مصادرة الفكر.. نقاش في الأسباب

مصادرة الفكر.. نقاش في الأسباب

خالد بن مبارك الوهيبي

 إن الكلام عن مصادرة الفكر يجرنا مرغمين إلى الصراع التاريخي بين المثقف والسلطة. هذا الصراع الذي نجد آثاره حتى في كتابات العلماء والمفكرين عبر التاريخ والذي اتخذ أشكالاً وقوالب متنوعة باختلاف الأبعاد الزمانية والإحداثيات المكانية. ولقد عانت أمتنا كثيراً من مصادرة الفكر حتى إنك لتحار في تفسير اختفاء أفكار كانت لها السيادة والريادة ثم انحسر مدها وأفل نجمها وما ذلك إلا لهذه الانتقائية العجيبة التي يسمونها المصادرة.

المثقفون والفكر المثقف كلمة تلوكها الألسن ليل نهار وخاصة في الأدبيات المعاصرة. وعندما نحاول أن نجد تعريفاً لها انطلاقاً من مرجعيتها الثقافية نلاحظ أن هذه الكلمة وبالمفهوم الذي نتداوله اليوم غائبة عنه. فلفظة (مثقف) صيغة نحوية اسم مفعول من (ثقف) وهذه الصيغة لم ترد في النصوص العربية إلا قليلاً جداً.

إن تاريخ استعمال وانتشار هذه اللفظة في الخطاب العربي المعاصر لا يتجاوز ربع قرن مضى وهي بوضعيتها المعاصرة كلمة مولدة إذ هي ترجمة للكلمة الفرنسية (intellectual) التي اشتقت من (intellec) الذي معناه العقل أو الفكر فعلى هذه فلفظة -مثقف- تدل على أولئك المشتغلين بفكرهم وأيديهم في فروع المعرفة والذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان والمجتمع ويقفون موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد والجماعات من ظلم وعسف. وهذا التعريف الذي يحمل في طياته بعداً سياسياً هو في حقيقته نتاج لتداخل محاور بعد الزمن معه إذ أنه في عام 1894 حكم على ضابط فرنسي اسمه (الفريد دريفوس) بالنفي إلى (غويانا) بتهمة التجسس لصالح ألمانيا ثم استطاع أفراد عائلته وأصدقاؤه أن يثبتوا زيف الوثائق التي أدانته فاتجهوا إلى الرأي العام يستنهضونه ليطالب بإعادة المحاكمة واستطاعوا إقناع شخصيات مرموقة في عالم الفكر والأدب وهؤلاء جميعاً أصدروا بياناً حمل توقيعهم ونشرته جريدة (لورو) الفرنسية بعنوان (بيان المثقفين) وبسبب هذه القضية انقسم الرأي العام وأخذت اهتمامات الجميع وكان لها الأثر البالغ في الحياة الفكرية في فرنسا.

والبيان الذي وقعه أولئك الأدباء والمفكرون بعنوان (بيان المثقفين) والذين قاموا بتلك الحركات الاحتجاجية دفاعاً عن حق الضابط المتهم في محاكمة عادلة ولقد لاقى ذلك المصطلح الكثير من السخرية والتهكم ولكنه شق طريقه ليركز في ذاكرة الوعي المعاصر.

ولقد اتسع مصطلح المثقف ليشمل جميع الذين يشتغلون بالثقافة إبداعاً وتوزيعاً وتنشيطاً وعلى كل فالوضعية الأولى لمعنى المثقف تحدد بكونه صاحب رأي وقضية ومبشر بمشروع لا بعلاقته بالفكر والثقافة أي ضرورة أن يكون المثقف متفاعلاً مع قضايا مجتمعه صاحب نظر فيها عن علم وتفكر وتدبر.

مصادرة الفكر قبل أن نتكلم عن مصادرة الفكر لا بد أن نعرف الفكر أولاً: فالفكر عبارة عن مجموعة من الآليات البشرية للحصول على نتيجة وبلغة المناطقة هو تحضير مقدمتين أو أكثر للحصول على نتيجة. فالفكر الإسلامي عبارة عن الآلة العقلية التي تعمل في النصوص للحصول على نتيجة فتكون علوم مصطلح الحديث وأصول الفقه وعلم الكلام فكراً في حين أن الكتاب والسنة هما المنهج وهذا هو الفارق بين المنهج والفكر قال الله تعالى: "لكل جعلنا شرعة ومنهاجا".

والنصوص القرآنية لمن تأملها تدعو في صراحة ووضوح إلى التفكر والتدبر والسير في الأرض "لقوم يعقلون" "لعلكم تتفكرون" "قل سيروا في الأرض فانظروا.." لتوصل هذا الكائن البشري إلى حقائق ونواميس هذا ا لكون التي توصله إلى الحقيقة الكبرى وهي وجود الخالق تبارك وتعالى وإفراده بالعبودية.

ومما لا شك فيه أن دائرة التفكير الحر والإبداع واسعة في الإسلام ولا تكاد تنتهي إلا عند الثوابت القطعية الإلهية المستفادة من النصوص القطعية التي لا يحدها زمان أو مكان وعندما تتجاوز ينفلت العقل البشري إلى عالم التيه والضلال ومصادمة الكون ونواميسه التي تسير وفق التنظيم والتدبير الإلهي.

ولكن الذي يحصل أنه حتى في الدائرة الإسلامية الواسعة تمارس مصادرة الفكر من قبل بعض الجهات وعندما تفشل إعلامياً في محاصرة ذلك الفكر تستنجد بالسلطات وتقحمها في صراعها مع ذلك الفكر . وهذا السيناريو تكرر كثيراً في تأريخنا الحافل بالمصائب والويلات. وعندما تتدخل السلطة في مساندة فكر ما فإنها تدخل بأسلحة القمع والإرهاب حتى يمحى كل أثر للفكر المناوئ. ولنا هنا وقفة مع التأريخ لماذا كانت السلطة تزج نفسها في صراعات فكرية كان من الإمكان أن تبقى جميعاً وفي النهاية يثبت الأقوى فكرياً جدارته بالبقاء! الإجابة عل ذلك تتوقف على مدى ملائمة أي فكر لتوجهات السلطة وباستقراء أحداث التأريخ يعلم صحة ذلك.

على كل حال دعونا من قراءة تأريخ السلطة ولنحاول أن نلج دوائر أضيق في بحثنا عن مصادرة الفكر فمن الأسباب التي تدعو إلى مصادرة الفكر:

1.ضيق الافق وخفوت هدير الآلة العقلية في منظومة الفكر ،إذ أن منظومة الفكر يحيله إلى الحرفية و الظاهرية المفرطة مما يجعله يضيق ذراعا بالرأي المخالف وان كان في دائرة الصواب وكذلك لا يستطيع هذا الفكر بحث لمستجدات من القضايا و المسائل مما يفرض عليه الرجوع على تراث الماضي عله يجد بغيته فيه وهنا يتحول الإعجاب بالخيرية السلفية إلى الإلزامية النصية مما يفرض على الأجيال باستمرار أن تفكر بنفس المناهج التي وضعتها مبدأ الخيرية السلفية لا النصية المطلقة .

2. إضفاء هالة من القداسة و العصمة على الأفكار البشرية : ومع الزمن تتحول هذه الوسائل إلى غايات وبمجرد نقدها تنطلق سهام التضليل و التبديع و التكفير أي أن الفكر البشري قد تحول إلى منهج الــهي لا يجوز بحال من الأحوال المساس به.

3.اغفال بعد الزمن : وهذا ملحظ قلما ينتبه إليه أحد إذ أنه من المعروف إن بعد الزمن داخل ضمن الأبعاد الكونية ونحن إنما نعيش في حيز مكاني و زماني وهو ما يسميه البعض بـ(الزمكان) فإغفال هذا البعد في آليات ومنظومات الأفكار البشرية لا يعطيها كمية التحرك اللازمة للانطلاق في تعاملها مع قضايا الكون و الإنسان و الحياة بل تتحول إلى مجرد آليات محدودة التأثير والتفاعل ذات أطر وأبعاد مكانية لا تتعداها في حين إن عجلة الزمن لن ترحمها بل ستدوسها و تسحقها بتسارعها المطرد بل إن الهالة الزائفة من العصمة و القداسة للإفكار البشرية ناشئة عن إهمال بعد الزمن .

كلمة أخيرة: إن مفاهيم كالحرية و العدالة و الشورى ما زالت غائبة من ذاكرة الوعي العام ولو بحثنا عنها لوجدنا أنها قد سحقت تحت مطارق الاستبداد عبر تاريخنا الطويل ونحن لا نزال نطالب بها دونما جدوى لعدم قدرتنا على حل المشكلة تأريخيا بل إننا في كثير من الأحيان في أدبياتنا المعاصرة نبرر ذلك التأريخ الحافر بإشكاليات و جدليات الصراع السياسي المذهبي وتعود اسقاطات ذلك الماضي على حاضرنا ونظل هكذا ندور كما يدور الحمار بالرحى.

وتزداد القضية تعقيدا عندما يغذي الاثريون هذه التناقضات بالأخبار والآثار ذات الصبغة السياسية لتضفي على الانحراف لبوس الدين. ويضاف إلى هذا وذاك الممارسة التأريخية للسلف على اعتبار أنها من حجج الشرع فتكتمل بذلك حلقات الحصار على حرية التفكير و الممارسة العملية للعدالة والشورى والمساواة إننا بحاجة ماسة لقراءة التاريخ و محاكمته على ضوء النص القاطع حتى نخرج من هذه الدوامة التي كدنا نظن أننا لن نخرج منها إلا بعد أن تهب علينا ريح طيبة تنزع روحنا لتبقي على شرار الناس.

ودعوكم من هذه الدعاوى الفارغة التي تطلق هنا وهناك وتنادي الالتزام بالكتاب و السنة ، فما هي في حقيقتها إلا دعاوى لقراءة الكتاب و السنة على ضوء الأطر المذهبية و التاريخية أي جعلهما مجرد قنطرة عبور لأفكار ومسلمات سابقة على النص .

المصدر: موقع بلاغ 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك