيه وفاتييه في كتابهما : ( الإنسان في المجتمع المعاصر ) على ( الديمقراطية ) - فيما يلي : " الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها .. الحكومات التي لم يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلة نصف قرنٍ ثمانيـةَ أشهر .. المنافسات الحمقاء بين المواطنين .. عـدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل .. البطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير المتمثل في صور منها : سياسة الإسكان ، وعدم كفاية التربية المدنية ، والاقتصادية ، والاجتماعية " .

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(2)
مشروعية الموازنة ؟

د. سعد بن مطر العتيبي

مشروعية الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية وشروطها

قبل الدخول في الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية يحسن الجواب على سؤالٍ يكثر وروده بين طلبة العلم عند ذكر الموازنات والحديث عنها ، وهو :
هل تشرع الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، أو بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية ؟ متساءلين : أليس في ذلك تنقصاً للشريعة ؟!
وهي وجهة نظر لبعض الأساتذة الكبار ممن ألفوا في الفقه السياسي ، ختمها بقول الشاعر :
ألم تر أنَّ السيف يُزري بقدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وقد علّقتُ عليها في موضعها بما أظهر لي أنَّ محلّ الخُلْف مختلف .. ذلك أنّ التعليلات التي أوردها تدور على المقارنات التي تجافي الحق والفكر ، وتتجاهل جذور الإختلاف في المنشأ والمنهج والهدف والخصائص ، وهو أمر أصّل علماء الإسلام ضرورة التنبّه إليه بوصفه أحد ضمانات العدل الشرعي عند الموازنة ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى .

من هنا أشير وأنبِّه إلى بعض دلائل مشروعية هذا العمل في الجواب التالي :

الموازنة بين الحق والباطل ؛ لإحقاق الحق ونشره وبيان فضله وعلُوِّه على غيره ، وكشف الباطل وبيان بطلانه وإزهاقه ، منهج قرآني ، يرِد بأساليب متنوعة من مثل قول الله تعالى : ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .
وقوله سبحانه : ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .
وقوله جل وعلا : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) ، وقوله عز وجل : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

وقوله : ( أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) ، وقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ، وغيرها من الموازنات التي وردت في القرآن الكريم .
وهذا المنهج قد سلكه علماء الإسلام ودعاته ، في مؤلفاتهم ، وبحوثهم ودراساتهم ، في القديم والحديث (1) .
وقد سئل سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله : " هل المقارنة بين الشريعة والقانون يعد انتقاصاً للشريعة ؟ " .

فأجاب الشيخ رحمه الله : " إذا كانت المقارنة لقصدٍ صالحٍ ، كقصد بيان شمول الشريعة ، وارتفاع شأنها ، وتفوقها على القوانين الوضعية ، واحتوائها على المصالح العامة ، فلا بأس بذلك ؛ لما فيه من إظهار الحق وإقناع دعاة الباطل ، وبيان زيف ما يقولونه في الدعوة إلى القوانين أو الدعوة إلى أنَّ هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضي زمانها – لهذا القصد الصالح الطيب ، ولبيان ما يردع أولئك ويُبين بطلان ما هم عليه ؛ ولتطمئن قلوب المؤمنين وتثبيتها على الحق .
لهذا كله لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة "(2) .

وبيان الفروق بين الشريعة والسياسات الوضعية ، فرع عن منهج الموازنة بينهما ( الدراسات المقارنة ) (3) .
ومبنى هذا العلم عند علماء الإسلام يقوم على العلم ، لا على مجرد العاطفة ؛ يقول أبو العباس ابن تيمية : " الحكم بين الشيئين بالتماثل أو التفاضل يستدعي معرفة كل منهما ، ومعرفة ما اتصف به من الصفات التي يقع بها التماثل والتفاضل " (4) .

ومن فقْد هذا الشرط جاء الخلل في كثير من ( الدراسات المقارنة ) التي يجريها بعض الحقوقيين ممن لم يدرسوا الشريعة ، أو أخذوها من بعض المراجع المتأخرة ، و حاولوا فهم كلام علماء الإسلام على ضوء ذلك ، دون دراية بمصطلحاتهم ؛ بل إنَّ منهم من يحيل في المسائل الشرعية إلى بعض المراجع الأجنبية ، تأثراً بها . وكذلك الشأن في الدراسات التي يجريها بعض طلبة العلم الشرعي مع نقص علمهم بالمسألة القانونية وارتباطاتها ، مما جعلهم يُجْرُون موازنات بين أحكام لمسائل مختلفة ؛ فالحقوقيون ربما انخدعوا بالقوانين الوضعية لقلّة علمهم بالشريعة ومزاياها ، وطلبة العلم الشرعي ربما انخدعوا بها لقلّة علمهم بالقوانين ونقائصها ، أو ربما ضعفوا في رد الباطل ودحضه .
قال أبو العباس ابن تيمية : " يمتنع مع العلم والعدل في كل اثنين : أحدهما أكمل من الآخر في فنٍ يقر بمعرفة ذلك الفن للمفضول دون الفاضل . وقولنا مع العلم والعدل ؛ لأنَّ الظالم يُفَضِّل المفضول مع علمه بأنَّه مفضول ، والجاهل قد يعرف المفضول ولا يعرف الفاضل ؛ فإنَّ كثيراً من الناس يعلمون فضيلة متبوعيهم : إمَّا في العلم أو العبادة ، ولا يعرفون أخبار غيره ، فهؤلاء ليس عندهم علم ؛ ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء يرجح المفضول ، لعدم علمه بأخبار الفاضل ؛ وهذا موجود في جميع الأصناف ، حتى في المدائن ، يفضل الإنسان مدينة يعرفها على مدينة هي أكمل منها لكونه لا يعرفها " (5) ، وقال : " فمن عنده علم وعدل : فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل ، أو في معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات غيره ، أو في شريعته وشريعة غيره ، أو في أمته و أمة غيره ، وَجَدَ لَه من التفضيل على غيره ما لا يخفي إلا على مُفْرِطٍ في الجهل أو الظلم " (6) فلا بد من العلم والعدل .

ولهذا قيَّد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فتواه السابق ذكرها جوازَ الموازنة ( المقارنة ) بين الشريعة والقانون بأن تكون " بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة ، وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة " (7) .

والفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية فروق جلية ، واختلافات جوهرية ، تتفجر من مقتضى النظر الذي تُحمل عليه الكافَّة في كل منها ، بدءاً من المصدر والأصول ، وانتهاءً بالمسائل ودقائق الفروع ، وهذا ما لا يمكن الإحاطة به ، ولا هذا محل التفصيل فيه ؛ لذا أكتفي بذكر خطوط عريضة في بيان الفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، وذلك بدءاً من الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

---------------------------
(1)ينظر على سبيل المثال : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لأبي العباس ابن تيمية : 5/134 وما بعدها ؛ و بحث : كيف حاد العالم الإسلامي عن صراط الشريعة وكيف يمكن العودة إليه د. محمد عبد الجواد محمد [ ضمن كتابه : بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون] : 62 وما بعدها ، وما يأتي من شواهد .
(2)مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، له رحمه الله : 4/48-58 .
(3)استعمال لفظ ( الموازنة ، أو المقابلة ، أو الاعتبار ) ونحوها ، أولى من استعمال لفظ ( المقارنة ) ؛ لأنَّه لفظ مُحْدَث وافد ، لا يسنده الوضع اللغوي للفظ : ( قارن ) ؛ إذ المقارنة هي المصاحبة ، فليست بمعنى : فاضل ، التي تكون بمعنى : وازن ، إذ الموازنة بين الأمرين : الترجيح بينهما . ينظر : معجم المناهي اللفظية ، د. بكر بن عبد الله أبو زيد :420-421 ، ط3 ؛ ومعجم الأخطاء الشائعة ، لمحمد العدناني : 203 ، ط2 . فالأولى عدم استعمال لفظ ( المقارنة ) ، واستعمالُ الألفاظ التي تدل على المعنى الصحيح . والشيخ أبو العباس ابن تيمية يسمي هذا المنهج : " الاعتبار ، والقياس العقلي ، والموازنة ، يوزن الشيء بما يناظره ، ويعتبر به قياس الطرد وقياس العكس " . الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : 5/139-140 ، لأبي العباس ابن تيمية .
(4)الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : 5/132 .
(5)المصدر نفسه : 5/131-132 .
(6) المصدر نفسه : 5/133 .
(7)مجموع فتاوى ومقالات متنوعة : 4/58 ، ط-1413.

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(3)
( أصول ونماذج )

د. سعد بن مطر العتيبي

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
( أصول ونماذج )

الفروق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية ، فروق جلية ، واختلافات جوهرية ، تنطلق من طبيعة النظم و القوانين التي تساس بها الشعوب في كل منها ، بدءاً من المصادر والأصول ، وانتهاءً بالمسائل ودقائق الفروع ، وهذا موضوع ممتع شيق ، ولكن ليس هذا محل التفصيل فيه ؛ لذا فهذه نماذج لخطوط عريضة وفروق رئيسة أستعرضها بإجمال :
أولاً : الفرق ( من حيث المصدر ) ، وهو : أنَّ السياسة الشرعية مصدرها إلهي ، أمَّا السياسات الوضعية فمصدرها فكر بشري . وهذا أساس التفريق ، وعنه تنبثق الفروق .
و بيانه : أنَّ السياسة الشرعية مصدرها الله الخالق سبحانه وتعالى ، علَّمَها البشر عن طريق الوحي الإلهي ؛ ومن هنا اتصفت " بالشرعية " ؛ لأنها مستمدَّة من شرع الله تعالى ؛ أمَّا السياسات الوضعية فمصدرها الفكر البشري ؛ فهي أحكام وقوانين وضعها بشر ؛ يوصفون في أحسن أحوالهم وأعلاها مرتبة بأنهم من العقلاء وذوي البصيرة بتدبير الدولة وسوس النّاس ؛ وعن هذا الفرق الأساس ، تتفرع كثير من الفروق والاختلافات ؛ من أظهر ما يعني دارس الأحكام منها ، أمران :

الأمر الأول : أنَّ السياسة الشرعية واجب دِينيّ ؛ أمَّا السياسات الوضعية ؛ فإلزام وضعي .
فالسياسة الشرعية واجب ديني ؛ إذ هي جزء من الرسالة الإلهية الخاتمة ؛ وتكليف من تكاليف الإسلام : الدين الحق ، الذي أنزله الله عقيدة وشريعة ، وديناً يحكم الدنيا ؛ ولذلك قيدت السياسة فيه بـ ( الشرعية ) ، ومن هنا فهي مستقلة عن كل السياسات الوضعية ، عقلية أو طبيعية ، وذلك تبعاً لاستقلال الشريعة الإسلامية عن غيرها من المناهج والنظم والقوانين الوضعية .
والسياسة الشرعية بمدلولها العام – الذي يندرج تحته المدلول الخاص– هي رسالة الخلافة – وما يندرج تحتها من ولايات - التي هي : حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية ، والدنيوية الراجعة إليها ، إذ أحوال الدنيا ترجع - كلُّها - عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخِرة ؛ فهي في الحقيقـة : خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (1) ؛ فصاحب الشرع متصرف في الأمرين ، أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغهـا وحمل الناس عليها ، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري (2) . ولهذا كان نصب جهة تنفيذ السياسة الشرعية – المتمثل في الخليفة - واجباً دينياً ، بإجماع المسلمين (3) ؛ وذلك لإقامة مقاصد الخلافة التي تقوم على مقصدين رئيسين (4) :

أ- إقامة الدين الحق " الإسلام " . وذلك بحفظه وحراسته وتبليغه ونشره ؛ لأنَّه الدين الخاتم الذي لا يقبل الله جل جلاله - بعد بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم - من أحدٍ دينا سواه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، وحماية البيضة بما فيها العمق الاستراتيجي للأمّة ومواقع سيادتها ، وتحصين الثغور وإعزازها ، ومدّ أطرافها .
ب- سياسة الدُّنيا بالدِّين . بأن تدار جميع شؤون الحياة وفقاً لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوصة أو المستنبطة باجتهاد سليم ، محققاً لقاعدة الحكم الأساسية : ( إنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) ، وذلك بتنفيذ الأحكام ، وإقامة الشرائع والحدود وسنّ النظم المشروعة ، وحمل الناس على ذلك بالترغيب والترهيب الشرعيين .
وما الأئمة والحكام إلا جهات تنفيذية ، ملزمة شرعاً بإنفاذ أحكام الله في عباده ، وسياستهم بشريعته التي لا يستقيم حال البشر في الدارين إلا بها ، إذ إنَّ من مسلمات الدين عموم الرسالة المحمدية وشمولها لجميع متطلبات الحياة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) .
وقد جاء النَّص على هذه المقاصد في آيات وأحاديث كثيرة ، ومن أجمع ما جاء في ذلك قول الله تعالى : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ِ) .
ونصوص الفقهاء في تأكيد هذه الحقيقة لا تخفى على من له اطلاع على كتب الفقه ، ولا سيما كتب السياسة الشرعية ، وقد تحدّثوا عنها في معرض ذكرهم لواجبات الإمام ومقاصد الولاية ، وكان حديثهم مفعما بالعزّة الإسلامية .
فمنها : قول أبي المعالي الجويني رحمه الله : " فالقول الكليّ : أنَّ الغرض استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرهاً ، والمقصد الدين ، ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا ، كانت هذه القضية مرعّية" (5) .
ومنها : قول أبي العباس ابن تيمية رحمه الله : " فالمقصود الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً ، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا ، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلا به من أمر دنياهم " (6) . قال الشيخ محمد العثيمين تعليقا على كلام أبي العباس رحمهما الله : " إذاً ، المقصود شيئان : إصلاح الدين ، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر الدنيا ؛ فلسنا منهيين عن إصلاح الدنيا ، فلإسلام ليس رهبانية .. الإسلام دين حقٍّ يعطي النفوس ما تستحق ، ويعطي الخالق ما يستحق " .

وقوله : " جميع الولايات في الإسلام مقصدها أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ؛ فإنَّ الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك ، وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل ، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون … " (7) .
وحيث إنَّ السياسة الشرعية واجب ديني ، فقـد كانت المرحلة الأخيرة من مراحل ( الجهاد ) بعد الدعوة إلى الإسلام : الدعوةُ إلى الخضوع لأحكام الشريعـة ؛ تحقيقاً لمقصد : سياسة الدنيا بالدين ؛ وهذا الحكم من مسلمات الشريعة ، وهو غاية العدل أن يخضع البشر لحكم خالقهم ، فبه يتخلصون من ظلم العباد ، وبه يقدّرون خالقهم حق قدره : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) ، وينزهونه عن صفات النقص التي لا تليق بجلالـه وعظمته ، كالعبث والفوضويـة (8) ؛ التي استنكرها الله تعالى في مثل قوله سبحانه : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ) ، أي : بلا أمر ولا نهي ولا عقيدة ولا شريعة ؛ وبه يعرف الإنسان الغاية التي خلق لأجلها ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

أمَّا السياسات الوضعية ؛ فالإلزام بها إلزام بالوضع البشري ، تفرضه الإرادة البشرية بقوّة ( الدساتير الوضعية ) ، وتحميه بقوتها ، ومن يخالفـه يجّرم بـ(الخروج على القانون) ، وهذا نوع من الاستعباد البشري الذي حلّ محل عبادة رب البشر (9)؛ وإن اشتملت على بقايا دين محّرف ومنسوخ : كاليهودية والنصرانية ، وإن وجـد فيها شيءٌ من دين (10)
(11) ، أو دين مخترع : كالبوذية ، والهندوسية ؛ فإنَّ السياسات الوضعية المعاصرة تقوم في تنظيرها على فصل السياسة عن الدين (12) والخلق .
ومن ثمَّ فالإلزام بسياسات البشر الوضعية غايـة الظلم - وإن وُضِع في قوالب مغرية ، ودُعِم بشعارات برَّاقة - بدءاً بالاستعباد الإقطاعي ، ومروراً بالاستعمار لخيرات بلدان الشعوب الأخرى ، ومعاصرة لـ " الديمقراطية " بأشكالها العنصرية (13) .
وهكذا فالفارق الأساسي هنا في مقصد السياسة : " أنَّ سياسة أمور الدنيا في المنهج الإسلامي تتم على مقتضى النظر الشرعي ، وفي إطار العبودية الكاملة لله تعالى ، ولكنها في النظم الوضعية تتم على مقتضى النظر العقلي ، أو على مقتضى الهوى والتشهي خارجاً عن دائرة العبودية ، وذلك يمثل مفترق الطرق بين السبيلين" (14) .

وخلاصة القول : أن السياسة الشرعية تقوم على مقصد العبودية لله تعالى المتمثل في الدعوة إليه وحكم الحياة بشريعته . بينما تقوم السياسات الوضعية على فصل الدين عن الدولة أو الفكر العلماني الذي يمثل مفترق الطريق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية المعاصرة .

------------------------
(1)ينظر : مقدمة ابن خلدون : 191 .
(2)مقدمة ابن خلدون : 191.
(3)ينظر - مثلاً - : الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، للماوردي : 29 ؛ ومراتب الإجماع ، لعلي ابن حزم الظاهري : 144 ؛ وغياث الأمم في التياث الظلم ، لأبي المعالي الجويني : 23 ؛ و شرح النووي لصحيح مسلم : 12/205 .
(4)ينظر : الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، للماوردي : 51 ؛ والأحكام السلطانية ، لأبي يعلى : 27 ؛ وغياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 183 وما بعدها ، وهو الذي حصرها في أمرين ؛ و الإمامة العظمى عنـد أهـل السنَّة والجماعـة ، د. عبد الله بن عمر الدميجي : 79، وما بعدها .
(5)غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني : 183 .
(6)التعليق السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ( المتن ) : 69 .
(7) نفس المرجع .
(8)الحسبة ، لأبي العباس ابن تيمية : 8 .
(9)وقد صارت " الفوضوية " مذهباً فكرياً سياسيا ، يكشف مدى الطغيان البشري ، ومدى انتكاس العقل البشري إذا أطلق ، ينظر - مثلاً - : الموسوعة السياسية المعاصرة ، نبيلة داود : 34-35 .
(10)ينظر في مناقشة هذا المبدأ : خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ، للعلامة د.محمد الدريني : 385 .
(11)في بعض الدساتير الغربية لا يكتفون بالنص على دينهم ، بل يصرحون بالمذهب الديني أيضاً ؛ وهذا بعض ما جاء في النصوص الدستورية والمواثيق الأساسية الغربية مما يؤكد ما قلت آنفا :
جاء في (المادة1) من دستور اليونان : المذهب الرسمي لأمة اليونان هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية !
وفي ( المادة 47) منه : كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية !
وجاء في (المادة1/بند 5) من دستور الدانمارك : يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الإنجيلية اللوثرية !
وفي (المادة1/بند3) : إن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في الدانمارك !.
وجاء في ( المادة 9) من الدستور الأسباني : : يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية !
وفي (المادة6) :على الدولة رسمياً حماية اعتناق وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها .
وفي الدستور السويدي (المادة4) : يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب الإنجيلي الخالص ! . وفيه : يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب الإنجيلي .
وفي الأرجنتين : تنص ( المادة 2) على : أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية !
وجاء في وثيقة الحقوق في انجلترا ( المادة 7) : يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانتية بحمل السلاح لحماية أرواحهم في حدود القانون ! وفي ذات الوثيقة ( المادة 8): لكاثوليكي أن يرث أو يعتلي العرش البريطاني !
وفي (المادة 3 ) من قانون التسوية : على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ، ولا يسمح بتاتاً لغير المسيحيين ولا لغير البروتستناتيين أن يكونوا أعضاء في مجلس اللوردات ، ويعتبر ملك بريطانيا حامياً للكنيسة البروتستانتية في العالم ! ينظر : http://www.saaid.org/Doat/otibi/2.htm .
(12)ينظر : خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ، للعلامة د. محمد فتحي الدريني :371-381 ؛ وخصائص التشريع الإسلامي – دراسة مقارنة بالقانون الوضعي ، لأستاذنا د. عباس حسني : 59-60 ؛ والثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ، د. صلاح الصاوي : 237 ، ط1-1414، المنتدى الإسلامي .
(13)ينظر : التاريخ السياسي الحديث والعلاقات الدولية المعاصرة ، د. فايز أبو جابر : 68-73،261 وما بعدها ؛ وخصائص التشريع الإسلامي في السياسـة والحكم ، للعلامة د. محمد فتحي الدريني : 378 وما بعدها .
(14) الوجيز في فقه الخلافة ، د. صلاح الصاوي :51.

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(4)
( أصول ونماذج )

د. سعد بن مطر العتيبي

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
( أصول ونماذج )

خلاصة ما مضى في الأمر الأول : أن السياسة الشرعية تقوم على مقصد العبودية لله تعالى المتمثل في الدعوة إليه وحكم الحياة بشريعته . بينما تقوم السياسات الوضعية على فصل الدين عن الدولة أو الفكر العلماني الذي يمثل مفترق الطريق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية المعاصرة .

الأمر الثاني : أنَّ السياسة الشرعية جزء من الشريعة الربانية ؛ أما السياسات الوضعية فأنواع من الخطط البشرية .
السياسة الشرعية جزء من الشريعة الربانية (1) ؛ فهي متصفـة بما يليق بمشّرعها من كمال . أمَّا السياسات الوضعية ، فأنواع من الخطط البشرية ، فهي مهما بَهَرَت قاصرة .
فالفلسفات السياسية والقانونية التي تستقى من غير وحي الله تعالى ، لا قرار لها كما قال الله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } ؛ غير أنَّ من كتّاب المسلمين من خدع بسرابها ، ولو تأمّلها هؤلاء لوجدوها تخبطاً ظاهر التناقض ، ولو رجعوا إلى وحي الله تعالى ، لوجدوا الوصف الدقيق لهذا التخبط البشري مع بيان سببه : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } ؛ فها هي النظريات تُستحسن فتقدس ثم ما تلبث أن يَتَبَدَّى انتكاسها ؛ فتُنْتَقص ، ثم تُنبذ شيئاً فشيئاً حتى يَحلّ غيرُها محلَّها ، وهكذا دواليك ، أمر مريج مختلط ؛ فها هي ( الديمقراطية ) – أنفس ما يظن الغرب ، أنَّه وصل إليه من السياسات الوضعية – تُعاب وتُنتقص من أربابها ؛ بل في دار نشأتها ، من ذلك إيجاز بعضهم العيوب التي لاحظها ( الديمقراطيون ) على ( الديمقراطية ) ، في : الصراعات الدائمة بين الأحزاب المنقسمة على بعضها ، والحكومـات التي لم يتجاوز متوسط بقائها في الحكم طيلـة نصف قرنٍ ثمانيةَ أشهر ، والمنافسات الحمقاء بين المواطنين ، وعدم وجود سياسة متجانسة لمدى طويل ، والبطء الشديد في تقدم مستوى حياة الجماهير : سياسة الإسكان ، وعدم كفاية التربية المدنية ، والاقتصادية ، والاجتماعية " (2) .

فالشريعة الربانية تظهر فيها قدرة الخالق ، وعظمته ، وعلمه المحيط بكل شئ ولطفه بخلقه ، وكماله المطلق ، وهذه الميزة العظيمة الشريفة انبثق عنها مجال في غاية الخصوبة والعطاء ، ويعرف اليوم بـ( خصائص الشريعة ) سَلَّمَ به الأوائل عملاً من أعمال القلوب يظهر على ألسنتهم ، ويتناثر في كتاباتهم ، وقد يفردونه بالتأليف تحت مسمى ( محاسن الدين ) (3) ، حتى جاء هذا العصر ، وهجمة أشراره الشرسة على شريعة الله ، مما حتّم على أهل الإسلام إفراده بالتصنيف ، على نحو كثيف ، خطّاً هجومياً دفاعياً ، يؤخِّر زحف الهجمة ويضعفها ، ويقنع الأغرار بالرجعة ويحصِّنها . ووصف هذا المجال ظاهر في نفيه عن سواها ؛ وما قد يُظنُّ مثله منها في القوانين الوضعية - على اختلاف أنواعها - لا يعدو أن يكون اتفاقا في المسمّى دون الدلالة والمعني ، وهو عند الباحث المنصف أسماء من التشبيه المتردي أمام علو الشريعة ، ما أنزل الله بها من سلطان .

وخصائص الشريعة مجال واسع ، ولكن يُشار إلى أهم تلك الخصائص - التي لعل ما عداها مندرج تحتها - ويُحَال إلى جملة من المراجع التى تحدَّثت عنها . ولعلَّ من المفيد تقسيمها - هنا - إلى مجموعتين :
الأولى : الخصائص المتعلقة بذات الشريعة ، ومنها :
أ - خاصية الكمال والشمول .
ويراد بها أنَّ الشريعة الإسلامية استكملت ما تحتاجه الشريعة الكاملة من أحكام عقدية وعملية ، فقهية ، وخلقية ، قواعد ومبادئ ونظريات ؛ فهي غنية بما يكفل حاجات الأمة ، في علاقة المخلوق بربه الذي خلقه ، وفي علاقة الفرد بنفسه ، وبغيره من فرد وجماعات أو دولة ؛ بل وبغيره من المخلوقات ، وذلك في الحاضر القريب والمستقبل البعيد ، فضلاً عن الماضي قريبه وبعيده (4) .
وهي شاملة ، لا تخلو حادثة واحدة عن حكم لها في الشريعة ، وذلك في جميع الأعصار ، والأقطار ، والأحوال ، فالمعاني التي تضمنتها نصوص الشريعة وأصولها تعم جميع الحوادث وتسعها (5) ؛ قال الله تعالى : قال الله تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ، فكلمة {شيء} هنا ، نكرة في سياق الشرط تفيد العموم ، فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً (6) . وما لم يتنازع فيه فمحل إجماع ، والإجماع أحد أصول الشريعة ، فما صح إجماع مجتهدي الأمة عليه فهو منها ؛ فلا يخرج عنها حكم .

ب- خاصية العموم .
والمراد بها أن الشريعة عامة لجميع البشر في كل مكان وزمان ، وهذا من القطعيات ، بل هو مؤكد في جميع مصادر الشريعة ، الكتاب والسنة والإجماع (7) ؛ وهذه الخاصية تستلزم – عقلاً - السمو ، والثبات والدوام ، وهما الخاصيتان التاليتان .

ج- خاصية السمو .
والمراد بها : أنَّ قواعد الشريعة ومبادئها ، أسمى من عصر الأمة ؛ من ماض وحاضر ومستقبل ؛ إذ فيها من المرونة الفقهية في أحكامها و كلياتها ، ما يحفظ لها هذا المستوى السامي ، مهما ارتقى وتعقَّد مستوى الأمة ؛ ومن ثم فلا تحتاج إلى تعديل أو تغيير تلاحق به ما يطرأ على المجتمع من تغيّرٍ ، في تطوّرٍ أو تحدُّر (8) .

د- خاصية الثبات والدوام مع المرونة ؛ وهذه من آثار كمالها وسموها .
والمراد بهذه الخاصية المركبة من الثبات والمرونة : أنَّ الشريعة باقية لا يلحقها نسخ ولا تغيير ؛ لأنَّ النسخ يكون بقوة المنسوخ ، أو أقوى منه ، فلا ينسخ الشريعة - التي هي من الله تعالى - إلا تشريع آخر من الله تعالى ؛ وحيث قد ختم الله عز وجل بها الشرائع ، وختم بنبيها الأنبياء ، وانقطع الوحي بموته صلى الله ليه وسلم ، فلا يتصور أن ينسخها أو يغيرها شيء ؛ فنصوصها وقواعدها وكلياتها لا تقبل التعديل ، فضلاً عن التغيير والتبديل (9) .

قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله - في ذكره خواصّ الشريعة - : "والثانية : الثبوت من غير زوال ؛ فلذلك لا تجد منها بعد كمالها نسخاً ، ولا تخصيصاً لعمومها ، ولا تقييداً لإطلاقها ، ولا رفعاً لحكم من أحكامها ، لا بحسب عموم المكلفين ، ولا بحسب خصوص بعضهم ، ولا بحسب زمان دون زمان ، ولا حال دون حال ، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع ، وما كان شرطاً ؛ فهو أبداً شرط ، وما كان واجباً فهو واجب أبداً ، أو مندوباً فمندوب ، وهكذا الأحكام ؛ فلا زوال لها ولا تبديل ، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية ؛ لكانت أحكامها كذلك " . (10)
وحيث إنها من الحكيم العليم اقترنت صفة الثبات بصفة الدوام مما يستلزم المرونة الفقهية " داخل إطار ثابت ، حول محور ثابت " (11) .
ومن حيث الواقع التشريعي ؛ فقد جاءت أحكامها وقواعدها ، على نحو يجعلها صالحة لكل زمان ومكان ، وهو معنى خاصية ( السمو ) السابقة ؛ ويدلّ على هذه الحقيقة ويؤكِّدها واقع الشريعة ومصادرها ، وطبيعة مبادئها وكلياتها ، وأحكامها ومقاصدها وهذا من الأمور الجلية ، البديهية عند أهل الشريعة ، التي تقوم هذه الرسالة على حقيقة من حقائقها ، إلا أنه يحسن الإشارة - في غايـة الاقتضاب ، لمن شـاء سبر هذه المسلمة ، ولا سيما من غير أهـل الاختصاص - إلى ثلاثة مناهج موصلة ، قطعاً - لمن تجرد في بحثه طريقة وهدفاً - إلى تجلية هذا المعني ، والوصول في الإيمان به إلى حق اليقين ، وهي : الاستقراء لمدى ابتناء الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد ؛ و النظر في طبيعة أحكام الشريعة من حيث خصائص الأحكام المفّصلة ، والأحكـام التي جـاءت في شكل قواعـد وكليـات و مبادئ عامة ؛ والنظر في مصادر الأحكام ، وطرائق الاستنباط . (12) .

وهذه الخصائص لا وجود لها في السياسات الوضعية ؛ بل إنَّ انتفاءها منها يُعد من خصائصها ؛ " ولولا أنَّ الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام ، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يشرعه الخالق ، ولا يتوفر شيء منها فيما يضعه المخلوق " (13) .
الثانية : الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة ، والامتثال لها .

وسيأتي الحديث عنها في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى .

--------------------------
(1)ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/452 .
(2)الإنسان في المجتمع المعاصر ، بوسكيه و فاتييه :160، ترجمة / مصطفى كامل فودة ، ط-1969م ، القاهرة ، لاحظ تاريخ ترجمة الكتاب ، فكيف هي الآن ، وقد تكشفت عيوبها للعامة ، ودعمت بالسياسات الدولية الجائرة ، حتى استحى من ذلك عقلاء القوم ! .
(3)ينظر - مثلاً من المتقدمين - : محاسن الإسلام وشرائع الإسلام ، لمحمد بن عبد الرحمن البخاري ؛ ومن المتأخرين : حجة الله البالغة ، للدهلوي .
(4)ينظر مثلاً : التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، عبد القادر عودة : 1/24، ط11-1412 ، مؤسسة الرسالة : بيروت ؛ والثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، د. عابد السفياني : 130 ، وهو من أجمع ما كتب في الموضوع وأدقِّه .
(5)ينظر : الرسالة ، للإمام الشافعي : 20 ؛ والأم له : 7/298 ، دار المعرفة : بيروت ؛ وجامع البيان عن تأويل آي القرآن ، للإمام الطبري:14/161 ؛ وأحكام القرآن ، للجصاص : 3/189-190 ؛ والجامع لأحكام القرآن ، لمحمد بن أحد القرطبي :6/270-271 ؛ والموافقات ، لأبي إسحاق الشاطبي : 1/108 ، 4/184 وما بعدها .
(6)تحكيم القوانين ، لمفتي الديار السعودية سابقا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : 6 ؛ وينظر في بيان قاعدة " النكرة في سياق الشرط تعم " القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية ، لعلاء الدين ابن اللحام :278، ط1-1418، مكتبة إحياء التراث الإسلامي : مكة المكرمة .
(7)ينظر : الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي : 4/184 وما بعدها ؛ مراتب الإجماع ، لابن حزم :193؛ والإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان ، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد :90 وما بعدها ، ط1-1417، دار العاصمة : الرياض .
(8)ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، لعبد القادر عودة :1/24 ؛ والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، د. عبد الكريم زيدان :40 ؛ وعلم القانون والفقه الإسلامي ، د.سمير عالية :58.
(9)ينظر : المراجع السابقة ؛ الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، د. عابد السفياني :110 وما بعدها و589-592 ؛ والحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، عبد العزيز مصطفى كامل :1/361 .
(10) الموافقات : 1/109-110 .
(11)خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ، سيد قطب إبراهيم : 75 ، ط-1415 ، دار الشروق : بيروت .
(12)ينظر : المدخل لدراسة الشريعة ، لعبد الكريم زيدان : 39-40 ؛ والثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر ، لصلاح الصاوي : الفصل الثاني ؛ والحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، لعبد العزيز كامل :1/361 وما بعدها ؛ والمراجع السابقة ، ولا سيما : الموافقات للشاطبي ، والثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، للسفياني .
(13)التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ، لعبد القادر عودة : 1/25 .

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(5)
( أصول ونماذج )

د. سعد بن مطر العتيبي

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
( أصول ونماذج )

في الحلقة الماضية كان الحديث عن الخصائص المتعلقة بذات الشريعة وسياستها الشرعية؛ وتبيّن من خلاله أنَّ تلك الخصائص لا وجود لها في السياسات الوضعية؛ بل إنَّ انتفاءها من السياسات الوضعية يُعد من خصائصها !؛ " ولولا أنَّ الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام، تلك الصفات التي تتوفر دائماً فيما يشرعه الخالق، ولا يتوفر شيء منها فيما يضعه المخلوق " (1).

وفي هذه الحلقة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة..
الثانية : الخصائص المتعلقة بالخضوع للشريعة، والامتثال لها.
وعمادها أمران :
أ‌- احترام الشريعة الربانية، والانقياد لأحكامها رغبةً واختياراً.
وغاية هذا الأمر أنَّ الشريعة بحكم مصدرها تكتسب هيبة وقدسيّة وإجلالاً، واحتراماً من قبل المؤمنين بها، مهما كانت منزلتهم الاجتماعية؛ ومن ثم يلتزمون بها وينقادون لأحكامها برضى وانشراح صدر.
وأمَّا القوانين الوضعية فتفتقر - ضمن ما تفتقر إليه - إلى هذه المَزِيَّة؛ فدرجة احترامها لدى المُلْزَمين بها – إن وجدت - فمتردية؛ بل من يُخضعون لها يحرصون على إيجاد السبل والوسائل للتفلُّت منها؛ لعدم ثقتهم بعدالتها، وبسلامة واضعيها من التحيُّز والخطأ، ومنفذيها من الهوى والظلم، مع عدم الشعور الداخلي بلزوم احترامها. وهكذا يتضح أنَّ امتثال المؤمن للشريعة رغبة واختيار، وامتثال الناس للقوانين الوضعية قهر وإجبار (2)، هذا هو الأصل. فما أكثر التجاوز إذا أمنت المؤاخذة القانونية.
نعم وجد في جيل غربي - لا زالت بقاياه - كبارُ سنّ يحترمون القانون قناعة، ولذلك أسباب يتحدث عنها اباحثوا في موضوعات فلسفة القانون والقوة الملزمة به، وسأكتفي منها بأمر واحد تقريبا للفكرة ليس إلا، وهو : أن ذلك الجيل مرّ بمعاناة الفوضى المتمثلة في ظاهر منها الحروب السابقة للاستقرار؛ مما جعله يعضّ بالنواجذ على ما فُرض عليه من قوانين؛ وهذا يشبه ما تمسك كبير السن بالريال أو الدرهم أو نحوه من العملات المحلية، بسبب معاناته من العوز والفقر وشظف العيش فيما سبق، بينما نجد الجيل الجديد من الشباب الذين عاشوا الرغد مذ كانوا صغارا، لا يجدون – بسبب عدم معاناتهم - قيمة للريال أو الدرهم تجعلهم يحافظون عليها كما يحافظ عليها الآباء أو الأجداد ! وهكذا هو الجيل الجديد في المجتمعات الغربية، فإنهم ليسوا كآبائهم في احترام القانون والحرص على التزامه، لعدم معاناتهم من الانفلات الأمني الكبير ولا سيما زمن حروبهم الطاحنة التي كانت في تلك البلاد؛ وهذا من أسباب بحث الجهات التقنينية في تغيير القوانين وتشديد العقوبات الجنائية والجزائية على المخالفين المتجرئين على القانون، كبحا لجماح هذه الظاهرة في الجيل الجديد، ولعل هذه الصورة كافية في بيان المراد هنا.

ب - الجزاء على الأحكام الشرعية دنيوي وأخروي، يشمل العقوبة والمثوبة (3).
وبيان هذه الخاصية : أنَّ جميع السياسات والقوانين تفرض على المخالف عقوبة رادعة؛ فالموجِب لانقياد الكافَّة (الشعب) لأحكام السياسة العقلية : ما يتوقَّعون من ثواب الحاكم بها، بعد معرفته بمصالحهم (4)، وما يتخوَّفُونَه من عقابه بتقدير عدم الانقياد؛ ويتحصل من ذلك أنَّ ملاك الطاعة : الرغبة والرهبة (5)؛ لكن الأمر في الشريعة مختلف في حقائقه عن القوانين الوضعية من وجوه، منها :
1) الجزاء في الشريعة دنيوي وأُخروي؛ بل إنَّ الأصل فيها الجزاء الأخروي، وإنَّما الدنيوي رادع لمن لم يؤمن بالدار الآخرة من المنافقين، أو من كانوا للكفر مظهرين، ولمن يضعف إيمانه أمام شهوة وقصد إلى معصية، وقد تكون جبراً لتقصيره، وتكفيراً لخطيئته، ليسلم من العذاب الأخروي (6).
أمَّا الجزاء في القوانين الوضعية، فهو دنيوي دائماً، تقرِّره وتوقعه السلطة البشرية التي وضعته؛ لتدبير نظامها في الدنيا، وهي سلطة لا تملك من أمر الآخرة شيئاً (7).

2) الجزاء الأخروي الذي تختص به الشريعة قد يكون مثوبة، وقد يكون عقوبة؛ فهو مشتمل على المثوبة للمحسن، والعقوبة للمسيء (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة]؛ كما أنَّ العقوبة فيه قد تكون بعدم المثوبة (الحرمان من الفعل ومثوبته)، وذلك عند عدم عمل المكلف للمستحب والمندوب، مع اعتقاده بحكمه؛ وقد تَدِقّ، كما لو أقدم على مكروه غير محرَّم. وذلك لأمرين :
الأول : أنَّ الأحكام الشرعية، منها الإيجابي بالأمر ومنها السلبي بالنهي. مثال الأول : أمرها بالمعروف عن طريق الثواب؛ ومثال الثاني : نهيها عن المنكر، من طريق الوعيد للمخالف بالعقاب (8).
وأمَّا القوانين الوضعية فسلبية فقط؛ ولهذا تقتصر على العقوبة دون المثوبة؛ وقد انبنى على سلبيتها خلوها من المندوبات والمكروهات (9)، بدلالاتها الشرعية.
الثاني : امتزاج أحكام الشريعة بالمعتقدات والأخلاق، امتزاجاً لا يبقى معه وجودان مستقلان؛ ولهذا فإنَّ الأحكام الشرعية والفقهية، تضع النية والقصد في اعتبارها ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) (10).
وهذا أمر لا وجود له في القوانين الوضعيَّة؛ فإنَّها تُعنى بالظاهر، وتقف عند السلوك الخارجي، ولا تتعدَّى ذلك إلى هواجس النفوس، والنوايا الخفية، مهما انطوت عليه من خبث أو شرّ (11).
وهكذا فالسياسة الشرعية يستند الحاكم بها إلى شرع منزَّل من عند الله U؛ يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه، الذي جاء به مُبَلِّغِه (12).
مِمَّا سبق يتضح بجلاء أنَّ اختلاف المصدر بين السياسة المقيدة بـ(الشرعية)، والسياسات الوضعية، هو أصل الاختلاف، ومنبع تفجر الفروق، الذي يجب على طالب الحقيقة أن ينطلق منه في بحثه، فإن الإيمان بالشرع يستتبع العمل فتحقق السعادة، والإعراض عنه بضد ذلك، كما أن القناعة بصحة مصدر الشريعة، عند من لم يؤمن بها إيماناً يستتبع العمل – كافية في المنع من الاعتراض على تشريعاتها عقلاً، وعرفاً، على اختلاف الملل والنحل، ومن ثم فينبغي أن يكون البحث مع أهل الكفر : وجوب التزام الإسلام في المقام الأول؛ أما المناقشات المتفرعة عن ذلك فهي وإن كانت مطلوبة، لكنها إنما تعالج أطراف الجرح لا وسطه وعمقه، فلا يصح أن تكون هي الأصل في مجادلة الكافرين، ومن يتَّبِعهـم؛ فهـذا أساس المفاصلـة والاستقلال، بين الشرْعيَّـة التعبديِّة، والوضعيَّة العلمانية.
لعل في هذا ما يكشف شيئا من المراد..
وفي الحلقة التالية سيكون الحديث في ذكر الفروق من حيث الأصول التي يرجع إليها في تقرير السياسات إن شاء الله تعالى.

------------------------------------
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، للشيخ عبد القادر عودة رحمه الله : 1/25.
(2) ينظر : الإسلام مقاصده وخصائصه، د.محمد عقلة :30، ط1-1405، مكتبة الرسالة الحديثة : عمّان؛ والمدخل في الفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي : 284- 285.
(3) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 (ت/ علي عبد الواحد وافي)، وقاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمر الثقلين، لأبي العباس ابن تيمية [ ملحقة بمختصر الفتاوى المصرية ] : 640. تصحيح الشيخ/ محمد حامد الفقي بإشراف الشيخ عبد المجيد سليم، دار الكتاب العلمية : بيروت، والموافقات، للشاطبي :3/ 386، والمراجع اللاحقة.
(4) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 (ت/ علي عبد الواحد وافي)، والمراد بالثواب : ما يعود على المجتمع من نفع في تطبيق ما وضع من سياسة روعيت فيها مصالحه. وينظر : المرجع اللاحق.
(5) ينظر : بدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق : 1/293.
(6) ينظر : المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للشيخ د.عبد الكريم زيدان : 38-39؛ والمدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي : 284؛ والمدخل للتشريع الإسلامي، د. محمد فاروق النبهان :10، ط1-1977، وكالة المطبوعات : الكويت، ودار القلم : بيروت.
(7) ينظر : المدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى شلبي : 279.
(8) ينظر : القواعد الفقهية، لشيخنا د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين : 158، ط1-1418، مكتبـة الرشد : الرياض؛ والمرجع السابق : 280.
(9) ينظر : المصدر السابق : 158.
(10) رواه البخاري : ك/ بدء الوحي، ب/كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، ح(1)؛ ومسلم : ك/ الإمارة، ب/ قوله "صلىالله عليه وسلم" : إنَّما الأعمال بالنية وأنَّه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، ح(1907) (155).
(11) ينظر : القواعد الفقهيـة، لشيخنا د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين : 158؛ والمدخل للتشريع الإسلامي، د. محمد فاروق النبهان : 28.
(12) ينظر : مقدمة ابن خلدون : 2/773 [ ت/ علي عبد الواحد وافي ]؛ وبدائع السلك في طبائع الملك، لابن الأزرق : 1/291.

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(6)
( أصول ونماذج )

د. سعد بن مطر العتيبي

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
( أصول ونماذج )

ذكر فروق تتعلق بالأصول التي يرجع إليها في تقرير السياسات

هذه المسألة مُتَفَرِّعة عن المسألة السابقة ( الاختلاف في المصدر ) ، غير أنَّها أُفرِدَت ؛ لأهمية إفرادها من الناحية التفريعية فقهاً شرعيا وقانوناً وضعياً – الذي هو محل البحث هنا .

فالمراد بأصول السياسة الشرعية : الأدلة الشرعية التي تُستفاد منها أحكامها [1] .
والمراد بأصول السياسات الوضعية : مصادرها التي يستند إليها في وضعها [2] .

وبيان الفرق بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية يتضح بعرضها ، ثم ذكر الفرق بينها ؛ وذلك على النحو الآتي .

أولاً : عرض أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية .
أ - أصـول السياسة الشرعيـة .
السياسة الشرعية جزء من الشريعة الإسلامية ، فإنَّ أصول السياسة الشرعية - وإن تعدَّدَت طرائق استنباطها واشتهر تعليل أحكامها بتلك الطرائق [3] ، هي ذاتها أصول الشريعة الإسلامية وفقهها ، التي هي :
1) الكتاب [4] ( الآيات القرآنية) ولا يقتصر الاستدلال به في التشريع على ما ذكره المؤلفون في آيات الأحكام .

2) السنـة ، " الأقوال ، والأفعال ، والتقريرات ، الثابتة عن النبي e ؛ وتستفاد منها الأحكام بطريق النص الصريح ، أو الاستنباط المعتبر ، أو بهما معاً .

ب- مصادر السياسات الوضعية .
مصادر السياسات الوضعية تختلف باختلاف تلك السياسات ، وما نشأت فيه من مجتمعات ، تبعاً للظروف الخاصة المحيطة بكل منها ، المتفاوتة زماناً ومكاناً [5] ؛ غير أنَّ ثمة مصادر مشتركة بين تلك السياسات ، وإن اختلفت نسب الرجوع إليها من سياسة إلى أخرى : أهميةً ، ومرتبةً ، وزماناً ، ومكاناً .

وقد حصرها بعض من ألَّف في القوانين الوضعية ، في مصدرين رئيسيين [6] :

1) العـرف .
وهو : " دَرْجُ النَّاس على قاعدة معيَّنة ، واتباعهم إيَّاها في شؤون حياتهم ، وشعورهم بضرورة احترامها " [7] .

أو هو باختصار : الممارسة الدستورية ، المقبولة عند أهلها كالقانون [8] .

وله أهمية في نشأة السياسات الوضعية ( الدساتير ) ؛ تَتَّضح من خلال النقاط التالية :

- قيام أحد نوعي ( الدساتير ) عليه ، وهو ما يعرف بـ( الدساتير العرفية ) [9] ، أي : التي مصدرها ( العرف ) ، فهي نتيجة تقاليد لم تلْق اعتراضاً من نصٍّ سابق [10] ؛ وترجع طريقة صدوره إليه [11] .

- كونه مصدراً رئيساً لنشأة النوع الثاني من الدساتير ، التي هي ( الدساتير المكتوبة ) ، فعند ابتداء وضع هذا النوع من الدساتير ، يكون العرف مصدراً رئيساً يرجع إليه في وضعه [12] .

- كونه ينشأ إلى جانب ( الدساتير المكتوبة ) ، وتُكَوَّن منه قواعد دستورية ، تُعرف بـ( العرف الدستوري ) [13] .

وهكذا يتضح من خلال هذه النقاط ، ما للعرف من أهمية في إنشاء السياسات الوضعية وتغيرها [14] .

2) القواعـد الدستوريـة المدونـة .
ويعبّر عنها - أيضاً - بـ( الدستور المدوَّن ) ، وهو : الذي أَصدر واضعُه و مُنَظِّمُه [15] ، أحكامَه ، وضمَّنَها وثيقة ، أو بضعة وثائق معينة [16] .

وتتضح أهمية القواعد الدستورية المدوّنة من حيث كونها مصدراً للسياسات ( الدساتير ) الوضعية - في حالة تغيير دستور قائم ؛ حيث يتم هذا التغيير ، وفقاً للطريقة التي يُفْتَرَضُ النص عليها في الدستور القائم - المرادِ تغييره - سواء كان هذا التغيير كليّاً ( الإلغاء ) ، أو جزئياً ( تعديل بعض قواعده ) [17] ؛ فالقانون الدستوري ( شكل السياسة الوضعية ) يُستمد من الوثيقة الدستورية المسطورة ( المكتوبة ) ، أو الدستور بالمعنى الشكلي ، ومن بعض المسائل الدستورية المدونة خارجَه [18] .

هذه هي مصادر السياسات الوضعية أو "الدساتير" بالمصطلح السياسي المعاصر .

بعد هذا العرض لأصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية ، يأتي ذكر الفرق بينها ، وهي الفقرة التالية .

ثانياً : ذكر الفروق بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية .
ليس ثمة مقارنة بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسة الوضعية ؛ يؤكِّد ذلك الموازنة بينها في دائرة الاختلاف التي تحوي عدداً من الفروق الجوهرية المجملة و المفصَّلة .

فأما الفروق المجملة، فإنَّها متفرعة عن الحقيقة السابق ذكرها ، وهي : أنَّ أصول السياسة الشرعية هي ذاتها أصول الشريعة الإسلامية ، ومنها اكتسبت وصف (الشرعية) .

وأهم هذه الاختلافات هذه والفروق ما يلي :

1- أنَّ أصـول السياسـة الشرعية منشـؤها الوحي الإلهي ؛ أمَّا الوضعية فمنشؤها الفكر البشري عقليا كان أو طبعيا ، صحيحا كان أو سقيما .

أصول السياسة الشرعية منشؤها الوحي الإلهي ؛ ومجال العقل فيها منحصر في الكشف عن طرائق استنباط الأحكام من تلك الأصول ، وفق ضوابط حُدِّدَت من خلال أصول الشريعة ذاتها .

أمَّا أصول السياسات الوضعية فمنشؤها البشر ؛ فالوضع العقلي في إنشائها يكاد يكون مستقلاً ؛ لذا وصفت بالسياسات ( العقلية ) ، و ( الوضعية ) ، سواء كانت في شكل أعراف ، أو وثائق مكتوبة .

2- أنَّ أصول السياسة الشرعيـة ، تتميـز بخصائص الشريعـة ؛ أمَّـا الوضعية ، فتتصف بصفات واضعها القاصر .

أصول السياسة الشرعية ، تتميز بخصائص الشريعة – ذاتها – السابق ذكرها ، من مثل : الثبات ، والدوام مع المرونة ؛ وعليه فلا نسخ ولا تغيير فيها ، ولا إضافة عليها ، بعد انقطاع الوحي . وأمَّا ما يُعَلِّلُ به المجتهد لأحكامَ التي لم يُنصّ عليها ؛ فإنَّما هي طرائق استنباط ، وضوابط اجتهاد ؛ يؤكد بها صحة استنباطه من الوحي ، واستناده إليه فيما يُبَيِّنُه من أحكامٍ ، مستندها الكليات والقواعد الشرعية ، وقد سبق ذكر أسس السياسة .

أمَّا أصول السياسات الوضعية ؛ فهي وضعية تتصف بصفات واضعها – التي سبق الإلماح إليها – فيعتريها ما يعتريه من قصور ؛ فلا دوام لها ولا ثبات ولا مرونة ؛ لذا فهي تقبل الإضافة والتعديل ؛ بل الإلغاء ، تبعاً للتطورات الزمانية والمكانية ، وغيرها من المؤثرات التي لا تستطيع الدساتير ( العرفية ) ولا ( المدونة ) مسايرتها ، دون تعديل أو تغيير ؛ إذ التعديل والتغيير طريقة مرونتها ! كيف لا ، وقد عُدَّ من خصائص الدستور الجيّد : " أن يتضمن الدستور طريقة تعديله [19] ؛ فوجود طريقة قانونية لتعديل الدستور تجنب البلاد التعرض للثورات من أجل هذا التعديل … " [20] كما يطلق على الدساتير التي تزيد شروط تعديلها أو إلغائها ، عن شروط أو إلغاء القوانين العاديـة ( غير الدستورية ) - الدساتيرُ الجامدة ! مع أنها تقبل التعديل والإلغاء ، لكن بشروط أشدّ ، وذلك في مقابل النوع الآخر من الدساتير ، وهي ( الدساتير المدونة ) ، أي : التي يتم تعديلها أو تغييرها باتِّباع إجراءات تعديلِ وإلغاءِ القوانين العادية ، وعن طريق السلطة التنظيمية ذاتها [21] .

وهكذا يتضح أنَّ القواعد الدستورية - من حيث كونها أصولاً للسياسات الوضعية - تقبل التعديل ، والإلغاء ، بخلاف أصول السياسة الشرعية [22] .

3- أنَّ أصول السياسة الشرعية ، هي أصول الشريعة في جميع المجالات ؛ أمَّا مصادر السياسات الوضعية ؛ فتختلف عن أصول بقية القوانين .
فأصول السياسة الشرعية ، ليست خاصة بها ، بل هي لجميع الأحكام ، في جميع المجالات ؛ لاتصاف الشريعة الإسلامية بوحدة النظام ؛ فليس هناك أصول خاصة بالسياسة الشرعية خارجة عن هذه الأصول .

أمَّا أصول السياسات الوضعية ؛ فإنها تختلف عن أصول بقية القوانين ؛ فمصادر القانون الدستوري تتميز في قيودها وعددها عن أصول بقية القوانين ، حيث يُرى أن مصادر القوانين العادية أقلّ شأناً [23] .

4- أنَّ أصـول السياسة الشرعية تقريرية متبعة ، أمَّا مصادر السياسات الوضعية ، فهي في مجملها تقريرية تابعة .

أصول السياسة الشرعية تقريرية متَّبَعَة ؛ فهي تتميز بالتوجيه والتنظيم ، وهو المعبر عنه في تعريف السياسة الشرعية – بمدلولها العام – بأنَّها : " حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي" ، أي الإلزام بالإصلاح ولو جبراً [24] ؛ وهذا مبناه الصفة الدينية للشريعة ، التي سبق الحديث عنها في الفرع الأول .

أمَّا مصادر السياسات الوضعية ، فهي في مجملها تقريرية تابعة ؛ ذلك أنَّها ترصد الظواهر الاجتماعية ، ومن ثم تبني تلك السياسات على أساسها ، وما قد وجد من تقويم [25] ؛ فهو في حقيقته متأثر بالأصول المبنية على التقرير ، المتمثل في مضمون ( الدستور ) ، ثم هو قاعدة قد جاءت متأخرة عن التقويم - الذي تتميز به أصول السياسة الشرعية - بما يقارب ثلاثة عشر قرناً [26] .

وأمَّا الاختلافات والفروق المفصَّلة فيؤجل الحديث عنها إلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

----------------------------
[1] ينظر في معنى الأصل : المصباح المنير ، الفيومي : مادة ( أصل ) ، والمستصفى من علم الأصول ، لأبي حامد محمد الغزالي : 1/36 ، ط1-1417، ت وتعليق/ د. محمد بن سليمان الاشقر ، مؤسسة الرسالة : بيروت ؛ وإرشاد الفحول ، للشوكاني : 1/46 ؛ والقاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين ، د . محمود حامد عثمان : 85 –87 ، ط-1416 ؛ وغيرها . فالمراد هنا مصادر التفريع لا مصدر التلقي ، الذي سبق ذكره في المسألة السابقة .
[2] ويعبر عنها مؤلفوا أصول القانون بـ ( المصادر الرسمية ، أو الشكلية ) ، ولذلك ينبغي التنبّه إلى أن أصول القوانين عندهم – أعم من مصادرها ، فـ( أصول القانون ) يبحث فيها عن القواعد القانونية العامة التي هي أساس القوانين الوضعية المختلفة ، فهي رديف ( المدخل للعلوم القانونية ) و ( نظرية القانون ) ، الذي يتولى التعريف بالقوانين والكشف عن خصائص قواعـدها ووظيفتها ، وأساس الإلزام بها ، وبيان أقسامها ، وفروعها ومعرفة المصادر التي تستمد منها .
ينظر : أصول القوانين وتطبيقاتها في القانون المصري والقوانيـن الأخرى ، د. محمد كامل مرسي وسيد مصطفى بك : 5 ، ط -1342 ؛ وعلم القانون والفقه الإسلامي ، د. سمير عالية :9-11 ، ومضامين الكتب القانونية تحت مسمى : المدخل ، أو أصول القوانين ، أو نظرية القانون .
والمصادر عند القانونيين أربعة أقسام : موضوعية ( حقيقية ) ، و تاريخية ، وتفسيرية ، ورسمية ( شكلية ) ، وهذا الأخير هو الذي يرجع إليه في التطبيق القانوني .
ينظر : المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي مقارناً بين الشريعة والقانون ، علي علي منصور: 75-77 ، ط1-1386.
[3] ينظر : مبحث التأصيل من هذه الرسالة .
[4] درج الأصوليون على تعريف القرآن الكريم ، ينظر - مثلاً - : شرح الكوكب المنير ، لمحمـد بن أحمد الفتوحي : 2/7-8 ، ط-1400 .
[5] ينظر : المدخل إلى القانون ، لحسن كيره :205 ، ط5 ، منشأة المعارف : الإسكنـدرية ؛ والمراجع التالية .
[6] ينظر : علم القانون والفقه الإسلامي ، لسمير عالية : 179 ؛ والدساتير والمؤسات السياسية ، لإسماعيل الغزال : 25 . وهناك من عدّ القضاء مصدراً من مصادر القانون الدستوري تبرز أهميته في الدول ذات النزعة ( الأنجلوسكسونية ) : أي ذات الدساتير العرفية ، كانجلترا . ينظر : القانون الدستوري والنظم السياسية ، لعبد الحميد متولي ، ود. سعد عصفور ، ود. محسن خليل : 26-27 ، غير أنَّ هذا الرأي مردود بما انتهى إليه أصحابه ، من أنَّ المشتغلين بهذه السوابق القضائية قاموا بتجميعها في مجموعات بحيث صار يرجع إليها كما يرجع إلى النصوص القانونية . ينظر المرجع السابق : 27 . وعليه فهي من حيث الواقع قواعـد دستورية مدونة ، وإن كانت من حيث النشأة سوابق قضائية ، فالكلام فيها كالكلام في القواعد الدستورية المدونة ، وهي المصدر التالي ذكره .
[7] ينظر : العرف وأثره في الشريعة والقانون : 37 ؛ وفيه ذكر تعريفات أُخَر عند القانونيين مع المناقشه .
وقد عرّف بعدة تعريفات ، من ذلك تعريف شيخنا /د. أحمد سير المباركي ، حيث عرّف تعريفا عاما يشمل العرف الشرعي والقانوني ، بقوله هو " ما اعتاده أكثر الناس وساروا عليه في جميع البلدان ، أو في بعضها ، سواء كان ذلك في جميع العصور ، أو في عصر معين " ؛ والعرف وأثره في الشريعة والقانون : 35.
[8] ينظر : الدساتير والمؤسسات السياسية ، د. إسماعيل الغزال : 25 .
[9] الدستور العرفي أو الذي لم يدّون هو : الذي لم يقرر قواعده المنظم الدستوري ، ولم يضعها في وثيقة مدّونة في تاريخ معين . ينظر : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، د. عبد الحميد متولي :1/80 . فالدساتير العرفية متروكة للعرف والعادة ، بدون كتابة .
[10] ينظر : الدساتير والمؤسسات السياسية ، د. إسماعيل الغزال : 25 .
[11] ينظر : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، د. عبد الحميد متولي :1/80 .
[12] ينظر : القانون الدستوري والنظم السياسية ، لعبد الحميد متولي ، ومن معه :24-25،30 ؛ وينظر في التفريق بين ابتداء وضع الدستور ، وتعديل الدستور القائم : الدساتير والمؤسسات السياسية ، لإسماعيل الغزال :35.
[13] العرف الدستوري : عبارة عن عادة درجت عليها هيئة حكومية في الشؤون المتصلة بنظام الحكم في الدولة ، ولم تعـارض من الهيئات الحكومية ذات الشأن ، وصار لها في نظر تلك الهيئات ما للقواعد الدستورية من إلزام . ينظر : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لعبد الحميد متولي :83 ؛ فهو مجموعة قواعد تتكون إلى جانب القواعد المدوّنة في دستور الدولة . ينظر الدساتير والمؤسسات السياسية ، لإسماعيل الغزال : 25 .
[14] ينظر مزيدا من أهمية العرف في (الدساتير) والسياسات الوضعية عند القانونيين : المراجع السابقة .
[15] يختلف المنظّم للدستور ، باختلاف ظروف وضعه ؛ لذا فقد تضعه هيئة منتخبة أو معينة ؛ وقد يضعه فرد كأن يكون في شكل منحة من حاكم ، وفي كلا الحالين قد يرتضيه المجتمع بطريق الاستفتاء أو غيره ، وقد لا يرتضيه ، ينظر : المدخل إلى العلوم القانونية ، لنبيل سعد و السيد محمد عمران ، ومحمد مطر :112-111ر؛ والمدخل للعلوم القانونية ؛ علي علي منصور : 83 ؛ والدساتير والمؤسسات السياسية ، إسماعيل الغزال : 35 .
[16] ينظر: القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، د. عبد الحميد متولي :1/80 . فهو الذي يأخذ شكلاً كتابياً معيناً . وتدخل في القواعد الدستورية المسائل الدستورية المدرة ضمن القوانين العادية ، غير الدستورية . ينظر : علم القانون والفقه الإسلامي ، د. سمير عالية :180 .
[17] ينظر الدساتير والمؤسسات السياسية ، لإسماعيل غزال : 35 ؛ والمدخل إلى العلوم القانونية ، لنبيل سعد ود. السيد عمران ، ود. محمد مطر :111/112 .
[18] ينظر علم القانون والفقه الإسلامي ، لسمير عالية :180 .
[19] لا فارق بين التعديل والإلغاء ، من حيـث الإجراءات والشروط كقاعدة عامة . ينظر : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، د. عبد الحميد متولي :1/82 [ الأصل والحاشية رقم (2) ] .
[20] أسس العلوم في ضوء الشريعة الإسلامية ، د. توفيق عبد الغني الرصاص : 152 -153 . وقد عبر بـ( يجب ) .
[21] ينظر القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، د. عبد الحميد متولي :1/81 .
[22] ولهذا فإن تشبيه الكتاب والسنة بالدستور وفقاً لاصطلاح شراح القانون العام المعاصرين - لا يصح لأنَّ المسلم به أن للجماعة في كل وقت أن تغير دستورها بمطلق حريتها دون أي قيد في هذا الخصوص ، ولا سيما الدساتير المرنة ، كالدستور الإنجليزي ، حتى قيل على سبيل الفكاهة المعّبرة إن البرلمان الإنجليزي يستطيع أن يقرر أي شيء إلا أن يحوّل الرجل إلى امرأة أو العكس .
ينظر : السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي ، د. سليمان الطماوي : 308-309 .
وكاّنَّ هذه الفكاهة قد بلغت مبلغاً مقارباً في صورة السماح قانوناً بإجراء العمليات الجراحية التي تستبدل فيها الأعضاء التناسلية بين الذكر و الأنثى! ؟
[23] ولذلك فإنها تحكم بالسياسات . ينظر علم القانون والفقه الإسلامي ، لسمير عالية :177-178 وما بعدها ؛ والنظم السياسية والقانون الدستوري ، لحسين عثمان محمد عثمان :177-178 ؛ والدساتير والمؤسسات السياسية ، لإسماعيل الغزال :33 .
[24] ينظر : خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ، للدريني :383 بتصرف ، ودراسات وبحوث في الفكر الإسلامي ، للعلامة الدريني : 1/347-348 ؛ والعرف وأثره في الشريعة والقانون ، لشيخنا الأستاذ د. أحمد المباركي : 239 .
[25] ينظر : المراجع السابقة .
[26] ابتداء النقد لتصرفات الحكّام المسلمين الذين لا يتجاوزون فيها أحكام الشريعة دون مسوغ مقبول أو مردود أو محل نظر ، وتدوين العلماء لذلك .

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية:
الفروق التفصيلية في مجال المصادر

د. سعد بن مطر العتيبي

وأمَّا الاختلافات والفروق المفصَّلة في مجال المصادر، فيمكن إيجاز أهمها على النحو الآتي:

أولاً: أهم الفروق بين " العرف " في السياسة الشرعية، وفي السياسات الوضعية.

1- العرف في السياسة الشرعية، ليس سوى قاعدة من القواعد الفقهية، يعمل به في نطاق خاص(1) فهو ليس أصلاً من أصول الأحكام، وإنما هو أصل من أصول الاستنباط، تجب مراعاته عند تطبيق الأحكام، وإنْ سماه بعض العلماء دليلاً، فإنَّما أراد هذا المعنى(2).
أما العرف في السياسات الوضعية فهو أحد أصلَيْها (3)، بل هو أقدم مصدريها، وعليه قام جزء من مصدرها الثاني، وإن تفاوت نسبة هذا الجزء بين السياسات.

2- العرف في السياسة الشرعية، يعتمد في إقراره والإلزام به على الوحي (الكتاب والسنّة) (4)، وليس على مجرد قوة رسوخه في نفوس النّاس.
أمَّـا العرف في السياسات الوضعية، فيعتمد في إقراره والإلزام به على سلطان العرف الناتج عن كثرة العمل به، وتكرره، ورسوخه في النفوس بحيث تعسر زحزحتها عنه، وبخاصة إذا اقتضته الحاجة، فالأعراف التي تصطلح الأمم عليها، هي فيما بعد أسيرة لها، مطبوعة على انتهاجها، ولهذا قال الفقهاء: في نزع الناس عن عاداتهم حرج عظيم، وهذا ما يفسر معاناة الأنبياء والمصلحين لكثير من المصاعب - ولاسيما - من المُسِنِّيْن؛ حيث تكون العـادات أعمق تغلغلاً في النفوس(5)، وباختصار، فإنَّ العرف يكتسب إقراره والإلزام به من (الرأي العام).

3- العرف في السياسة الشرعية لا يعتبر منه إلا ما كان صحيحاً - معتبراً شرعاً - ولذلك قسَّم الفقهاء العرف إلى: صحيح وفاسد؛ ليتميز ما يُعْتَبر منه ولا يُعْتَبر(6).
أمَّا في السياسات الوضعية، فإنَّ ما كان منها راجعاً إلى العرف يعمل به، صحيحاً كان أو فاسداً؛ ولهذا لم يقسم القانونيون العرف إلى صحيح وفاسد(7)، كما فعل علماء الشريعة(8).

4- العرف في السياسة الشرعية، منظِّم وموجِّه، ومن ثم جاء التعبير عنه في القرآن الكريم بـ(المعروف)، في أكثر من من موضع؛ من مثل قول الله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 233]؛ وقوله سبحانه: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:241]، وقوله: (وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:6].
أمَّا العرف في السياسات الوضعية فإنَّه منظِّم، وليس موجِّهاً، لأنَّه فقد الصفة الدينيَّة التي تذكي الشعور، وتحاسب الضمير (9).

ثانياً: أهم الفروق بين أصول السياسة الشرعية، والقواعد الدستورية المدونة "المصدر الثاني للسياسات الوضعية".

سبق أنَّ أصول السياسة الشرعية هي: أصول الشريعة الإسلامية، أي: (القرآن الكريم، والسنة الشريفة)؛ وأنَّ مصادر السياسات الوضعية هي: العرف، والقواعد الدستورية المدونة (10).
وحيث سبق ذكر الفروق بين "العرف" في السياسة الشرعية، و (العرف) في السياسات الوضعية؛ فإنَّ ذكر الفروق هنا بين الأصول "النصيّة"، للسياسة الشرعية والسياسات الوضعيَّة؛ وهذا الأمر لا يمكن الإحاطة بأطرافه تصوراً وفكراً، بلْه تدوينه كلماتٍ وجملاً، وإنَّ مدَّ الطرفِ في لحظة تأمل، لَتَسْتَجْمِع جملاً من خصائص النصوص الشرعية قبل أن يرتدّ إلى جفنه؛ فإنَّ الكتاب والسنة لهما من الخصائص(11) مالا يمكن معه استساغة الموازنة بينهما وبين غيرهما من مصادر السياسات الوضعية، بلْه المقارنة، لكنّ الغرض تنبيه الغافلين، وإعادة التوازن للمبهورين، والدعوة إلى التزام شريعة رب العالمين؛ لذا هذه بعض الفروق المهمة بين الأصول النصية للسياسة الشرعية، والسياسات الوضعية، وهذه الفروق منبثقة من حقيقة كبرى - سبق ذكرها - وهي أنَّ أصول السياسة الشرعية، وحي من الله تعالى، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى، والسنة النبوية بيانه ووحيه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم(12)؛ فقد قال الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4]؛ فهذه الحقيقة تترفع عنها حقائق شرعية، هي الفروق المراد ذكرها، فمنها:
1- أنَّ أصول السياسة الشرعية، تكفّل بحفظها ربُّ العباد عز وجل، كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، فقد ضمن عز وجل حفظ الذكر، وهو ما أُنزل من الوحي؛ ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر(13)؛ وهذه حقيقة يؤكدها الواقع، وتشهد بها الأعداء (14).
- أنَّ هذه الأصول هي حجة الله التي أنزلها على خلقه، وهي جهة العلم عن الله تعالى خالق الكون، ربِّ الخلائق، فهي واجبة الاتِّباع لا خِيَرة لأحد في ذلك.
قال الإمام الشافعي: " … الله جلَّ ثناؤه أقام على خلقه الحجَّة من وجهين أصلهما في الكتاب: كِتابُه، ثم سنَّةُ نبيِّه بفرضه في كتابه اتِّبَاعَها " (15).

وقال أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " الحقّ الذي لا باطل فيه هو ما جاء به الرسل عن الله، وذلك في حقِّنا، ويعرف بالكتاب والسنّة والإجماع (16) وأمَّا ما لم تجئ به الرسل عن الله، أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق مواصلة إلى العلم به ففيه الحق والباطل، فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع: الكتاب والسنة والإجماع، فإنَّ هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع، لا يجوز تركه بحال، عام الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه (17)، وهي مبنية على أصلين:
أحدهما: أنَّ هذا جاء به الرسول.
والثاني: أنَّ ما جاء به الرسول واجب اتباعه.
وهذه الثانية، إيمانية ضدها الكفر أو النفاق، وقد دخل في بعض ذلك طوائف من المتكلِّمة والمتفلسفة، والمُتَأَمِّرَة، والمتصوِّفة، إمّا بناء على نوع تقصير بالرسالة، وإما بناء على نوع تفضل عليها، وإما على عين إعراض عنها، وإما على أنها لا تقبل إلا في شيء يتغير (18) كالفروع - مثلاً - دون الأصول العقلية أو السياسية أو غير ذلك من الأمور القادحة في الإيمان بالرسالة " (19).
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن الله سبحانه قد أقـام الحجة على خلقه بكتابه ورسله، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان:1] وقال: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام:19]؛ فكل من بلغه هذا القرآن فقد أُنذر به، وقامت عليه حجة الله به " (20).

ومعارضه هذا الأصل قادح في الإيمان، وهذا أمر متقرِّر في أصول الاعتقاد؛ وقد نصّ أبو العباس ابن تيمية في النصّ السابق على ذلك وبيّن بعض صوره. ويؤكد ذلك ابن القيم بقوله: " إنَّ المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين، المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوّة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوّة في شيء؛ وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوّة على قواعد الفلسفة " (21).

3- أنَّ هذه الأصول لا مجال للرأي فيما اتَّضح حكمها فيه؛ ولو كان مصدره الشورى؛ وفي هذا يقول الإمام البخاري - رحمه الله - "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها؛ فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدّوه إلى غيره، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم " (22).
وقال الحافظ ابن عبد البر "واعلم يا أخي أنَّ السنة والقرآن هما أصل الرأي، والعيار (23) عليه، وليس بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه، ومن جهل الأصل لم يصل الفرع أبداً " (24).

4- أنَّ هذه الأصول تشتمل على بيان جميع الأحكام والنوازل؛ فهي مكتملة لا مزيد عليها بعد انقطاع الوحي. وفي هذا يقول الإمام الشافعي: " فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها " (25).

5- أنَّ هذه الأصول تتضمن قواعدها قوّة الإلزام بها؛ بربط تطبيقها بالسعادة والفلاح في الدنيا وفي الآخرة، وربط عدم تطبيقها بالشقاء والعقاب في الدنيا والآخرة (26)، هذا مع واجب الدولة الإسلامية في التزامها، والإلزام بها.
ولهذا تختص هذه الأصول بوجوب تعظيمها وإجلالها وتوقيرها؛ وقد بيَّن علماء الإسلام هذه الخصيصة، وعقدوا في بيانها أسباباً خاصة من مثل "باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعّظمه ولم يوقّره " (27).

6- أنَّ هذه الأصول لا يمكن الاستدلال بها من وجه صحيح، على إقامة باطل أبداً،بل إن الدليل الذي يحاول به المبطل التدليل على باطله، يتضمن لمن تأمله ردَّ ذلك الباطل، وهذا من الإعجاز التشريعي في هذه الأصول.

وهذه الخصائص ليس في القواعد الدستورية شيءٌ منها؛ بل إن واقع القواعد الدستورية، والدراسات المتخصصة فيها تؤكد خلوها منها؛ فالقواعد الدستورية المدونة مصدرها الوضع البشري؛ ومن ثّم فهي خالية من الخصائص المتفرِّعة عن الوحي الإلهي.

ـ فالقواعد الدستورية المدوّنة غير متكفَّل بحفظها؛ بل إنَّ واضعها يضع ضمن قواعدها قواعد تُبَيِّنُ طريقة تعديلها أو إلغائها، على النحو الذي سبق بيانه في الفروق المجملة؛ فهي قواعد تتآكل وتنقرض، وإن كانت مدونة؛ فإنَّ من المبادئ التي يذكرها القانونيون: أن القاعدة اللاحقة تستطيع تعديل قاعدة سابقة ونقضها، ويعتبرون ذلك من متطلّبات الأنظمة السياسية المعاصرة التي تسمح بالتطور المستمر للقواعد القانونية لتواكب الضرورات الاجتماعية الدائمة الحركة (28). وهذه الفوضى القانونية التي تسمى (تطوراً) جعلت بعض القانونيين يلجأون إلى تقييد سلطة التعديل والتغيير؛ منعاً لتصدع النظام القانوني القائم، ومع ذلك فقد اصطدموا بجمود القواعد الدستورية وعدم اتصافها بصفة (السمو) و(المرونة في إطار ثابت)؛ ومن ثم لم تخرج فكرتهم عن ما يعرف بـ(الحظر الجزئي) و (الحظر المؤقت) (29)، في بعض الأنظمة - أيضاً (30) - وهي لا تتصف بأي صفة دينية، بل هي نقيض الدِّين، كما سبق بيانه، بَلْه أن تكون طريقة للعلم عن الله تعالى، كما هو الشأن في أصول الشريعة، التي هي ذاتها السياسة الشرعية.

ـ وهي أيضاً محض أراء، وإن قيّدت أحياناً فإنَّما تقيّد بآراء سابقة، مستمدة من الظروف المحيطة بالجماعة: سياسية واقتصادية واجتماعية، ومما يسود الجماعة من فلسفات ومعتقدات (31)؛ ولأن هذا الرأي هو الفصل في القواعد القانونية المدونة، أخذ عليها القانونيون – أنفسهم - أنها قد تكون أداة في يد السلطات، لفرض قوانين على المجتمع، لا يرضاها أو لا تتمشى مع حاجاته (32).

ـ وهي - كذلك - قاصرة عن تنظيم جميع الأحكام والنوازل، فمجالها منحصر من حيث الموضوعات والعصر؛ فالقواعد الدستورية إنما هي محاولة تنظيم لشكل الدولة، وسلطاتها، وعلاقة السلطات ببعضها، وبيان الحريات العامة (33)؛ في عصر معين؛ بل ربما أقل من ذلك. وهذا ما حمل القانونيين على إيجاد حلول لهذه المشكلة تقلل سرعة تعديل الدساتير وإلغائها، من مثل الحظر الجزئي، والحظر المؤقت، في بعض الأنظمة؛ للتوفيق بين مسايرة الضرورات الاجتماعية، ومنع التصدع في النظام القانوني (34).

ـ وأمَّا قوة الالتزام بالقواعد الدستورية فهي محل قانوني؛ فقد اختلف القانونيون في اعتبار القانون الدستوري – بنوعيه (العرفي) و (المدوّن) - ذا صفة قانونية كاملة، ومن ثم في اعتباره أحد فروع القانون!

ومنشأ الجدل عند القانونيين: عدم قيام سلطة تفرض الجزاء على مخالفة قواعده؛ ومن اعتبره ذا صفة قانونية كاملة، علَّلَ بأنَّ الجزاء هو قوّة الرأي العام في الدولة (35)؛ وهذا من أقلِّ دوافع الالتزام بأصول الشريعة، وإنَّما يهابه من يُغَلِّب هواه من حكَّام المسلمين (36). ‍
ـ وأمَّا استعمال القواعد الدستورية في إعطاء الصفة القانونية لأهواء الحكّام، وتقنينهم لما يخالف حاجة المجتمع؛ فهذا من أهم ما عيبت به تلك القواعد، كما سبق قريباً.

وبهذه الخطوط العريضة – في هذه الأضواء التي تقتضي عدم الإطالة - يتضح لكل منصف أنه لا مقارنة البته بين أصول السياسة الشرعية، وأصول السياسات الوضعية، لمن أدرك عمق الفجوة بينها ولم تَبْهَرْه بعض مظاهر الفلسفات؛ فأصول السياسة الشرعية: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم: 24]، ومصادر السياسات الوضعية، كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من ثبات ولا قرار.

وفي الحلقة القادمة - إن شاء الله تعالى - سيكون الحديث في الفروق من حيث جهة تقرير السياسات، ومجالات تقريرها..

-------------------------------------
(1) ينظر: العرف وأثره في الشريعة والقانون، لشيخنا د. أحمد سير المباركي: 239؛ ومصادر الشرعية الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية، د. علي جريشة: 75.
(2) ينظر: العرف والعادة في رأي الفقهاء، د. أحمد فهمي أبو سنّة: 41؛ وتيسير علم أصول الفقه، عبد الله بن يوسف الجديع: 213، ط1-1418، مؤسسة الريان: بيروت.
(3) ينظر: العرف وأثره في الشريعة والقانون، لشيخنا د. أحمد سير المباركي: 238.
(4) ينظر: المرجع السابق.
(5) ينظر: العرف والعادة في رأي الفقهاء، د. أحمد فهمي أبو سنة: 19-21، في مبحث تحسن قراءته.
(6) ينظر: العرف وأثره في الشريعة والقانون، لشيخنا د. أحمد سير المباركي: 239.
(7) يشترط القانونيون في العرف عدم مخالفته العدالة والنظام العام. مثاله: الأخذ بالثأر، فإنه لا يكون قاعدة عرفية معتبرة؛ أمّا مخالفة العرف للقانون فيظهر أنها ليست مانعاً عن تحوله إلى قاعدة، وإن كانت محل نزاع بين القانونيين، ومع ذلك فإنَّ هذا النزاع لا مكان له في بعض القوانين التي تساوي العرف بالقانون، بحيث يمكن أن يُعَدِل أحدهما الآخر، كالقانون الألماني. ينظر: القانون الدستوري والأنظمة السياسية، د. عبد الحميد متولي:1/83-84؛ والمدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي، لعلي علي منصور:96-97، والعرف وأثره في الشريعة والقانون، لشيخنا د. أحمد سير المباركي:106،182-238، وذكر شيخنا/يعقوب الباحسين: أنّ القوانين الوضعية التي كانت أسسها أعرافاً تعدلها الأعراف. ينظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية:340.
(8) ينظر: العرف وأثره في الشريعة والقانون، د. أحمد سير المباركي: 239.
(9) ينظر: المصدر السابق.
(10) ويعبِّر عنها القانونيون العرب بـ(التشريع)، وهذه تسمية مردودة، إذ فيها مضاهاة للشرع الحنيف؛ فإنَّ التشريع هو ما يقابل الاجتهاد، فالتشريع هو الكتاب والسنّة، والاجتهاد رأي الفقيه أو حكم الحاكم وفق التشريع (الكتاب والسنة) وإن أخطأ في التطبيق. ينظر: الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، د. عابد بن محمد السفياني: 89، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، د. محمد بن حسين الجيزاني:470، ط1- 1416، دار ابن الجوزي: الدمام. وهذا التعبير الذي استعمله هؤلاء له مدلول آخر، هو: وضع الأنظمة، وعليه، فله عندهم مدلولان: القواعد القانونية المدونة، وعملية سن هذه القواعد ووضعها. ينظر: المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي، علي علي منصور: 80.
وقد أصدر مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية قرارا برقم 328 وتاريخ 1/3/1396هـ: " عدم استعمال كلمة (المشرِّع) في الأنظمة والأعمال التنظيمية الأخرى والاستعاضة عنها بكلمة أخرى مناسبة "، وصدر إثره تعميم من ديوان مجلس الوزراء للجهات الحكومية ذات العلاقة، يقضي بالتزام ما جاء في القرار؛ وكان قرار مجلس الوزراء مبنيا على خطاب مرفوع من سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز - وكان حينها رئيسا للجامعة الإسلامية – إلى المقام السامي، وقد علل الشيخ رحمه الله المنع من ذلك بأنّ المشرع على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فإطلاق لفظ المشرع على غيره غير لائق (ينظر: قرار مجلس الوزراء السابق ذكره).
(11) ذكر صاحب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، د. محمد بن حسين الجيزاني، ثلاثين خاصية: 71-79، وقد أفدت منه – أثابه الله - في كتابة النقاط المتعلقة بذلك هنا.
(12) ينظر: الرسالة، للإمام الشافعي: 33، 88.
(13) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10/452؛ و 27/169-170.
(14) ينظر: قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل: 49-89. وقال مراد هوفمان: " أدَّت دراسات المتستشرقين النقدية العلمية الدقيقة الممحّصة للقرآن إلى الإقرار الكامل بموثوقية النّصِّ القرآني، وإحكامه التّامِّ، وانسجامه المُذهِل مع الثَّابت من نتائج أبحاث العلم الطبيعية، وزادت تلك الموثوقية تثبيتاً ورسوخاً " الإسلام كبديل، د. مراد فلفريد هوفمان: 108، وانظر: 42.
(15) الرسالة للشافعي: 221.
(16) الإجماع إنما هو قاطع للنزاع في دلالة مستنده النصي، وليس هو دليلاً مستقلاً، وإنَّما هو دليـل ثابت مع النص. ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 19/194-195، وقد سبق الحديث عنه في الأسس.
(17) من القضايا الدستورية وغيرها.
(18) في هذا العصر تتكرر هذه الدعاوى فيقدح في الرسالة بعدم ملائمة المتغيرات، أو عدم صلاحها في الدستوريات والسياسات جهلاً أو تجاهلاً بخصائص الشريعة وإعجازها التشريعي بمرونتها في إطار ثابت، وقد سبق، غير أنَّ لمرأد التنبيه على قدم التنشئة.
(19) مجموع فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية: 19 /5– 6.
(20) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: 2/735.
(21) المصدر السابق. 3/955.
(22) الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: 4/376 شرح وتصحيح محب الدين الخطيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ونشر، ط1-1400 المكتبة السلفية: القاهرة.
(23) في الأصل (بالمعيار) والتصحيح من نسخة أخرى.
(24) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: 536.
(25) الرسالة: 20، وقد ذكر جملة من الأدلة في بيان ذلك.
(26) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 19/93، 96-105.
(27) سنن الدارمي، للحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي: 1/127، ط1-1407، تحقيق وتخريج وفهرست/ فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي: بيروت، دار الريان للتراث: القاهرة.
(28) ينظر الدساتير والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 38-39.
(29) ينظر: المرجع السابق:36-37.
(30) أما في بعضها الآخر فالتعديل والإلغاء صفة له، وهو ما يعرف بـ(الدساتير المرنة).
(31) ينظر: الدساتير والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 21؛ ومبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة، د. عبد الجليل محمد علي: 125، ط1-1984م، عالم الكتب: القاهرة.
(32) ينظر: المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي، علي علي منصور:81.
(33) ينظر مقدمة دراسة علم الأنظمة، د. محمد الهوشان ود. فخري أبو سيف: 134-135؛ والمرجع السابق:168-169.
(34) ينظر: الدساتير والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 37-39.
(35) ينظر: المدخل إلى العلوم القانونية، نبيل سعد، ود. السيد محمد عمران، محمد يحي مطر:61.
(36) والأساس هو القوة الدينية؛ وهذه حقيقة لم يستطع إنكارها من عرف قدر نفسه من أعداء الإسلام؛ ومن هؤلاء على سبيل المثال: كولد تسهير،حيث يقول: " فالفقه الإسلامي ضم فروع الحياة والحقوق المدونة والسياسية والعقوبات، ولا يفلت فصل من فصول الفقه أن يدخل تحت قاعدة مبنية على أساس ديني، وكل الأمور المتعلقة بالحياة الشخصية أو العامة داخلة في الواجبات الدينية ": قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل:226.

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
(الفروق من حيث جهة تقرير السياسات)

د. سعد بن مطر العتيبي

يتطلب ذكر الفروق بين السياسات الشرعية والسياسات الوضعية من حيث جهة تقرير السياسات، تقسيم هذا العنوان إلى فقرات.
وبيانه على النحو التالي:

أولاً: جهة تقرير السياسات في كل منهما:
أ‌- الجهة التي تقرر السياسة الشرعية هي "أولوا الأمر"(1).
ب‌- والجهة التي تقرِّر السياسات الوضعية هي ما يعبر عنه بـ" سلطة إعداد الدستور"(2)، وذلك في أرقى صورها؛ وتختلف هذه السلطة قوة وتسمية، تبعاً لنوع الدستور الذي تضعه، من حيث كونه ناشئاً، أو معدَّلاً؛ وهي في أشهر تقسيماتها نوعان: (3)
1) تأسيسية أصلية. وهي التي تُعِد دستوراً جديداً، بعد انهيار المؤسسات الدستورية القائمة - نتيجة انقلاب أو ثورة أهلية مثلا - فتنشئ السياسة، وتجسِّد الفكرة القانونية في الدولة.
2) تأسيسية مشتقة. وهي التي ينص الدستور القائم على وجودها، فهي لا تنشئ دستوراً لكنها تعدِّل الدستور القائم، ولذلك تسمى: سلطة التعديل؛ وقد تتحول إلى سلطة تأسيسية أصلية، بمجرد تقوية كيانها، وزيادة صلاحياتها من مجرد التعديل الجزئي إلى التعديل الكامل الذي يشمل الإلغاء.

والخلاصة: أنَّ مُقَرِّرِي السياسة الشرعية " أولوا الأمر"؛ ومُقَرِّرِي السياسات الوضعية المعاصرة: أعضاء " سلطة إعداد الدستور ".

ثانياً: ذكر الفروق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية المعاصرة بالنظر في المؤهلات.
يتجلَّى الفرق بين " أولي الأمر" و " سلطة إعداد الدستور" بالنظر فيما يلي:
أ- النظر في مؤهلات كلٍّ من الجهتين(4).
ـ فـ(أولوا الأمر) يشترط أن تكون تقريراتهم نتيجة (الاجتهاد المعتبر) الذي يشترط - ضمن ما يشترط لصحته - أن يصدر من مجتهد، والمجتهد يشترط فيه استيفاؤه شروط الاجتهاد – المطلق أو الجزئي بحسب الموضوع - وهي شروط كثيرة، لخصها العلامة أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله - بقوله: " إنَّما تَحْصُل درجة الاجتهاد لمن اتَّصَفَ بوصفيـن:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها "(5)، بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة (6)؛ وهذه المعارف تستلزم استعداداً شخصياً، ودراسة تكفل الإحاطة بأسباب الاجتهاد، ووسائله على نحو يوصله إلى القناعة بالحُكْم، التي يثمرها الشعور الحقيقي لدى المجتهد بأنَّه قد استفرغ وسعه في الوصول إلى الحكم عن طريق الاجتهاد المعتبر.
هذه لمحة مختصرة للمؤهلات العلمية والشخصية، " لأولي الأمر" فهم لا يُقِرِّون شيئا إلا من طريق الاجتهاد المعتبر.
أمَّـا " سلطة إعداد الدستور" فمُؤهِّلاتها لون آخر، فهي - كما مرّ - قسمان: تأسيسية أصلية، و تأسيسية مشتقة.
فالتأسيسية الأصلية تتكون من مجلسٍ منتخب، أو فردٍ يستعين بأشخاص معينين، أو منتخَبين (7)، أي أنها تتكون عن طريق الانتخاب، أو التعيين، وقد تتكون هذه السلطة من مجلسين(8).
والتأسيسية المشتقة تتكون مما ينص عليه الدستور السابق ضمانا للاستمرارية بين الدستور المرعي، والدستور المراد وضعه (9)، وهذه السلطة المنصوص عليها قد تكون معينة وقد تكون منتخبة.
ومن هنا فسلطة إعداد الدستور، إما أن تكون منتخبة، وإما أن تكون معينة؛ وهذا بيان مؤهلات كل منهما:
أمَّا السلطة المنتخبة - التي تتولى التنظيم (10) - فيشترط في أعضائها بعض الشروط المتعلقة بالقدرة على القراءة والكتابة (11)، والفوز بتأييد أغلب الناخبين (12)، وفقاً لنظام (الاقتراع العام) (13)، الذي لا يشترط في الناخبين فيه سوى شروط عادية، لا تتضمن معياراً علمياً، ولا دلالة على بصيرة (14).
وهذه النظرة المتساهلة في السياسات الوضعية، مبنيَّة على قاعدة مقتضاها حرية الجماعة في تقرير ما تشاء من تنظيمات بالطرق (الدستورية)، وهي قاعدة مبنية على الفكر الوضعي، الذي يمنح حق (التشريع) لغير الله، ليشرع ما لم يأذن به الله (15).
وأمَّا السلطة المعيَّنة، فإنَّ تحديد مؤهلات أعضائها، راجع إلى من يُعَيِّنُهم، فرداً كان أو حزباً، وهذا لا يمكن تحديده هنا، ولو أمكن في سياسة لم يمكن في أخرى، فقد يعود إلى فكر، أو هوى، أو مكانة ما.
وبهذا اتضح أنَّ تحديد المؤهلات في حالة (الانتخاب) و (التعيين)، أمام المؤهِّلات الشرعيَّة في غاية الضعف، ثم هو راجع إلى الفكر البشري، حيث يقوم (الشعب) بغثِّة وسمينه، أو (الفرد)، بتحديد أعضاء (سلطة إعداد الدستور).
ومن خلال العرض السابق، يتجلَّى بكل وضوح أنَّ مؤهِّلات: (أولي الأمر) تختلف اختلافاً جوهريا عن مؤهلات: (سلطة إعداد الدستور).
فالأولى لا يرقى إليها إلا من وصل رتبة الاجتهاد، وقد سبق الإشارة إلى شيء من شروطها، التي تَضْمَن استفراغ جهد العالم المعرفي والعلمي في بيان الحكم وحسن تطبيقه، وهذا ما جعل بعض الغربيين يصف الحكومة الإسلامية، بأنَّها: "حكومة العلماء" (16).
وأمّـا الثانية فقد تضم في عضويتها: المحامي - الذي يبحث عن الربح والمنصب في الغالب - والعالم، والممثل - الذي لا تقبل شهادته في القضاء الشرعي، وما هو أسوأ من ذلك، والواقع أظهر شاهد.

ثانياً: بين " المجتهد " في الشريعة، و" الخبير القانوني ".
على فرض وجود صفة (الاجتهاد) في أعضاء (سلطة إعداد الدستور)؛ فإنَّ ثمَّة فروقاً جوهرية - أيضا - بين (المجتهد) في الشريعة، والخبير القانوني (17)، منها:
1) أنَّ المجتهد يشترط فيه شروط قوية، لا تتوفر إلا في القلة النادرة من الفقهاء - ممن يجمعون بين العلم والفكر - ليس أقلها التصور العام لأحكام الشريعة في العبادات والمعاملات، إضافة إلى ما سبق الإشارة إليه من شروط.
أمَّا الخبير القانوني أو " المجتهد في ظل القوانين الوضعية " (18) - إن سَلِمَ التعبير - فلم توضع له شروط محددة، ولا يشترط فيه الإلمام بجميع فروع القانون، وتبعاً لذلك، فإنَّ كلَّ من آنس في نفسه القدرة على التخصص في فرع من فروع القانون، يمكنه التصدي لذلك دون حرج، ما دامت عقيدة الحلال والحرام - التي تخيف المجتهد الشرعي وتحكم ضميره بالعدل؛ مستبعدة في القوانين الوضعية.
2) أنَّ المجتهد الشرعي مقيد بأصول استنباطية متعددة، محددة، أوسع بكثير من مصادر القانوني، ولذا فإنَّ مهمته تستلزم قدرات علمية شخصية، للقيام بوظيفة تحقيق المناط في موارد الاجتهاد، التي تتنازعها عدة أصول، وهذا أمر لا تستلزمه مصادر القانوني المتغيرة (19).
3) عمل المجتهد الشرعي مقيد بضوابط استنباطية أصولية، بينها الأصوليون في علم أصول الفقه، لا بد من مراعاتها والتقيد بها، وهذا علم لا نظير له في إطار القوانين الوضعية(20)، ونظراً لحاجة القانونيين إليه تم فرضه مقررا في عدد من كليات الحقوق العربية، كما يرى أستاذنا الشيخ الدكتور يعقوب الباحسين حفظه الله.
وهذا العلم يمنع ادعاءَ أهليَّة الاجتهاد ممن ليس أهلاً له، كما أنَّه معيار صحة الاجتهاد، المؤدية - بعد توفيق الله تعالى - إلى الصواب في الحكم عند سلامة التطبيق.
4) خير الفروق، وأرجاها.. وهو: أنَّ المجتهد الشرعي مثاب ومأجور على اجتهاده، حتى لو أخطأ فيه ما دام حسن القصد، باذلاً الوسع، مؤهلاً لذلك؛ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر(21).

--------------------------------------
(1) ينظر: ما سبق في شرح التعريف المختار للسياسة الشرعية بالمعنى الخاص؛ و دور أهل الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم، لأخينا د.فوزي خليل: 154.
(2) ينظر: الدستور والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 35.
(3) ينظر: المصدر السابق.
(4) وهذا يعبر عنه بـ" الناحية العضوية ".
أمَّا مجال كل من الجهتين فهو موضوع الأمر الثاني، وهو ما يعبر عنه بـ"الناحية الموضوعية".
(5) الموافقات: 5/41-42.
(6) المصدر السابق: 5/43. وهذه المعارف كثر كلام الأصوليين فيها، غير أنَّه يمكن ذكر أهمها معدداً في النقاط التالية:
1- العلم بلسان العرب بحيث يمكن فهم نصوص الكتاب والسنة.
2- العلم بنصوص الأحكام من الكتاب والسنة الصحيحة وما يتعلق بها.
3- العلم بأسباب النزول ومناسبات السنة.
4- العلم بالناسخ والمنسوخ.
5- العلم بأصول الفقه: المنهج العلمي للاستنباط.
6- العلم بمواضع الإجماع، ينظر - مثلاً - إرشاد الفحول، للشوكاني:250-252.
7- العلم بما لا يُعْرَف موضوع الاجتهاد إلا به (الخبرة بالشؤون العامة).
ينظر: الموافقات: 5/128، وبحوث مقارنة في الفقه الإسلامي، د. محمد فتحي الدريني: 1/62-63؛ وأبحاث إسلامية، د. محمد فاروق النبهان: 126-127، ط-1406، مؤسسة الرسالة: بيروت.
(7) فالسلطة الأصلية الديمقراطية يتم اختيارها عن طريق الانتخاب في شكل مجلس وطني أو جمعية تأسيسية أو مؤتمر دستوري ويسمى الشكل التمثيلي أو شبه التمثيلي، أو في شكل مجلس تأسيسي يعد الدستور، لكنّه لا يدخل حيز التنفيذ إلا بعد موافقة الشعب؛ أو يتم اختيارها عن طريق الاستفتاء السياسي، بحيث يقبل الشعب ما يعرض عليه ولا يقرر شيئاً، وهذه الطريقة المعتادة لإعداد الدساتير في الحكومات الاستبدادية ـ مع أنَّها تعد شكلاً ديمقراطياً؟! حيث تضفي على هذه الدساتير الصفة القانونية؟!
والسلطة الأصلية الفردية، منها: المطلقة، التي يحدد مالك السلطة فيها سلطته تحت مسمى المنحة أو الهبة، أي أنَّه يمنح رعايا الدولة دستوراً ينظم بموجبه سلطانه، ويعرف بـ" الدستور الهبة " ومنها: المقيدة، التي لا ينفرد فيها الرئيس أو الملك بإعداد الدستور، بل يشترك معه ممثلو الأمة نتيجة للضغوط التي يمارسونها عليه، ويعرف هذا الدستور بـ" الدستورالميثاق ". هذه خلاصة كلام القانونيين في هذه المسألة.
ينظر: الدستور والمؤسسات السياسية.د. إسماعيل الغزال: 35-37 وما بعدها، وأسس العلوم السياسية في ضوء الشريعة الإسلامية، د. توفيق الرصاص: 153-154، والاستفتاء الشعبي بين الأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية، د. ماجد راغب الحلو:181 وما بعدها.
(8) وهذا يتجلى في الدساتير المرنة عند إرادة تعديلها أو إلغائها. ينظر: الدساتير والمؤسسات السياسية، د. إسماعيل الغزال: 204 وما بعدها.
(9) وقد تتولى السلطة القضائية تعديل الدستور عن طريق التوسع في تفسير النصوص الدستورية في الدساتير الجامدة.
(10) ومنها ما يسمى بـ" السلطة التشريعية ". وانظر ص: 71، الهامش رقم (3).
(11) ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، د. سليمان بن محمد الطماوي:252، ط-1988م؛ والسلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، د. سليمان الطماوي:110-118؛ ود. فاروق البنهان: 126.
(12) ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري د. سليمان الطماوي: 253. والناخب: المنتخِب، بكسر الخاء، والانتخاب: " إجراء قانوني يحدد نطاقه ووقته ومكانه في دستور أو لائحة ليختار على مقتضاه شخص أو أكثر لرياسة مجلس أو نقابة أو ندوة، أو لعضويتها، أو ننحو ذلك. محدثة ". المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية: مادة (نخب).
(13) حيث يتم الانتخاب على قواعد تكفل اتساع نطاق التمثيل إلى أكثر عدد ممكن. ينظر: السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، د. سليمان الطحاوي: 318؛ و الاقتراع: الاختيار، والمقترع: الناخب الذي يعبر عن اختياره بإدلائه بالصوت، أي: الرأي الفرد في الانتخابات، من القرعة. ينظر: قاموس الدولة والاقتصاد، لهادي العلوي:26، ط1-1997م، دار الكنوز الأدبية: بيروت.
(14) كشرط الانتماء للبلد (الجنسية) والذكورة والأنوثة (الجنس)، والسنّ، وعدم اقترافه جرائم معينة، وإن كان هذا الشرط الأخير قد خُفف بطرق متنوعة. ينظر: النظم السياسية والقانون الدستوري، د. سليمان الطماوي: 211 وما بعدها وص 249.
(15) وهي ما يعرف بـ(نظرية السيادة) انظر في بيانها وبطلانها السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية، د محمد أحمد مفتي ود. سامي بن صالح الوكيل، ط-1411، مركز بحوث الدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى: مكة المكرمة، ونظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، د. صلاح الصاوي، ط1-1412، دار طيبة: الرياض. وقد كتب فيها كثيرون، غير أنَّ كثيراً منهم لم يَسْلَم من لوثتها.
(16) وهو: سنوق هيرجرونج. ينظر: فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصمة أمم شرقية، د. عبد الرزاق السنهوري: 54 [ الأصل والهامش ] ط2-1993م، ترجمة/ د.نادية عبد الرزاق السنهوري ومراجعة د. توفيق الشاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(17) ينظر: الاجتهاد في الفقه الإسلامي، ضوابطه ومستقبله، د. عبد السلام السليماني: 457-458 [ مع بعض التوضيح ]، ط-1417، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
(18) المصدر السابق.
(19) ينظر الفرقان الأول والثاني في المصدر السابق.
(20) المرجع السابق، وعلم القانون والفقه الإسلامي، د. سمير عاليه:30، فقد خلت مباحث أصول القانون عن المجتهد الذي يستنبط الأحكام، وهذا حد أركان أصول الفقه.
(21) الاجتهاد في الفقه الإسلام ضوابطه ومستقبله، د. عبد السلام السليماني: 458. وآخره معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر »، رواه البخاري: ك الاعتصام بالسنة، ب / أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ح(7352)، ومسلم، ك /الأقضية، ب/ بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ح (15) (1716).

الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
الفروق من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما

د. سعد بن مطر العتيبي

ذكر الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية، من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما.
الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية من حيث مجال تقرير السياسة - أو ما يُعبَّر عنه بــ(الناحية الموضوعية) - فرق في غاية الأهمية والمفاصلة؛ فمجال تقرير السياسة الشرعية ينحصر في استمداد الأحكام السياسية الشرعية من الأصلين السابقين: الكتاب والسنة؛ فوظيفة (أولى الأمر) لا تتجاوز بيان الأحكام التي تقتضيها الشريعة، من الكتاب والسنة، بطريق من طرق الاستنباط وقواعده المعتبرة شرعاً، سواء كانت أحكاماً نصِّيَّة ظاهرة، أو اجتهاديَّة مستنبطة (1).

أمَّا مجال تقرير السياسات الوضعية، فإنه غير مقيد بقيد، إلا كون أحكامه ضمن إطار السياسات الموضوعي (المسائل الدستورية)؛ فإنَّ السلطة التأسيسية غير مقيـدة بقيد (2)، و كذلك ما يسمّى بـ(السلطة التشريعية) (3)؛ فهي في الأنظمة الوضعية ذات الدساتير المرنة - كالنظام الإنجليزي - غير مقيَّدة بقيد، فالبرلمان الإنجليزي يمكنه سنّ ما يشاء من القوانين، دون ضابط أو رقيب؛ فلا يوجد مبادئ ثابتة يُقَرَّرُ ويَسُنّ في إطارها؛ والدستور مَرِنٌ فلا رقابة على دستورية القوانين، ويزداد الأمر انقلاباً إذا سيطر على مثل هذا البرلمان (4) ذوو اتجاهات استبدادية (5)؛ بل حتى الأنظمة الوضعية ذات الدساتير الجامدة التي تتقيد بالدستور، هي الأخرى - عند التأمل - غير مقيدة، لأنَّ الدستور ذاته قانون وضعي قابل للتعديل والإلغاء والتغيير بالطريقة المنصوص عليها فيه، ليكون ملائماً ما يجد من تطورات وتغيرات في المجتمع، لافتقاده صفة السمو التي تضمن المرونة في إطار ثابت (6)؛ بل إن الأمر في غاية الفوضى وعدم الانضباط في الأنظمة التي تخول المجلس الأعلى فيها التحللَ من القانون متى شاءت (7).
وهذا الانفلات في مجال تقرير السياسات، جعل وظيفة (سلطة إعداد الدستور) التأسيسية والمشتقة، تشمل وضع الدساتير إنشاءً، وإلغاءً، وتعديلاً.

وهنا يتجلى الفارق العميق بين مجال تقرير السياسة الشرعية، ومجال تقرير السياسات الوضعية؛ إذ مجال تقرير السياسة الشرعية يقتصر على كشف الأحكام السياسية الشرعية وبيانها؛ أما مجال تقرير السياسات الوضعية، فيتعدى مجال الكشف والبيان، ويتجاوزه إلى مجال (التشريع) أي إنشاء الأحكام ابتداء (8) الذي هو كـ"الخلق" من خصائص الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54]، وهذا التعدي من أصول الفكر الوضعي الحديث، وهو يؤكِّد ما سبق من أنَّ "الوضعية" صفة لها مدلول لفظي ومنهج فكري "الأيدلوجية الوضعية"، وليست مجرد مسلك قانوني.

وبما سبق يتضح أنَّ سلطة إعداد الدستور، غير مقيدة في تقريراتها بقيد، فلا نصوص ولا مبادئ تقيد سلطتها؛ ولهذا فإنَّ الباحث في إطار القوانين الوضعية (الخبير القانوني في أحسن أحواله)، يسعى لتحقيق ما يراه من مصالح آنية أو قريبة، وحين لا تعود هذه القوانين – التي وضعها - محققة لتلك المصالح، أو تتغير نظرة المجتمع إليها، تبادر السلطة المخولة بتعديلها أو إلغائها، واستبدالها بقوانين جديدة. وهذا ما يستدعي متابعة القاضي والمحامي والباحث القانوني، كل تغيير يطرأ عليها (9)؛ إذ بمجرد إلغاء ما سبق أو تعديله، تكون البحوث التي أهدر فيها الجهد والوقت والمال شيئا تاريخياً لا قيمة له من الناحية القانونية القائمة.

أمَّا "أولوا الأمر"، فمقيدون في تقريراتهم بالنصوص والكليات الشرعية الثابتة المثمرة المرنة، التي هي: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24-25]؛ فنصوصها وكلياتها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فهي نور دائم يُسَيِّر المجتهد، ولا يسيره المجتهد، وما ثبت حكمه من المسائل يبقى حكمه كذلك دون تغيير أو تبديل، وهكذا تتابع المسائل والبحوث دون أن تهدر، فهي مسائل قد أشبعت بحثاً، فثبتت أحكامها جهداً فقهياً يعمل به القاضي، ويفتي به المفتي، ويستند إليه الباحث، ويطبقه المكلّف، عند تماثل المسائل صوراً ومناطات.

ومن هنا كان تعبير كل من المجتهد الشرعي، والخبير القانوني، دالاً على هذه الحقيقة، فإنَّ المجتهد الشرعي يعبر بـ(ثبت) وما في معناها، أمَّا الخبير القانوني وشراح القوانين فيعبِّرون بـ(استقر) بعد (كان)؛ وهذا لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب شروح القوانين.

وهنا يسعدني أن أُذكِّر بأنَّ تراثنا الفقهي المتعلق ببيان دلالات نصوص الشريعة من كتاب وسنّة، يبقى تراثا حيّاً فاعلاً، على مرّ العصور، بل إنَّ تلك الشروح تكون أقوى سبكا وأدق فهما كلّما كان صاحبها إماماً من أئمة الشريعة المتقدمين؛ بخلاف شروح الدساتير الوضعية والنصوص القانونية الوضعية، فإنَّها بمجرد أن تلغى تلك القوانين التي تم شرحها أو تغيّر، تتحول تلقائيا إلى ما يعرف بـ(تاريخ القانون)، لتخرج من دائرة القانون ذاته. ولست بحاجة إلى التذكير بقيمة تفسير ابن جرير أو شروح صحيح البخاري أو كتاب المغني - على سبيل المثال - منذ وجدت وإلى اليوم بل والغد!

وهكذا يتجلى المثل القرآني العظيم، الذي يوجه السؤال التقريري لكل ذي عقل مستنير؛ ليوازن بين من يمشي مكباً على وجهه تائها، ومن يمشي سوياً مهتدياً: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22].

وبهذا تم الحديث في بيان الفرق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية، وبه أختم الحديث في سلسلة: مقالات أضواء السياسة الشرعية، التي شجعني على طرحها الإخوة في موقع المسلم جزاهم الله خيرا. ولله الحمد والمنة، والله تعالى أعلم.

----------------------
(1) ينظر: الأم، للإمام الشافعي: 5/128؛ وجامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر: 361، 366، 372.
(2) ينظر: السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، د. سليمان الطماوي:309–310، 119.
(3) وهي قد تقوم بمهمة " سلطة إعداد الدستور في الأنظمة ذات الدساتير المرنة "، وقد يعهد إليها ذلك في بعض الأنظمة ذات الدساتير الجامدة فتكون هي " السلطة التأسيسية المشتقة "، و قد تتحول إلى سلطة تأسيسية أصلية بمجرد زيادة صلاحياتها. انظر الفقرة (أولا) السابقة ومراجعها.
(4) البرلمان: مجلس منتخب، لممارسة السلطة (التشريعية) التنظيمية، نيابة عنه؛ من جذر parabola اللاتيني، بمعنى: يتكلم؛ ويتكون من مجلس أو مجلسين. ينظر: قاموس الدولة والاقتصاد، لهادي العلوي:26.
(5) ينظر: مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة، د. عبد الجليل محمد علي: 329-332؛ والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: 2/996.
(6) ينظر: ما سبق في خصائص الشريعة؛ والسلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي.د سليمان الطماوي: 309-310.
(7) ينظر: مبدأ المشروعية في النظام الإسلامي والأنظمة القانونية المعاصرة، د. عبد الجليل محمد علي: 332.
(8) وفي هذا يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف – رحمه الله -: " تطلق كلمة (التشريع) ويراد بها أحد معنيين: أحدهما: إيجاد شرع مبتدأ. وثانيهما: بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة.
فالتشريع بالمعنى الأول في الإسلام ليس إلا لله، فهو سبحانه ابتدأ شرعاً بما أنزله في قرآنه، وما أقر عليه رسوله وما نصبه من دلائله، وبهذا المعنى لا تشريع إلا لله. وأما التشريع بالمعنى الثاني: وهو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة، فهذا هو الذي تولاه بعد رسول الله خلفاؤه من علماء صحابته ثم خلفاؤهم من فقهاء التابعين وتابعيهم من الأئمة المجتهدين، فهؤلاء لم يشرعوا أحكاماً مبتدأة، وإنما استمدوا الأحكام من القواعد العامة. السلطات الثلاث في الإسلام: 81، ط2- 1405. دار القلم: الكويت.
(9) ينظر: الاجتهاد في الفقه الإسلامي ضوابطه ومستقبله، د. عبد السلام السليماني: 457.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك