صناعة القدوات

صناعة القدوات

 

د . محمد يوسف الشطي

 

الدولة القوية التي تعمل اليوم على صناعة القدوات في مجتمعاتها، والشركة الرائدة في عصرنا اليوم هي من تصنع القدوات في إداراتها وأقسامها لكي تتفوق على مثيلاتها في السوق، وتنتج أضعاف ما ينتجه الآخرون، وتسوق منتجاتها فوق ما يخطط له أصحاب الشركات المنافسة الكبرى، وذلك لما في إيجاد القدوة في المصنع من أثر في بناء شخصيته، وإنجاز في شركته، ومنافسة مع الآخرين؛ لأن القدوة الحسنة والمنتجة لها أثر كبير في إقبال الناس على شخصياتهم وشركاتهم لما يتمتعون من إخلاص في العمل، وتجرد في الأداء، وتضحية في العطاء، ومنافسة في الفداء، وحرقة في الأحشاء، وأخلاق حسناء؛ مما يولد كسب ثقة الآخرين، وانقيادهم له وتأثر الآخرين به وبعطائه المميز، ومنتجه الأخاذ بالقلوب والسمع والمنظر.

 الحرص على إيجاد القدوة في صفوف شركتنا ومصنعنا ودوائرنا تعد من أفضل الوسائل العملية الحية التي تجسد الكلمات إلى أفعال، والأقوال إلى أعمال، ولذلك أمرنا الله تعالى أن نتأسى بالرسول [، قال الله تعالى: ( قٍلً إن كٍنتٍمً تٍحٌبَونّ اللَّهّ فّاتَّبٌعٍونٌي يٍحًبٌبًكٍمٍ اللَّهٍ(آل عمران:31)، وأيضاً من الوسائل الفاعلة لصناعة القدوات اتخاذ العاملين العالمين الصالحين، فقد عرض القرآن الكريم الكثير من سير الأنبياء والصالحين الذين لهم أثر في مجتمعاتهم، وأمرنا الله تعالى بالاقتداء بهم: (أٍوًلّئٌكّ الّذٌينّ هّدّى اللَّهٍ فّبٌهٍدّاهٍمٍ اقًتّدٌهً(الأنعام:90).

كما على القدوة أن يتصف بصفات القدوة الحسنة، ليرى فيه الآخرون أسوة تقتدى، ومثلاً يحتذى به، يعرفون نقصهم من خلال رؤيتهم لكمال صفات القدوة، وقد قيل: «من لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد»، فالموظف القدوة جدير بأن يكون له أثر إيجابي، ويمكن له في دائرة عمله، وحريٌّ بأن يستخلف في الأرض، ومما يشجع على صناعة القدوات في شركاتنا ووظائفنا عظم ما يترتب على القدوة من الأجور إن كانت في بناء الأوطان، وتعمير المجتمعات، وهداية الآخرين لما فيه صالح الإنسانية جمعاء، فعن أبي هريرة ] قال: قال رسول الله [: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(رواه مسلم).

ركائز القدوة في دوائرنا لكي نسهم في صناعة قدوة منافسة في السوق لا بد أن تقوم هذه القدوة على عدة ركائز في شخصيته، مما ينعكس إيجاباً على وظيفته:

 1- قوة الإيمان وسلامة المعتقد، فعلى قدر إيمانه يكون قوة إنتاجه، وسلامة عطائه، حيث إنه يراقب الله تعالى في عمله ولا يلتفت لنظر مديريه ومراقبيه، فعندئذ أوجدنا قدوات صالحة يعتمد عليها في الإنتاج المحلي والعالمي، قال الله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 1. 15(الحجرات).

 2- حسن الخلق الركيزة الكبرى والعامل الأقوى في صناعة القدوات، حيث إن الناس تحب صاحب الخلق الحسن وتتأثر به، وتنجذب إليه، قال الله تعالى: ( وّلّوً كٍنتّ فّظْا غّلٌيظّ القّلًبٌ لانفّضَوا مٌنً حّوًلٌكّ(آل عمران:159)، وقد كان الرسول [ غاية مبعثه والهدف من رسالته إتمام مكارم الأخلاق، فقال [: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(رواه أحمد في مسنده)، وكان [ ترجمة عملية لأخلاق الإسلام، وصورة حية للفضائل التي دعا إليها القرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن»(رواه مسلم).

 ومن أهم الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الموظف في دائرته حتى يكون رائداً في شركته التي ينتمي لها: الصدق، والأمانة، والصبر، والإخلاص، والبذل، والتواضع، والعفو عند المقدرة، وتحمل المسؤولية، وسعة الصدر.. ويتحلى ببعض المهارات الوظيفية مثل النظرة الثاقبة، والتخطيط الإستراتيجي، والقدرة على الحوار، والقدرة على الابتكار والإبداع، وفن إدارة الاجتماع، وتشجيع الآخرين على الكلام.. وغيرها.

 3- من ركائز القدوة أن يتعلم كل شيء عن مجال تخصصه، كما قال عمر بن الخطاب ]: «تعلموا قبل أن تسودوا»، ويتعلم حتى لو صار مسؤولاً؛ لأن العلم بحر لا ساحل له، ولهذا قال يوسف عليه السلام لمن أراد دعوتهما للتوحيد: ( قّالّ لا يّأًتٌيكٍمّا طّعّامِ تٍرًزّقّانٌهٌ إلاَّ نّبَّأًتٍكٍمّا بٌتّأًوٌيلٌهٌ قّبًلّ أّن يّأًتٌيّكٍمّا ذّلٌكٍمّا مٌمَّا عّلَّمّنٌي رّبٌي(يوسف:37)، فالعامل يحتاج إلى علم حتى يتأكد من صحة خطواته، ويصحح في خطوات الآخرين.

 4- البعد عن مواطن الشبهة، وخوارم المروءة، يحسن للعامل في دائرته الوظيفية أن يكون على درجة عالية من الشفافية والتحسس ليبقى بعيداً عن موارد الظنون ومواقع التأويلات، فقد تأتي بعض الشركات أو الأفراد يعطيك بعض الهدايا والحوافز لتشتري منه بعض المنتجات أو المبيعات فتستحيي أن ترد بضاعته لأنه أعطاك بعض الهدايا والجوائز فتشتري منه أو ترسي عليه المناقصة رفعاً للحرج، مع العلم بأن هناك من الشركات منتجاتها أجود سلعة، وأرخص ثمناً، فكان الأولى أن تكون من سياسة الشركة عدم قبول الهدايا مهما كان ثمنها وجودة عروضها، حتى لا تؤثر تلك الهدايا في نفسية العاملين ويصيبها الأمراض وحب المال والهدايا فتفسد ذمم العاملين، ونقول لهذا العامل الذي قبل الهدايا وأخذ هذه الحوافز: أفلا جلست في بيت أبيك أو أمك؛ أكان يُهدى إليك؟!

 5- موافقة الأقوال للأعمال، فالأقوال التي ليس لها رصيد من الأفعال كالجسد بلا روح، ولهذا فهي باردة هامدة، فإذا سرت فيها روح العمل عادت حيَّة نضرة، تهتز لها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتنجذب إليها الأبصار، قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: اتخذ النبيُّ [ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي [: «إني اتخذت خاتماً من ذهب»، فنبذه، وقال: «إني لن ألبسه أبداً»، فنبذ الناس خواتيمهم. (رواه البخاري)، وأيضاً العامل في الدائرة فعندما يرى قدوته غير مواظب على الحضور والانصراف من عمله، وغير منتجاً، أو أنه يضيع أوقات عمله في غير ما يفيد عمله، ولا يقدم إنجازات مضيئة لشركته، فلا يلوم المسؤول بعد ذلك موظفيه، وعلى هذا تكون المسؤولية على القدوة كبيرة وتحتاج أن يكون سباقاً.

 6- تقديم النفع للناس، مما يتميز به القدوة حبه لإخوانه العاملين، وسعيه لتقديم العون لهم، وتنفيس كرباتهم، ومواساتهم في أحزانهم، وعيادة مريضهم، ومشاركتهم أفراحهم، وقد قال الرسول [: «خير الناس أنفعهم للناس»(صحيح الجامع الصغير)، وقد عاتب الله عز وجل أبا بكر عندما قرر ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً، وأوقف ما كان يعطيه من المال، فلما نزل قوله تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 22(النور)، فقال أبو بكر: نعم يا رب، أحب أن يغفر لي، وأعاد عطاءه لمسطح.

 7- أن يتحلى القدوة بالصبر على العاملين، وألاَّ يضجر من سلوكياتهم وتصرفاتهم بل عليه أن يتعاهدهم حتى يستقيموا، ويكونوا خير عاملين يضرب بهم الأمثال وتنصلح بهم الأحول، وترتقي بهم الشركة في سلم الوظيفة في مصاف الشركات المنافسة.

 من صور الإخلال بالقدوة

 1- التفريط بالفرائض والطاعات، أو يتكاسل عن أدائها، والتساهل في ترك السنن والنوافل والأذكار، وقد قال النبي [: «نعم الرجل عبدالله (أي بن عمر) لو كان يصلي من الليل»(رواه البخاري).

 2- عدم المبالاة بملابسة الشبهات والمكروهات؛ لأن القدوة حريص على طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، يقول الرسول [: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ..»(رواه البخاري).

 3- الإكثار من تتبع الرخص والمسائل الشاذة، قال الإمام الذهبي يرحمه الله تعالى: «ومن تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقَّ دينه»، وقال ابن القيم يرحمه الله: «أهل العزائم بناء أمرهم على الجد والصدق، فالسكون منهم إلى الرخص رجوع وبطالة»، وقد أنكر عمر بن الخطاب ] على طلحة بن عبيدالله ] حين رآه يلبس ثوباً مصبوغاً وهو محرم فقال له: «إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم الناس»، وأيضاً نهى عمر ] عبدالرحمن بن عوف عن لبس الخفين أخذاً بالرخصة في ذلك لخشية عمر أن يتوسع الناس في ذلك، قال عمر: عزمت عليك إلاَّ نزعتهما، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك فيقتدون بك. وفي الختام، ينبغي أن يحرص القدوة أن يتوافق ظاهره مع باطنه، وقوله مع فعله حتى لا يدع مجالاً للآخرين أن يشوهوا صورة القدوة أو المكان الذي يعمل فيه.. اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وهب لما من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=4406&lasttype=3

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك