التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم

التوازن التربوي
وأهميته لكل مسلم

تأليف
مجدي الهلالي

المقدمة
رب يسر وأعن يا كريم
الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالتربية مصطلح شائع ومتداول بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم، وهو يحمل في طياته معنى التغيير -سواء كان سلبيًا أم إيجابيًا- فالذي يريد من نفسه أو ممن حوله سلوكًا دائمًا في اتجاه (ما)، لابد من أن يتربى أو يربيهم عليه، فمن أراد - مثلا- اكتساب مهارة قيادة السيارات لا يكفيه التعرف على قواعد وأساليب القيادة من الناحية النظرية، بل لابد له من الممارسة العملية للقيادة لمدة معتبرة، والذي يريد عضلات قوية وجسمًا مفتولاً، فمن الضروري أن يمارس الرياضة المؤهلة لذلك وباستمرار حتى يصل إلى هدفه... وهكذا.
والتربية ثابت من الثوابت ينبغي أن يتبناه كل من يريد تغييرًا إيجابيًا في شخصيته أو شخصية كل من يتولى أمرهم ويرجو صلاحهم.
فما هي التربية؟
وما هو هدفها؟
ما مجالاتها؟
وماذا يعني التكامل التربوي والرؤية التربوية؟
هل تتوقف التربية عند حد ما؟
وما هي الأسباب التي تؤخر ظهور ثمرة التربية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كانت تلك الصفحات، والتي نسأل الله عز وجل أن تصحبنا فيها معيته وتوفيقه، فهو وحده ولي ذلك والقادر عليه "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود: 88].
* * *

معنى التربية
يقول عبد الرحمن النحلاوي في حديثه عن مفهوم التربية:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية وجدنا لكلمة «التربية» أصولا لغوية ثلاثة:
الأصل الأول: ربا يربو بمعنى زاد ونما، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: "وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ" [الروم: 39].
الأصل الثاني: رَبِىَ يربى ومعناها: نشأ وترعرع.
الأصل الثالث: ربَّ يَرُبُّ بمعنى أصلحه، وتولى أمره، وساسه، وقام عليه ورعاه.
وقد اشتق بعض العلماء من هذه الأصول اللغوية تعريفا للتربية. قال الإمام البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل):
«الرب في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا».
وفي كتاب مفردات الراغب الأصفهاني: الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام( ).
ويقول د. ماجد عرسان الكيلاني: يعرف علماء التربية الحديثة «التربية» بأنها تغيير في السلوك. وهذا تعريف فيه قدر كبير من الدقة والصوابية شريطة أن يفهم من السلوك حلقاته الثلاث: حلقة الإرادة، وحلقة الفكرة، وحلقة الممارسة( ).
التغيير والأثر الدائم:
من خلال ما تدل عليه التعريفات السابقة من معان يمكننا أن نصوغ تعريفا إضافيًا للتربية بأنها: «إحداث تغيير أو أثر دائم في الشيء».
فحدوث أثر لحظي لا يندرج تحت مسمى التربية، فالذي ينفق مرة أو مرتين نتيجة تأثره اللحظي بموقف تعرض له، أو سماعه لموعظة عن الإنفاق لا يمكن أن نصفه بأنه قد صار (منفقا) إلا إذا صار الإنفاق سمة من سماته.
والذي استطاع أن ينام عددًا قليلاً من الساعات في ليلة من الليالي، واستفاد بوقته في إنجاز العديد من الأعمال، فإنه لا يصبح بهذه الليلة قد اكتسب أو تربى على قلة النوم إلا إذا صار ذلك سمتا عامًا له.
فالتربية هي: إحداث أثر دائم في الشيء... مع العلم بأن هذا الأثر قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا، كمن يتربى على الكذب فيصير كذَّابًا، أو من يتربى على الشُّح فيصير شحيحًا، أو من يتربى على الإنفاق فيكون كريمًا جوادًا.
وعملية التربية تحتاج إلى ممارسة دائمة ومتكررة حتى تظهر ثمارها.. قال صلى الله عليه وسلم «الخير عادة..»( ).
الفارق بين التعليم والتربية:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية، فهدف التعليم هو إيصال المعلومة إلى المتعلم واستيعابه وفهمه لها دون النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها.
أما هدف التربية فهي إيصال المعلومة مع الممارسة المستمرة لمقتضاها وما تدل عليه في الواقع العملي حتى تنشئ في ذات المتلقي أثرًا دائمًا ينتج عنه تغيُّر في سلوكه.
فلا تكفي المعرفة النظرية بالقيم والأخلاق لكي تُصبح واقعًا ملموسًا في حياة الفرد، بل لابد من أن يتربى عليها، ويمارسها مرات ومرات.
من هنا ندرك أهمية التربية الصحيحة التي تهدف إلى تكوين الفرد المسلم الصالح المصلح؛ لذلك كان من أهم مهمات الرسل: التربية والتزكية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" [الجمعة: 2].
* * *

حاجة الإنسان إلى التربية
خلق الله عز وجل الإنسان وجعل تكوينه يشمل أربعة مكونات رئيسية هي: العقل والقلب والنفس والجسد.
والإنسان يبدأ رحلته على الأرض -منذ خروجه من رحم أمه- بهذه المكونات الأربع وهي غير مكتملة النمو، بل جعلها الله سبحانه تبدأ صغيرة، محدودة الإمكانات، لتنمو بعد ذلك بما أودع فيها من خاصية النماء.
ونماء هذه المكونات يستلزم دوام إمدادها بالغذاء الذي يناسبها.
فالجسد يخلق صغيرًا ضعيفًا، ولكي ينمو لابد له من غذاء متنوع يلبي احتياجاته ويترك فيه أثره الدائم، وينتج عنه دومًا طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة.
ومع ضرورة إمداد الجسد بالغذاء المناسب لابد كذلك من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في نجاح المرء في أداء وظيفته على الأرض.
وما ينطبق على الجسد ينطبق على العقل والقلب والنفس، فلابد لهذه المكونات الثلاثة من تربية وإنماء حتى تكتمل وتصلح ويساهم كل منها بأثره في تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي يقوم بوظيفته الأساسية؛ ألا وهي معرفة ربه وعبادته وخشيته بالغيب، وإقامة دينه في نفسه، ثم في نفوس المسلمين، وأن يجتهد في تبليغه للبشر جميعًا.
وكما أنه من الضروري استمرار تعاهد البدن وإمداده بما يصلحه حتى يستمر في النمو والتمتع بالصحة والحيوية؛ كذلك لابد من تعاهد العقل والقلب، والنفس بالإمداد بما يصلحهم، ودفع ما يضرهم حتى يستمر نموهم المعنوي في الاتجاه الصحيح، وبخاصة أن كلاً منهم يبدأ الحياة كما يبدأ الجسد.. محدود الإمكانات والقدرات، و لديه قابلية للنماء، فالعقل يبدأ الحياة وهو فارغ من أي مخزون معرفي "وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا" [النحل: 78].
والقلب يولد على الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة»( ).
والنفس تبدأ رحلتها في الحياة ولديها القابلية للفجور والانفلات، وكذلك القابلية للاستكانة والتطويع "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" [الشمس: 7، 8].
ولئن كان أمر تعاهد البدن وتربيته لا يحتاج إلى توجيه دائم -فيما يخص الغذاء- باعتبار أنه أمر محسوس وظاهر؛ إلا أننا لا نتعامل مع عقولنا وقلوبنا وأنفسنا بنفس الدرجة من الاهتمام لأننا -من ناحية- لا نراهم بأعيننا، ولا نكاد نستشعر احتياجاتهم.
ومن ناحية أخرى فإن هذه المكونات الثلاثة يحدث لها نمو ولكنه -في الغالب- ليس بالشكل المطلوب، أو في الاتجاه الصحيح، فعلى سبيل المثال:
العقل -بعد الولادة- يبدأ في استقبال المعلومات من كل الاتجاهات دون تمييز بين صحيحها وسقيمها، ثم تبدأ هذه المعلومات شيئًا فشيئًا في تشكيل يقينه ومعتقداته ونظرته للحياة ومفرداتها.
ضرورة التربية الصحيحة:
من هنا تبرز أهمية التربية الصحيحة، فالمسلم لن ينصلح حاله، ولن يكتمل نموه، ولن يرى الثمار الصحيحة لعبوديته لربه عز وجل إلا إذا اهتم بالجوانب الأربعة التي تشكل كينونته.
فعندما يُترك العقل دون تربية وإنماء في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن يفشو الجهل، وتتغير الأولويات، وتضطرب المفاهيم، وتكثر الشبهات، وتظهر البدع والعقائد الفاسدة.
وعندما يُترك القلب بدون تعاهد وإمداد إيماني فإنه سيصبح أسيرًا للهوى تابعًا له.. كلما اشتهى فعل، وكلما رغب اندفع.. لا يبالي بحلال أو حرام.. تتبلد مشاعره وتقسو، فلا يكاد يتأثر بموعظة.
وعندما تترك النفس بدون تزكية، فستجد أمامها المجال مفتوحًا للفجور والطغيان وسوق صاحبها لفعل الفواحش والموبقات.
وعندما تُترك حركة المرء وجهده البدني بدون توجيه فمن المتوقع أن يستهلكها في تحقيق شهواته ورغائبه دون ضوابط.
.. كل هذا سيؤدي إلى التخبط والضياع في الدنيا، والابتعاد عن الطريق المستقيم.. طريق العبودية لله عز وجل ومن ثمَّ يكون الخسران - والعياذ بالله - في الآخرة. تأمل قوله -جل ثناؤه- وهو يصف حال أناس تركوا التزكية والتربية الصحيحة، فتعطلت عقولهم، ومرضت نفوسهم وقلوبهم، واتجهت حركاتهم ونشاطهم نحو الأرض والطين لتحصيل واستيفاء الشهوات: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف: 179].
فالذي لا يستخدم هذه المكونات فيما خلقت من أجله -بل ويمدها بما يضرها- كمن يتعلم ما يضره +وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ" [البقرة: 102]، ومن ثم فإن مرتبته تنحط لتصبح دون الأنعام، وكيف لا، والأنعام لم تكلف بما كلفنا به، ولم تعط من الإمكانات مثل ما أعطينا "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً" [الفرقان: 44].
لذلك فإن من يهمل التربية الصحيحة فإنه ينحدر إلى أسفل، ويزداد هذا الانحدار كلما كانت تغذيته لعقله وقلبه ونفسه تغذية عكسية.. وهكذا حتى يصل إلى أسفل السافلين، ويصبح مثل الأنعام في الاهتمامات، ودونها في المرتبة "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [الأنفال: 55].

الحياة السعيدة:
من هنا نقول بأن إنماء العقل والقلب والنفس وتوجيه حركة الإنسان توجيهًا صحيحًا أمر بالغ الأهمية، والتكامل بينها ضروري لتكون الثمرة نضيجة، ومن ثم يتمتع المرء بالعافية في الدنيا، ويحيا حياة سعيدة حيث السلام الداخلي والطمأنينة والسكينة، ثم يستكمل هذه السعادة في قبره فيكون «روضة من رياض الجنة».
ويوم القيامة "يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ" [الزخرف: 68]، ... وفي الجنة حيث النعيم المقيم، والسعادة التي لا تستطيع جميع مفردات اللغة أن تصفها، وكيف تصف ما لم تره؟! بل هي قياسات وتشبيهات، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله "وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا" [الإنسان: 20]..
* * *

حاجة الأمة الماسة إلى التربية
أكرم الله عز وجل أمتنا واختصها برسالة الإسلام، وهذا فضل عظيم منه سبحانه على كل مسلم في هذه الأمة "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة: 3].
.. هذه النعمة العظيمة تستوجب من أبناء الأمة أمرين عظيمين:
الأول: أن يقوموا بأداء تكاليف الرسالة في ذواتهم.
والثاني: أن يعملوا على توصيل هذه الرسالة، وتبليغها للبشر في شتى أنحاء الأرض، وأن يبذلوا في ذلك غاية جهدهم، وأن يسعوا سعيا حثيثا لإيصالها إلى من يمكنهم الوصول إليه من الناس في مشارق الأرض ومغاربها حتى ينقذوا -بإذن الله- كل من بداخله خير وشوق إلى الهداية، وحتى لا يكون لأحد حجة أو ذريعة يتذرع بها لكفره أو شركه بربه... فإذا ما كان يوم القيامة قام أبناء أمة الإسلام -في كل عصر- بالشهادة أمام الله عز وجل على أبناء عصرهم بمدى قبولهم أو رفضهم الإيمان بما تضمنته الرسالة.
الخير المخبوء:
إن أغلب البشر فيهم خير مخبوء في كينونتهم لكنهم يحتاجون -فقط- إلى من يحسن مخاطبة هذا الخير، واستخراجه وإظهاره -بإذن الله-، والقليل منهم هم المجرمون الذين يبغونها عوجا؛ تكبرا في أنفسهم، وحرصا على امتيازاتهم التي يضمنها لهم بقاؤهم على الكفر "وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ" [الجاثية: 31].
ولعل في قصة موسى عليه السلام ما يؤكد ذلك، فكل من فرعون والسحرة قد شاهدوا العصا تتحول إلى حية عظيمة، فآمن السحرة ولم يؤمن فرعون، ليظهر الفارق في سبب الكفر واضحا، فالسحرة قد منعهم الجهل من الإيمان بالله؛ لذلك عندما شاهدوا الآية العظيمة أذعنوا واستسلموا "قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ  رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" [الشعراء: 47، 48].
أما فرعون فكان سبب كفره هو إجرامه وكبره وحرصه على مصالحه "وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى" [طه: 56].
وعندما آمنت بلقيس -ملكة سبأ- بعد دعوة سليمان عليه السلام لها، ورؤيتها الآيات الباهرات، وكانت من قبل -هي وقومها- يعبدون الشمس؛ نجد أن القرآن يبين سبب كفرها أنها نشأت بين قوم كافرين، أي كانت جاهلة بالحقيقة لذلك عندما بلغتها الدعوة ورأت الآيات آمنت: "وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ" [النمل: 43].

أهمية الجهاد:
... إذا كان الكثير من الناس ليسوا مجرمين، بل وفيهم خير مخبوء لكنهم ضلوا الطريق الصحيح؛ فإن على أصحاب الرسالة أن يبذلوا غاية جهدهم في توصليها إليهم وإلى غيرهم فيكونوا سببا في إنقاذهم من النار.
وليس معني هذا أنه ليس على هؤلاء الجاهلين مسئولية في البحث عن الطريق الصحيح، فالمسئولية مشتركة بينهم وبين أصحاب الرسالة... عليهم أن يبحثوا عن الحق، وعلى أصحاب الرسالة أن يجتهدوا في توصيل الحق إليهم.. من هنا ندرك قيمة الجهاد في الإسلام والحكمة من كثرة الحث عليه في الكتاب والسنة، وتفضيله على كثير من الأعمال.. فجوهر الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل الله، وإقامة دينه، وتبليغ دعوة الإسلام -دون إكراه- فيكون وسيلة لإنقاذ البشرية وإسعادها بالإسلام "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [الحج: 78].
إن الجهاد هو الوسيلة العظيمة لتبليغ الدعوة وتوصيلها إلى الناس جميعا، ومن خلال قيام المسلمين به يتم إنقاذ الكثيرين من الضلالة والنار "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [التوبة: 41].
وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟
قال: «لا تستطيعونه»، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه».
ثم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد»( ).
وغني عن البيان أن للجهاد صورًا كثيرة يجمعها معنى «الجهاد» وهو: بذل الجهد في سبيل الله، تأمل قوله تعالى: "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" [آل عمران: 157]، فلقد جمع الله عز وجل في هذا الآية بين من يقتل في سبيل الله وبين من يموت دون قتال وهو في سبيل الله، وجعلهما مشتركين في الأجر.
إن توصيل رسالة الله عز وجل للبشر يحتاج إلى بذل حقيقي للجهد وتضحية عظيمة بالغالي والنفيس، وصبر وثبات على المحن والعقبات التي تعترض طريق توصيل الرسالة، فلا راحة للمسلمين حتى يكون الدين كله لله.
يقول الإمام حسن البنا: فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لامناص منها ولا مفر معها، ورغب فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلا أن جاهدوا، وفي الآخرة عذابا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهبا( ).
ماذا لو فرطنا؟!
إن اتفقت معي -أخي القارئ- على ذلك، وقرأت آيات وأحاديث الجهاد من هذا المنظور، فستدرك -كما أدركت- مدى التقصير والتفريط الذي وقعت فيه الأمة في حق البشرية بتخليها عن هذا الأمر الإلهي، وخيانتها لواجب البلاغ، وستدرك كذلك مدى خطورة تفريط الأمة في التطبيق الصحيح للرسالة في ذاتها لأن التطبيق الصحيح للإسلام يسعد أبناءه ويدفعهم لبذل غاية الجهد لإنقاذ غيرهم.
فإن كان الأمر كذلك؛ فإن تفريط الأمة في القيام بهذين الأمرين: (أن تتمثل في ذاتها الرسالة، وأن تقوم بتبليغها) يضعها في دائرة العتاب والغضب الإلهي، وكيف لا وهي بذلك قد قصرت في أداء الأمانة التي ائتمنها الله عليها، وتخلت عن موقعها الريادي للبشرية، وما ينتج عن ذلك من ضياع الكثيرين والكثيرين حين يموتون على الكفر رغم ما فيهم من خير مخبوء وشوق إلى الهداية.
إن الخسارة التي تخسرها البشرية بتخلي أمة الإسلام عن وظيفتها خسارة فادحة، فالآلاف -كل يوم- يموتون على الضلالة والكفر، ولو أن الرسالة قد بلغتهم بطريقة صحيحة لآمن الكثير منهم.
لماذا نعاقب؟!
لعل ما قيل في الأسطر السابقة يجيب عن الأسئلة التي تتردد على ألسنة المسلمين كلما ازداد حال الأمة سوءًا، وكلما تعالت هجمات أعدائها عليها... فمن هذه الأسئلة: لماذا نعاقب بهذه العقوبات المتولية؟! إلى متي الذل والهوان الذي تعيشه أمتنا منذ أمد بعيد؟لماذا يتركنا الله هكذا نسام سوء العذاب من اليهود وغيرهم وهو سبحانه قادر بأن يكف بأسهم عنا وينصرنا عليهم؟
إن الرؤية الإيمانية لهذه العقوبات لابد وأن تنطلق من عدة أمور.
أولها: أن هذا العقوبات تأتي بعلم الله وإذنه ومشيئته "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ" [آل عمران: 166].. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" [الأنعام: 112].
وثانيها: أن هذا العقوبات صورة من صور العتاب الإلهي للأمة لأنها تخلت عن رسالتها، ولم تعمل بما تضمنته، وتركت مهمة توصيلها وإبلاغها للبشر جميعًا.
"أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: 165].
وثالثها: أن هذه العقوبات تعد بمثابة وسيلة قوية لإيقاظ الأمة وإفاقتها من غفلتها، وإعادتها إلى رشدها "وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الزخرف: 48]، ..قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»( ).
إصلاح الداخل أولاً:
لا يمكن للأمة أن تؤدي أمانة البلاغ، ومن ثم الشهادة على الناس إلا إذا تمثلت في أبنائها معاني الرسالة؛ فيستمدون منها -بعون الله- القوى الروحية الدافعة للعمل والجهاد، ويستشعرون من خلال تطبيقها الصحيح معنى العزة بالله، فتفيض عليهم السعادة في كيانهم، فينطلقون راشدين لتحقيق مراد ربهم بأن يكون الدين كله لله.
وحين يهملون تطبيق الرسالة: تنحط اهتماماتهم، وينكفئون على ذواتهم، ويصبح جُلَّ تفكيرهم في كيفية تحصيل متطلبات الطين، وشهوات النفس.
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة لرفع العقوبات عن الأمة، وتغيير ما حاق بها ونزل بساحتها؛ هو إصلاحها من الدخل "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: 11].
فإن لم يحدث ذلك؛ فستظل العقوبات والمحن تتوالى عليها، ولن يرفعها مجرد الدعاء أو المساعدات للمنكوبين -على أهميتها- بل لابد من دفع ضريبة التغيير الحقيقي.
وحتى لو هدمت المساجد، وقُتل النساء والأطفال هنا وهناك فلن يُرفع البلاء إلا إذا سرنا في طريق التغيير "وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا" [الإسراء: 8].
والتغيير المنشود يشمل كيان الإنسان بمحاوره الأربعة:
أولا: تغيير وإصلاح المفاهيم والتصورات في العقول، وإعادة بناء اليقين الصحيح فيها.
ثانيا: إصلاح الإيمان في القلوب وتقوية الإرادة.
ثالثا: ترويض النفس وجهادها على لزوم الصدق والإخلاص لله عز وجل، مع نكران الذات والتواضع غير المصطنع.
رابعًا: التعود على بذل الجهد في سبيل الله.
وسيأتي -بإذن الله- بيان ذلك كله بشيء من التفصيل في الصفحات القادمة.
.. عندما تكتمل هذا الحلقات الأربع، سيحدث -بإذن الله- التغيير الحقيقي للفرد، ومن ثم الأمة.
والتغيير المطلوب ليس تغييرًا لحظيا بل تغييرًا يحدث أثرًا إيجابيًا دائمًا، وهذا يستلزم التربية الصحيحة لأفراد الأمة؛ هذا إن أردنا إصلاحًا حقيقيًا.
ولنعلم جميعا بأنه مهما ألقيت الدروس والمواعظ، ومهما نشرت المقالات، إلا أنها -مع أهميتها- لن يكون لها نفع حقيقي ودائم إلا إذ مورست من خلال منظومة تربوية تُعني بإحداث أثر إيجابي دائم -وليس لحظيا- ينتج عنه ظهور المؤمن الصالح المصلح.
لا بديل عن التربية:
إن التغيير المنشود للأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معاني الإسلام من خلال جو تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد واستنهاض الهمم.. هكذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبني الأمة الجديدة... تأمل قوله تعالى وهو يخاطبه: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف: 28].
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم ودوام توجيههم وذلك في المرحلتين المكية والمدينة... ففي مكة كان يمارس ذلك من خلال تواجده المستمر بينهم، ولقائه الدائم بهم في دار الأرقم بين أبي الأرقم عند الصفا، وفي المدينة استمر في التربية والتعليم من خلال المسجد، ومن خلال التواجد المستمر بين أصحابه ومعايشتهم ومتابعة أحوالهم "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" [الجمعة: 2].
... لابد إذن من أن يقوم الدعاة بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- .. تأمل قوله تعالى في قصة هود عليه السلام: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [هود: 58].
وفي قصة شعيب عليه السلام: "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا" [الأعراف: 88].
وفي قصة موسى عليه السلام: "قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [غافر: 25].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن أتباع كل رسول : (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، ولم يقل: «آمنوا به»، فـ (مع) تعطي دلالة على المعية والصحبة والمعايشة، و(به) لا تعطي ذلك، وهذا يحمل في طياته بعض الدلالات على أن كل رسول لله كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة ولا يكتفي بتعليمهم فقط.
هل من الضروري تربية الأمة كلها؟!
لا بديل -إذن- عن التربية إن أردنا تغييرًا حقيقا، ومن ثم فإن على جميع الدعاة والعاملين للإسلام أن يكون هذا هو هدفهم الأساس حين يتعاملون مع الناس، وأن يوحدوا جهودهم ولا يبعثروها في غير هذا المجال حتى تبدأ الأمة في اليقظة الحقيقية..
لابد وأن يكون عمل كل من يريد خدمة الإسلام من خلال التواجد بين الناس... يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وليس ذلك فحسب بل عليه أن يكون هدفه من تواجده بينهم هو التربية وإحداث أثر إيجابي دائم في ذواتهم من خلال المحاور الأربعة للتربية.
إن المطلوب من خلال التواجد بين الناس ليس فقط مساعدة الفقراء، أو البحث عن عمل للعاطلين أو مواساة المبتلين، أو الصلح بين المتخاصمين، أو افتتاح مراكز لتحفيظ القرآن، أو عقد الندوات، أو....، فكل هذا مع أهميته إلا أنه لا بد أن يوضع في سياق المنظومة التربوية التي تهدف إلى التغيير الشامل والدائم في شخصية المسلم كما أسلفنا، وألا يتم التعامل معها على أنها جُزُر منعزلة ووسائل منفصلة عن بعضها البعض.
من هنا نقول بيقين: إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نراوح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والابتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخنا ونحيبنا، وترتفع أيدينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح جديد، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابر بأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعود على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا...
فإن قلت: ولكن هل من الضروري تربية الأمة جميعا؟!
ليس المطلوب أن يكون جميع الأفراد على مستوى عال ورفيع من الصلاح، فسيظل هناك السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، ولكن يبقى من الضروري توافر الحد الأدنى للصلاح في الأمة.
فالمطلوب هو إصلاح المجتمع بأن تشيع فيه روح الإسلام ومعانيه، وأن تغلب عليه مظاهر العفة، والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، ونكران الذات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشعار المسؤولية تجاه الأمة والبشرية، وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية والأنانية والإعجاب بالنفس والتفسخ الأخلاقي، والإباحية... ، وهذا لن يتم إلا بجهد تربوي متقصد يبذله الدعاة والعاملون للإسلام مع الناس... كلٌ يعمل في محيطه.
الجمرة المشتعلة:
لكي ينجح الدعاة والعاملون للإسلام وكل من يتوق لخدمة الإسلام.. لكي ينجحوا جميعًا في تغيير وإصلاح الأمة لابد من أن يبدأوا مع أنفسهم فتتمثل فيهم معاني الإسلام التي يريدون أن يربوا الناس عليها.
إن الخطأ الشائع الذي يقع فيه بعض الدعاة هو مطالبة الناس بشيء لا يفعلونه هم مع أنفسهم، فتفقد كلماتهم الروح والحرارة والتأثير في الآخرين.
لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتربية الأمة تنطلق من وجود الفرد المسلم المتوهج الذي تتمثل فيه معاني الإسلام والحرقة على الدين، وبدون هذه البداية لا يمكن للعملية التربوية أن تنجح.
فعلى سبيل المثال: لو أردنا إشعال مجموعة من الفحم فإننا -في الغالب- نقوم بإحضار فحمه مشتعلة ومتوهجة ونضعها وسط مجموعة الفحم، ثم نقوم بتحريك الهواء عليهم جميعا فينتقل الإشعاع والتوهج من الفحمة المتوهجة إلى بقية الفحم... فإن كان توهج الفحمة -الأساسية- متوسطا كان الأثر على بقية الفحم محدودًا وضعيفا، وإن كان التوهج ضعيفا فمن المتوقع ألا نري أثرًا لتوهج في عموم الفحم، وقد تنطفئ الفحمة ذات التوهج الضعيف بمرور الوقت، فعلي قدر توهج الفحمة «الأساس» يكون الأثر على من حولها.
... من هنا يتضح لنا بأنه وإن كان تغيير الأمة تغييرًا إيجابيًا كما يحب ربنا ويرضي يستلزم تربية أفرادها على معاني الإسلام؛ فإن نجاح هذه التربية مرهون بوجود أفراد متوهجين بدأوا بأنفسهم وساروا بها في طريق التغيير، وقطعوا فيه شوطا معتبرا حتى يستطيعوا -بعون الله- أن يأخذوا بأيدي الناس ويسيرون بهم في الطريق الذي سبقوهم بالسير فيه.
تبقى نقطة أخيرة في هذه المسألة وهي أن البعض قد يفهم من هذا الكلام أن تربية الناس على معاني الإسلام من خلال المحاور الأربعة السابق ذكرها (المعرفية -والإيمانية- والنفسية- والحركية) يستلزم تحققها بشكل كامل فيمن يريد ممارستها.
... لا شك أن الأفضل هو ذلك، ولكن لصعوبة تحققه فينا يبقي الحد الأدنى لممارسة التربية مع الآخرين هو أن نربيهم على ما تحقق فينا بصورة مرضية، وكلما استكملنا جديدًا في أنفسنا قمنا بتربيتهم عليه، وبذلك يمكن أن يقوم بأمر تربية الأمة عدد كبير من الدعاة والعاملين للإسلام، وكل من يتوق إلى خدمة الدين.. فالفتى عليه أن يقوم بتربية الأطفال على ما تحقق فيه، والشاب يقوم بتربية الفتيان على ما تمثل فيه، والرجل يقوم بذلك مع الشباب، والنساء مع الفتيات والأطفال وذلك في كل مكان يتيسر فيه المعايشة والتعاهد، ويأتي على رأس ذلك: المسجد فهو المحضن التربوي الأول الذي ينبغي أن يستفيد منه الجميع في إنجاح العملية التربوية بإذن الله.
فإن قلت: أريد تفصيلا أكثر للمحاور الأربعة التي سأقوم بتربية نفسي ومن حولي عليها.. كان الجواب: هذا مما ستتضمنه الصفحات القادمة بمشيئة الله.
* * *

المحول الأول
العقل والتربية (المعرفية)

خلق الله عز وجل الإنسان وأسكنه الأرض، وأتاح له حرية الاختيار، وطالبه بعبادته بالغيب "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56].
وجوهر العبادة هو استسلام العبد لله سبحانه، وطاعة أوامره، ودوام الاستعانة به والتوكل عليه في الأمور كلها، مع حبه وإجلاله وتعظيمه وهيبته وخشيته.
ولكن كيف يمارس الإنسان هذه الصورة من العبودية لله عز وجل وهو لا يراه؟
.. كيف يعظم أو يهاب أو يخشى أو يحب أو يطيع من لا يراه؟!
الإجابة عن هذه الأسئلة تنطلق من حقيقة مفادها أن الله عز وجل لا يطالب أحدًا بشيء فوق وسعه "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، لذلك فقد هيأ للإنسان من الأسباب والإمكانات ما يعينه على أداء وظيفته كعبد له سبحانه، وذلك من خلال أمرين عظيمين.
الأمر الأول: أن الله عز وجل قد أودع في الكون المحيط بالإنسان -بل وفي الإنسان ذاته- الكثير والكثير من المعلومات التي تدل عليه.
الأمر الثاني: أنه -جل ثناؤه- قد أعطى للإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع جمع تلك المعلومات عن ربه، ليتسنى له معرفته، ومن ثم عبادته.
الكل يعمل من أجلك
.. نعم، فكل ما تراه عيناك قد خُلِق من أجلك أيها الإنسان "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا" [البقرة: 29].
هذه الجبال الشاهقة.. هذه البحار العظيمة.. هذه الأنهار.. الأشجار.. الدواب.. الحشرات.. الطيور.. الأسماك.. الجمادات.. الشمس.. القمر.. النجوم.. السماء.. الأرض... كل هذا مخلوق لك "وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ" [الرحمن: 10].
الكل مُسخَّر لك ومخلوق من أجلك لكي تنجح في مهمة عبادة ربك بالغيب "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية: 13].
فالأرض وما عليها، والسماء وما تحتها خُلقت من أجلك.. من أجل تعريفك بربك؛ وتيسير حياتك الدنيوية.
كل مخلوق في هذه الحياة قد أودع الله فيه بعض المعلومات عنه -سبحانه- فهذا يحمل معلومات عن الله العظيم، القوي، الجبار (كالجبال والبحار).
وهذا يحمل معلومات عن الله الرحيم، الكريم (كالماء والنبات).
وآخر يدل على أن الله عز وجل هو النافع الضار، الخافض الرافع، القابض الباسط (كالرياح والمطر والمرض...).
وهكذا تتنوع المعلومات بتنوع المخلوقات:
فهذه الأنواع الكثيرة من المخلوقات التي تراها أو تسمع عنها لم تخلق عبثًا "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ  مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ.. "[الدخان: 38، 39].
فكل مخلوق له مهمة، وكل مخلوق يحمل رسالة تعريف بالله عز وجل..
تأمل سطور الكائنات فإنها
من الملأ الأعلى إليك رسائل

وقد خط فيها لو تأملت خطها
ألا كل شيء خلا الله باطل

تشير بإثبات الصفات لربها
فصامتها يهدي ومن هو قائل

.. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يحصل على هذه المعلومات؟!
من هنا ندرك أهم حكمة لخلق «العقل».
الوسيلة المتفردة
كلما ازدادت معرفة الإنسان بالشيء تغيرت معاملته له، «فالمعاملة على قدر المعرفة».
ولأن واجبات العبودية من حب وخشية وطاعة وتوكل... ما هي إلا معاملات ينبغي أن يعامل بها العبد ربه؛ لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتحقيق العبودية والتجلبب بها هي «معرفة الله» عز وجل، وكلما تعرف المرء على ربه أكثر كلما عامله بصورة أفضل، وكلما جهل المرء ربه كلما ابتعدت معاملته له عن الصورة المطلوبة "وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ" [الزمر: 67].
أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" [الانفطار 6]. ثم قال: جهله( ).
فكلما ازدادت معرفة الإنسان بربه ازداد حبه له، وافتقاره الدائم إليه، واعتماده عليه، واستسلامه المطلق له.
ولكي يعرف الإنسان ربه لابد وأن يجمع المعلومات عنه -سبحانه- والتي تحملها الكائنات التي تحيط به في كل مكان وزمان، وتحملها كذلك أحداث الحياة التي تمر به، بل إن الإنسان نفسه يحتوي على معلومات عن الله عز وجل لا توجد مجتمعة في مخلوق آخر "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ  وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ"
[الذاريات: 20، 21].
وكما قال الشاعر:
وتزعم أنك جِرْم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

ولقد منح الله عز وجل الإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع أن يجمع المعلومات عنه سبحانه من جميع مخلوقاته، هذه الوسيلة هي العقل.
يقول الحسن البصري: «لما خلق الله عز وجل العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك، إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أعطي»( ).
فالعقل من أعظم مخلوقات الله عز وجل، وبه من الإمكانات والملكات ما لا يمكن وصفه أو الإحاطة به، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فانظر إلى هذا الكون وما فيه من بلايين المخلوقات الكبيرة والصغيرة، وتذكر أنها جميعًا مخلوقة من أجلك، وتذكر كذلك أن الذي خلقها، قد طالبك بالنظر إليها، والتفكر فيها، والاستدلال من خلالها عليه سبحانه "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" [الأعراف: 185] فكيف لك أن تفعل ذلك إلا إذا كان الله عز وجل قد منحك الوسيلة التي تمكنك من النجاح في هذا الأمر؟!
العرض المتحرك:
.. أنت -أيها الإنسان- محور هذا الكون.. الكل يدور حولك، ويعمل من أجلك وينتظر إشارتك..
.. إن هذا الكون يعد بمثابة شاشة عرض كبيرة ومتحركة، تعرض عروضها أمامك كل يوم وكل ليلة، وفي كل عرض تظهر لك مشاهد جديدة، وعوالم جديدة، وأبطال جدد.
فالشمس والقمر يتحركان، والليل والنهار يتقلبان.. كل ذلك يحدث أمامك أيها الإنسان، وكأنه مسرح مكشوف أمام الجميع لينظروا إلى المخلوقات المختلفة الأشكال، والألوان، والحركات، والأصوات.. كلها تهتف باسم الله، وكأنها تقول بلسان حالها:
لقد خُلِقنا من أجلك أيها الإنسان، فلا تتركنا دون أن تنتفع بنا، وتتعرف على ربك من خلالنا، وإن غفلت عنا اليوم فسنمر عليك غدًا، وبعد الغد، وكل يوم حتى تنتبه وتنتفع بنا، ولكن احذر أن تغفل عنا طويلا، فالعرض الذي نقدمه لك كل يوم وليلة قد ينتهي بمجرد موتك وفي أي لحظة، فبادر واغتنم الفرصة.. ألم يقل لك ربك: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا"[الفرقان: 62].
هيا أبصر واعتبر:
ربك يحرك الكون كله من أجلك.. تتغير المشاهد، ويتغير الأبطال لكي لا تمل، ولكي تستمر في الإبصار والاعتبار "يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ" [النور: 44]، فأطلق بصرك إلى الأمام وانظر في ملكوت السماوات والأرض، وكفى نظرًا إلى أسفل قدميك، فلم تُخلق للطين، بل خُلِقت لأمر عظيم آخره الخلود والنعيم "أَفَمَن يَّمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [الملك: 22].
إنك -كما يقول محمد إقبال- غاية وجود هذا الكون، ولأجلك خلق الله هذا العالم، وأبرزه إلى الوجود( ).
إن هذا الكون، الذي يتركب من لون وصوت، والذي تسرح فيه العين، وتتمتع فيه الأذن... إنه ليس وكرك الذي تستريح فيه، والغاية التي تنتهي إليها.
إن هنالك عوالم وأكوانًا لم تقع عليها عين بعد.. إن هذه العوالم متشوقة لهجومك، وغارتك، وزحفك.. متشوقة لأبكار أفكار، وبدائع أعمالك.. إن هذا العالم يدور دورته لتنكشف عليك نفسك وحقيقتك( ).
.. لا تسفه نفسك فأنت (فاتح هذا العالم، ويعجز البيان عن وصفك، وتعجز الملائكة عن مرافقتك، وعن غايتك)( ).
واعلم أنه (لا حياة لك ولا قوام، ولا شرف ولا كرامة إلا بهذه المعرفة، فإذا ملكتها ملكت العالم، وإذا فقدتها أصبحت من سقط المتاع)( ).
إن كل ما في العالم من الظواهر الكونية، أو الأجرام الفلكية، راحل زائل، وغائب آفل.. أنت -أيها الإنسان المسلم- بطل المعركة، وقائد الجيش، وكل ما حولك من سافل وعال، ورخيص وغال، من جنودك وأتباعك( ).

الذنب الأكبر:
إذن فالحكمة العظمى من خلق العقل هو استخدامه في التعرف على الله عز وجل من خلال التفكر في مخلوقاته والتعرف على ما تحمله من معلومات عنه -سبحانه- "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [البقرة: 164].
وكثيرًا ما يذكِّر القرآن بأهمية استخدام العقل في التفكر والاعتبار لفهم آيات الله المبثوثة في كونه: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [النحل: 12].
وحين يُعطل المرء عقله، ولا يستخدمه فيما خلق من أجله فقد سفِه نفسه، وظلمها ظلمًا عظيمًا لأنه بذلك قد سار بها إلى الهاوية.. تأمل معي حال أهل النار -والعياذ بالله- وهم يتذكرون أسباب هلاكهم وضياعهم "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 10].. والملاحظ أنهم لم يذكروا كفرهم أو شركهم أو معاصيهم وهم يؤنبون أنفسهم على ما وصلوا إليه، بل ذكروا تعطيلهم لعقولهم عن الاستخدام الصحيح.
.. نعم، لو استخدموا عقولهم وتفكروا في آيات الله المرئية في كونه، والمقروءة في رسالاته، لتعرفوا على ربهم، ومن ثمَّ لأطاعوه وعبدوه ولما كفروا ولما أشركوا، ومن ثم لما دخلوا النار، لذلك كان التعقيب الإلهي على اعترافهم بالحقيقة +فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 11].
.. بالفعل: إن ذنبهم الأكبر هو هذا الذنب، وما الكفر، وما الشرك، وما الكبر، إلا توابع لتعطيل العقل، فالذي يعطل هذه النعمة العظيمة فإنما يحرم نفسه من خير عظيم كان في متناول يده، ومن ثم تنحط مرتبته، ويهبط ويهبط حتى يصبح "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" [التين: 5].
"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً" [الفرقان: 44].
وصدق عباس العقاد حين قال: «التفكير فريضة إسلامية».
العلم الحقيقي:
إن كان العقل هو محل العلم والمعرفة، فإن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل العبد بتحصيله هو العلم بالله عز وجل، وكيف لا ومن خلاله تتحقق العبودية الحقة له سبحانه، لذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56] أي: إلا ليعرفون.
لماذا؟!
لأنهم إذا عرفوه: أحبوه، وعظموه، وهابوه، وأطاعوه، وتوكلوا عليه...
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب، أي عبادك أخشى لك؟
قال: أعلمهم بي( ).
.. إذن فتحصيل العلم بالله هو أهم غاية لخلق العقل، وأي علم آخر فينبغي أن يكون تابعًا له، وفرعًا منه.. ألم يقل سبحانه "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: 19].
فلكي يدرك المرء حقيقة التوحيد، ويوقن بها فإنه يحتاج إلى التعرف على ربه من خلال آياته الدالة عليه "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [فصلت: 53].
لذلك نجد جواب موسى عليه السلام عندما سأله فرعون عن الله، أنه ذكر بعضًا من المعلومات عنه -سبحانه- من خلال آثار أسمائه وصفاته المتجلية في مخلوقاته "قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى  قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى  قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى  قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى  الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى  كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى" [طه: 49- 54] وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب:
أخبر سبحانه أنه ما خلق السماوات والأرض ونزل الأمر إلا لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: "اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" [الطلاق: 12].
وأخبر أنه إنما يخشاه من عباده العلماء، وهم العلماء «به».
قال ابن عباس في قوله: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 28].
قال: أي إنما يخافني من عبادي من عرف جلالي وكبريائي وعظمتي.
فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والرضا عنه، والاشتغال به دون خلقه.
ويتبع ذلك العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة( ) .
العلم النافع:
من هنا يتأكد لدينا أن العلم النافع هو الذي يؤدي إلى تحقيق التوحيد قولا وعملا، أو بمعنى آخر: هو الذي يؤدي إلى تحسين المعاملة مع الله عز وجل فيزداد المرء له خشية وطاعة ومحبة وإنابة واستقامة على صراطه المستقيم، فإن لم يُؤدِّ العلم الذي يتعلمه المرء إلى ذلك صار علما غير نافع.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»، وفي حديث آخر قال: «سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع»( )، وهذا يدل -كما يقول ابن رجب- على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع( ).
ويقول سفيان الثوري: إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقى الله به، وإلا كان كسائر الأشياء.
وكان الإمام أحمد يقول: أصل العلم خشية الله، وقال كثير من السلف: ليس العلم كثرة الرواية وإنما العلم الخشية( ).
وفي حكم ابن عطاء: «العلم إن قَارَنْته الخشية فلك، وإلا فعليك».
وعندما سئل الإمام أحمد عن معروف الكرخي، وقيل له: هل كان معه علم؟ فقال: كان معه أصل العلم، خشية الله عز وجل( ).
ومن الملاحظ أن كلمة العلم في القرآن كثيرًا ما تدور حول هذا المعنى كقوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 28].
وقوله: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" [الزمر: 9].
غاية العلم:
لكي ندرك أكثر وأكثر غاية العلم علينا أن نتذكر غاية وجود الإنسان على الأرض والتي تتمثل في تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل وما تشمله من معان مختلفة يقف على رأسها: طاعته سبحانه، وخشيته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والأنس به، ودوام الإنابة إليه، والاستسلام له، والاستعانة به، والتضحية من أجله، وإقرار شرعه.
ولأن هذه المعاني لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المرور من باب «المعرفة» بالله عز وجل -كما أسلفنا- كانت غاية العلم هي: «التعرف على الحقائق التي تصل بالمرء إلى تحقيق العبودية لله عز وجل بمعانيها المختلفة».
بهذا ندرك مفهوم العلم النافع ومدى ارتباطه بتحسين المعاملة مع الله عز وجل، وبهذا المفهوم -أيضًا- يمكننا التعرف على مدى قُرب أو بعد العلوم المختلفة من العلم النافع، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفة الأحكام الشرعية، وما يرضي الله عز وجل وما يبغضه من الأهمية بمكان، وهي تحتل المرتبة التالية للعلم بالله عز وجل وآياته وأفعاله في خلقه، وذلك لضرورتها في تحقيق العبودية الحقة له سبحانه، فالذي امتلأ قلبه خشية لله عز وجل يحتاج أن يعرف ما الذي يُرضي ربه فيفعله، وما الذي يبغضه فيتجنبه.
لذلك فإن من جمع العِلمين (العلم بالله، والعلم بأحكامه) فقد حاز قصب السبق في ركب العلماء، ويلي ذلك العلم بالله دون العلم بجميع أحكامه، أما الصنف الثالث والذي يتمثل فيمن يعلم الأحكام وليس لديه علم حقيقي بالله، فهذا الصنف مذموم لأنه قد يُطَوِّع هذا العلم في اتجاه هواه وكل ما يجعله محل رضى الناس فيكون ذلك سببًا في هلاكه والعياذ بالله.
قال سفيان الثوري: «كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله وليس بعالم بأمر الله، وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله فذلك العالم الكامل، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله لا يخشى الله فذلك العالم الفاجر»( ).
الباب الأعظم:
من هنا نقول أن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل به العقل -أول ما ينشغل- هو العلم بالله عز وجل، وأن أي علم آخر ينبغي أن يكون تاليا له، منطلقًا منه.
إن علم التوحيد الحقيقي هو «الباب الأعظم» الذي ينبغي أن ندخل منه جميعًا، وبعد ذلك ندخل إلى العلوم المختلفة حتى نتمكن من الاستفادة الحقيقية منها في تحقيق العبودية لله عز وجل، فإن لم يحدث هذا، وبدأ المرء في تعلم العلوم المختلفة متجاوزًا العلم بالله عز وجل فإن مقصود هذه العلوم لن يتحقق بالصورة المطلوبة.
فعلى سبيل المثال: عندما يتعلم المرء العلوم الكونية قبل تعلمه العلم بالله عز وجل فإنه لن يستطيع -بتلقائية- أن يربطها بالله عز وجل، ومن ثم لن تزيده معرفة به سبحانه، وإن تكلف ذلك.
أما إذا تعلمها بعد دخوله من «الباب الأعظم» للعلم فإنه سيستفيد بها استفادة عظيمة في الاستدلال على الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة عليه، فيزداد بهذه العلوم معرفة بربه ومن ثم خشيته وهذا ما يؤكده قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ  وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: 27، 28].
وما ينطبق على العلوم الكونية ينطبق على العلوم الأخرى، فالعلم بالتاريخ علم مهم ولكن ينبغي أن يكون تاليًا ومنطلقًا من العلم بالله عز وجل، فنرى من خلاله أفعاله سبحانه، وسنته في خلقه عبر الحقب والأزمنة السابقة فيزداد تعرُّفنا عليه، وخشيتنا له، وتعلقنا به.
العقل المُعطَّل:
خلصنا مما سبق إلى أن وظيفة العقل الأولى هي التعرف على الله عز وجل، لذلك فإن المطلوب من المسلم دومًا أن يقوم بتنمية عقله، وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه لتحصيل هذه المعرفة.
إن العقل البشري به كم هائل من النوافذ والخلايا التي تقوم باستقبال وتخزين المعلومات، ويكفي أن تعرف أن بعض الأبحاث العلمية أثبتت أن عدد خلايا المخ يصل إلى ما يقارب 200 بليون خلية.. هذه الخلايا لديها من الكفاءة ما يمكنها - بإذن الله- من تخزين حوالي 100 بليون معلومة، وأن أقصى ما يستخدمه الإنسان من هذه الكفاءة لم يتجاوز العشرة بالمائة (10%).. والسبب الرئيس في ذلك هو ابتعاده عن أداء الوظيفة التي خلق من أجلها، والتي تستلزم منه التفكر فيما يراه من أحداث، وما يتجدد من مشاهد لمخلوقات متنوعة، وأحداث متقلبة، والاستدلال من خلال هذا التفكر على صفات خالقه.
ومهما نجح الإنسان في اكتشاف الجديد، ومهما استخدم عقله في الاختراعات المبهرة النافعة إلا أن هذا كله - مع أهميته وضرورته- لا يستهلك سوى قدر محدود من إمكانات العقل، في حين تظل أغلب نوافذ هذا العقل مغلقة، لأنه - في الأساس- قد خُلق لوظيفة عظيمة تستلزم منه أن يُطل على العوالم المختلفة المحيطة به، وعلى ذاته التي تحتوي على صورة مصغرة من كتاب الكون، فيتعرف من خلالها على ربه.
من هذا التصور لوظيفة العقل الأولى نُدرك أن الاهتمامات العلمية في العصور الأخيرة للبشرية -مع أهمية الكثير منها في نفع حياة الإنسان «الطينية»- تنحصر في قشرة صغيرة، وسطور قليلة من كتاب الكون العظيم، وصدق الله العظيم "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ  أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ" [الروم: 7، 8].

فلننتبه قبل فوات الأوان:
فإن كان الأمر كذلك، وإن استمرت غفلتنا عن حقيقة وجودنا، وعن أهمية استخدام العقل في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن مشاعر الحسرة والندم ستتملكنا عند الموت، وبعد انكشاف الغطاء الذي يفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة.. سيشتد الندم على تضييع العمر وعدم الانتفاع بالعقل في الوصول إلى معرفة الله عز وجل "لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" [ق: 22].
ويكفيك تأكيدًا لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآيات: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" [آل عمران: 190]: «ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر بها»( ) .
ولعل المثال التالي يقرب لنا المعنى أكثر وأكثر:
لو أن رجلاً سافر إلى مكان ما للنزهة والاستجمام، وأقام في حجرة بأجمل فندق في هذا المكان.. هذه الحجرة تطل على مناظر ساحرة خلابة ما بين نهر جار، وحدائق غناء، ومناظر مبهرة تخطف بالأبصار..، وكل جهة من جهاتها بها عدد كبير من النوافذ المغلقة والمغُطاة بالسُتُر، فما كان من هذا الرجل إلا أن سأل عن النافذة التي تطل على مدخل الفندق، والساحة المحيطة به حيث تقبع سيارته، وظل طيلة وجوده ينظر من هذه النافذة فقط ويراقب حركة القادمين والمغادرين، ويطمئن على سيارته، وبعد انتهاء مدة إقامته، وبينما هو يغادر الفندق إذا به يلتقي بصديق له كان يقيم في نفس المكان، وإذا بحالة من الانبهار تسيطر على هذا الصديق والتي ترجمتها كثرة حديثه لصاحبنا عن المناظر الخلابة التي رآها، وأشعة الشمس وهي تتعانق مع صفحة الماء، وألوان الأزهار التي تسر الناظرين و..، ويستمر حديث الصديق وصاحبنا يقف مذهولاً، فهو لم يرَ أي شيء من هذا لأنه لم يحاول فتح النوافذ التي تمتلئ بها حجرته، واكتفى بفتح واحدة منها لم تنقل له عُشر معشار ما رآه صديقه!!
.. بلا شك ستتملك صاحبنا مشاعر الحسرة والندم على ما فاته من متعة، وسيظل يقول في نفسه: يا ليتني حاولت فتح النوافذ الأخرى، يا حسرتي على الإجازة التي لم أستفد بها إلا يسيرًا.
.. هذا الحسرة لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى جانب حسرة من ينشغل طيلة حياته بطين الأرض، ويستخدم جزءًا يسيرًا من عقله للحفاظ على حياته الطينية دون أن يحاول فتح نوافذه ليطل من خلالها على العالم الكبير الذي خُلق لأجله.

فضيلة التفكر:
من هنا ندرك أهمية التفكر، وكيف أنه عبادة عظيمة ينبغي علينا أن نمارسها باستمرار لنفتح من خلالها نوافذ العقل، فتزداد مساحة الرؤية، وتتسع تبعًا لها درجة المعرفة بالله عز وجل.. قال صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله»( ).
وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل بقول القائل:
إذ المرء كانت له فكـــــــرة
ففـي كل شـيء له عبرة

فبالتفكر لا يترك المسلم (مسارح النظر ترقد ولا تكرى إلا وهو يقظان الفكر.. نهار يحول، وليل يزول، وشمس تجري، وقمر يسري، وسحاب مكفهر، وبحر مستطر، ووالد يتلف وولد يَخلُف، ما خلق الله هذا باطلا، وإن بعد ذلك ثوابًا وعقابًا)( ).
علم اليقين:
ليس المقصد من تحصيل العلم بالله عز وجل هو المعرفة العابرة التي تختلط بالمعارف المختلفة ولا تشكل يقين الإنسان، بل المقصد معرفة ترسخ في العقل الباطن، وتشكل اليقين، فتتداخل وتتشابك وتصوغ تصوراته ومفاهيمه، فيصبح صاحبها من الراسخين في العلم بالله عز وجل "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا" [آل عمران: 7].
ولكي نصل إلى هذه الدرجة لابد من كثرة عرض المعلومات عن الله عز وجل على العقل بأساليب مختلفة حتى لا يألفها فتنتقل تلك المعلومات من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور أو (العقل الباطن)، ومن ثم تشكل بمرور الوقت جزءًا من اليقين( ).

مستهدف التربية المعرفية:
بعد أن تعرفنا على الوظيفة الأساسية للعقل، والحكمة من خلقه يمكننا القول بأن هدف التربية المعرفية هو: إنماء العقل وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه، وإكسابه التلقائية في التفكير في كل شيء يحدث حوله والاعتبار به، والتعرف من خلاله على الله عز وجل وعلى حتمية العودة إليه "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَّكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ" [الأعراف: 185].
أو بعبارة أخرى:
المطلوب من المسلم إنماء عقله من خلال تحصيل العلم الراسخ النافع بالله عز وجل والذي يؤدي إلى تحسين المعاملة معه -سبحانه-، وأي علم آخر يريد أن يتعلمه الإنسان ينبغي أن يتم الدخول إليه من هذا الباب.. «باب التوحيد» "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: 19].
* * *

المحور الثاني
القلب والتربية الإيمانية
يحكي أحد الأصدقاء أنه في يوم من الأيام استقل سيارة (أجرة)، وفي الطريق بدأ يتجاذب أطراف الحديث مع سائقها الشاب، وتطرق حديثه معه عن الصلاة ثم سأله: هل تواظب على أداء الصلاة؟! فكانت إجابته بالنفي، وما إن بدأ صاحبنا يحدثه عن الله عز وجل وعن نعمه المتوالية علينا وأن شكر هذه النعم يستوجب طاعته و...، إذا بالسائق يقاطعه بحديث عظيم عن الله عز وجل ونعمه السابغة، وقيوميته، وحفظه، وأنه لولا الله ما أبصر أو سمع أو تكلم أو تحرك..، واستمر السائق في حديثه عن الله حتى وصل صاحبنا إلى المكان الذي يريده، وهبط من السيارة وهو يسأل نفسه: إن كان هذا الرجل يعرف عن الله عز وجل كل هذه المعرفة فلماذا لم ينعكس أثر هذه المعرفة على سلوكه فيطيع ربه ويحافظ على أداء الصلاة؟!
الإجابة عن هذا السؤال تستدعي التعرف على الفارق بين العقل والقلب..
مركز الإرادة:
لو كان العقل هو الذي يحرك الإنسان، لكانت المعرفة العقلية وحدها تكفي كدافع للسلوك إلا أن الأمر ليس كذلك، فمع أهمية المعرفة وضرورتها كبوابة أساسية لتحقيق العبودية ومن ثم الاستقامة؛ إلا أنها لا تكفي لتغيير السلوك.. لماذا؟!
لأن الذي يصدر الأوامر بالحركة الإرادية داخل الإنسان هو القلب وليس العقل.
فالقلب يعد بمثابة مركز الإرادة واتخاذ القرار، ومنه تنطلق الأوامر بالأفعال الإرادية وما على الجميع إلا التنفيذ.. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب»( ) .
.. هذا القلب تتجاذبه قوتان: «قوة الهوى» وما تميل إليه النفس وتشتهي، وقوة «الإيمان» (أو التصديق والاطمئنان) بما في العقل من أفكار وقناعات، والأقوى منهما وقت اتخاذ القرار هو الذي يستولي على الإرادة، ويوجه القرار لصالحه.
فعندما يسمع المسلم أذان الفجر ويريد أن ينهض من نومه للصلاة فإن صراعًا ينشب داخله، بين إيمانه بأهمية ضرورة القيام لصلاة الفجر وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم وعدم التعرض للمشقة، فإن استيقظ فإنما أيقظه إيمانه الذي كان أقوى من الهوى في هذه اللحظة، وإن نام فإنما أنامه هواه الذي كان أقوى من إيمانه في هذه اللحظة.
وعندما تقع عين المسلم على وجه امرأة أجنبية عنه، فعليه أن يغض بصره، فإن لم يفعل، فذلك معناه أن هوى نفسه في إطلاق البصر والنظر إلى المرأة في هذه اللحظة كان أقوى من إيمانه بالله، وضرورة طاعة أوامره بغض البصر.
* * فالإيمان هو الدافع للسلوك الإيجابي "وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: 32].
* * والهوى هو الدافع للسلوك السلبي "فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ" [القصص: 50].
معنى ذلك أنه إن لم يحدث للمعارف والقناعات الموجودة بالعقل اطمئنان وتصديق قلبي بالقدر الذي يقاوم الهوى المضاد لهذه القناعات وينتصر عليه؛ فإن هذه القناعات لن تترجم إلى سلوك عملي، ومن ثم يصبح كلام المرء وقناعاته في جانب، وسلوكه في جانب آخر.
فلا يكفي المرء اقتناعه بالفكرة لكي يمارس مقتضاها في واقعه العملي، بل لابد من تحويل هذه الفكرة إلى إيمان عميق في القلب ينتصر على الهوى.
ولا يكفي كذلك وجود إيمان بالفكرة في القلب لكي يثمر السلوك المترِجم لها، بل لابد وأن يكون الإيمان أقوى من الهوى المضاد لهذه الفكرة حتى يستطيع الانتصار عليه وقت اتخاذ القرار.
فعلى سبيل المثال: لكي يصبح الإنفاق في سبيل الله سلوكًا دائمًا للعبد؛ لابد من تمكن الإيمان والتصديق والاطمئنان القلبي بأهميته، وفضله حتى يستطيع المرء -بإذن الله- مواجهة قوة هواه الشديدة لحب المال والحرص عليه والشح به.
مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التغذية الدائمة لهذا الإيمان حتى يتمكن المسلم من المقاومة المستمرة لهوى نفسه وشحها.
المعرفة وحدها لا تكفي:
المعرفة العقلية -إذن- لا تكفي لحدوث الاستقامة والقيام بواجبات العبودية لله عز وجل، بل لابد وأن تتحول هذه المعرفة إلى إيمان عميق يرسخ مدلوله في القلب وينتصر على الهوى لينعكس أثره على السلوك.
.. لابد من تعانق الفكر بالعاطفة لينشأ الإيمان بإذن الله، ويتجلى هذا الأمر في قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ" [الحج: 54].
ولابد كذلك من استمرار هذا التعانق حتى يرسخ الإيمان في القلب ومن ثم يتمكن من الانتصار على الهوى، ويظهر أثره على السلوك، وهذا يستلزم تغذية دائمة لهذا الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليخلق( ) في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم»( ) .
أفلا تتقون؟
ولقد أخبرنا القرآن عن أناس يقرون بربوبيته -سبحانه- على جميع خلقه، وبقيامه على شئونهم، ومع هذا الإقرار فهم لا يخشونه، ولا يستسلمون له، وهذا يؤكد أن إقرارهم كان إقرارًا عقليًا محضًا ولم ينشأ به إيمان في القلب، ومن الآيات التي تخبرنا بذلك قوله تعالى: "قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ  سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ  قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [المؤمنون: 84- 87].
وقوله: "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ" [يونس: 31].
بل إن القرآن الكريم يقص علينا حال أناس يقرون بأنفسهم - بوضوح شديد- أن الإسلام هو الهُدى، لكنهم لا يستطيعون اتباعه خوفًا على حياتهم ومصالحهم "وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا" [القصص: 57].
.. من هنا تظهر أهمية التربية الإيمانية؛ فلئن كانت التربية المعرفية تهدف إلى إنماء العقل بالعلم النافع الراسخ ألا وهو العلم بالله عز وجل، فإن تربية القلب الصحيحة تهدف إلى: تمكين الإيمان بهذه المعرفة وترسيخها فيه حتى تهيمن عليه، وتقهر الهوى، فيسهل على المرء القيام بأعمال العبودية بصورها المختلفة.
.. معنى ذلك أن تغيير السلوك تغييرًا حقيقيًا إيجابيًا لابد أن ينطلق من إصلاح القلب بالإيمان، وعندما نشاهد تغييرًا سلبيًا في السلوك فإن ذلك يعكس تمكن الهوى من القلب وضعف الإيمان فيه.
عندما يضعف الإيمان:
لعل هذا الحديث عن الإيمان وعلاقته بالسلوك يفسر لنا ظاهرة ابتعاد الفعل عن القول، والعمل عن العلم.
فكلما ضعف الإيمان تمكن الهوى؛ لأن مساحة القلب واحدة؛ ليترتب على ذلك آثار سلبية خطيرة تزيد وتنقص بحسب درجة ضعف الإيمان.
.. فمن آثار ضعف الإيمان: أنك قد تجد شخصا كثير الحديث عن القيم، والمثل، والأخلاق، لكنه يمارس عكس ما يتحدث عنه، وفي بعض الأحيان تجده وقد اعتراه الضيق من حاله وواقعه لكنه لا يستطيع تغييره لأن هواه قد سيطر على إرادته واستولى عليها.
ومن آثار ضعف الإيمان أيضًا: الترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه، والتساهل والتباطؤ في تنفيذ أوامر الشرع، والبحث عن الرخص والأعذار، وتبني الآراء المرجوحة والضعيفة لإيجاد المبرر والمسوِّغ للتفلت من التطبيق الصحيح للدين.
ومن آثاره: شدة الاهتمام بالدنيا، والحرص على تحصيلها، وارتفاع سقف الطموحات فيها، وانشغال الفكر بها، مع كثرة أحلام اليقظة بالثراء والرفاهية.
ومن تلك الآثار: شدة الحرص على المال والحزن الشديد على نقصانه، ودوام إحصائه، وكثرة التفكير في سبل إنمائه، واستيفاء المرء لحقه المالي التام من الآخرين، وفي المقابل قد نجده يحاول التملص من أداء واجباته والتزاماته المالية كاملة تجاههم.
ومنها: شدة تركيز المرء في أمور الدنيا، فتجده متابعًا جيدًا لأسعار العملات، والأراضي، والعقارات، والسيارات...
ومنها: ضعف الورع، والوقوع في دائرة الشبهات، والاقتراب من دائرة المحرمات كاستسهال الكذب وعدم قول الحقيقة كاملة، وعدم الوفاء بالعهود والمواعيد.
ومنها: الحسد، حيث تتجه نظرة المرء إلى دنيا غيره - وبخاصة أقرانه - أكثر من اتجاهها إلى دينهم، وتترجم هذه النظرة شعوره الداخلي بالضيق عندما يرى عليهم علوًا جديدًا في الدنيا.
ومنها: ضعف الشعور بالمسئولية تجاه الدين وقضايا الأمة، وينعكس ذلك على أداء الفرد في الدعوة، فتجده متراخيًا في القيام بالواجبات، يتحين أي فرصة للهروب من التكاليف.. كثير الأعذار، كثير النقد لغيره.
ومنها كذلك: ضعف الأخوة في الله، فالأخوة قرينة الإيمان تزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات: 10].
ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم الاكتراث بتضييع الوقت في توافه الأمور، والمجالس الفارغة، ومشاهدة الفضائيات.
ومنها: عدم الانضباط بضوابط الشرع في المعاملات المادية بين الأفراد، وبخاصة بين الشركاء "وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [ص: 24].
ومنها كذلك: عدم الحزن على فوات الطاعة، أو الوقوع في المعصية..
يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا( ) (أي: نحاه بيده أو دفعه) .
الإيمان يصنع المعجزات:
وفي المقابل.. كلما قوى الإيمان تحسن السلوك بشكل تلقائي، واقتربت المسافة بين القول والفعل، وكيف لا والإيمان الحي يولد دومًا طاقة، وقوة دافعة للقيام بأعمال البر المختلفة حسبما يقتضيه الوقت والظروف.
.. الإيمان هو الشجرة المباركة التي تثمر -دومًا- ثمارًا طيبة "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا" [إبراهيم: 24، 25].
.. الإيمان يدفع المرء لبذل أقصى ما يمكن بذله في سبيل رضى ربه، فتراه حريصًا على دعوة الناس، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر.
صاحب الإيمان الحي شخص إيجابي، شُعلة من النشاط، لا يهدأ، ولا يكل، ولا يمل من تبليغ دعوة ربه ودلالة خلقه عليه.. نجده دومًا مسارعًا لفعل الخيرات في كل الاتجاهات.. ينتظر أي باب يفتح أمامه للتقرب إلى الله ليلج فيه.
.. روى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلى، فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" [البقرة: 144].
حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكون أول من صلى (في اتجاه الكعبة)، فتوارينا فصليناها، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بالناس الظهر يومئذ( ).
.. كلما ازداد الإيمان ودخل نوره القلب، انفتح القلب وانشرح ودبت الحياة فيه، وشعر صاحبه بالسكينة والطمأنينة، وزاد انتباهه ويقظته، وكلما استيقظ القلب من غفلته زاد تشميره للسعي نحو الآخرة، وقل اهتمامه بالدنيا ورغبته فيها، واشتدت رغبته فيما عند الله، وانعكس ذلك في تعامله مع المال، فيزداد إنفاقه له..
.. في يوم من الأيام، وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه إذ تلا عليهم قوله تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ" [الحديد: 11]، فإذا بأحد الحاضرين وهو «أبو الدحداح» يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيستقرضنا الله؟
فيجيبه صلى الله عليه وسلم: «نعم».
فيقول له: لقد أقرضت ربي حائطي (بستاني)..
هذا البستان كان به من النخل ما يقارب الستمائة نخلة.
وانطلق الرجل إلى البستان، وما إن وصل إليه حتى نادى على زوجته: يا أم الدحداح هيا بنا نخرج من البستان فقد أقرضته ربي.
فقالت المرأة الصالحة لزوجها: ربح البيع أبا الدحداح.. ربح البيع أبا الدحداح( ).
الحارس الأمين:
الإيمان الحي يقوي الوازع الداخلي ليكون بمثابة الحارس اليقظ الذي يراقب صاحبه فيدفعه إلى عمل الصالحات، ويبعده عن المعاصي والشبهات.. لا يدعه يشارك في غيبة أو نميمة.. يدفعه لتحري الصدق والتحلي به، وإلى الوفاء بالوعد، ورد الأمانة.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لأبي بكر رضي الله عنه غلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، ووافق من أبي بكر جوعًا فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر إصبعه في فيه، فقاء كل شيء في بطنه( ).
الإيمان وحل المشكلات:
كلما قوى الإيمان في القلوب نقصت وقلت المشكلات بين الناس، لأن كل مشكلات الإنسان -كما يقول أبو الحسن الندوي- نبعت من عبادة النفس والشهوات، نبعت من الأنانية.. نبعت من النظر القاصر المحدود.. نبعت من حب الرئاسة.. والإيمان يستطيع أن يتغلب على كل هذا، ويصنع من الأمة أمة جديدة( ).
ويكفيك لتأكيد هذا المعنى أن تعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة قام بتعيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لم يفتتح جلسة، ولم يختصم إليه اثنان، فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال له أبو بكر: أَمِنْ مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟!
فقال: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه.. أحب كل منهم لأخيه ما يحبه لنفسه.. إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض أحدهم عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه.. دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟ ففيم يختصمون؟!
اليقظة الدائمة:
كلما قوي الإيمان وتمكن نوره من القلب ازدادت حالة اليقظة والانتباه لدينا.. هذه الحالة هي التي ستجعل معاملتنا مع الله لا مع غيره، فحين نُعطي الصدقة للفقير نستشعر أن الله هو الذي يأخذها "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ" [التوبة: 104].
حالة الانتباه هي التي ستجعلنا نزن كل شيء بميزان الشرع، فيزداد الورع والخوف من الوقوع في دائرة الشبهات.
.. حالة الانتباه هي التي ستدفعنا دومًا للاستيقاظ قبل الفجر لمناجاة الله، وبث شكوانا إليه والتعبير عن حبنا وشوقنا له.
.. حالة الانتباه هي التي ستجعلنا دوما نحافظ على صلاة الفجر في المسجد، وهي التي ستبعدنا عن إهدار الأوقات فيما لا نفع فيه، وتصرفنا عن كثرة مشاهدة الفضائيات.
.. ستدفعنا هذه الحالة إلى القيام بواجبات الدعوة خير قيام، وستُصَغِّر من حجم الدنيا في أعيننا، وستقلل طمعنا فيما في أيدي الناس.
.. ومع احتمالية وقوعنا في زلات وغفلات نتيجة ضعفنا البشري، فإن هذه الحال ستدفعنا -بعون الله- للنهوض من الكبوة وسرعة التوبة وتجديد العهد مع الله "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص: 30].
هكذا كان حال الصحابة:
الملاحظ أن السمة العامة للصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا في حالة انتباه ويقظة، وليس أدل على ذلك من سرعة إذعانهم واستجابتهم لربهم ولرسوله، فهذا حنظلة يسمع منادي الجهاد وقد كان في هذا الوقت في فراشه مع زوجته، فماذا فعل؟!
سارع يلبي النداء دون أن يفكر في أي شيء آخر... حتى الغسل لم يفكر فيه... والتحق مع المسلمين في أُحُد واستشُهِد، وعندما أراد الصحابة دفنه وجدوا بدنه يقطر ماء فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة قد غسلته، بعد أن عرف من زوجته الحالة التي خرج بها.
ترى ما الذي دفع حنظلة لفعل ذلك؟!
ألم يكن من الأولى أن يجهز نفسه أولاً و.... ثم يخرج بعد ذلك؟! لكنه سارع بالخروج انطلاقًا من حالة اليقظة القلبية التي كان يعيشها حتى وإن كان في أشد لحظات الاستمتاع بالدنيا.
وفي يوم من الأيام كان أنس بن مالك يسقي أبا طلحة وغيره خمرًا إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ فقال: حُرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس.
قال أنس: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل( ).
ألم يكن من الطبيعي أن يستوثقوا من الخبر بأن يذهبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيعرفوا طبيعة الأمر وحقيقة التحريم قبل أن يتخذوا أي إجراء؟!
لم يفعلوا ذلك، بل دفعتهم شدة حساسيتهم الإيمانية، وورعهم ويقظتهم إلى ما فعلوه.
... وعن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبـَل البيت، وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِـبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت.
ويقول عمارة بن أوس رضي الله عنه: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذا نادى مناد بالباب: إن القبلة قد حوِّلت إلى الكعبة؛ قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة( ).
أرأيت -أخي- كيف استجاب هؤلاء الأخيار بهذه السرعة لكلمة سمعوها وهم راكعون؟! مع العلم بأنهم لو كانوا قد أكملوا صلاتهم على وضعهم الأول لما لامهم أحد؟
* * *

مستهدف التربية الإيمانية:
الهدف القريب الذي ينبغي أن تحققه التربية الإيمانية هو زيادة الإيمان في القلب حتى يعلو على الهوى، أو بمعنى آخر: زيادة الإيمان في القلب بالدرجة التي توقظه من غفلته وتجعله في حالة من اليقظة والانتباه، ومظاهر هذه الحال قد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابة عن علامات دخول النور القلب فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»( ).
.. هذا هو الهدف القريب الذي إن تحقق فعلينا ألا نقف عنده ونكتفي به، بل علينا أن نسعى لتحقيق الهدف البعيد وهو تمكين وهيمنة الإيمان على القلب حتى تتحرر إرادته ويصبح قلبًا سليمًا يستقبل الأحداث ويتعامل مع مستجدات الحياة بدوافع إيمانية "وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [التغابن: 11]، فكل ما يصيبه حينئذ يجد له تفسيرًا «ومعاملة إيمانية» كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»( ).
.. التربية الإيمانية الصحيحة أن تصل بالمرء إلى تنوير قلبه، حتى يصبح قلبًا أبيض، فتستنير بصيرته، وتعلو حساسيته تجاه كل ما يرضى الله عز وجل فيتسابق إلى فعله، وإلى كل ما يبغضه فيسارع إلى تركه.
.. التربية الإيمانية عليها أن تُخِضع مشاعر الإنسان لله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»( ).
غاية التربية الإيمانية الوصول لمرحلة الإحسان التي ذكرت في حديث جبريل المشهور: «أن تعبد الله كأنك تراه»( ).
* * *

المحور الثالث
النفس وضرورة تزكيتها
كان «زيد» وصديقه يعملان سويا في شركة من الشركات، وكانا ممن يُحسبون على أصحاب التوجه الإسلامي من حيث المحافظة على أداء الصلوات، والالتزام إلى حد ما بضوابط الإسلام وهديه.
وفي يوم من الأيام، وبينما كانا يقومان بأداء عمل مشترك إذ حدث خطأ ما، كان زيد هو المتسبب فيه، فلامه صديقه على خطئه وخاصة أن وضعه في الشركة قد يتأثر بسبب هذا الخطأ، إلا أن زيدًا لم يعترف بخطئه، بل واعتبر أن صديقه هو المخطئ، وأراد أن يؤكد ذلك له فاقترح عليه أن يقوم (فلان) صديقهما بالتحكيم بينهما وتحديد المخطئ، فذهبا إليه وقصا عليه ما حدث، فكان قراره بأن زيدًا هو المخطئ..
استشاط زيد غضبًا واعتبر ذلك التحكيم «محاباة» لصديقه فطلب أن يحتكما إلى آخر، وتم له ما أراد ليكون قرار الحكم الثاني بأنه هو المخطئ.. ازداد غضب زيد وطلب حكما ثالثًا بعد أن اتهم الحكم الثاني أيضًا بالمجاملة والمحاباة لأنه تربطه بصديقه صلة قديمة و...، فذهبا للثالث ويستمع إليهما بإمعان ثم يكون حكمه مثل سابقيه بأن زيدًا هو المخطئ وعليه الاعتذار لصديقه... فهل رضخ زيد لهذا الأمر؟!
للأسف لم يحدث هذا بل ازداد غضبه واتهامه للجميع بمجاملة صاحبه ومحاباته، وأن هناك مصالح بينهم وبينه تدفعهم للانحياز له.
.. هذه قصة حقيقية، وليست من نسج الخيال، ليبقى السؤال: ما الذي يدفع زيدًا للتشبث بموقفه الرافض للاعتراف بخطئه -الظاهر البين- الذي لم يختلف عليه اثنان، وخاصة أن اعترافه بخطئه لن يترتب عليه عقوبات تصيبه؟
هل لأنه لا يريد أن يظهر بمظهر المخطئ؟!
هل لأن نفسه تأبى عليه الاعتراف بذلك؟!
هل لأنه يعتبر هذا الاعتراف منقصة في حقه، وحطًا من قدره؟!
بلا شك هناك سبب داخلي في ذات زيد دفعه لاتخاذ هذا الموقف الذي تكرر منه في مواقف كثيرة سابقة، فتشبثه برأيه، وعدم اعترافه بخطئه بهذه الطريقة يعكس خللاً في تعامله مع نفسه، فبدلاً من أن يقودها إلى التواضع وخفض الجناح للآخرين والاعتراف بالخطأ عند الوقوع فيه، والاعتذار عنه.... بدلاً من أن يقوم بذلك، حدث العكس فقادته نفسه إلى الشعور بالعزة الزائفة والتميز على الآخرين، فكان منه ما كان في الموقف السابق وغيره من المواقف المشابهة.
.. هذه للأسف ليست مشكلة زيد فقط، ولكنها مشكلة متكررة، قد نراها في أماكن كثيرة، ونشاهد معها آثارًا سلبية خطيرة.
من هنا تظهر قيمة وأهمية التعرف على النفس، وضرورة جهادها وتزكيتها.
ما هي النفس؟!
من تعريفات النفس أنها مَجْمَع الشهوات داخل الإنسان، لذلك فمن طبيعتها أنها تطمح دومًا لتحقيق ما تهوى وترغب، وتريد أن يكون لها حظ ونصيب في كل عمل يقوم به الإنسان دون النظر إلى عواقب ذلك، كالطفل الذي يقوم بالضغط والإلحاح على أبويه للحصول على شيء قد يكون فيه ضرره، فالنفس كما وصفها القرآن "إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" [يوسف: 53].
وهي لا تأمر بالسوء لحب السوء في ذاته، ولكن ظنًا منها بإمكانية تحصيل الشهوة منه.
.. ومن صفاتها أنها شحيحة تحب الاستئثار بكل شيء فيه نفع لها ولو كان نفعًا محدودًا "وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ" [النساء: 128].
.. لديها القابلية للفجور والطغيان إذا تركها صاحبها بدون ترويض وتربية ومتابعة.. ولديها كذلك القابلية للاستكانة والتطويع إذا ما رُوضت وزكيت "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" [الشمس: 7، 8].
.. أشد ما يسعدها شعورها بالتميز عن الآخرين، وأشد ما يشقيها ويحزنها شعورها بالنقص عنهم.
وهي ميدان التكليف.. من يزكيها يفلح ويفوز، ومن يتركها دون ترويض يخيب ويخسر "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" [الشمس: 9، 10].
ويكفي في بيان قوة طغيانها عندما تُترك بدون تزكية وتربية ما فعلته مع قوم ثمود عندما أبت عليهم نفوسهم الإيمان بالآية العظيمة (الناقة)، بل ودفعتهم إلى قتلها ليحق عليهم العذاب الوبيل "كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا  إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا  فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا  فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا" [الشمس: 11- 14].
وكذلك ما فعلت بابن آدم عليه السلام "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ"[المائدة: 30].
أقسام هوى النفس:
النفس تهوى وتميل دومًا إلى تحصيل الشهوات.. هذه الشهوات تنقسم إلى قسمين: قسم جليٌّ، وقسم خفيٌّ.
فالشهوة الجلية: هي اللذة الناتجة عن الطعام والشراب و...
أما الشهوة الخفية: فهي تلك اللذة الناتجة عن مدح الناس وثنائهم، وكذلك الشعور بالعلو والتميز على الآخرين، وارتفاع المنزلة عندهم، والتقدم عليهم.
ولأن النفس محبوبة، وما تدعو إليه محبوب نجد الكثير من الناس لا ينتبه لخطورتها، بل ويسترسل مع هواها في تحصيل الشهوات -وبخاصة الخفية- دون أن يدرك أنه بذلك يخونها ويظلمها عندما يتبع هواها، ويساهم في طغيانها، ويقترف من أجلها الذنوب والمخالفات التي تستدعي وتستوجب العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [النحل: 33].
.. البعض قد يستشعر أهمية المعرفة، فينمي عقله بالعلوم النافعة، وقد ينتبه لقلبه فيتعاهده بالأوراد التي تزيد الإيمان، ولكنه ينسى أن بداخله من يتربص بكل أعماله ليأخذ نصيبه وحظه ولذته منها، فيتعرض بذلك عمله لخطر عدم القبول.. إنها نفسه التي بين جنبيه.
الشهوة الخفية:
.. إذن فالنفس هي العقبة الكؤود بيننا وبين الله عز وجل، ولقد خلقها الله -عز وجل- بهذه الصفات ليختبر مدى صدق عبوديتنا له، فلولا وجودها لما وجد العبد أي مشقة في القيام بالطاعة، والإخلاص لله عز وجل.
وشهوات النفس الجلية قد ضبطها الشرع وحددها من حيث الحلال والحرام والمباح والمكروه، لذلك فمن السهل على صاحب الإيمان الحي أن يلتزم -بعون الله- بهذه الضوابط.
أما الشهوات الخفية فمع تحذير الشرع الشديد من الاسترسال معها إلا أن الكثيرين لا ينتبهون إلى هذا التحذير ولا يتعاملون معه مثل تعاملهم الحذر والمنضبط مع الشهوات الجلية، وذلك لأن الشهوة الخفية ألذ وأحب إلى النفس من الشهوة الجلية.
ومن أهم الشهوات الخفية التي تسكر النفوس، وتجعلها في حالة من السعادة والنشوة: الشعور بالرضا عن النفس، والتميز عن الآخرين، وعلو المنزلة عندهم، وإذا أردت تخيل هذه المشاعر فما عليك إلا أن تتذكر حالك عندما تتعرض للمدح من غيرك...
.. ومن صور الشهوات الخفية التي تحرص عليها النفس: علو المنزلة عند الناس من خلال تحسين وتجويد العمل أمامهم، وذكر ما خفى من الأعمال الإيجابية لهم، كل ذلك قد يفعله المرء من أجل استنطاق مدحهم وثنائهم عليه، وعلو المنزلة عندهم، ومن ثم استجلاب الشعور بالرضا عن النفس... وما أدراك ما شعور الرضا عن النفس وما فيه من لذة وحلاوة!!
.. وليس حرص المرء على إظهار عمله أو التحدث عنه هو وحده الذي يستجلب به مشاعر الرضا عن نفسه، بل هناك ما هو أخطر من ذلك لإمكانية ملازمته لكل عمل - في السر والعلن- ألا وهو إعجاب المرء بعمله أو إمكاناته، واستعظامه لهما.
هذا الأمر إذا ما تجاوب معه الإنسان واستسلم له فإنه يؤدي به إلى الغرور، والانخداع بنفسه ويؤدي به كذلك إلى الكبر والتعالي على الآخرين، ورفض الانصياع للحق والاعتراف بالخطأ، ويكفي أن إبليس رفض أمر الله عز وجل بالسجود لآدم بسبب تمكن هذا الأمر منه "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ" [الأعراف: 12].
خطورة الرضا عن النفس والإعجاب بها:
الرضا عن النفس والإعجاب بها من أمراض القلوب، وهو يحبط العمل الملازم له، ويعرض صاحبه لمقت الله.. قال صلى الله عليه وسلم: «النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت»( ).
وقال: «من تعظَّم في نفسه، واختال في مشيته، لقى الله وهو عليه غضبان»( ).
وهو من المهلكات التي تهلك المرء. قال صلى الله عليه وسلم: «فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»( ).
وقيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظن أنه محسن.
.. والعُجب يؤدي إلى الخذلان وقلة التوفيق "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ"[التوبة: 25].
وعندما توالت انتصارات خالد بن الوليد رضي الله عنه في العراق، بعث إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه برسالة يهنئه على النصر ويحذره من العُجب فقال له: فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تُدَّل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء( ).
ما هو العُجب؟!
الإعجاب بالنفس كما يُعرفه عبد الله بن المبارك: «أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك»( ).
فعندما يرى المرء أنه يملك أشياء ذاتية لا يملكها غيره، وأنه يفَضُلُهم بها فقد تلبس بالعجب.
وعندما يرى المرء أنه يملك أشياء ذاتية يمكنه -من خلال الاستعانة بها- تحقيق ما يريد فقد تلبَّس بالعجب.
فإن قلت: ولكني بالفعل عندي أشياء ليست عند غيري.. عندي صوت حسن، عندي سرعة بديهة، عندي مقدرة على الاستيعاب.
في الحقيقة هذه الأشياء ما هي إلا إمكانات وهبها الله لك، فهي ملك لربك "إِنَّا للهِ" [البقرة: 156].
وقد أعارك إياها لأجل مسمى "للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ"[المائدة: 120].
وسيستردها منك متى شاء "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ" [آل عمران: 26]،"إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" [مريم: 40].
.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الإمكانات لا يمكنها بذاتها أن تُحدث وتنشئ النتائج، فالله عز وجل هو الذي يبث فيها الفاعلية لحظة بلحظة، وآنًا بآنٍ "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى" [القمر: 43].
"هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" [يونس: 22].
فكيف تُعجب بشيء ليس ملكك؟ وكيف تفرح بشيء لا يمكنك استخدامه ولا تفعيله بدون مدد الله؟
.. إذا أردت أن تعجب وتفرح، فافرح بربك الذي وهبك هذه الإمكانات، ومكنك من استخدامها "فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ" [آل عمران: 170].
.. هذا بخصوص الإعجاب بالنفس وبإمكاناتها.
أما الإعجاب بالعمل فهو أن ينسب المرء أي نجاح يحققه لنفسه، وينسى أن الله عز وجل هو المتفضل عليه بالإعانة والتوفيق والإمداد.
قال المحاسبي: «العجب هو حمد النفس على ما عملت أو علمت، ونسيان أن النعم من الله عز وجل»( ).
(والعجب خاطر يهيج في داخلك يدعوك لاستعظام عملك واستكثاره، فتقول في نفسك: لقد قويت وصبرت واستطعت فعل كذا.. لقد جاهدت.. لقد فهمت كذا.. صمت في يوم شديد الحر.. لقد أنفقت كذا، فرحًا من نفسك بقوتها، معظمًا لها، مع نسيان نعمة الله عليك في القيام بذلك)( ).
لماذا يحبط العُجب العمل؟
الله عز وجل لا يقبل إلا ما كان خالصًا لوجهه، واستُعين به -سبحانه- على أدائه، أما المعجب فيستعين بنفسه أكثر مما يستعين بالله، لذلك قال ابن تيمية:
«المُعجب بنفسه لا يحقق إياك نستعين، كما أن المرائي لا يحقق إياك نعبد».
فالعُجب يحبط العمل الصالح الذي لازمه لأنه ينافي الإخلاص لله عز وجل.
.. كان المسيح عليه السلام يقول: «يا معشر الحواريين كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم من عابد قد أفسده العجب»( ).
من هنا ندرك خطورة تحذيره صلى الله عليه وسلم: «لو لم تكونوا تذنبون، لخفت عليكم ما هو أكبر منه: العُجب، العُجب»( ).
ويطلق يحيى بن معاذ تحذيرًا شديدًا فيقول: إياكم والعجب، فإن العجب مهلكة لأهله، وإن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.. فالذي يبيت نائمًا ويصبح نادما، خير ممن يبيت قائمًا ويصبح معجبًا.
وقال ابن الحاج في المدخل: من كان في نفسه شيء فهو عند الله لا شيء( ).
وأن أعمل صالحًا ترضاه:
الرضا عن النفس والإعجاب بها مرض خطير يعرف طريقه جيدًا إلى النفوس إن لم يتم الانتباه إليه والتحصُّن ضده، والوقوف له بالمرصاد.
ولنعلم جميعًا أنه ليست العبرة في أداء المرء للعمل الصالح فقط، بل في إحسان هذا العمل، وألا تخالطه آفة تفسده، وأعظم آفة تفسد العمل هو إعجاب المرء به، واستعظامه له، والإدلال به، واستشعار صاحبه أن له منزلة خاصة عند الله، أو عند الناس بسبب قيامه بهذا العمل "وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" [المدثر: 6].
.. لابد وأن يكون شعارنا ونحن نقوم بالعمل قول العبد الصالح: "وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحـًا تَرْضَاهُ" [الأحقاف: 15].
أو بعبارة أخرى: على المرء أن يعمل العمل وأن يجتهد في أن يكون توجهه وقصده ونيته التي تحركه للقيام بهذا العمل هو ابتغاء رضى الله، وليس هذا فحسب، بل عليه أن يستعين به سبحانه على أداء هذا العمل "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123] وبعد العمل، عليه أن يفرح بربه أن أعانه ووفقه للقيام بهذا العمل "قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا" [يونس: 58]، وعليه كذلك أن يلازمه الشعور بالتقصير في جنب الله، ومن ثم الاستغفار لأن هذا العمل لا يليق بجلاله، ولا يوفي ولو جزءًا يسيرًا من حقه سبحانه، ودَينْه المستحق عليه.. دين النعم المتوالية بالليل والنهار بشتى أنواعها.
ويدل على أهمية ملازمة هذا الشعور للعبد بعد نجاحه في أداء الطاعة قوله تعالى: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ" [البقرة: 199] وقوله: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ  وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا  فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" [سورة النصر].
جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فأوحى الله إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه( ).
فإن لم نفعل ذلك، وإن سكن المرء إلى نفسه، واستعان بإمكاناته عند أداء العمل، ولم يستعن بربه استعانة حقيقية، ولم ينسب الفضل إليه، وأعجب بنفسه بعد العمل، فقد عرَّض هذا العمل للإحباط والعياذ بالله.
ماذا لو أهملت التربية النفسية؟!
عندما يهمل المرء تزكية نفسه فمن المتوقع أن تظهر عليه، وعلى الدائرة المحيطة به الكثير من الآثار السلبية.. هذه الآثار ستتفاوت من شخص لآخر بحسب درجة إهمال تزكية النفس.
فمن تلك الآثار المتوقعة: استحواذ المُعجَب بنفسه على الحديث في أي لقاء يجمعه مع غيره لأنه يرى أنه أحسن من يتكلم.
وستُسوِّل له نفسه أنه أحسن من يفكر، لذلك قد تجده مصرًّا على فرض رأيه على من حوله، مُعرضا عن الاستماع إلى آراء الآخرين، بل قد يسفه آراءهم، ولا يقيم لها اعتبارًا.
.. ومن تلك الآثار: إكثاره من نصح الآخرين وتوجيههم، ونقد آرائهم وأفعالهم، وفي نفس الوقت تجده لا يقبل النصح من أحد وخاصة من أقرانه أو من هم أقل منه سنا أو شأنا، ولا يسمح لأحد بنقد آرائه أو أفعاله.
.. يصعب عليه الاعتراف بخطئه، ويجتهد في تبرئة نفسه من أي اتهام بالتقصير ولو اضطره ذلك إلى الكذب أو اتهام الآخرين بالتجني عليه وظلمه.
.. إذا ما تولي رئاسة عمل (ما) تراه شعلة نشاط، فإذا ما تم تأخيره ولو لخطوة واحدة، وَتقدَّم غيره عليه؛ أصابه الفتور، وأخذ يتهرب من أداء التكاليف، مع تصيده لأخطاء من أخذ مكانه، وكثرة نقده والتقليل من شأن أعماله.
... لا يحب الناجحين من أقرانه، ويتحاشى الحديث عنهم، فإن اضطر لذلك تجده يجتهد في إبراز سلبياتهم، والتقليل من حجم نجاحهم.
.. عندما يتحدث في أي محفل فإنك تجده دوما يصبغ كلامه بالحديث عن نفسه (أنا.. لي.. عندي)، ولا يمل من تكرار ذلك.
... لا يقوم بتفويض غيره من أقرانه، أو من يعمل تحت يديه بأداء أعماله ذات الصبغة التوجيهية ولو كانت صغيرة، لأنه لا يري أن هناك من يمكنه أن يؤدي مثل أدائه المتفرد، ويوجه مثل توجيهه المتوحد.
.. كل هذه وغيره قد يؤدي إلى نفور الناس منه، وضيقهم من حديثه، وعدم العمل معه بتفان وحب، فكما يقول مصطفي السباعي -رحمه الله-: «إن نصف الذكاء مع التواضع أحب إلى قلوب الناس وأنفع للمجتمع من ذكاء كامل مع الغرور»( ).
نماذج مضيئة:
أدركت الأجيال الأولى خطورة إهمال تزكية النفس، والسكون إليها، والرضا عنها وأدركوا أن أخطر آفة يمكن أن تصيب المرء هي أن يذوق طعم نفسه، فيطوع كل أعماله وأقواله وحركاته لإسعادها، وسقايتها ما تستلذ به فكانت أحوالهم وأقوالهم تدل على ذلك.
ولقد كان قدوتهم في هذا الأمر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين.. أخرج ابن المبارك في الزهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُتي له بطعام فقالت له عائشة: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغي بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها وقال: «بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد،فإنما أنا عبد»( ).
ومن أقوله: «إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد»( ).
ومن صور استصغاره وتواضعه مع نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ"» [يوسف: 50]( ).
وعندما دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له: «هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»( ).
وهذا صاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يصعد على المنبر في أول خطبة يخطبها بعد توليه الخلافة ويقول: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم»، مع إنه بنص الأحاديث النبوية خير الأمة، ولكنه لم يعش مع هذه الحقيقة، ولم يتجاوب معها، بل كان دائم الحذر من نفسه، وكان يلبس خاتما نُقِش عليه: «عبد ذليل لرب جليل».
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لبست مرة درعا لي جديدة فجعلت أنظر إليها، فأعجبت بها. فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك، قلت: ومم ذاك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟
قالت: فنزعته فتصدقت به.. فقال أبو بكر: عسي ذلك أن يكفِّر عنك( ).
وهذا أبو عبيدة بن الجراح وقد أم قوما يوما، فلما انصرف قال: ما زال الشيطان بي آنفا حتى رأيت أن لي فضلا على من خلفي، لا أؤم أبدًا( ).
ونادى عمر بن الخطاب يوما: الصلاة جامعة.. وصعد المنبر وقال: أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب، فأظل في يوم وأي يوم.. ثم نزل!!
فقال عبد الرحمن بن عوف: والله يا أمير المؤمنين ما زادت على أن قمئت نفسك.
فقال عمر: ويحك يا ابن عوف، إني خلوت فحدثتني نفسي فقالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.
وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفس نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها( ).
* * *
مستهدف التربية النفسية:
لما كانت تزكية النفس أمر غاية في الأهمية، كان لابد من تعاهد المرء لنفسه، وعدم الاطمئنان لها، أو الوثوق بها.
لابد من تزكية النفس، وتربيتها على العبودية لله عز وجل، والتي تصل بالمرء إلى اليقين بأنه بالله وبإمداداته لا بنفسه العاجزة الأمارة بالسوء، وأن يوقن كذلك بأن بينه وبين الكفر أن يتركه الله عز وجل: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا" [النور: 21]، ألم يكن من دعاء إبراهيم -عليه السلام-: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ" [إبراهيم: 35].
..ويوقن أيضا بأن أي طاعة يؤديها فالله -عز وجل- وحده هو الذي أعانه وحبب إليه القيام بها، وبعث فيه القوة اللازمة لأدائها، وأزاح عنه العوائق التي من شأنها أن تعطله عنها "وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي" [سبأ: 50].
.. التربية النفسية تهدف إلى: تحقيق نكران الذات، وممارسة التواضع بصورة تلقائية غير متكلفة، وتهدف كذلك إلى أن يكون المرء عند نفسه صغيرًا، وأن يرى الناس جميعا أفضل منه، كما يقول الإمام النووي: «لا تستصغر أحدًا فإن العاقبة منطوية، والعبد لا يدري بم يختم له. فإذا رأيت عاصيا فلا تَـرَ نفسك عليه، فربما كان في علم الله أعلى منك مقاما، وأنت من الفاسقين، ويصير يشفع فيك يوم القيامة...».
* * *

المحور الرابع
بذل الجهد في سبيل الله
(التربية الحركية)
من طبيعية الإنسان أي إنسان الحركة وبذل الجهد في سبيل تلبية احتياجاته، وتحقيق أهدافه، فالحركة دليل الحياة.
.. هذه الحركة لابد لها من توجيه صحيح حتى تكون مثمرة، تؤدي إلى النجاح في تحقيق هدف وجود الإنسان على الأرض.
فالله -عز وجل- لم يخلقنا ويسكننا الأرض لكي نأكل أو نشرب أو نتزوج، بل خلقنا لأداء اختبار العبودية له -سبحانه- بالغيب.
.. نعم، علينا ونحن نؤدي هذا الاختبار أن نقوم بالمحافظة على أجسادنا والعمل على نموها الصحيح بالغذاء النافع حتى نستطيع أن نؤدي تكاليف الاختبار، ولابد من التزاوج حتى تظهر الأجيال الجديدة التي قدر الله وجودها.. وهكذا.
ولأن الله عز وجل يريد للناس جميعا الخير، والنجاح في اختبار العبودية، وعدم الانشغال بزينة الحياة الدنيا فقد أرسل إليهم رسائل متعددة كان آخرها رسالة القرآن والتي كلف أمة الإسلام بنشرها في العالمين "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ" [آل عمران: 110]، لذلك فإن من أهم واجبات المسلم نشر دعوة الإسلام لاستنقاذ كل من فيه خير وشوق إلى الهداية.
فمن أحب الأعمال إلى الله دعوة الخلق إليه "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 108].
ومن أحب الأعمال إلى الله كذلك بذل الجهد في سبيله: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْـحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْـمـَسْجِدِ الْحـَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ" [التوبة: 19].
لا مصادمة للفطرة:
ليس المقصد من بذل الجهد في سبيل الله ترك الدنيا، والتفرغ للدعوة؛ فالإسلام لا يصادم الفطرة، بل يلبي احتياجاتها دون إفراط أو تفريط كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «.. فإن لجسدك عليك حقا،وإن لعينك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا»( ).
فمن الضروري أن يكون هناك جزءًا معتبرًا من حركة المسلم مخصصًا لتلبية احتياجاته، واحتياجات من يعولهم دون إخلال بواجباته الدعوية كما سيأتي بيانه. ولكي يستفيد المرء من هذا الجزء المعتبر من الجهد المبذول؛ من المناسب أن يتعلم ويكتسب بعض المهارات التي من شأنها أن تحسن أداءه، والتي يطلقون عليها مسمي «تطوير الذات»، ومن أمثلة تلك المهارات:
إدارة الوقت، التواصل مع الآخرين، التخطيط، فن التعامل مع الزوجة والأولاد، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة الحذر من الانبهار بهذا الأمر والانسياق وراءه بالدرجة التي تشغل الوقت والفكر، وتبعد المسلم عن مهمته الأساسية في إصلاح نفسه ودعوة غيره.
إن هذه المهارات ينبغي أن تكون كالمُحسِّنات للطعام، فهي لا تصنع شخصية متكاملة، ولا تبني فكرا، ولا تنور قلبا، ولا تزكي نفسا.
.. بالفعل هي تُحسِّن الأداء -بعون الله- ولكن لابد من وضعها في مكانها الطبيعي في سلم أولويات التربية حتى لا ينساق المرء وراء بريق شعاراتها، وبما تحققه من نجاح سريع في بعض الجزئيات، فتأتي عنده بنتيجة عكسية، ويظن أن إتقانه لعدد من المهارات كفيل بتكوين شخصيته، وتقويم سلوكه، وأن ما ينقص الأمة هو الاهتمام أكثر بهذه المهارات..كل ذلك قد يحدث نتيجة الفراغ الداخلي، وعدم وضوح الرؤية لطبيعة وظيفة المسلم على الأرض.
ونعود فنؤكد بأن هذا الكلام ليس معناه الزهد في هذا (الفن) بل معناه وضعه في حجمه الطبيعي،فالحكمة ضالة المؤمن أنَّي وجدها فهو أولى الناس بها.
بذل الجهد في سبيل الله:
بالإضافة إلى حركة المرء لتلبية احتياجاته المعيشية؛ فإن على المسلم أن يكون له جهد وحركة في سبيل الله من خلال محورين أساسيين:
المحور الأول: العمل الصالح
على المسلم أن يعمل بالطاعات والأعمال الصالحة التي أمره الله بها، ويجتهد في القيام بالأعمال المندوبة والتي تسمي «فضائل الأعمال» قدر المستطاع.
فلكي يرسخ الإيمان في القلب لابد من إتباعه بالعمل الصالح: "وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا" [طه: 75].
فعلى المسلم أن تكون دائرة بذل جهده الأولى هي نفسه وأن يجتهد في استكمال جوانب التربية الثلاثة المشار إليها آنفا (المعرفية والإيمانية والنفسية)، وأن يجتهد كذلك في العمل بكل ما يبلغه من أعمال صالحة موافقة للسنة حتى يكتب من أهلها.
يقول الإمام النووي: ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة واحدة ليكون من أهله،ولا ينبغي أن يتركه مطلقا، بل يأتي بما تيسر منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»( ).
المحور الثاني: دعوة الخلق إلى الله:
وعلى المسلم أن يكون له جهد معتبر يبذله في الدعوة إلى الله "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ" [يوسف: 108].
فلا يكفي أن يكون المسلم صالحا في نفسه ليحقق العبودية الحقة الكاملة لله عز وجل، بل لابد من قيامه بواجب تبليغ رسالة ربه، ودعوة خلقه إليه "قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا  إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ" [الجن: 22، 23].
وليس هذا أمرًا اختياريا، بل هو تكليف إلهي لأمة الإسلام منذ أن اختارها الله عز وجل لتقود البشرية وتسعدها بالإسلام.
.. إنه تكليف إلهي بالشهادة على الناس "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [البقرة: 14].
ولكي نشهد على الناس شهادة صحيحة لابد من تبليغهم الرسالة أولا على أحسن ما يكون التبليغ، ثم التعرف على موقفهم من هذه الرسالة، فإذ ما سَأَلَنا الله عز وجل يوم القيامة عن هذه الشهادة كان الجواب المفترض أن نجيب بمثله: إننا قمنا بتبليغ الرسالة إلى قوم (كذا) و (كذا) فاستجاب بعضهم ولم يستجب الآخر.
.. من هنا نقول بأن تربية الفرد لا تكتمل إلا إذا كانت له حركة وجهد يبذله في تبليغ رسالة ربه ودعوة خلقه إليه.
يؤكد الإمام حسن البنا على هذا المعنى فيقول: كلف الله المؤمنين بمهمة، وألقي على عاتقهم بواجب هو: هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعا إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [الحج: 77، 78].
معني هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصايا النبيلة.
ويستطرد قائلا تحت عنوان: وصاية المسلم تضحية لا استفادة.
ثم بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله فليس له فيها شيء، وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس، وذلك قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهـُمْ بِأَنَّ لَـهُمُ الْجَنَّةَ" [التوبة: 111].
ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته.
ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذًا يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من نور وهداية ورحمة ورأفة، وكان الفتح الإسلامي فتح تمدين وتحضُّر وإرشاد وتعليم( ).
واإسلاماه:
ولئن كان بذل الجهد في سبيل الله مطلوبًا من المسلم في كل وقت؛ إلا أن الحاجة تشتد إليه في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، كيف لا والمسلمون قد أصبحوا تحت أقدام أعدائهم، وتراجع دورهم الحضاري، وأصبحوا عالة على الأمم الأخرى، بالإضافة إلى تغلغل المشروع الصهيوني في ديار الإسلام، واستعلاء الباطل، وارتفاع رايات المادية والعلمانية، مع ابتعاد المسلمين عن تطبيق تعاليم دينهم بصورة صحيحة..
من هنا تبرز الحاجة لبذل غاية الجهد في اتجاه تغيير هذا الوضع، والمساهمة الفعالة في بناء المشروع الإسلامي الذي ينطلق من قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: 11].
مستهدف التربية الحركية:
التربية الحركية لابد وأن تشمل ضبط وتوجيه حركة المسلم في الحياة، وهدفها أن يكون له أثر طيب في كل مكان يحل فيها "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ" [مريم: 31]، وأن يساهم مساهمة بنَّاءه في إقامة المشروع الإسلامي الذي يهدف إلى استئناف الحياة الإسلامية الصحيحة، ويهدف كذلك إلى إنقاذ البشرية من الضياع، وإسعادها بالإسلام "وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ" [الأنفال: 39].
التكامـــــــــل التربــــــــــوي
.. عقل المسلم بحاجة إلى تغذيته بالمعرفة النافعة حتى يكتمل نموه، وتتفتح نوافذه، وتتسع مداركه.
.. وقلبه بحاجة إلى إيمان متجدد حتى يستضيء، وينفتح ويصبح قلبا سليما.
.. ونفسه بحاجة، إلى ترويض وتزكية حتى يسلس قيادها وارتداؤها رداء العبودية لله عز وجل.
.. أما حركة المسلم فهي بحاجة إلى توجيه مستمر حتى يكون له أثر نافع في الحياة، وحتى يحقق -من خلال ذلك الأثر- مراد ربه من وجوده كمسلم يحمل طوق النجاة للبشرية جمعاء.
.. هذه الأمور الأربعة لا يكفي لتحقيقها اهتمام لحظي، أو إمداد عابر، بل لا بد من دوام الإمداد والرعاية حتى يظهر الأثر المطلوب.
* فالعقل بحاجة إلى دوام التغذية بالعلم النافع الذي يُعَرِّفه بربه، ويعرفه بأوامره ونواهيه، وما يرضيه وما يغضبه، ويعرفه كذلك بكيفية تحقيق مراده سبحانه بنشر دينه، وإسعاد خلقه بالإسلام، وما يستدعيه ذلك من أن يكون عالما بزمانه، فاهما لدينه، مدركًا لأحوال المخاطبين، وبيئاتهم المختلفة.
ويلحق بالعلم النافع معرفة كل ما من شأنه أن يُيَسر على المسلم أداء حقوق العبودية لله عز وجل.
مع الأخذ في الاعتبار ضرورة استمرار تغذية العقل بهذه المعارف إن أردنا تحقيق مستهدف «التربية المعرفية».
وعندما يغذي المرء عقله بمعلومات عشوائية يسمعها في (فضائية)، أو يقرؤها من خلال تصفحه للشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، أو بقراءته بضع صفحات من كتاب.. فالغالب أن هذا كله لن يُحدِث الأثر الذي تحدثنا عنه، بل سيكون أثره لحظيا، ناهيك عن نوعية ما يقرأ، ومدى قربه أو بعده عن مفهوم العلم النافع.
أما إذا أردنا أثرًا تربويا حقيقيًا للعلم النافع فلابد من الاستذكار والمدارسة، والصبر على الكتاب حتى نهايته، مع استخراج الجديد والمفيد منه.
إحسان العمل أولاً:
أما بخصوص القلب: فلكي يتنور، ويصبح قلبًا سليما لابد من دوام إمداده بالإيمان حتى تتحرر إرادته من أسر الهوى، ومن ثم يسهل على صاحبه اتخاذ القرار بالعمل الصالح في أي وقت، وأي اتجاه.
وليس المطلوب لتحقيق مستهدف «التربية الإيمانية» هو الإكثار من الأوراد والأعمال الصالحة فقط دون النظر إلى كيفية أدائها والأثر الناتج عنها، بل المطلوب هو الاجتهاد في حضور القلب وتحركه وانفعال المشاعر وتأثرها وتجاوبها مع العمل، فأوقات التأثر هي أوقات زيادة الإيمان "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا" [الأنفال: 2].
والتأثر «عنوان» حركة القلب والمشاعر مع العمل، وهو يختلف باختلافها، ففي الدعاء يسمي تضرعا، وفي الصلاة خشوعا، ومع آيات الوعيد: خوفًا ورهبةً، ومع آيات الوعد والرجاء: فرحا واستبشارًا وهكذا... وعندما لا يحدث التأثر والانفعال مع العمل فهذا معناه أن القلب لم يستفد منه بزيادة الإيمان فيه، وهذا قد يفسر لنا سبب التناقض في شخصية البعض ممن تراه محافظا على الصلوات، ومكثرا من النوافل والأوراد ومع ذلك فهو لا يتورع عن الكذب، أو الغش، وقد تراه يحرص على المال ويسيء معاملة من حوله.
فالتشخيص الصحيح لهذه الحالة أن أثر الأعمال الصالحة لم يصل للقلب، ولم يزد الإيمان فيه، ومن ثم لم يثمر تحسنا في السلوك، لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع»( ).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ( ).
ويقول ابن رجب: كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان. وقال بعضهم:إن الرجلين ليقومان في الصف، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض( ).
احذر نفسك:
ومع دوام إمداد القلب بالإيمان على المرء ألا ينسى نفسه، أو يغفل عنها، وعليه أن يسيء الظن بها، مع مجاهدتها دوما على لزوم الصدق والإخلاص لله عز وجل، وعليه عدم التوجه بالعمل لغيره سبحانه، وكذلك فإن عليه أن يربي نفسه على الاستعانة بالله في أموره كلها، وأن يضبط فرحه بعد نجاحه في أداء العمل، وأن يجعل هذا الفرح: فرحًا بالله وبفضله أن أعانة ووفقه على إتمام هذا العمل، وعليه أيضا أن يربي نفسه على نكران الذات، والتواضع، وأن يكون في
عين نفسه صغيرا، وأن يرى الناس جميعًا أفضل منه، وأن يلازمه الشعور باليأس من النجاة بعمله، وأن عمله مهما كثر فلن يوفي مثقال ذرة من حق الله وديَنْه المستحق، وأن يوقن بأن نجاته متعلقة بعفو الله عنه ورحمته إياه..
.. هذه المعاني لا يكفي مجرد معرفتها لكي تتحقق، بل لابد من ممارستها، والتربية عليها، واختبار النفس دوما فيها.
الحركة المباركة:
ومع الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية لابد من الاهتمام كذلك بالتربية الحركية التي تهدف إلى التعود على بذل الجهد في سبيل الله وتبليغ دعوته.
ولا يكفي -كما أسلفنا- أن يتحرك ويبذل جهده من أجل خدمة دينه حسبما تتحين ظروفه، بل ينبغي أن تشكل عنده «منهج حياة»، وأن يضعها في أولوياته عندما يخطط لوقته.
ماذا لو أُهملت التربية؟
هذه المحاور الأربعة للتربية علينا الاهتمام بها جميعًا، وعدم التركيز على محور دون الآخر، ولو حدث هذا لكان النتاج: تشوه في الشخصية، وعدم ظهور ثمرة التربية المتكاملة ألا وهي تحقيق العبودية لله عز وجل بمفهومها الصحيح.
فعندما يحدث اهتمام بتحصيل العلم دون الاهتمام بزيادة الإيمان، فستكون النتيجة المتوقعة: شخص كثير التنظير، حافظًا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ والمعاني العظيمة، لكنك تجد في المقابل واقعا يختلف عن الأقوال والتنظيرات، فهو يتحدث عن العدل والمساواة، بينما لا يتعامل هو مع الآخرين بهذه القيم وبخاصة مع من يرأسهم..يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة في حين يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء، وفي أتفه الأمور.
.. كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم، فالذي يقرب المسافة بين القول والفعل، ويترجم العلم إلى سلوك هو الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان كما أسلفنا.
أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصا جاهلا مشوها يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه.
ستجد شخصا ضيق الأفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر، ولعل في قصة التائب -قاتل المائة- ما يؤكد ذلك، فهذا الرجل الذي كان قد قتل تسعًا وتسعين نفسا ثم تاقت نفسه للتوبة فسأل عن أعبد الناس فدلوه على راهب، فذهب إليه وأخبره بما فعله ثم سأله: هل لي من توبة؟!! فكانت إجابته بالنفي تعكس مدي جهله بالله عز وجل الغفور الرحيم، فما كان من الرجل إلا أن قتله بعد أن يأَّسه من التوبة، ليكمل به الضحية المائة.
وبعد ذلك تاقت نفسه مرة أخرى للتوبة، فسأل عن أعلم الناس، فدلوه على عالم بمفهوم العلم الصحيح ألا وهو العلم بالله وبأحكامه فذهب إليه وسأله: هل لي من توبة بعد كل ما فعلته؟!، فطمأنه هذه العالم، وأجابه بأن له توبة فالله -عز وجل- يغفر الذنوب جميعًا، ثم طلب منه أن يغادر بلدته إلى بلدة أخرى حتى تحسن توبته بوجوده في وسط طيب لا يُذَكِّره بماضيه.
فما أضر على الإنسان من الجهل!! وما أخطر على الإنسان من ضعف الإيمان!!
أعلم ولكن لا أستطيع:
.. وفي حالة الاهتمام بالتربية النفسية والتعرف على النفس ومدى خطورتها على الإنسان مع إهمال التربية الإيمانية الصحيحة، فمن المتوقع أن تجد أمامك شخصا كثير النقد لنفسه، حزينًا على حاله وكيف أنه يكثر من الحديث عن نفسه وإنجازاته، لكنه لا يستطيع ترك ما يتضايق منه لأنه لا يجد القوة الدافعة لجهاد نفسه ألا وهي قوة الإيمان.
عبادة الذات:
أما في حالة الاهتمام بالعلم والإيمان مع عدم الانتباه للنفس، وإهمال تزكيتها، فسيكون النتاج: شخص كثير العبادة، كثير المعلومات.. سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد، لكنه متورم في ذاته،لا يرى نفسه إلا بعدسة مكبرة، ويرى غيره بعكس ذلك، لأن عبادته وأوراده وبذله في الغالب سيغذى إيمانه بنفسه وبقدراته وأنه أفضل من غيره، فيتمكن منه -بمرور الأيام واستمرار الإنجازات والنجاحات - داء العجب، ومن ورائه الغرور والكبر والعياذ بالله، فيعرض نفسه لمقت ربه وحبوط عمله.
جاء في الأثر: قال تعالى: يا داود إني قد آليت على نفسي أن لا أثيب عبدًا من عبادي إلا عبدًا قد علمت من طلبه وإرادته وإلقاء كنفه بين يدي أنه لا غنى له عني... وأنه لا يطمئن إلى نفسه بنظرها وفعالها إلا وكلته إليها( )...
تفريغ الطاقة وبذل الجهد:
ومع ضرورة الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على بذل الجهد في سبيل الله وفي دعوة الناس إليه، فلو لم يتحرك المسلم، ويعلم الناس ما تعلمه، ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم بإذن الله فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل، ولن يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها، وكيف لا، وهو لا يمارسها في الواقع العملي، كالبئر التي إذا ما تُركت ولم يستخدمها الناس أسِنت وغاض ماؤها وجفت.
فعلى سبيل المثال: القرآن الكريم الذي يعد بمثابة المصدر الأول للعلم والإيمان وتزكية النفس لا يدرك أسراره قاعد -كما يقول سيد قطب- ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به( ).
ويقول: والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون، يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئًا في هذه القعدة الباردة الساكنة بعيدًا عن الحركة... إن حقيقة القرآن لا تنكشف للقاعدين أبدًا( ).
خطورة الحركة بدون زاد:
وفي المقابل ، فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله، إن لم يكن وراءها زاد متجدد فإن عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها، ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تضيء للناس، وتحرق نفسها»( ).
... فلابد من الأمرين معا: لابد من الزاد، ولابد من التحرك بهذا الزاد.
إن العلاقة بين الزاد والحركة، كالعلاقة بين خزان المياه، وضغط المياه المتدفق من الصنبور المتصل به، فعلى حسب كمية المياه في الخزان تكون قوة تدفقها من الصنبور، فإذا نقص منسوب المياه في الخزان بشكل كبير، فإن تيار الماء ينزل ضعيفًا من الصنبور، أما إذا ما أصبح الخزان فارغا، فإن الصنبور لن يخرج (ماء)، بل سيخرج (هواءً) وهذا هو حال الداعية الذي ينسى نفسه، ولا يتزود بما يحتاجه وينفعه، فهو قد ينجح في قيامه بأعمال دعوية بين الناس، لكنها أعمال غير مؤثرة أو منتجة .. يبذل جهدا، وينفق وقتا ومالا ولكن دون أثر إيجابي يُذكر، سواء على نفسه أو الآخرين.
لا استثناء لأحد:
.. لو جاز لأحد أن يترك نفسه بدون زاد، لجاز لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فمع انشغاله الشديد بتبليغ دعوة ربه، نجد الخطاب الإلهي الموجه إليه: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ" [الشرح: 7]، أي إذا فرغت من الجهاد، ودعوة الناس، فانصب للعبادة( ).
والذي يتأمل واقعه صلى الله عليه وسلم يجده حريصا على دوام ذكر الله، وقراءة القرآن، وقيام الليل، لدرجة أنه لم يترك القيام في سفر أو حضر كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها( ).
ولك أن تتأكد أكثر وأكثر بضرورة عدم التهاون في التزود اليومي بالزاد النافع إذا ما قرأت هذا الحديث:
عن أوس بن حذيفة الثقفي أنه كان في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني مالك فأنزلهم في قبة في المسجد، قال: فكان يأتينا فيحدثنا بعد العشاء، وهو قائم حتى يراوح بين قدميه من طول القيام.. فاحتبس عنا ليلة،
فقلنا: يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث! فقال: «نعم طَرَأ
علىّ حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه»( ).
وعلى هذا النهج كان الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا دوما يوازنون بين الزاد والحركة، ويدركون خطورة إهمال التزود؛ فهذا عبد الرحمن بن عبد القاري يقص علينا قصة عجيبة حدثت له مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: استأذنت على عمر بالهاجرة، فحبسني طويلا، ثم أذن لي وقال: إني كنت في قضاء وردي( ).
وإن تعجب فعجبٌ فعل الأوائل في المعارك.. فعلى الرغم من الجهد العظيم الذي يُبذل في ساحات القتال إلا أننا نجدهم يحرصون على قيام الليل، وتلاوة القرآن، والتضرع إلى الله عز وجل!! ولك أن تتأكد من هذا المعنى بقراءة هذا الخبر:
بعد معركة القادسية؛ والتي استمرت بضعة أيام، وانتهت بانتصار جيش المسلمين على جيش الفرس أرسل قائد الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة يبشره فيها بالفتح، فكان مما جاء فيها:
«وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من
المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم..كانوا يدوون بالقرآن إذا جن
عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود»( ).
هكذا كانوا:
وعندما ننظر إلى حال المصلحين الذين كان لهم أثر إيجابي في تاريخ
الأمة، نجدهم قد حققوا التوازن بين الاهتمام بتحصيل الزاد وبين الحركة وبذل الجهد في سبيل الله.
يقول القاضي ابن شداد عن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي:
وأما الصلاة، فكان -رحمه الله- شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذكر يوما أنه من سنين ما صلى إلا جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بها قبل قيام الفجر، وكان -رحمه الله- يحب سماع القرآن العظيم، وكان خاشع القلب، غزير الدمع، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته( ).
وعندما نقرأ في رسائل الإمام المجدد حسن البنا، نجد أن هذا المعنى واضح تمام الوضوح في كلامه.
يقول -رحمه الله- في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس:
إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك وتعالى في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" [الحج: 77، 78].
.. هذا كلام بيِّن لا لبس فيه ولا غموض.. يأمر الله المسلمين أن يركعوا ويسجدوا وأن يقيموا الصلاة، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا...وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم التي يجب عليه أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة.
ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر الدعوة وتعليمها بين الناس.
وقد كشف الله عن سر هذا التكليف وحكمة هذه الفريضة، فبين لهم أنه اجتباهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سُوَّاس خلقه، وأمنائه على شريعته، وورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته.. وتلك هي المهمة الجماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعا..أن يكونوا صفا واحدًا، وكتلة وقوة، وأن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ البشرية ويهديها سواء السبيل.
ثم أوضح الحق تبارك وتعالى للناس بعد ذلك الرابطة بين التكاليف الفردية من صلاة وصوم.. بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى وسيلة للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معا، حتى لا يكون لأناس مندوحة من القعود عن فرائضهم الفردية بحجة أنهم يعملون للمجموع، وحتى لا يكون لآخرين مندوحة عن القعود عن العمل للمجموع بحجة أنهم مشغولون بعباداتهم، مستغرقون في صلتهم بربهم.
ويستطرد قائلا:
أيها المسلمون.. عبادة ربكم، والجهاد في سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أديتموها حق الأداء فأنتم الفائزون، وإن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعا فإليكم أسوق قول الله تبارك وتعالى: ”أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ  فَتَعَالَى اللهُ الْمـَلِكُ الْحـَقُّ"( ) [المؤمنون: 115، 116].
بأي الجوانب نبدأ؟!
بعد أن تعرفنا على الاحتياجات التربوية الأساسية للمسلم وأهمية كل جانب منها يبقي السؤال: بأي الجوانب نبدأ؟!
بلا شك أن العلم هو البداية: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: 19]، فالعلم أساس العمل، ومع ذلك فليس المطلوب علما نظريا يعمق الفجوة بين القول والفعل، بل نريده علما نافعا راسخا يزيد القلب خشية وإيمانا.
لذلك فعلينا الاجتهاد بتحصيل أصل العلوم وأنفعها، ألا وهو «العلم بالله عز وجل»، والاجتهاد في تحويل هذه المعرفة إلى إيمان.
ولأن التربية الإيمانية -بمفهومها الصحيح- تركز على معرفة الله عز وجل، وتركز كذلك على ترجمة هذه المعرفة إلى معان يرسخ مدلولها في القلب -أي أنها قد جمعت بين الخيرين- كان من المناسب البدء بجانب التربية الإيمانية.
من فوائد البدء بالتربية الإيمانية:
هناك حلقة مفقودة بين الأقوال والأفعال، والسبب الرئيس في ذلك هو ضعف الإيمان، فعندما يهيمن الإيمان الحي على القلب فإنه يولد في ذات صاحبه باستمرار طاقة عظيمة، وقوة روحية تدفعه للقيام بالأفعال التي تناسب المواقف المختلفة.. لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية الإيمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع.. فعلى سبيل المثال:
لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن تزال، وأننا مصابون بداء العجب واستعظام النفس، ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض، والوقوف له بالمرصاد، لضعف القوة الروحية اللازمة لذلك.
ونفس الأمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل الله، فسيتحول الأمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بلا روح، وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور بالفتور والوحشة وضيق الصدر، وسيفقد تأثيره على الآخرين شيئًا فشيئًا.
من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية الإيمانية بمفهومها الصحيح( ) والذي يعمل باستمرار على توليد القوة الروحية، وتنمية الدافع الذاتي، وتقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، ومن ثم يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ  وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ  وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ  وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ  أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" [المؤمنون: 57، 61].
* * *

الرؤيـــــة التربو يـــــة
بعد أن تعرفنا على الاحتياجات التربوية للفرد المسلم، وضرورة التكامل بينها، وخطورة إهمال جانب منها، يصبح من اليسير تشخيص الحالة التربوية لأي شخص.
بمعنى أن المحاور التربوية الأربع السابق ذكرها يمكنها أن تُشكل المنظار الذي من خلاله يتم تقييم الفرد واحتياجاته التربوية.
فعلى سبيل المثال: لو تحدث إنسان وأجاد التعبير، وجادل وناظر، وأبهر من حوله بمعلوماته الغزيرة فإن ذلك ينبغي ألا يبهر المربي الذي يريد تحديد مستواه واحتياجاته التربوية، فالعلم الغزير لا يكفي، ناهيك عن مدى قربه أو بعده من مفهوم العلم النافع، بل لابد وأن يصحبه التزام صحيح بالعبادات والمعاملات في دوائر الحركة المختلفة، مع نكران للذات وتواضع غير مصطنع، وأيضًا: جهد يبذل في سبيل الله وتبليغ دعوته.
الرؤية التربوية إذن هي «المنظار» الذي من خلاله يتم تحديد جوانب النقص التربوي عند الفرد أيًّا كان موقعه أو عمره أو ثقافته، وعلى ضوء هذه الرؤية يتم تحديد احتياجاته التربوية.
ضوابط لا بد منها:
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا المنظار ينبغي أن يستخدمه كل منا مع نفسه أولا، وأن يوجهه إلى ذاته ليرى جوانب نقصه، ويحدد احتياجاته.
وفي المقابل عليه ألا يوجهه إلى الآخرين طالما أنه لا يقوم على أمر تربيتهم، فليس المطلوب منا تقييم من حولنا طالما لا يوجد مبرر شرعي لذلك.
ولنتذكر أن من أعظم شهوات النفس الخفية الكلام عن الآخرين، وتقييم مواقفهم، وتجريحهم لأنها حينئذ تشعر بتميُّزها عليهم، ومما يجعلها تستصغر أي نقص لديها، وشيئًا فشيئًا يتعود المرء على ذلك حتى يتحقق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه»( ).
أما المربي الذي يتولى أمر تربية غيره كالأب مع أبنائه، فله أن يستخدم هذا المنظار معهم، ويحدد من خلاله احتياجاتهم التربوية، بعد أن يكون قد وجهه إلى نفسه أولا، واجتهد في استكمال ما ينقصه، حتى لا تكون هذه الرؤية فتنة له... يقول ابن عطاء: من اطلع على أسرار العباد، ولم يتخلق بالرحمة الإلهية كان اطلاعه فتنه عليه، وسببا لجر الوبال إليه.
جاء في كتاب الزهد للإمام أحمد عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: أن يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.
* * *

اســــتمرارية التربيـــــة
كان هناك شخص حريص على تنمية ذاته... كثير القراءة والاطلاع... واسع المعرفة، منضبطا في التزامه بأوامر الشرع، مسارعا في الخيرات، له جهد يبذله في دعوة الناس إلى الله، وكان حديثه شيقًا مؤثرًا يحمل دوما الجديد والجديد.
واستمر على ذلك الحال سنوات طويلة، ثم بدا له أن ينتقل من عمله الذي يعمل فيه ساعات قليلة إلى عمل آخر يحقق من خلاله طموحه الوظيفي الدنيوي، وكانت ضريبة هذا الانتقال استهلاك هذا العمل لأغلب وقته، لينعكس ذلك على حياته والتزامه وجهده الدعوى، فالوقت مستهلك، والجسد منهك، ومن ثم لا يكاد يجد وقتا يمد فيه عقله بالعلم النافع، ولا قلبه بالإيمان، ولا نفسه بالترويض والجهاد، فكانت النتيجة أن تغير حاله بالسلب، وأصبح جهده في الدعوة قليل، وأثره ضعيف، إن تكلم في الدعوة فكلامه مكرر يفتقد الحماس والروح... تغيرت اهتماماته، وطموحاته لتتجه أكثر وأكثر نحو الأرض والطين.
هذه الحالة التي تزداد نسبة وجودها يوما بعد يوم تدفعنا للحديث عن ضرورة استمرارية التربية.
إلى متي التربية؟!
يقول الأستاذ محمد قطب: «التربية لا تنقطع ولا تتوقف عند فترة معنية، ولا ينصرف الناس عنها إلى أمر آخر، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف»( ).
فطالما أن الإنسان حي فهو بحاجة إلى تغذية مستمرة لمكوناته الأربع؛ فالتوجيه الإلهي بعبادة الله حتى الموت "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" [الحجر: 99]، يستلزم استمرار التعاهد والإنماء ودفع المضار عن المكونات الأربع حتى تتحقق العبودية الحقة لله عز وجل وتستمر حتى الممات.. تأمل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" [النساء: 136]، (أي حافظوا على إيمانكم، استمروا فيه، لا تغفلوا عنه.. لا تفتروا عن المحافظة عليه.. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه) ( ).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم»( ).
يقول د. عبد الستار فتح الله في تعليقه على هذا الحديث:
والحديث من جوامع الكلم، وهو على إيجازه يشتمل على حقيقة نفسية مؤكدة، وعلى تشبيه يجعلها كالمحسوس، وعلى أمر صريح بتجديد الإيمان.
انظر إلى ثيابك -مثلا- كم يُبذل فيها غسلا، وإصلاحا، ومحافظة، ورتقا، ثم تجديدًا شاملاً إذا بليت، وهذا يتكرر مع الساعات والأيام، والشهور والأعوام، ولا يمل منه أحد.
ولا شك أن (الإيمان) أولى وأجدى وأبقى، فينبغي أن تتعهده ليظل على إشراقه في القلوب( ).
(إن القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور... فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر، تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلابد من تذكير هذا القلب.. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة) ( ).
عتاب للصفوة:
لعل في عتاب الله -عز وجل- للصحابة ما يجعلنا نجتهد دوما في الإمداد التربوي المستمر لذواتنا.. هذا العتاب نجده في قوله تعالى: +أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" [الحديد: 16].
وقد روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع، فنزلت الآية.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، والآية مدنية بالإجماع، ولعل المقصود (هجرتنا) بدل (إسلامنا) كما يقول د. عبد الستار فتح الله، وذلك للجمع بينها وبين الرواية التالية:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن الكريم( ).
فمهما تقدم عمر المرء، ومهما ارتقى في سلم المسئولية فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز وجل،وأن تشمل هذه التربية المكونات الأربع السابق ذكرها.

لماذا لا تظهر ثمرة التربية؟!
ثمرة التربية هي ظهور المسلم الصالح المصلح، أو بعبارة أخرى: ظهور المسلم العالم بربه، الفاهم لدينه، العارف بزمانه الذي تتمثل فيه معاني الإسلام بصورة صحيحة من إخلاص لله، وإحسان في عبادته، وتضحية من أجله، وعمل دائب في سبيله، وصبر وثبات على طريقه، وأخوة صادقة مع إخوانه المسلمين.. ويصبغ هذا كله بصبغة التواضع ونكران الذات.
.. هذا الثمرة ينبغي أن تكون نتاج الجهد الذاتي الذي يبذله الفرد مع نفسه، ويبذله معه المربون (كالأبوين وغيرهما) على مسار حياته. ولكن الواقع لا يقول ذلك، فعلى الرغم من الجهد الكبير الذي يُبذل في مجال التربية إلا أن الشكوى متكررة من عدم ظهور الثمرة المرجوة من هذا الجهد.
ولأن التربية هي الطريق الصحيح للتغيير ومن ثم إصلاح الفرد والأمة، فلا مناص من التفكير العميق الجاد في هذه الشكوى والبحث عن الأسباب الحقيقية لعدم ظهور الثمرة ولعل الصفحات السابقة قد ألقت الضوء على بعض هذه الأسباب، إلا أن هناك أسبابًا أخرى تسهم -إلى حد كبير- في عدم ظهور ثمرة التربية، منها: عدم وجود الاستعداد الكافي لدي الفرد للتربية والتغيير.
ومنها كذلك اكتمال ملء الفراغات التكوينية الرئيسة في شخصيته -سواء كان ذلك بطريقة صحيحة أو خاطئة- مما يحول بينه وبين حسن التلقي لأي جديد، ومن ثم التغيير.
السن الصغيرة والاستعداد الكبير:
من أهم عناصر نجاح العملية التربوية: وجود الاستعداد للتلقي والتوجيه والتغيير لدي الفرد.
هذا الاستعداد يكون كبيرًا في الصغر، ويتناقص بمرور الأيام والشهور والسنين.
وتحليل ذلك أن الطفل بعد ولادته يبدأ شيئًا فشيئًا في تحسس خطواته في الدنيا فيفاجأ أنه يحتاج إلى الكثير والكثير كي يستطيع التعامل مع الموجودات المختلفة.
ينظر لمن حوله فيجدهم يحسنون التعامل مع كل شيء.. مع الماء، مع النار، مع الأبواب والنوافذ، مع التلفاز والأجهزة المختلفة، بينما لا يستطيع هو أن يفعل مثلهم، لذلك ينظر إليهم نظرة إجلال وإكبار، ويضعهم في مقام الأستاذية والتوجيه، فيسلم لهم قياده، ويُملِّكهم من ذاته بالكلية ليمدوه بخبراتهم وما تعلموه في الحياة، وما يعتقدونه من مفاهيم وأفكار سواء كانت صحيحة أم خاطئة -وفي الغالب تكون أول جهة لذلك التوجيه هي الأبوان اللذان تتفتح عيناه في الدنيا فيجدهما أمامه.
فالابن في السن الصغيرة ينظر إلى أبويه نظرة استعظام، لما يراه منهما من قدرة على التعامل مع الأشياء ولأنهما أيضا مصدر شعوره بالراحة والأمان والشبع، لذلك فهو يتأثر بهما تأثرًا بالغا، ويأخذ منهما كل ما يمكن أخذه في هذه السن.. وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»( ).
فعلى سبيل المثال: الطفل الذي يولد في الصين يولد وهو لا يعرف الصينية لكنه يجد أبويه ينطقان بأصوات لا يعرفها، وتؤدي هذه الأصوات إلى حدوث التفاهم بينهما، وقيام كل منهما بأفعال نتيجة سماعه لها، فهو يسمع أمه تقول شيئًا فيحضر أبوه شرابا (الماء)، ويسمعها تقول شيئًا آخر فيحضر طعامًا، وهكذا، فيؤدي ذلك إلى زيادة شغفه لتعلم هذه الأصوات، فينصت لهما، ويتعلم منهما ليكتسب بمرور الوقت القدرة على الفهم والنطق والتعامل باللغة الصينية.
هذا الطفل لو ولد في الهند لتعلم الهندية، ولو ولد في مصر لتعلم العربية، فالابن يعتبر أبويه هما عالمه ومصدر توجيهه، لذلك يستسلم لهما، ويأخذ منهما كل ما يمكن أخذه من أقوال وأعمال وردود أفعال،وتعامل مع الأشياء مهما كانت نوعية هذه الأمور.
وكلما كبر سن هذا الطفل قل احتياجه للآخرين وقلَّ كذلك استعداده للتلقي منهم، وتبدلت نظرته لغيره من نظرة انبهار بما عندهم إلى نظرة عادية، فقد أصبح يمتلك رصيدًا لا بأس به من المعرفة والتجارب والمعتقدات تمكنه من السير في الحياة والتعامل مع مستجداتها. فإذا ما قلَّ احتياجه للآخرين قلت رغبته في التلقي منهم، وهذا لا يحدث في يوم وليلة بل يتناقص شعوره بالاحتياج للآخرين تدريجيًا بعد مرور سنوات عمره الأولى.. هذا التناقص يعكس تقلص مساحة الفراغات الموجودة في شخصيته.
اليقين الراسخ وصعوبة تغييره:
والسبب الآخر لعدم ظهور ثمرة التربية بصورة مُرضِية هو رسوخ بعض المفاهيم والمعتقدات داخل الإنسان سواء كانت صحيحة أو خاطئة.. هذا الرسوخ يزداد عمقا كلما تقدم العمر،ومن ثم فإن تغييره يصبح أمرًا عسيرا.
ولئن كانت التربية الإسلامية هي إحداث أثر «إيجابي» دائم في ذات الإنسان، فإن هذا الأثر الدائم تزداد صعوبة إحداثه كلما تقدم العمر وذلك لرسوخه وتأصله.
.. هذا الرسوخ يزداد عمقا وتجذرا بمرور السنين، ويصبح كالجبال الرواسي.
فلو فرضنا أن هناك شخصًا متواضعًا يقبل النصح من الآخرين، ويعطي لهم سمعه، وبصره، ولديه استعداد جيد للتلقي من غيره فإن هذا لا يكفي في عملية التغيير الجذري؛ لأنه مهما بلغت قوة تأثير الآخرين عليه إلا أنها لا تصل للحد الذي يؤدي إلى إحداث التغيير وزلزلة ما رسخ لديه وأصبح كالجبال الرواسي.
.. نعم، قد يتأثر بما يسمع أو يقرأ، لكنه في الغالب سيكون تأثرًا لحظيًا وسرعان ما يعود لسابق حاله الذي يعكس ما رسخ لديه من مفاهيم ومعتقدات وتصورات.
وهذا مما يفسر لنا عدم ظهور ثمرة التربية.
هل نترك التربية؟!
هذا الحديث عن أسباب عدم ظهور ثمرة التربية بصورة صحيحة ليس معناه ترك التربية، فالتربية أمر لا بديل عنه إن أردنا تغيير ما بأنفسنا وإصلاح حال الأمة، ولكن معناه البحث والتركيز على وسائل ذات أثر بالغ في القوة، لكي نتمكن بعون الله من التأثير في الثوابت الخاطئة التي تربينا عليها منذ الصغر، وزلزلتها، وإبدالها بالمعتقدات والمفاهيم الصحيحة( ).
ومعناه كذلك الاهتمام الشديد بتنشئة الأطفال تنشئة صحيحة قدر المستطاع حتى يستقيم عودهم منذ البداية.

الخطوة الأولى... عزم وتوكل
لو أن صاحب شركة من الشركات قد أيقظه رنين الهاتف في منتصف الليل، وأخبره المتصل بأنه قد حدث حريق في الشركة.. ماذا تتوقع أن يكون رد فعله؟ هل سيقول في نفسه: سأذهب لأطمئن على الوضع في الصباح ثم يستكمل نومه؟ بالتأكيد سيفزع ويشعر بالخطر الشديد، ويسارع إلى الشركة باذلا غاية جهده في محاولة تقليل الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالشعور بالخطر هو الذي يحرك العزائم، ويستنفر الطاقات المخزونة في ذات الإنسان؛ ولقد أكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل»( ).
من هنا نقول بأن استشعار خطر ترك التربية الصحيحة المتكاملة المؤثرة للفرد والأمة هو البداية الصحيحة لتدارك ما فات، واستكمال ما نَقُص، ولعل ما قيل في الصفحات السابقة يكون سببًا -بإذن الله- لإشعارنا بالقلق والخطر وبحاجتنا إلى التربية، ويدفعنا لاستكمال ما ينقصنا، ويجعلنا دوما في حالة من التوقد والإيجابية.
الإمداد على قدر الاستعداد:
قبل أن نبدأ رحلة استكمال ما ينقصنا، علينا أن نتذكر حقيقة مهمة وهي أن الله عز وجل هو الذي يزكي ويربي، فهو سبحانه: "خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [الزمر: 62].
وأمر صلاحنا وفلاحنا في خزائنه "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" [الحجر: 21].
ولقد جعل سبحانه أهم سبب لإمداد الإنسان بما يصلحه هو: وجود الرغبة الأكيدة لديه، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم»( ).
فالحديث يؤكد على أن الهداية من عند الله، وأنه سبحانه يمنحها من يسألها ويريدها، ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [النور: 21].
فالله عز وجل هو الذي يُزكي.. هذه هي الحقيقة، ولكن يُزكي من؟!
يزكي من يراه مستعدا ومريدًا للتزكية، ولهذا ختمت الآية بقوله: (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
فالإمداد بحسب الاستعداد، وعلى قدر الصدق في طلب الشيء يكون المدد من الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن تصدق الله يصدقك»( ).
فمن يرد الخير بصدق يدله الله عليه ويمنحه إياه «ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه»( ).
ومن يصدق عزمه في طلب العفة يعفه الله «ومن يستعفف يعفه الله»( ).
ومن يصدق عزمه في طلب العلم يعلمه الله «إنما العلم بالتعلم».
العزيمة على الرشد:
فالخطوة الأولى -إذن- في طريق استكمال نواقصنا التربوية هي الصدق في طلب ذلك، والعزم الأكيد على تزكية عقولنا وقلوبنا وأنفسنا وجهدنا، وأن نكون ممن عناهم الله -عز وجل- بقوله: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" [المائدة: 54]، فعلي قدر العزم يكون المدد: "فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ" [محمد: 21]، فالخير كله -كما يقول ابن رجب- منوط بالعزيمة الصادقة على الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق.
.. قال أبو حازم: إذا عزم العبد على ترك الآثام، أتته الفتوح.
وسُئل بعض السلف: متى ترتحل الدنيا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدنيا من القلب، ودرج القلب في ملكوت السماء، وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب ورجع إلى الدنيا.
ويستطرد ابن رجب قائلا:
مَن صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددا طمع فيه الشيطان، وسُّوَّفه ومناه.
.. يا هذا: كلما رآك الشيطان قد خرجت من مجالس الذكر كما دخلت،
وأنت غير عازم على الرشد فرح بك إبليس( ).
فعون الله للعبد على قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم على إرادة الخير أعانه الله وثبته( ).
فالبداية-إذن- عزم أكيد ثم الاستعانة الصادقة بالله في تحقيق هذا العزم:
"فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ" [آل عمران: 159].
ولنعلم جميعًا أن الله -عز وجل- وحده هو الذي يملك إمدادنا بما عزمنا عليه، وأنه سبحانه يريد أن يرى منا صدقنا فيما نعزم، وأهم صورة لإظهار هذا الصدق هو الإلحاح عليه، والتضرع بين يديه.. تضرُّع واستغاثة تشبه استغاثة الغريق الذي يستغيث بمن حوله ليسارعوا في إنقاذه.
يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليُعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه»( ).
اعزم وتوكل وانطلق:
وبعد صدق العزم والتوكل على الله علينا أن نشرع في استكمال ما ينقصنا من جوانب التربية المختلفة، وإن كان من الأفضل أن نبدأ بالتربية الإيمانية كما أسلفنا ونتبعها بعد ذلك بالجوانب الأخرى حتى يتحقق التوازن التربوي بعون الله.
ولعل من أهم الأسباب التي تعين المرء على الاستمرار في تربية نفسه وبذل جهده في سبيل الله هو وجوده في وسط صالح، وصحبة طيبة، إذا نسي ذكروه، وإذا عزم أعانوه، وإذا غاب تفقدوه "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الـْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف: 28].
وفي النهاية نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما وفقنا إليه، وأن يعيننا جميعًا على استكمال ما ينقصنا لكي نكون عبيدًا مخلصين له غير ضالين ولا مضلين.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك