حوار العلم والدين في الإسلام بين الفيزياء والدين والفلسفة

 

حوار العلم والدين في الإسلام

بين الفيزياء والدين والفلسفة

باريس، متحف اللوفر 11- 13 يونيو ـ حزيران 2005

إعداد: د. حسن المصدق / جامعة السوربون

 

 

عقد فريق الأبحاث المختص في<< العلم والدين في الإسلام>> ندوة علمية في متحف اللوفر، شدت اهتمام العديد من المراقبين والصحفيين والمتتبعين، بحيث كانت بحق ملتقى للعديد من الباحثين المختصين في الفيزياء والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك على مدار ثلاث أيام، ساهم فيه العديد من العلماء المسلمين والمسحيين، حاول فيه الكل من منظوره ورؤيته بحث العلاقة بين الدين والعلم من منظور الإسلام.

وموضوع هذا اللقاء يبحث في محاولة تجاوز جريئة للرؤية التي استحكمت طويلا بالعلم والدين أنهما منفصلان ومتضادان وغير منسجمان في التوجهات والأهداف. فالدين بمثابة محاولة فهم الهدف الذي يدور من حوله الكون، والعلم محاولة لفهم الطبيعة وخصائصها. لذلك فكلاهما مرتبطان بالضرورة، ما دام إننا في المجالين نُسخِّر ونستعمل كل ما نمتلكه من حدس وملاحظة ومنطق وإحساس لبلوغ ذلك.

ومن هذا التفاعل بين العلم والدين الذي يستعمل موارد متشابهة، يجب تقريب الفهم الديني والعلمي بغاية تقديم معنى للحياة الإنسانية. فالدين والعلم بهذا المنظور متفقان لأنهما ينتميان إلى مجالين مختلفين جدا من الحقيقة. إن العلم يهتم بالناحية المادية الموضوعية للعالم، ومن واجبنا وضع مقولات صحيحة حول هذه الحقيقة الموضوعية وفهم علاقاتها المختلفة. أما الدين فيهتم بعالم القيم، بحيث يدور الحديث حول ما يجب أن يكون وليس عما هو كائن. إن القضية في العلم مصدرها "الصحة" و"الخطأ" بينما القضية الأولى في الدين تتعلق ب"الخير" و"الشر"، ما هو مليئ بالقيم وما هو فارغ منها.

وطابع الجدة والجدية في هذا الملتقى يبدأ من رفض إقصاء الدين عن العلم وفك العلم عن الدين، بل حاول البحاثة سن طريق منهجي يعتمد الجمع بينهما من منطلق التكامل في فهم سر الوجود والكون وآيات الله في خلقه. فإذا كان العقل سيد الأحكام فإن كل ما جاء في الكتب السماوية حق، وكل ما أفضى إليه العلم مما لا يناقض هذا وذاك فهو حق، إيمانا منهم بأن طريق العقل وطريق الروح لازمتين أساسيتان للسمو بالنفس وتهذيب الروح، ما دام أن الإسلام قد جعل العلم سبيلا إلى معرفة الله.

 وبيت القصيد في هذا الطرح رد الاتهامات التي عادة ما تلقى في وجه الأديان بوصفها معادية للعلوم البحتة من جهة، أو تلك التي تفضي إلى اعتبار العلم وحده منطلق المعنى ومنتهاه وغايته، بل برهن العديد منهم خواء هذا الطرح عندما لجأ باستفاضة إلى أعتى وأقوى النظريات الفيزيائية والرياضية والبيولوجية ليبينوا مكامن القصور فيها وعدم قدرتها أن تطال الكون برمته أو تقدم تفسيرا كاملا شاملا مانعا لجميع الظواهر، مهما بلغت من سعة في المعرفة ودقة في التحليل.

غير إن أمرا واحدا على الأقل ينبغي الإشارة إليه، ويتعلق بعدم الاقتصار على مقولة "العلم ما نفع" التي تعلي من النظرة النفعية والمردودية ولو على حساب القيم الأخلاقية والمثل والفضائل الدينية. مرد هذا الأمر أن هؤلاء العلماء كمثل من يتصدى إلى حل خيط تشابكت أطرافه وتعقدت، فهم يبحثون عن طرف الخيط الذي يجمع بين الإيمان والعلم. فلا فائدة لعلم بدون قيم ولا جدوى لقيم إذا ما لم تسندها الوقائع وتثبتها التجربة.

يدافع هؤلاء الخبراء عن الربط بين ملكوت الرب وملكوت العقل بوصفهما معا تجليات، تجعل الاجتهاد واجبا على كل مسلم وجوب كفاية. كل ذلك من منطلق الاعتراف بأن هذا الميدان ميدان صعب المسالك، واحتمال الخطأ فيه كبير. لكن الخطأ يُصوَّب ويُقوَّم، لا يحارب. وتقييد الحرية، حرية البحث وحرية الرأي، جريمة أشد من الخطأ.

من بين هذه الأيام الثلاثة للملتقى كان هناك يوما مفتوحا للجمهور الواسع هو الذي ننقل هنا لمحة تحليلية حول أهم المداخلات التي شهدها:

 

كانت أول هذه المداخلات  محاضرة عالم فزياء الفلك المسلم عبد الحق برينو كيدردوني، خبير شؤون الكواكب والمجرات بالمركز القومي للأبحاث العلمية ومدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية والذي صار على رأس المرصد الفلكي الفرنسي منذ بداية العام، حول:<< آفاق إسلامية حول الحوار بين العلم والدين>>، مركزا في بداية محاضرته على قصور الرؤية العلمية الميكانيكية والتجريبية التي تؤمن بالحتمية في تفسيرها لظواهر الكون، فلا الحقائق العلمية قاهرة وسرمدية وما تقدمه لا يصمد دائما أمام سنة التطور التي وضعها الله في خلقه.

والرؤية الفلسفية التي ينطلق منها ترى أن العلوم تحاول قدر إمكانها  وعلى وجه الخصوص تقديم تفسير للأسباب الكامنة وراء الظواهر ورصدها رصدا حقيقيا من منطلق مبدأ التجربة والاختبار والقياس، واقتصارها على ذلك لا يمكنها من تقديم رؤية متكاملة، بل لا يسعفها في الحد من قلق الإنسان وما يقض مضجعه وأسئلته الحادة حول الحياة والموت، ومن أين جاء ولا إلى أين يذهب.

 بالمقابل إن البحث عن معنى ما للحياة يتم بالسؤال عن الماهية والجوهر الروحي، أي نوع القيم والفضائل والمثل الروحية والدينية الضرورية له في سفره في هذا الوجود، وهو ما يتطلب بالأساس البحث المجرد في الأسباب الكلية وجوهر الاشياء والطريق الأمثل لها، فالأديان هي من تقدم معنى لحياته ووجوده، وتحاول المصالحة بين الفعل والقيم، وبين الحرية والمسؤولية.

فالدين والعقل وسيلتين للتعريف بالحقيقة، ولما كان الإنسان في طبيعة تركيبته مؤلفا من عنصر روحي هو النفخة الإلهية، وعنصر ترابي مادي، فإن الترقي والتنامي في اتجاه الله يكون شاملا بالعنصرين معا.

  لا ينفي الباحث شرعية المقاربتين، بل نستشف من قوله اعتراف بجدوى المقاربتين العلمية والدينية في مجالهما، لأن كل منهما يمتلك مبررات شرعيته في حقل اختصاصه، على الرغم من أنه انتقد نزعة الهيمنة والوثوقية وسائر التفاسير المبنية على الحتمية التي تعج بها النظريات العلموية.

من الحقيقة بمكان الاعتراف بمحدودية العلوم البحتة والدقيقة، حيث تأكد اليوم أنها أبعد ما يكون من صياغة معرفة كونية مطلقة، فكل نظام رياضي وفيزيائي يحبل بالثغرات وهناك قضايا لا يمكن أن يستدل عليها بالصحة أو الخطأ، فهي تتأرجح بينهما، وهو ما يعني محدودية العقل البشري الذي ورائها.

فإذا كانت المقاربة العلمية في نظره لها شرعيتها التي تتأتى من الخبرة والقياس والتجربة، فحقل الدين مناط بفهم قلق الوجود وما يعتمر به من أسرار كمستقبل الأرض والحياة الإنسانية التي تؤرقها اليوم مشكلات بحجم العنقاء كالتنمية وتصاعد الحرارة في الكوكب... والبحث عن مستقر لحياة متسارعة ومتغيرة لهذا الإنسان في الوجود حتى يصون حياته من الدمار والفوضى والسديم...

والدين الإسلامي مهيأ لاحتضان الأسئلة الكبرى التي تجعل من الاكتشافات العلمية الكبرى دليل الله في الكون، وأن الكون غير مكتف بذاته لأنه ومن وحي قدرة خارجة عنه، ما دامت العلوم الرياضية والفيزيائية اليوم عاجزة عن تقديم معرفة لا يأتيها الباطل من أمامها أو خلفها. اعتبارا لقول الكتاب الكريم: << وفوق كل ذي علم عليم>>.

فوحدة العلم لا تنفصل في الإسلام عن وحدة الخلق ووحدانية الخالق، كما لا تنفصل المادة والروح في الكائن الحي.

ومهما يكن، يتابع الباحث في مداخلته وضع حجر الأساس لهذا التفاعل الإيجابي، انطلاقا من مبدأ التكامل لا المفاضلة بين العلم والدين، بوصفه الهدف الذي تنطوي عليه مداخلته التي تنتقد على حد سواء، هؤلاء الذين يسرفون في تفسيراتهم معتبرين إن جل الاختراعات العلمية موجودة في القرآن بتفصيل، وبالتالي كفانا الله شر القتال، وهي نزعة مغالية وثوقية دوغمائية لا تساعدنا في شيئ للخروج مما نحن فيه، بل تحيط بالدين هالة احتفالية هو في غنى عنها. كما لم يسلم من انتقاده هؤلاء الذين يكتفون بتأويل ظاهر النص إذا خالف التجربة والاختبار والحقائق العلمية، يحاول من خلالها أصحابها إثبات وجود الله إثباتا علميا وبناء عليه، حتى أحالوا كتاب الله كتابا في الفيزياء!

وفي هذا الباب يقف الباحث متأملا الوضع الإسلامي حاليا للعلم، فيرصد أيضا ذلك الموقف الذي يقوم على تبني مقولة الإعجاز الديني في العلوم البحثة،  وليس المراد منها هنا إعجاز القرآن اللغوي للسان، بل محاولة اسقاط أصحابها ذلك على العلم وعالم الاختراعات العلمية ونسبتها في كل آن وحين للقرآن باعتباره أول من أشار إليها ومتضمنة فيه مسبقا.

فبين من ينطلق من التجربة للإيمان ومن يعتبر الإيمان سابق على البرهان العلمي، يتجلى طريق ثالث في نظره يزاوج بينهما من خلال الإبقاء على التوتر بين المجال الديني والمجال العلمي، أو كل منهما على حدة وفي مجاله الخاص به.

ويؤكد الباحث إن المطلوب اليوم غير ذلك تماما، فالمطلوب ليس التأسيس لفيزياء قرآنية بقدر ما هو مطلوب التأسيس لميتافيزيقا قرآنية جديدة تبلور أفقا إسلاميا يتماشى مع متطلبات العصر وقضاياه. فالقرآن بهذا المعنى عالم، وعالم اليوم عبارة عن كتاب، وكلاهما لا يستغني عن الرموز والإشارات والآيات، آيات الله في خلقه، فوجب تأويل تلك الإشارات والآيات وفك طلاسمها، لأن في فهم آيات الله حبا فيه.

والتوتر بين المجالين مرده هذه الرؤية التي تعتبر أن "السببية" التي كانت تعتبر إلى أمد قريب أقنوم العلم الحديث طرحت إشكالية كبيرة في عالمنا المعاصر، سيما أنه عادة ما لجأ العلم المعاصر للتنبؤ بأحداث المستقبل انطلاقا من المعارف التي نملكها حول أحداث الماضي وبطريقة كمية، بحيث أخذ هذا التنبؤ مجراه التطبيقي والعملي بالاستدلال على العلاقات السببية بين الأحداث. غير إن الفيزياء الكوانطية أطاحت بالسببية وأفسحت المجال مكانها للاحتمالية والارتيابية والنسبية.

يفسر كيدردوني كيف تم سحب البساط من نظرية أوقليدس الهندسية ورفض بدهية التوازي، ليتم افتراض أن السطح ليس مستويا بل مقعر، مشيرا إلى الألماني ريمان (1826- 1866) الذي افترض أن السطح محدب، ووضع نسق هندسة لا أقليدية لا توجد فيه أي خطوط متوازية على الإطلاق. فأدركنا أن الله يمكن أي يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين.

فالنسبية تنظر إلى العالم كفضاء متعدد الأرباع ذو مضمون مجالي تتفاعل في تمظهره حشد من الجسيمات المتفاعلة ببعضها البعض. فالمجال هو الأصل، والجسيم هو المشتق، خلافا لما هو عليه الحال مع فيزياء نيوتن الميكانيكية التي تعتبر الجسيم الأصل في كل مظهر من مظاهر الوجود. فليس هناك مكانا مطلقا يشكل مرجعا مطلقا لجميع الأجسام والأجرام، لأن الفيزياء الكوانطية ترى أن ليس هناك دليل على وجود مكان مطلق. فلا فرق حركيا بين الأرض والشمس ومجرة أخرى، فجميعها موازي من حيث صلاحيته للملاحظة والقياس. إذ يبحث مبدأ النسبية العامة على قوانين كونية لا تتأثر بتاتا بموقع الملاحظ ولا بحركته من أي موقع تختاره اعتبارا لوحدة الزمان والمكان.

ومع ذلك يشير عبد الحق برينو غيردوني أن هذا التطور الجبار لم يخلو بدوره من صعوبة، ففيرنر هازنبرغ مثلا عندما وضع مبدأه الشهير "مبدأ اللاتعيُّن" أخذ في اعتباره أدوات القياس أو الأجهزة المختبرية وتأثيرها هي بدورها في عملية رصد الظواهر، لنخلص إلى استحالة تعيين موضع الإلكترون وسرعته في آن واحد على وجه الدقة، لأننا إذا رغبنا في قياس سرعته أثرنا الاضطراب في موقعه، وإذا رغبنا تحديد موقعه لا بد من إثارة الاضطراب في سرعته. بحيث إن الدقة في قياس أحد الجانبين تتم على حساب تحديد الآخر بدقة.

يبرهن هذا العالم كيف يتداخل العامل الذاتي والعامل الموضوعي في أدق النظريات الفيزيائية وأقواها،  ولا غرابة إذ كان ألبرت أينشتاين هو نفسه من قلب المعادلة واعتبر أنه ليس هناك انفصال بين الدين والعلم، لأنه يعتقد أن "النظام المركزي" ينتمي بنفس القدر إلى "المجال الذاتي" و"المجال الموضوعي للأشياء".

 ومهما يكن فالباحث عالم فيزياء بالدرجة الأولى، همه الأول والأخير البحث في أسباب وعلية الظواهر الكونية بطرق علمية وليس بطريقة دينية إيمانية. مما يكشف عنده أن السببية التي يبحث عنها العلم فرعية كمية، وهي في حاجة إلى أن تسترق السمع وتوجه بحثها نحو سببية كلية جوهرية.

ومن القضايا الساخنة التي عرج عليها الباحث في عرضه وتهُم البلدان العربية والإسلامية في مجال حوار الدين والعلم في الإسلام ما يعتبره معوقات شديدة تحول بينها وبين حوار جاد بين العلم والدين فيها:

-                                  التخلف الكبير والضاري الذي يعاني منه التعليم العالي والبحث العلمي .

-                                  عدم مشاركة العالم الإسلامي في الحوار القائم بين الدين والعلم.

-                                  الصعوبة الكبيرة التي يجدها في الاعتراف بالاختلاف وتعدد الآراء، إن لم يكن يعتبر تلك التعددية اعتداء عليه وعلى مثله وقيمه.

-                 النزعة النرجسية والتقديسية التي تربطه بالماضي، في الوقت الذي لا تدرس فيه مساهمات علماء تلك المرحلة الذين طواهم النسيان، ويشير على سبيل الإشارة التاريخية في هذا الباب تواجد 150 عالم فلكي في بيت الحكمة ببغداد، لا نعرف عنهم شيئا أو إلا القليل.

-                                  يؤكد أن مكانة العلم في قلب الإسلام نصا وتاريخا وليست غريبة عنه.

*          *          *

أما المداخلة الثانية فقد عرضت منظورها للعلاقة بين العلم والدين في الإسلام من منظور فلسفي، قام به الباحث محمد طالب، تحت عنوان: << الرهانات الفلسفية والشروط المعرفية لحوار العلم والدين في الإسلام>>، استهل بها نقض التصور الذي يرى المعرفة العلمية برؤية خطية عمودية تطورية، وكأنها ظاهرة تنمو وتتدفق باطراد نحو الأمام من دون أزمات وانتكاسات قد تصيبها. ويسترشد في هذا المضمار بنموذج القياس الإرشادي (الأنموذج) الذي يفسر الانتقال من أنموذج علمي إلى أنموذج علمي آخر، والموضوع من طرف الفيزيائي توماس كون (1922- 1996) الذي غيرت الشيء الكثير من الاعتقادات حول طبيعة العلم وعوامل التقدم فيه.

 مفاد هذه النظرية القطع مع النظرية التي ترى التاريخ يسير في مسار حتمي مجبول عليه لا يزيح ولا تتعرج خطواته، لنفهم من ذلك أن تاريخ العلم لا تتحكم فيه نوع من التعاقبية بدون صعود وهبوط وتقدم وانتكاسة ومنحنيات ومنعرجات...فتقديم تاريخ للعلم الإنساني لا يجب أن يحجب عنا المرحلة العادية التي يمر بها أي علم حتى يستوي كنظرية ثم مرحلة الأزمة التي قد تعترض قواعده ومرحلة الثورة التي تشنه عليه عوامل من صلبه أو من خارجه، توصل فهمه للظواهر الطبيعية إلى الباب المسدود. وعليه يصبح أمر نقضه وتجاوزه مهيأ السبل. مما يفتح المجال للخروج عنه وظهور نموذج جديد.

ولعل الباحث يحمل موقفا ضد تاريخي للعلم وغير مقتنع بأن التقدم المستمر هو دائما مآل العلم، بل إن هذا الاعتراض يقوم على نقض مفهوم التراكم إذا أخذ على منوال خط مستقيم.

ينطلق الباحث من محاولة استقراء ما وقع بالفعل في تطور العلوم تاريخيا وما قطعه العلم من مراحل، بحيث يرىمثلا، إن ظهور النموذج العلمي الحديث بفضل ديكارت ونيوتن وغاليليو يعود إلى أربعمائة سنة بعد سقوط النموذج القديم القائم على القياس والتخلص من علم التنجيم والخيمياء ( الكيمياء القديمة) اللذان طُرِدا من حظيرة العلم الذي امتاز به العصر الوسيط، بحيث قام هذا الأنموذج الجديد على الاختزالية المنهجية (réductionnisme méthodologique) وليس على القياس (analogie) كما كان الأمر من قبل.

إذ بدأ ديكارت يدرس القواعد والمبادئ العامة فيطبقها على الأجزاء، أي أن المنهج أصبح استنتاجا بعد أن كان استنباطا، منه: <<من يستطيع الكثير يستطيع القليل. أو من يملك الكثير يملك القليل>>... و<<الكل أكبر من الجزء>>...أو <<النقيضان لا يصدقان على شيئ واحد في وقت واحد>>.

فلقد حل مع ديكارت مبدأ الاستنتاج العام والتخصيص. ثم إن ظواهر الطبيعة يتم الوصول إليها من خلال المبادئ العامة، وديكارت عزل نفسه عن أرسطو ومقولاته التي كان يفسر بها الكون وتخلى عن الاستنباطية والخلط بين الأسطورة والعلوم. والواقع إن المعلم الأول أرسطو ميز في كتابه "التحليلات الثانية" بين المبادئ المشتركة للعلوم ( وهي قوانين الفكر الأساسية: قانون الهوية أي "أ" هي "أ" ـ وعدم التناقض والثالث المرفوع أي إن الشيئ إما " أ" وإما لا " أ" لا وسط أَيْ لا طرف ثالث). إذ قدم أرسطو الجوهر الجزئي على الجوهر الكلي، ومقولات الجوهر (الشيئ القائم بنفسه الحامل لغيره، والذي لا يفتقر وجوده إلى شيئ أخر) ومقولة الكم والكيف ومقولة الإضافة ومقولة المكان ومقولة الزمان ومقولة الوضع ومقولة الملك والفعل والانفعال تشير إلى كيفية تعرف العقل على العالم الخارجي. فلا شيئ عند الإغريق يمكن أن ينبعث من لا شيئ، ولا شيئ يحدث لغير شيئ... وتراثهم إذا كان ذو بذرة جيدة، فلقد غرس في أرض صلدة.

  وبعد وصول منطق أرسطو إلى الباب المسدود، شهد الغرب ميلاد أنموذج علمي جديد يقوم على التجريبية والعقلانية يعترف للإنسان بقدرته أن يعرف الخير والشر بذاته.

غني عن القول إن تاريخ النماذج في تاريخ العلم ليس تاريخ قطيعة بل تاريخ تجاوز. وقلما يشير الباحث ما نفكر في منطق نظرية علمية، وبالتالي يصعب معرفة كنهها وما تريد، فالمنطق الذي هيمن في النموذج الميكانيكي قام على منطق أرسطو، بحيث هو من أطر الفكر الميكانيكي (الربط آليا بين السبب والمسبب). غير إن هذه الميكانيكية تم نقضها بدورها بما يعرف عند الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران بالتعقيدية (complexité) التي تلف بجميع مناحي الحياة. إذ يصبح الاختلاف مابين العلم وما هو ليس بعلم، وليس بين ما هو علمي وما هو ديني. أي إن الفرق الحقيقي هو مابين العقل المفتوح والعقل المنغلق.

وبالعودة إلى فلسفة العلم يطرح الباحث مسألة الحوار بين العلم والإسلام، فيطرح سؤالين أساسين:

-                                  ما الذي يمكن أن نجده في العلم يمكنه الدخول في حوار مع الدين؟

-                                  وما الذي يمكن أن نجده في الدين بوسعه الدخول في حوار مع العلم؟

وفلسفة العلوم بهذا المعنى تؤكد حقيقة لا غبار فيها، مفادها التوتر الدائم الموجود في أي نظرية علمية ومحاولتها إخضاع الواقع إلى قواعد صورية من جهة أو تأويله من جهة أخرى.

فما بين الوصف والتأويل يتأرجح العلم، حتى عدنا نلاحظ اليوم غلبة وهيمنة إخضاع العالم في قوالب جاهزة وأشكال صورية وأنظمة حسابية، جعلت من العلماء مجرد تقنيين... بالمقابل نجد توترا حادا في الدين بين الإيمانية واللاهوتية (بوصفها كبحث في اللاهوت)، أو إذا شئنا القول التوتر بين الإيمان والتفكر والتأمل كما يحصل الحال عند الذات العارفة الصوفية.

ولذلك يجنح الباحث في مداخلته بعد رصده لهذه التوترات القائمة في صلبهما، إلى الإقرار بإمكان عقد حوار بين العلم والدين عن طريق الفلسفة والحكمة. فالفلسفة بمثابة الدعامة التي تقر بهذه التوترات وتجيز البحث فيها دون قيد أو شرط.

ويذهب بعيدا في ذلك عندما يقرر بأن سبيل الخروج من الجدال العقيم الذي اعتدنا عليه بين العلم والدين، هو الإقرار بأن هذا الحوار سيتم من خلال عملة واحدة لها وجهان: الوجه الأول هو فلسفة العلوم والوجه الثاني هو فلسفة الأديان. والمشترك بينهما هي الفلسفة.

فالإشكاليات التي تمور بها العلوم التطبيقية تجد مجال التفكير الحر فيها في فلسفة العلوم، والمسائل التي تهم العرفان والبرهان والبيان الديني موضعه الحكمة ـ الفلسفة ـ. والفلسفة محقة بذلك لأنها سؤال المعنى على كل حال.. وفي كل الأحوال. فالدين يبحث في جوهر العلات، في حين يبحث العلم في الظواهر الطبيعية ويحلل العالم في كميته موضوعيا، وهو غير مقصور على حضارة بعينها وأمة بعينها، فالمتأمل لتاريخ العلم يجد مشاركة الشعوب فيه قائمة ومتواصلة عبر التاريخ، وليس العلم مقتصرا على حضارة وأمة بعينها. فالعلم في الغرب اليوم ساهم فيه العرب بشكل وطيد، وأي محاولة لتسييجه باسم دين ما أو حضارة بعينها مجانب للصواب. ولعل ما يقصده الباحث أمر ذو شنآن ما زال يلقي بثقله في الساحة العربية والإسلامية من جهة والساحة الغربية من جهة أخرى. الأول يهم ما اصطلح عليه بأسلمة أو إسلامية المعرفة وهو أمر غير ممكن، لأن حقائق العلوم حقائق كونية وغير مقتصرة على جنس بعينه أو دين أو شعب دون غيره، وهي غير محلية. بالمقابل يرد الباحث اتهامات بعض المفكرين الغربيين الذين يرون في الإسلام كدين حاجزا للتطور والتقدم والحداثة، داحضا ذلك بالحجة والدليل مساهمة المسلمين الفعلية عبر التاريخ، في التقدم والرقي الذي وصلت إليه العلوم حاليا.

وما يهدف إليه الباحث عبر هذا الحوار بين العلم والدين تجاوز النزعة التقليدية والنزعة التمجيدية للماضي من جهة ومناهضة التقانية الأداتية التي سيدتها النزعة الرأسمالية في العالم كنموذج أمثل ووحيد من جهة أخرى، وذلك بالجمع بين مؤهلات الماضي التي أخذها وطورها الغرب دون الوقوف عليها فحسب، وطرح سؤال الانحطاط والانتكاسة الذي يلم بنا في جميع المجالات.

وإعداد هذا النموذج يتم من خلال الخروج من تلك النظرة المتخيلة للغرب وإزاحتها من لا وعينا، فالغرب ليس كتلة هلامية متجانسة، ثم النفاذ إلى فهم النزعة المنفعية السائدة فيه عبر الربط بين استقلالية الفرد كقيمة عليا والحرية، حرية الفعل والمبادرة...

فلقد سبق لبرتراند رسل ( 1872- 1970) أحد أكبر فلاسفة الغرب أن قال:<< في العصور الوسطى المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية، أما المسيحيون ...، فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة>>. (1934:22)

وما يدعوا إليه الباحث ليس تمثل الغرب والذوبان فيه بقدر ما يعني صياغة نموذج إنساني كوني لا يقطع مع الآخرين وإنما يتجاوزهم، فالغرب لم يقطع معنا لأنه أخذ منا، وفك الغلالة بين التحديث والتغريب، يعني الفصل بين التغريب ومشروع الحداثة في العالم العربي. والحداثة بهذا المعنى مدخل ضروري لتحقيق الذات وفك التبعية.

*          *          *

أما المداخلة الثالثة فلقد قام بها جون فرانسوا لامبير أستاذ مختص في سيكولوجية الجهاز العصبي بجامعة فانسين تحت عنوان: << العلوم العصبية والفلسفة>>، بحيث ينطلق من إشكالية الربط بين الوعي والدماغ والمفارقة الموجودة أمام الدارس عند محاولته تعريف الوعي والصعوبة التي تصادفه في ذلك: بحيث عادة ما نجد عدة مرادفات لها: كالفكر والذهن والنفسية أو الروح التي تشير في مجملها إلى النشاط النفسي الواعي أكثر من إشارتها إلى النشاط النفسي اللاواعي.

لا ينكر الباحث دور علم النفس المعرفي الذي يدرس الاختيار والحرية والإرادة التي ألغاها علم النفس السلوكي من دائرة اهتمامه، ليساهم بدوره في معرفة الطرق التي يفكر بها الإنسان ويكشف كنه معرفته وتصوراته كمحددات أساسية للشعور والفعل والسلوك، ثم ما تلى ذلك من مقابلة الذكاء الاصطناعي بالذكاء الطبيعي والعقل الإنساني بالعقل الإلكتروني...

 قد يقول قائل أن فضل ذلك كثير،  بحيث تمكنا من خلال الفيزيولوجيا العصبية وعلم النفس المعرفي تعريف الدماغ وتحليل وظائفه وعناصره (المخ والمخيخ والنخاع المستطيل= الثلاثة يشكلان الدماغ)، وإن كان الأمر ليس تحصيل حاصل أو بالسهولة التي نظن يضيف الباحث ولو فيزيولوجيا، ما دام إن الجهاز العصبي للإنسان معقد بطريقة ليس من السهل الوقوف عليها باستفاضة تامة، ذلك إن لكل جزء من أجزاء الجهاز العصبي مهام ووظائف متشابكة ومتعددة ومعقدة.

ولا بأس يشير الباحث من اللجوء للفيزيولوجيا العصبية لتبيان محدودية ذلك،  فالجهاز العصبي ينقسم إلى  كل من: 1)- الجهاز العصبي المركزي ويشمل المخ والنخاع الشوكي.

 2)-  الجهاز العصبي الطرفي ويشمل الأعصاب المخية (الدماغية) والأعصاب الشوكيةـ الجهاز العصبي الذاتي.

وهذه الأعصاب ذوات أهمية كبرى لأن الأعصاب الدماغية والأعصاب الشوكية لا تقوم بنقل الإثارات الحسية التي تمككنا الإحساس بما يجري حولنا فحسب، ولكنها تنقل أيضا الإثارات العصبية التي تدفع عضلاتنا إلى العمل. فالأعصاب التي تحمل الأحاسيس من الجلد وأعضاء الحس إلى المخ والنخاع الشوكي (spinal cord) هي الأعصاب الحسية (Sensory Nervous) التي تنقل الرسائل عبرها في اتجاه الجهاز العصبي المركزي (Central Nervous system)، أما الأعصاب التي تحمل الإثارات التي توضح لعضلاتنا كيفية الحركة والعمل فتسمى الأعصاب الحركية (Motors nerves).

 لقد استطاع علم الأعصاب النفاذ إلى وظائف الأعصاب الدماغية ليرصد اثنى عشر زوجا من الأعصاب الدماغية تقع في السطح الأسفل من المخ ( وهذه الأعصاب هي العصب الشمي (الشم) والعصب البصري (البصر) والعصب المحرك للعين والعصب البكري والعصب المبعد( وكلاهما يحتوي على ألياف حسية وحركية معا) والعصب التوأمي الثلاثي(= عصب مختلط يحتوي على الألياف الحركية التي تتحكم في عضلات المخ يقوم بحمل رسائل حسية إلى المخ من معظم أجزاء الوجه، وفي الوقت ذاته يحمل في الاتجاه العكسي الأوامر التي تتحكم في عضلات المضغ) والعصب الوجهي.

وتفيد العلوم العصبية بقدرتها اليوم على حصر جميع أنشطة الدماغ وتصويرها وهي تقوم بوظائفها. غير إن هذا العالم يرفض رفضا باتا أن يستطيع علم الأعصاب أن يستطيع أن يقدم المعلومات ذاتها عن التغييرات النفسية والمزاجية التي تظهر بين الحين والآخر، بل يتحدى علم الفيزيولوجيا العصبيةأن يستطيع تحديد بدقة العلاقة بين الدماغ والروح أو النفس خزان الانفعالات، وكيف يتم الربط بين الأعصاب وحالات الفرح والحزن والحماس والغضب والخوف في المخ...

 فحتى التصوير الضوئي لأنشطة الدماغ المختلفة لا يستطيع على وجه التحديد فك شفرة سائر الرسائل المتبادلة بين جميع أجهزة المخ وبالأحرى سائر أعصابه.

فإذا قورن المخ البشري بالمخ الإلكتروني فإنه على وجه التقريب يحتوي على 15 مليون أنبوبة إلكترونية بالعودة إلى أعمال جوهانسون شالريه الذي يؤكد إن المخ البشري يحتوي على 1500 مليون خلية عصبية كل خلية منها تعمل بقوة واحدة على الألف مليون من (الوات) ويعمل المخ كله بقوة تبلغ حوالي عشرة وات.

لذلك فما نقيسه إلا جزءا بسيطا من النشاط العصبي وليس كله...

وأنى لهذا العلم أن يستطيع أن يقدم معرفة طبيعية تحدد الجزء المظلم فيه الروح. فالقول بإمكانية حصر جميع أنشطة الدماغ رياضيا وحسابيا، يعني إمكانية مكْينة الدماغ وإعادة تصنيعه مستقبلا.. هراء.

إذ بعد التعرف على كتاب الحياة بفك شيفرة الجينات يزعم أصحاب هذا العلم بفك شيفرة الروح عن طريق قياس الدماغ ووظائف مختلف الأعصاب الموجودة فيه. لكن هيهات ثم هيهات... يضيف الباحث بقوة، لأنه ولو استطعنا أن نحصر قوانين الخلايا وقوانين الأعصاب ووظائفها كاملة، فهذه القوانين عاجزة كل العجز أن تشرح عصبيا أحاسيس مثل الرغبة والفرح والحزن... والتأثر... والانفعال.. أو تمثلها في الآلة وإن حاولت محاكاة كيفية اشتغال الدماغ البشري.

إن زعم علماء البيولوجية العصبية بإعادة مكْيَنَة الروح البشرية وقياسها رياضيا مجرد رجم بالغيب وخبط عشواء..

 فليس من الممكن على الإطلاق أن نرصد الذاتية (subjectivité) موضوعيا (objectivement)، أوأن ننفذ إلى أعماق الروح، فالروح لا يمكن برمجتها واللاوعي لا يمكن سبر أغواره رياضيا، فثمة دهاليز سرية في الروح لم يستطيع أحد الوصول إليها اليوم. والروح البشرية ليست آلة، حتى نستطيع محاكاتها وتمثلها رياضيا، كما لن نستطيع سبر أغوارها لأن الذات ذات ووعيها ذاتي، يتقبل الحكمة والانفعال، العقلانية واللاعقلانية، الصحة والخطأ... والذاتية بهذا المعنى مختلفة عن الموضوعية، ولا يمكن دراسة ما هو ذاتي موضوعيا ولا القياس بينهما.

 فالنفس ـ الروح ـ تستعصي على الأنظمة الرياضية والفيزيائية الأشد تعقيدا وتطورا، ما دام أن وعي الإنسان يتداخل فيه الوجدان والقياس والحس والعقل وغير المتوقع والذي لم يخطر على بال، بحيث لا تستطيع آلة أن تحدد على وجه التحديد معرفة نسبة هذا وذاك في الأداء النفسي والعصبي. وبالتالي يستحيل ترصيف وتصنيف تمظهرات الروح في الأجهزة العصبية بطريقة رياضية. فالوعي ليس سلوكا محضا حتى يمكن قياسه، والحالة الذهنية ليس حالة فيزيائية فحسب.

يرد هذا الباحث محاولات الفيزيزلوجيين الذين يحاولون عقد تشبيه بين الإنسان والآلة ويرفض كل من أبحاث البيولوجيا الاجتماعية وأبحاث منسكي وأرمسترونغ وشانجوالفرنسي أو أطروحات الفيلسوف الأمريكي كواين وهنري أتلان التي تعتبر << الذهن البشري موضوعا فيزيائيا>> أو<< تختزل الإنسان في المادة>> أو تلك التي تعقد تماهي بين << الذهنية والعصبية>>. كما يرد مقولة وليم جيمس الذي يعتقد إن التجربة تجمع كل الطبائع الحسية وأن الفصل بين الذات والموضوع فصل مصطنع وغير طبيعي، لأن بحسبها الفكرة والشيئ المادي طبيعة واحدة هي التجربة الأصلية.

ولقد رفض أيضا الباحث التفسير الذي قدمه واتسون أحد مؤسسي السلوكية التي ترفض رفضا باتا الحياة الداخلية والنوازع والدوافع في تفسير سيكولوجية الإنسان، معتبرا إنه ليس من الممكن اختزال الروح في المادة كما ينادي بذلك علم المعرفة الذهنية الذي يختزل الذهن في الحساب، وتحاول فهم طبيعة التجارب الذاتية بدراستها كجملة علاقات سلوكية، بحيث يشير إلى إنه عندما يتم إخضاع النشاط العصبي للمراقبة والفحص الضوئي، فالمراقب الذي يرى ما يجري في الدماغ لا يرى ما تراه عين ذلك الدماغ، بحيث لا يرى إلا قسطا صغيرا من النشاط العصبي...>>.

 والأهم من ذلك كله، كيف يتم المرور من التركيب العصبي للتجربة إلى التجربة الذاتية المرتبطة بها؟

وحتى إذا قبلنا ما يروجه الفيزيولوجيون من أن التجربة الواعية هي سيرورة عصبية، فليس هناك من يدفعنا إلى الاعتقاد بأن التجربة هاته تمت بصلة ما يجري في الدماغ، فما يجري في الدماغ ليس مرآة للوعي الذاتي كنفس وإحساس.

ويستشهد جون فرانسوا لومبير بالحوار الذي دار بين الفيلسوف الفرنسي بول ريكور(1912- 2005) وعالم الفيزيزلوجيا العصبية جون شانجو، بحيث يتوزع الفهم الإنساني بحسب رائد الهرمينوطيقا إما عبر:<<  الخطاب النفسي أو الخطاب الفيزيزلوجي، لكن العلاقة بينهما إشكالية لأننا لم نستطع حتى الآن الربط بينهما في أي منهما. إذ ينقصنا خطاب آخر[...]،  ما دام إن المقولات من خلق دماغنا والعالم ليس بحوزته شيئا منها سوى تلك التي خلقها الإنسان>>. فالدماغ يؤكد بول ريكور شرط الفكر ولكن هذا الدماغ لا يفكر كفكر يفكر ذاتيا.

من هذا المنطلق ليست الروح هي المشكلة والغامضة والمستعصية كما جرت العادة، بل هي المادة، فكل من المادة والروح مستعصيان وغامضين، فلا استطعنا سبر أغوار المادة ولا سبر أغوار الروح، فالواقع ما زال متدثرا  بـ<<حجاب>> وليس بوسع اللسان الكلام عنه.

*          *          *

وبعد ذلك تدخل الأب لويس بيرنوت من الكنيسة البروتستانية وهو مهندس ويحمل دكتوراة في الفلسفة، ليشارك في اللقاء بمداخلة قدمت << أمثلة عن اندماج المعارف العلمية في لاهوتية البروتستنانت>>، استهلها بإثارة العلاقة بين العلم والله أو كما يسميه نوع العلاقة التي تربط بين الميتافيزيقا والعلم، ورؤية المسيحيين لمسألة خلق الكون التي تجسد في نظره أحسن ربط بين العلم والدين.

 ويبدأ الأب لويس من خلال كيفية معالجة الفاصل الموجود بين الكتابة العلمية والكتابة الدينية في مسألة خلق الكون. فالعلم يصور تكون العالم وفق أنظمة هندسية وسيرورة تاريخية معقدة، بالمقابل يقدم الدين المسيحي رؤية قائمة على أن الله خلق الكون في سبعة أيام. ومهما يكن من فرق بين الأطروحتين، يجب أن نلتفت أولا لنوع العلاقة التي ربطها المسيحيون بين الدين والعلم من خلالهما، بحيث تأرجحت هذه الرؤية بين البحث في العلم عن ما لا يختلف مع الإنجيل كالوصايا العشر، بحيث تم قبول تلك الوصايا كأوامر إلهية يجب العمل بها، بالمقابل تم ترك تفسير تشكل الكون في سبعة أيام والتسليم بأن المسيح مشي على ظهر الماء، لأن ذلك يخالف التصور العلمي المحض وما لا يقبله منطق، وذلك كله لا يقدم ولا يؤخر في إيمانهم بالله ما دام إن هذه المقاربة التاريخية النقدية تعتمد على أن كتابة الإنجيل تمت في سياق تاريخي محدد، ولذلك يتطلب الأمر وضع نصوصه في سياقها التاريخي والمجتمعي، بحيث لا يمكن الاستدلال على تلك القصص على وجه الصحة، وإنما اعتبارها من صميم ما كان الشعب آنذاك يؤمن به ويعتقد من أساطير تداخلت بالنص وامتزجت به.

وعلى صعيد آخر، هناك نزعة نقدية علموية، تفيد بطرح سؤال مركزي يؤكد أولا وأخيرا على جوهر الرسالة التي يبشر بها الكتاب المقدس والاقتصار على ذلك، بحيث يصادفنا في هذا المجال نصوص تطرح إشكالية تلقي النصوص الدينة، فعندما نجد مثلا في إنجيل بولس: << يجب على المرأة أن تلزم الصمت في الكنيسة>>، الذي فهمه البعض على أنه منع للمرأة في الكنيسة ودنس، يقتضي الفهم الصحيح تأويل ذلك، على نحو القبول بالمرأة في الكنائس وليس حرمانها من ذلك.

 وهذا ما يتجلى أيضا في عدة قضايا أخرى منها: كالتوفيق بين قول الإنجيل بخلق العالم في سبعة أيام، على نحو يؤكد تأويل شكل المدة الزمني بالقياس إلى الزمن الإلهي، على نحو يساعدنا من تجاوز الصدام مع العلم.

فما يهم القراءة اللاهوتية ليس ما تقوله آيات الإنجيل حرفيا، بل ما ذا تعني؟ وما دلالتها؟ فالإنجيل بهذا المعنى لغة مجازية، يجب قراءته على ضوء الميتافيزيقا وأسئلة المعنى المجرة والمتعالية. بيد إن ذلك لا ينفي وجود صدام بين القراءات التي تؤمن بالخوارق ومن يعتبرها مجرد مزحة.

وإجمالا هناك الاتجاه اللاهوتي الـربوبي (Théologie déiste) الذي يرى في مسألة خلق الكون، أن الله خلق ساعة الكون دون التدخل في عقاربها، في حين يعتبر أهل التوحيد (Théiste) إن الله مستمر في تفاعله مع العالم ويتدخل فيه باستمرار.. وغير منفصل عنه...

ويخلص الأب لويس إن الكون في تطور دائم، يتأرجح بين فوضى الأنثروبيا والانسجام والتوازن، والله بهذه المعنى تعقيد ضروري للكون يجمع بين انتظامه كمعلومة من ناحية وكفوضى ـ أنثروبيا ـ (قياس الفوضى الفيزيائي في الكون) من ناحية أخرى. فالقدرة الربانية لا تتدخل في الكون بعنف رأفة بعباده، وإنما تتدخل فيه رويدا رويدا على المدى البعيد وليس على المدى المتوسط والقصير.

*          *          *

أما المداخلة الخامسة التي أثارت كثيرا من الاستحسان والجدل، تقدم بها أستاذ فلسفة العلوم المساعد بمعهد الدراسات العليا للتجارة جون ستون تحت عنوان << الباراديغمات ـ النماذج ـ الجديدة في العلم وقضية البحث عن المعنى>>.

 بداية اعتبر إن الأنموذج المتبع في الأديان التوحيدية قائم على الفصل بين الخالق والخلق، بالمقابل إن الأنموذج الذي سيطر في العلم متعدد وغير مستقر. فإذا عدنا إلى العلوم الكلاسيكية سنجد أن الباراديغمات أو الأنماط القياسية ـ النماذج ـ التي سيطرت في العلوم تباعا عبر مراحل معينة، اختلفت من عصر إلى عصر آخر، فما كان يعتبر بديهيا ومسلمة في مرحلة، اعتبر في مرحلة أخرى خرافة أو ضرب من التنجيم.

هكذا كان تاريخ العلم أفكارا تصحح أفكارا، بحيث إن أهم ما يميز تاريخ الفكر العلمي بحسب كارل بوبر التكذيب وتصحيح تجاوزه، أو ما اعتبره باشلار الخطأ الذي يتم تصويبه، ما يكفل للعلم التقدم ويفتح أمامه أفاقا أوسع. وبالعودة إلى حيثيات أي أنموذج مثلا، سنجد إن العلم لم يكن يسر في طريق معبد مستقيم، بل يسير في منعرجات ومنحنيات، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان ويصارع فيه الصواب بالخطأ، حتى اصبح ذلك بمثابة قاعدة مستمرة...

فمقابل الزمن والمكان المطلقين التي بشر بها نيوتن، ظهرت نسبية أينشتاين، ومقابل حتمانية أو حتمية الرياضي الفرنسي سيمون بيير دو لبلاس (1749-1827) التي جمعت بين السبب والمسبب (على نحو  يفهم العالم الحالي نتيجة لمرحلته السابقة وباعثا لما سيؤول إليه لاحقا) ظهرت لا حتمية الفيزيائي فيرنر هاينزبرغ(1901- 1976).

 وبين هذا وذاك، يمكن فهم سر التحول العبقري للإنسان الذي كان يفهم "أن العلة والفعل" هما أدوات لا غنى عنها للتفكير في أي فرع من فروع العلم، وأن المادة شيئ صلب جامد. غير إن علماء الفيزياء الكوانطية قلبوا ذلك رأسا على عقب، فـ"الذرة" مادة على الرغم من أننا لا نراها ولا نلمسها، مما مهد لأن تعلمنا الميكانيكا الكوانطية (التكميم) ونظريتها النسبية أن لا شيئا مطلق في هذا العالم وليس ثمة إطلاقية وحيدة للزمان والمكان، كان من أبرز تداعياته الاعتراف بأن المادة ليست شيئا صلبا جامدا نتلمسه (لأن ذلك كان هو مفهوم الميكانيكية للمادة)، بل أصبحت شعاعا وجسيمات وإلكترونات...

ويضرب الباحث مثلا آخر عن التجاوزات التي حصلت في تاريخ النظريات العلمية، فبعدما كنا نعتقد أن المنطق يصوغ حلولا صورية مكتملة كما كان يعتقد عالم الرياضيات دافيد هلبرت (1826- 1934) الذي كان يبحث في أصول الرياضيات عبر المنطق الصوري، لأن القضايا الرياضية الخالصة تستوجب اتفاقا كليا على قواعد وأنظمة صورية إذا احترمناها وصلنا الحقيقة واليقين ضرورة، بحيث بذل جهد غير قليل للعناية بالتحسيب الصوري والتصورات الرياضية والأنساق الشكلية، حتى يمكن اختزال العالم في أنظمة رياضية ومنطقية، طلع علينا  العبقري كورت غودل (1906- 1978) بنظرية محكمة وقوية تبين بأنه لا اكتمال، لا في الأنساق الرياضية ولا في المنطق الصوري، وأن أي نسق صوري مهما بلغت قوته ومتانته توجد فيه قضية لا يمكن إثباتها مطلقا ولا إثبات نفيها، أي غير قابلة للحسم عن طريق الصواب والخطأ، فهي تحتمل الوجهان.

 معنى ذلك استحالة اكتمال أي نسق صوري على وجه المطلق، مما دفعه لتأسيس ما يعرف بـ"نظرية اللاكتمال" التي هزت اليقين الرياضي والمنطقي على حد سواء. لذلك فقوانين الفكر كما يتم تداوله في المنطق ليس بمطلق، بل نسبي.

وعلى صعيد البيولوجيا بعد أن استطاع داروين أن يقدم فهما تطوريا وفق قاعدة النشوء والارتقاء، التي قضت بأن كل أنواع الحياة فروعا لشجرة عائلية ارتقائية، اعتقدنا على إثره زمنا غير قليل أن التطور نتيجة للعملية الاصطفائية، ظهر غودوين بفكرة التطور المزدوج للنشوء، مما أعاد النظر في نظرية داروين التي قالت بأن الصفات المكتسبة تنتقل وراثيا بطريقة حتمية، ليتضح أن التغييرات الوراثية تتم بفعل أسباب عشوائية واحتمالية، فجاك مونو مثلا يعتبر أن الكائن الحي لم يظهر بطريقة ميكانيكية، فالجينات والمورثات أكثر دهاء وتعقيدا.

كل هذه التطورات التي أصابت العلوم الحديثة تترجم حقيقة ما زالت في عداد المجهول، تتجاوز سائر النظريات العلمية للكون، وهو ما تقر به الفيزياء الكوانطية عندما اعترفت  بوجود شيء وراء الزمان والمكان، شيئ لا منتهي ... وأن عالمنا مفتوح على جميع الاحتمالات. مثاله مثل الذي يقول<< إني اشك في ما أقول، وإذا قلت أشك في كوني أشك، هذا يعني أنني لا أشك بأني أشك>>.

وهذه اللاوثوقية واللاحتمانية واللاتعينية والاحتمالية أبعد من الموضوعية وأقرب إلى الذاتية، وهي بالمعنى المعرفي شبيهة بأسس المقاربة الدينية الذاتية المفتوحة في مناجاتها السرمدية للكون. ما دام ليس هناك عقل مطلق ولا زمان ومكان مطلق ولا فيزياء مطلقة ولا منطق مطلق حتى في أعتى وأقوى النظريات الفيزيائية والرياضية. مما يمهد في نظر الباحث بأن نضع للعلم جدار ميتافيزيقي تستند عليه الفيزياء في معالجتها لسر الوجود وروح الظواهر الكونية.

وفي المداخلة الأخيرة قدم جاك أرنود الراهب الدومينيكي المستشار بالمركز الوطني للدراسات الفضائية بحثا حول << العلم والثيولوجيا: طريق واحد للبحث>>، انطلق فيه من ضرورة البحث عن مقاربة تستوعبهما معا، فالعالم متحرك وغير ساكن ومتقلب، يسع كل من المقاربة اللاهوتية والمقاربة العلمية، لكن يجب البحث عن مقاربة شمولية تَسعْهُما جميعا.

والمقاربة التي بوسعها تحقيق ذلك هي المقاربة السياسية العامة، بوصفها فن الممكن، لأنه في هذا الإطار يمكن للمقاربة اللاهوتية أن تتلمس طريقها بدون الخوف من الوقوع في الخطأ أو الدوس على الخطوط الحمراء. فلا جدوى من مقاربة دينية بعيدة عن حَرِّ الواقع وتهيم على نفسها في علياء السماء.

  فإشكالية الخلاص الروحي  مهمة، لكن خلاص البلاد والعباد أهم. بيد إن ذلك لا يعني في نظره هنا الاختيار بين عالم متعالي وعالم أرضي، لأن الذي يهم بالنسبة له هو اقتراب رجل الدين من مشاكل الناس واكتوائه بأسئلتهم وهمومهم الحارقة والمشاركة في الإجابة عنها، والعلم كما الدين لهما في ظل المقاربة السياسية نصيب من المشاركة في بلورة حلول ومخارج. دور يعي أصحابه من خلاله أن ما يجرونه من أبحاث في مختبراتهم لها تداعيات وآثار على قلوب وعقول الناس. لذلك وجب طرح السؤال عن مغزى ما يقومون به، والتخلص من برودة وغسق التقنية اللذان أطبقا على الكون وجعلاه باردا.

 

المصدر: http://www.fustat.com/muawat/paris.shtml

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك