هكذا يختلف الكبار..الصديق والفاروق

هكذا يختلف الكبار..الصديق والفاروق

محمد عبده

 

الاختلاف في المجتمعات أمر حتمي الحدوث خاصة إذا علمنا أن هذه المجتمعات مجتمعات بشرية لا ملائكية ، مجتمعات إنسانية تُصيب وتُخطئ تسعى إلى الحق وقد لا تدركه كله وتهرب من الباطل وقد تقع في بعضه.

وأفراد هذه المجتمعات قد يكونون مأجورين في كل الأحوال متى خلصت النوايا وصدقت المقاصد ، ولقد قرأت حديثاً تأثرت به أيما تأثير ، وتعلمت منه كثيراً فأردت أن أنقل لإخواني ما فيه من فائدة وما به من خير ، أسأل الله أن يجمع به القلوب ، ويلم به الشمل ، وتتوحد به الكلمة ، وأن يطرد الشيطان ويدحره فلا يكون له مكان في قلوب المتآخين حتى وإن اختلفوا.

يَقُولُ أَبَو الدَّرْدَاءِ : كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا ، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ "

 قَالَ : وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْرِ.

هذا الحديث تتجلى فيه طبيعة من طبائع البشر مهما علت مكانتهم ، ومهما عظم قدرهم ، ومهما كان سبقهم إلى الإسلام ، وأياً كانت مكانتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم الموحى إليه من  رب العالمين.

هذا الاختلاف بين مَن ؟ إنه بين أبي بكر الملقب بالصديق، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، وصاحب الإيمان الذي إن وضع في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة إيمانه ، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته.

وبين عمر بن الخطاب الملقب بالفاروق ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، والذي إن سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غيره، كان إسلامه استجابة لدعوة النبي صبى الله عليه وسلم " اللهم أعز الإسلام بعمر "1 فكانت العزة بإسلامه ، يقول أحد من عايشوه : ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدُّ وأجود حتى انتهى من عمر بن الخطاب ، وهو كذلك المستخلف من أبي بكر الصديق قبل وفاته.

نؤكد ونقول أنه رغم كل هذه المناقب ، والسيرة الذاتية العظيمة إلا أنهما قد اختلفا يوماً ، اختلفا لهذه الدرجة التي يوصد الفاروق الباب في وجه الصديق ، ويرفض المسامحة والمصالحة.

ما يُستفاد من الحديث

(1)

أن الاختلاف أمر طبيعي بين البشر مهما كانت درجة إيمانهم ، لأنهم لن يستطيعوا الخروج عن طبيعتهم البشرية التي خلقهم الله عليها، والذين يرفضون ذلك من شخصيات بعينها يعرفونها ويُقدرونها إنما ذلك يرجع إلى أنهم أنزلوهم منزلة غير منزلتهم البشرية ، وقدّسوهم ووضعوهم في أماكن خاصة في نفوسهم.

وكذلك فإن الاختلاف بين أهل الحق سائغ ومقبول ما دام في حدود الشريعة وضوابطها فلا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الفكري ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب ، وما مبدأ الشورى الذي أقره الإسلام وشدد على تطبيقه إلا تشريعاً لهذا الاختلاف .

(2)

إن أي تجمع إنساني لا غنى له عن التسامح والعفو ، إذ أن الاحتكاك المتبادل قائم بين أفراد هذا التجمع ، والمعاملات مشتركة بينهم في شتى المجالات ، وبدهي أن هذا الاحتكاك لن يخلو يوماً من المشادات كتلك التي وقعت بين الصديق والفاروق.

هذه المشادات منها البسيط ومنها المعقد ، وخُلقا التسامح والعفو هما الخلقان الكفيلان برأب الصدع حال حدوث أيّ اختلاف.

والبعض وللأسف الشديد يتخيل أن التسامح والتنازل عن الحق والعفو عن زلات الآخرين في حقه عجزاً وضعفاً ، والكبار فقط هم الذين لا تعنيهم هذه التفسيرات التي تُسيطر عليها الأهواء  وتُمليها الشياطين ، ويستجيب لها أصحاب النفوس الصغيرة ، أما الذين يُحلقون عالياً ، وسمت نفوسهم ، وتعالت أخلاقهم فهم يتسامحون مع الناس ، ويتساهلون معهم  ليس عن ضعف أو عجز بل عن طمع في أجر وثواب المتسامحين يقول أبو هريرة "يأتي عليكم زمان يخير فيه الرجل بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور"2

وفي هذا الحديث راجع الفاروق نفسه فوجد أنه أخطأ في رفضه للعفو عن أخيه ومسامحته ، ولعله أيضاً تذكر مكانة الصديق وفضله وسبقه فلم يطل الموقف طويلاً حتى أسرع لإدراك صاحبه ومصالحته وقبول عذره فذهب إلى البيت فلم يجده.

(3)

المراجعة وعدم الاعتداد بالرأي أو التمسك به ، فأبو بكر راجع نفسه ولم يعتد بموقفه ، ولم يُصر على خطئه ، وحاول أن يُصلح ما وقع فيه بالاعتذار وطلب العفو من الفاروق

وكذلك فعل الفاروق ، فعندما أغلق على نفسه بابه وراجعها وجد أنه أخطأ في رفض العفو عن صاحبه ، ووجد أن إغلاقه الباب في وجهه أمر لا يليق بالصديق  ، فأسرع صوب بيت أبي بكر يُصالحه ويسترضيه ولكنه لم يجده.

والاعتداد بالرأي والتمسك به من أكبر الآفات التي تهدم العلاقات وتوتر الأجواء ، وتوغر الصدور.

ولا يعني هذا أن يتنازل الأخ عن حقه في إبداء رأيه والدفاع عنه ، ولكن الخطأ الحقيقي أن يتخذ الواحد منا لنفسه قناعات لا يحيد عنها ، أو قرارات لا تقبل المراجعة والتصحيح ، وحينئذ لن يسلم في قراراته من هوى مطغِ أو خطأ مهلك.

فالمشكلة الحقيقية ليست في التمسك بالرأي أو الدفاع عنه، بل الخطأ في الأهواء والمقاصد التي قد تُصاحب النقاش والحوار .

الخطأ الحقيقي هو أن أعتبر رأيي هو الصواب المطلق ، ورأي غيري هو الخطأ المطلق.

الخطأ الحقيقي هو أن يُصاحب إبداء الآراء ووجهات النظر انتفاخ العروق ، وحمرة الوجوه وارتفاع الأصوات.

الخطأ الحقيقي  أن تكون عودتي للحق والصواب مشروطة إما الأخذ برأيي أو لا.

الخطأ الحقيقي أن يتحول دفاعي عن رأيي إلى جدال ومراء لا طائل من ورائه إلا اختلاف العقول، وتنافر النفوس ، وتبادل العداوة والكراهية.

الخطأ الحقيقي أن يكون دفاعي عن رأيي ليس للوصول للحقيقة ، بل لإحراج الطرف الآخر والنيل منه.

 (4)

التواضع الجمّ الذي ظهر عليه الأخوان الحبيبان أبو بكر وعمر ، فمكانة أبو بكر لم تمنعه من تقديم الاعتذار عندما شعر أنه كان الأظلم في تلك المشادة التي حدثت بينه وبين أخيه ، بل ألحَّ عليه في طلب العفو والمسامحة ، حتى أنه لم يكتفِ برفض عمر فأتبعه إلى بيته فكان من عمر ما كان من إغلاق الباب في وجهه.

وعمر عندما شعر بقسوته مع أخيه وراجع نفسه حمله تواضعه على المسارعة إلى بيت أبي بكر لتسوية الخلاف ، والتغافر فيما بينهما.

والحقيقة أن الإيمان الحي في القلوب  كان وراء هذا التواضع وهذه الرغبة المتبادلة في المصالحة ، فالدنيا لم تكن تشغل بالهم بقدر ما كانت الآخرة حاضرة أمام ناظريهم في كل لحظة ، وفي كل وقت ، فواضح من سياق الحديث أن أبا بكر يريد التحلل مما وقع فيه من ظلم في حق صاحبه ، وحرص على ذلك بكل الطرق "فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ" وواضح أيضاً من سياق الحديث أن أبا بكر ذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لشكوى عمر بل للهمّ الذي يسيطر عليه من رفض عمر للعفو عنه.

ونحن اليوم في أحيانٍ كثيرة نسعى ونبذل ونضغط ، وأحياناً نرجو ونقبل الأيادي أن يرضى المخطئ بالاعتراف بخطئه والاعتذار عنه ورغم ذلك لا يحدث.

(5)

ميثاق الأخوة أقوى رغم الاختلاف الذي قد يحدث بين الحين والآخر ، فالحب المتأصل في قلب المتآخين لم يتغير ولم يختلف نتيجة وجهات النظر المتباينة أو الاختلاف الحادث بينهما ، ظهرت معالم هذا الحب وتمكنه في القلب حينما تمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر غضباً لأبي بكر ؟

فأشفق أبو بكر على رفيق دربه ، وصديق عمره ، وحبيب قلبه ، خاف أن يلحق به غضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحرك بعاطفته المملوءة بالحب لأخيه " فجثا على ركبتيه فقال :يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم مرتين " فلم يفرح بتعاطف الرسول معه ، ولم يستطل بوقفة الأمير والقاضي معه ، إنه لا يريد التشفي أو الانتقام ، إنه لا يريد إلا العفو والمسامحة.

وهي حقيقة لابد أن تستقر في قلوب ونفوس ووجدان الإخوان المختلفين مهما كان الاختلاف ، ومهما كانت ظروفه وملابساته ، لأن الاختلاف إلى زوال والأخوة هي الباقية.

(6)

" ولا تنسوا الفضل بينكم " وهي قاعدة لابد من الأخذ بها ووضعها في الاعتبار ، فليس مقبولاً بحال أن تنسينا أخطاء الآخرين فضلهم ومكانتهم وسبقهم وحسن عشرتهم ، وليس من المعقول أن نلج في الخصومة حتى تصل لدرجة العداوة ، بل لابد من التعقل ، وأي خلاف مهما كان عظيماً فإن الحل مرجو ، خاصة إذا كان الاختلاف ليس في أمر قطعي الحرمة ، فلا إنكار في مختلف فيه ، فكلانا في هذه الحالة يحمل جزءاً من الحق وقد نلتقي ونتكامل متى خلصت النوايا وصدقت المقاصد   وستبقى المواقف والأحداث في نفوس كلٍ منا قد نستطيع تجاوزها ، وقد يبقى وغزها في الصدور.

(7)

قبول الأعذار من المخطئين أمر له أهميته ، وضرورة ينبغي أن نعمقها بيننا ، فهي من ناحية تشجيع لمن أخطأ أن يعترف بخطئه ويسعى لإصلاحه ولا يخشى الآخرين ، ومن ناحية أخرى فإن عدم قبول الأعذار فيه ظلم للمخطئ ، وماذا عساه أن يفعل وقد كان قدر الله سابقاً معه ، وهو بشر يُصيب ويُخطئ "كلا بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"3

ولقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الفاروق رفضه لاعتذار أخيه والعفو عنه وقال ترضية لأبي بكر " يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً "

ولم يُحقق فيما وقع من أبي بكر ، وكأن الاعتذار والاعتراف بالخطأ بَجُبُّ الخطأ ويمحوه.

(8)

الوحدة أولى من التفرق على أي لوائح أو قوانين تنظم العمل ، فاللوائح والقوانين وضعها البشر وهي بالتأكيد تحتاج إلى تعديل وتطوير  ، والحركة الإسلامية وهي تؤدي دورها الدعوي لخدمة الإسلام هي بحاجة إلى وضع تلك اللوائح والقوانين التي تكفل انتظام العمل وإنجاحه ، هذه اللوائح والقوانين لا يمكن أن تكون سبباً في الفرقة والتنازع ، واختلاف القلوب والنفوس ، فالملاحظ أن الاختلاف لم يكن أبداً حول أصل من أصول الدين المتفق عليها ، بل كلها أراء واجتهادات ووجهات نظر حول طريقة وأسلوب العمل ، وغاية ما يُقال في كلا الأمرين أن أحدهما راجح والآخر مرجوح.

وهذا لا يستوجب أبداً شق الصف من أجله ، أو الخروج من الجماعة أو على الجماعة لعدم أخذها برأيي ، فالاعتصام بالجماعة والائتلاف فيما بينها من أصول الدين.

يقول بن تيمية : "الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين ، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية ، فكيف يُقدح في الأصل بحفظ الفرع " الفتاوى

(9)

يجب أن نكون في اختلافنا أكثر رقياً وقبولاً للرأي الآخر، دون تجريح أو تشكيك ، بل في أدب وعفة فأصل الاختلاف منشأه الوصول إلى الهدف والرأي السديد.

فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم، وكانت وجهات النظر بينهم مختلفة ومتباينة في كثير من الأمور، غير أنهم لم يفترقوا، ولم يخرجوا من الصف.

فقد كان الاختلاف حول المضي في غزوة بدر ، وكان الاختلاف في الموقف من أسرى بدر ، وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه ، وما تعصب منهم لأحد ولا تحزب ، أو حاول كسب الأنصار وتعاطف المحيطين به ، بل كان الحق غايتهم والمصلحة العامة هدفهم.

وقد يُقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص دون أن يُبدي أي اعتراض أو ترجيح كما في مسألة أمره صلى الله عليه وسلم للصحابة بصلاة العصر في بني قريظة ، فقد صلاها بعضهم في المدينة وبعضهم لم يُصلها إلا بعد صلاة العشاء.

وبعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هناك اختلافات ... حسمت أحياناً كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم  وحول قتال مانعي الزكاة ، وحول جمع القرآن الكريم.

وتارة يبقى الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام والتقدير لبعضهما ، كما في قصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا ، وكما في مسألة إرضاع الكبير بين بن مسعود والأشعري ، وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء ممامسته النار ، واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.

(10)

وهناك مواقف من الرواد في مجال الاختلاف ، عكست نضج الفكر ، وإخلاص القلب ، فهذه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول عن أحد الصحابة وقد اختلفت معه في مسألة :"أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ "

ويقول الشافعي رضي الله عنه " ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة "

ويقول أيضاً :" ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم اجر الحق على قلبه ولسانه ، فإن كان الحق معي اتبعني ، وإذا كان الحق معه اتبعته "

وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً ، وقال الخلاف شر "

وحينما أراد الخليفة العباسي حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه قال له مالك " لا تفعل يا أمير المؤمنين " مراعاة لاجتهادات علماء وأئمة الأقطار الأخرى.

(11)

الشباب والشيوخ ، الحرس القديم والحرس الحديث ، الإصلاحيون والمحافظون ، تقسيمات تظهر ، ومصطلحات تُطلق على فريقين اختلفا حول أمور معينة أو أفكار متباينة أو وجهات نظر مختلفة ، والسبب في ذلك خروج الاختلاف عن دوائره ، فتدخل في إبداء الآراء من لا يعرف حقيقة الاختلاف ، وتعاطف آخرون مع طرف على حساب آخر إما لقناعة برأي وإما تحزباً لفئة دون الأخرى.

هذا التحزب دفع البعض للمغالاة في تحليلاتهم والتي وصل فيها الحد إلى دعوة أحد الفريقين إلى الخروج عن الصف وإيهامه تصريحاً أو تلميحاً أن له أتباعاً وأنصاراً سيقفون خلفه ويُساندونه في أفكاره ومبادئه ، رغم أن فريقيّ الاختلاف أنفسهم ربما لم يفكروا في هذا أبداً ، ولست أدري كيف يُفكر من يطلب هذا الطلب الغريب الذي يُفرق ولا يُجمع ؟؟!

فبدلاً من بذل النصح والسعي للإصلاح بين الفريقين إذا بهم يزيدون من نار الفتنة ، ويشعلون نارها كلما أوشكت على الانطفاء.

يحضرني الآن موقف في السيرة النبوية اختلف فيه فريقان ، ينتمي كل منهما إلى مدرسة ، وإذا أردنا تسمية المدرستين يمكننا وبسهولة ودون تكلف وكما جاء في كتب السيرة أن نقول أنهما جيلان جيل الشباب وجيل الشيوخ ، فلقد اختلف شباب الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الخروج لمقاتلة قريش خارج المدينة في غزوة أحد (كان هذا رأي الشباب ) وبين مقاتلتهم داخل المدينة (وكان هذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كبار الصحابة)

إنهم متفقون على الأصل وهو مقاتلة الغزاة ومحاربتهم ، ولكنهم اختلفوا في الأسلوب والطريقة ، تُرى ماذا لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض رأيهم وأصر على مقاتلتهم داخل المدينة ، هل كان ذلك سيكون سبباً وجيهاً لخروج شباب الصحابة عن الصف ورفضهم للجهاد في سبيل الله ، اللهم لا !!!

بل إن أدبهم الجم دفعهم أن يردوا الأمر ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا قد استكرهوا قائدهم ، والأجمل من ذلك أن كبار الصحابة لمّا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم النزول إلى رأي الشباب لم نرَ تذمراً أو تكتلاً باسم " شيوخ الصحابة " هدفه التشهير بالفريق الآخر ، اللهم إلا الفريق المعروف بالنفاق والذي انسحب من المعركة قبل أن تبدأ.

وهل كان من المقبول أن يخرج شيوخ الصحابة وكبارهم ويتركوا جهاد الكفار لأن ذلك لم يكن رأيهم ، اللهم لا !!!!

ورغم أن نتائج المعركة كانت قاسية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلُم أحداً قط ، ولم يَعزُ الهزيمة إلى الأخذ برأيهم بل نزلت الآيات لتؤكد على الشورى  "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" [آل عمران : 159]

(12)

مسألة تقديس الأفراد والأشخاص قد تكون جزءاً من وصول الاختلاف إلى نقطة اللاعودة في كثير من الأحيان ، فالشخص الذي يرتبط بآخر ويتعلق به ، ويرسم له صورة أقرب للملائكية منها للبشرية تجعله يظن أن فلاناً لا يمكن أن يقع في خطأ أبداً ، حتى إذا حدث يوماً ثمة خطأ قامت الدنيا ولم تقعد.

أذكر أن أخوين كريمين حبيبين تربطهما علاقة تشبه في قوتها وشدة متانتها رباط الزوجية الذي لا ينفصم عراه إلا في أشد الظروف و أعقدها ، هذان الأخوان اختلفا يوماً واستوجب ذلك تدخل الوسطاء للمصالحة والتقريب بينهما ، ولأن هذه العلاقة كان من المستحيل أن يشوبها يوماً ما ما يُعكر صفوها (هكذا كان يظن كل من يعرفهما ) فقد سمعت ممن يعرفهما يقول : لقد كفرت بجميع العلاقات بين الناس.

من هنا وجب التأكيد على أن البشر هم البشر مهما كان ورعهم ، ومهما كان إخلاصهم ، ومهما كان تقواهم وقربهم من الله ، الخطأ منهم وارد ، والوقوع في الزلل منهم متوقع ، وهذا لا يُقلل من شأنهم ، ولا ينتقص من قدرهم.

ومن الضرورة بمكان أن ينتبه أهل السبق والفضل أن الصغيرة منهم كبيرة ، والقليل منهم كثير وما يجوز من الآخرين ويُقبل منهم لا يجوز في حقهم ولا يُستساغ قبوله منهم ، هكذا يُنظر إليهم من الآخرين ، فليحذر الجميع أن يكونوا سبباً في فتنتهم.

(13)

ونختم هذا الموضوع بأن نكون في حال الاختلاف على قدر المسئولية ، وأن نحكِّم عقولنا في كل ما نقول ونسمع ، فلا نتناقل أخباراً ونرددها دون توثيقها أو التأكد منها ، فنشيع الفتنة ونزيد من مساحة الاختلاف القائم.

بل لابد من التريث والصبر والدعاء ، وإذا كان لنا من محاولة فهي محاولة لتقريب وجهات النظر ، والسعي لوحدة الصف ، لا للتحيز مع طرف على حساب الآخر.

كما أن على المختلفين أن يسمعوا لبعضهما بهدوء ، وبعيدا عن الضجيج الإعلامي الذي يعنيه في مقامه الأول السبق الصحفي ، ونشر الأخبار الساخنة التي تُدر عليه ربحاً ، فالإعلام ليس وسيطاً يُرجى من ورائه خير في مجال التقريب بين المختلفين أو الوصول إلى الرشد والصواب .

..................

1 – صحيح ، رواه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح ، وأورده الألباني في صحيح سنن بن ماجه ح رقم 105.

2 – رواه أحمد في مسنده ، والحاكم في المستدرك.

3 – حسن ، رواه الترمذي وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ح رقم 3139.

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=2307&lasttype=1

الأكثر مشاركة في الفيس بوك