الموقف من التسامح يعتمد على قيمته في الثقافة المعاشة

الموقف من التسامح يعتمد على قيمته في الثقافة المعاشة

 

يوسف أبا الخيل

 

لا يمل كثير ممن أخذوا على عواتقهم إلصاق التهم بالإسلام - خاصة في الدوائر الغربية النافذة - من بعد أحداث الحادي عشرمن سبتمبرعام 2001م بالذات، من الادعاء بأن انعدام التسامح مع الأديان المخالفة، أو لنقل عدم وجود حرية دينية - على المستوى الاجتماعي خاصة - إنما هو مظهر إسلامي يخص الإسلام وحده، وهذا الرأي فيه كثير من التجني على الإسلام كدين سماوي نزل لإفشاء الرحمة بالبشر عامة سواء أكانوا من أتباعه أم من غيرهم، يُصدِّق ذلك قول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بنص القرآن {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ولو كانت مثل تلك التجنيات تُعزَى للمسلمين أنفسهم بعيداً عن الإسلام كدين، لهان الأمر على اعتبار أن ثقافة المسلمين كمراكمات تاريخية/ اجتماعية -خاصة منها ما قد يحسب على أنه مخالف للقواعد الدولية المتعارف عليها فيما يخص حقوق الإنسان -لا علاقة لها بالإسلام كدين، إلا أن اللافت للنظر أن تلك التهم يتم إبرازها وتكبيرها كمظاهر إسلامية متلازمة مع التطبيق العملي لنصوص الإسلام وتعاليمه.

من أبرز ما تتشدق به تلك الدوائر مما تعتبره مخالفة إسلامية لقواعد الحرية الدينية ما يتعلق بمسألة تطليق المرأة التي أسلمت حديثاً من زوجها الباقي على دينه الكتابي، حيث ينطلقون من هذه الدعوى لإثبات أن الإسلام فضلاً عن أنه لا يعترف بالحرية الدينية اعتماداً على تقريره الفصل بين الزوجين بعد إسلام الزوجة، فهو كذلك لا يراعي حرمة الأسرة بتعريضها للضياع حال انفصال الأم المسلمة عن زوجها وأولادها بعد إسلامها.

والواقع أنه يمكن الرد على مثل هذه الدعوى من منطلقين اثنين:

أولاً: أن مسألة الحرية الدينية - على مستوى الأديان السماوية والإسلام منها بوجه خاص - مضمونة بموجب نصوصها الأصلية المقدسة، يكفي أن نتذكر منها قوله تعالى في القرآن الكريم {لا إكراه في الدين} وقوله تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}أما على المستوى الاجتماعي فهي - أعني الحرية الدينية - تعتمد على نوع الثقافة المعاشة التي لا يكون غالباً لأعرافها وتقاليدها وآليات الضغط التي تُخضِع بواسطتها أفرادها لمنطقها الخاص علاقة بالدين في أصله المؤسسي، مما يمكن القول معه إن مسألة تآكل هامش الحرية الدينية على المستوى الاجتماعي ليست مسألة خاصة بالمجتمعات الإسلامية وحدها، فهي واقع موجود في ثقافات أخرى عديدة، ويكفي فقط أن نتذكر ما حصل عندما تحولت إحدى الفتيات القبطيات في مصر عن ديانتها المسيحية إلى الإسلام، فقد استلزم هذا التحول حينها قيام أسرة الفتاة المكونة من ستة أفراد بالاحتجاج على سلوك ابنتهم بالإضراب الجماعي عن الطعام والتهديد بمواصلة هذا الإضراب إن لم تعد ابنتهم إلى حظيرة دينها الذي خرجت منه، وبالفعل فقد نفذت الأسرة تهديدها ولم ينقذها من الموت المحقق إلا قيام الأجهزة الأمنية المصرية بنقل كامل أفرادها إلى أقرب مستشفى للعلاج ووضعهم تحت الحراسة المشددة لحمايتهم ربما من التهور بالانتحار الجماعي حزناً على الابنة المتحولة عن دينها،مما يؤكد أن مسألة التعايش مع الحرية الدينية تنبع من مراكمات الثقافات نفسها بعيداً عن أن تكون مسألة دين أصلاً، ناهيك عن أن تكون مسألة خاصة بالإسلام وحده.

ثانياً: أن مسألة التفريق بين الزوجين بعد إسلام الزوجة له بالطبع حكم فقهي معروف في الفقه الإسلامي يعطي القاضي أو المحكمة صلاحية طلاق أو تفريق المرأة التي أسلمت حديثاً عن زوجها غير المسلم بينما العكس غير صحيح إذ لا يتطلب الحكم تفريقاً بين الزوجين عند إسلام الرجل وبقاء الزوجة على دينها باعتبار جواز زواج المسلم من الكتابية، ولكن في مقابل هذا الرأي الفقهي، هناك رأي فقهي آخر يرى عدم التفريق بين الزوجين في مثل تلك الحال التي تدخل فيها الزوجة حظيرة الإسلام، ولهذا الرأي مؤيدون لهم وزنهم في الفقه المعاصر، يأتي على رأسهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي دعا إلى إعادة النظر في مسألة التفريق باعتبارها عقبة أمام اعتناق غير المسلمين للإسلام إذا رأوا أن ذلك الاعتناق سيترتب عليه تفريق الأم المسلمة عن الأب الباقي على دينه وما سيترتب على خطوة كهذه من تشرد وضياع للأبناء، أوعلى الأقل العيش بدون حنان الأم وهو الترياق الأساسي لبناء أسرة سليمة خالية من العاهات النفسية، وبنى هؤلاء الفقهاء رأيهم بإعادة النظر في مسألة عدم التفريق على استثناء القرآن الكريم للأبناء الذين تزوجوا من زوجات آبائهم قبل تحريم ذلك النوع من الزواج من أن يطلقوا تلك الزوجات احتراماً للأسرة من أن تتعرض للضياع والتشرد رغم أنهن كن زوجات سابقات لآبائهم، وهذا الاستثناء القرآني موجود في قول الله تعالى في الآية الثانية والعشرين من سورة النساء {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} وبالتالي فما دام أن القرآن قد استثنى من تزوج بزوجة أبيه قبل تحريم ذلك الزواج من طلاقها بعد تحريمه إتقاءً لتشرذم أسري متوقع، فمن باب أولى - كما يرى هؤلاء الفقهاء - تطبيقه بحق الأسرة غير المسلمة عندما تعتنق الأم منها الإسلام لكونه يحقق هدفين ساميين، أحدهما: الحفاظ على شمل الأسرة وهو من مقاصد الإسلام الكبرى، وثانيهما: الترغيب في الدخول في الإسلام بشكل أكثر مرونة عند ما يتم تخطي مثل هذه العقبة، وهكذا فإن الرأي القائل بضرورة التفريق بين الزوجين في مثل هذه الحالة، يقابله رأي آخر يرى ضرورة بقاء الأصل على ما كان عليه قبل إسلام الزوجة، وهذا الرأي قوي ويستند على حكم قرآني لمسألة مشابهة في ظروفها لمثل تلك الحالة التي يتم فيها إسلام الزوجة من دون الزوج.

بناءً على ذلك يمكن القول بثقة، إن الانغلاق وعدم التسامح تجاه المعتقدات المخالفة ليس حكراً على ديانة أو فرقة بعينها وهو ما يبطل دعوى أولئك المزايدين على كيل التهم للإسلام في محاولاتهم إلصاق تلك المظهرية الأحادية الانغلاقية بالإسلام وحده، بل يمكن القول إن مشاهد اللاتسامح والعنف مع المخالف لا علاقة لها بالأديان أساساً، إذ أن كافة الأديان السماوية تدعو أساساً وبشكل مفصلي إلى حرية الاعتقاد وأنه لا حجر على اعتناق ديانة أومعتقد بعينه ما دام أن الاعتناق يقع في دائرة الاختيارالشخصي البعيد عن مفارقة الجماعة الذي يتمظهر خاصة في زماننا هذا في التمرد وإحداث القلاقل على طريقة الحوثي في اليمن، ومن ثم فالعيب في تشكيل آليات ورايات العنف مع المخالف والبعد عن التسامح وجبرية الاعتقاد إنما يقع على عاتق الثقافة - بمعناها الشامل- التي تشكل رؤية المجتمع وطريقة تعامله ونظرته مع من يغادر الحظيرة المذهبية أو الدينية ولا علاقة لها بدين بعينه، وبالتالي فالقول الفصل في سبب ذلك الشقاق والعنت الديني لا ينفك عن بحثه في خبايا الثقافات المعاشة التي لا تختلف في تشكيل ضوابطها ومعاييرها تجاه النظرة للمخالف من دين لآخر، كما وأن هذا الأمر يتطلب من علمائنا الأفاضل في كافة أقطار العالم الإسلامي العمل على إبراز الوجه المتسامح من الثقافة الإسلامية بإفساح المجال للرؤى الأخرى أن تتعايش مع تلك التي تخالفها وعدم الاقتصار على أقوال أو توجهات بعينها مما قد يعطي الفرصة لأعداء الإسلام أن يأتوه من قِبَلِها.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2006/01/02/article119974.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك