فقه الأولويات في العمل الخيري

فقه الأولويات في العمل الخيري

 

بقلم : عبد المنعم صبحي أبو شعيشع

 

لا شك في أن فقه الأولويات هو الضابط لكل الأعمال الدينية والدنيوية, المالية والبدنية, المادية والمعنوية .... أيهما يُقدم وأيهما يُؤخر , على معايير شرعية صحيحة, يهدى إليها نور الوحي, ونور العقل " نُّورٌ عَلَى نُورٍ " سور النور الآية : 35 .

ومن الأعمال الدينية , والأصول الإسلامية التي ينبغي فيها التمسك بفقه الأولويات توزيع الزكاة والصدقات على مستحقيها الحقيقيين بلا طغيان ولا إخسار, لأن الفقراء متفاوتون في أحوالهم, ومتباينون في أوضاعهم, فمنهم القادر على العمل, ومنهم غير القادر, ومنهم العامل, ومنهم العاطل, ومنهم الصحيح, ومنهم المريض, ومنهم المعاف, ومنهم المعاق, ومنهم اليتيم, ومنهم غير اليتيم .... الخ.

ثم إن هؤلاء جميعاً وغيرهم من المحتاجين متفاوتون في حاجتهم, فمنهم الفقير , ومنهم الأفقر , ومنهم المحتاج, ومنهم الأحوج, ومنهم من حالته ملحة , ومنهم من حالته ألح , ومنهم المحتاج إلى الضروريات , ومنهم المحتاج إلى الكماليات , ومنهم من حاجته في الصلب , ومنهم من حاجته في الهامش .... الخ.

وحتى تؤدى المؤسسات الخيرية دورها ورسالتها على الوجه الصحيح الذي يرقى بالمجتمع , وينهض بالأمة , لابد من أن تكون على بينة وبصيرة بفقه الأولويات الذي يجعلها تضع كلَّ شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم دون زيادة أو نقصان .

 

الأولويات في العمل الخيري :

أولاً : أولوية تشغيل القادرين العاطلين على الإعطاء :

لا شك أن عدداً كثيراً من المستفيدين من لجان الزكاة والجمعيات الخيرية قادر على العمل في الحياة , ولو وُجَّه هذا العدد توجيهاً سليماً إلى العمل الصالح المناسب , وتمَّ بالفعل تشغيله لكان خيراً لأصحابه في الدنيا والآخرة , وكان خيراً وبركة للأمة الإسلامية .

والناظر في السنة النبوية يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل القادر على العمل لم يعطه, ووجهه إلى عمل مناسب, درَّ عليه خيراً أدوم وأفضل من المسألة.

فعن أنس رضى الله عنه " أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله , فقال : أما في بيتك شيء , قال : بلى حلس (1) نلبس بعضه ونبسط بعضه , وقعب نشرب فيه الماء , قال ائتني بهما , فأتاه بهما , فأخذهما النبي صلى الله عليه وسلم بيده , وقال من يشترى هذين , قال رجل أنا آخذهما بدرهم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً , قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري , وقال اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك , واشتر بالآخر قدوماً فاتنى به , فأتاه به , فشد به رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده , ثم قال اذهب فاحتطب وبع , ولا أرينك خمسة عشر يوماً , ففعل الرجل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم , فاشترى ببعضها ثوباً , وببعضها طعاماً , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة , إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث , لذي فقر مدقع(2) , أو لذي غرم مفظع(3), أو لذي دم موجع(4) " (5).

وتشغيل العاطلين القادرين على العمل في العصر الحاضر يحتاج إلى دعوة مكثفة من خلال المساجد والمدارس والمعاهد والمراكز والإعلام.... تبين لهم أهمية العمل, وترغب فيه, وتبين فوائده, وترهب من البطالة, وتحذر من المسألة, وتبين أضرارها في الدنيا والآخرة.

ثانياً : أولوية العلم على كل شيء :

لا خلاف في أن أول آيات نزلت, وأول دعوة جاء بها القرآن الكريم الدعوة إلى العلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) سورة العلق الآيات 1: 5.

ومما يؤكد تفضيل العلم على العبادة لأن منفعة العبادة للعابد, ومنفعة العلم للناس جملة من الأحاديث النبوية نذكر منها حديثين فقط :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضل العلم أحب إلىّ من فضل العبادة, وخير دينكم الورع "(6) .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم " (7) .

يقول الدكتور"يوسف القرضاوى" في كتابه " فقه الأولويات ":

( من أهم الأولويات المعتبرة شرعاً : أولوية تقديم العلم على العمل , فالعلم يسبق العمل , وهو دليله ومرشده , وفى حديث معاذ " العلم إمام , والعمل تابعه "(8) .....

وإنما كان العلم مقدماً على العمل, لأنه هو الذي يميز الحق من الباطل في الاعتقادات, والصواب من الخطأ في المقولات, والمسنون من المبتدع في العبادات , والصحيح من الفاسد في المعاملات , والحلال من الحرام في التصرفات , والفضيلة من الرذيلة في الأخلاق , والمقبول من المردود في المعايير , والراجح من المرجوح في الأقوال والأعمال )(9).

ويقول الدكتور القرضاوى في موضع آخر:

( ومن هنا قرر الفقهاء: أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة, بخلاف المتفرغ للعلم, لأنه لا رهبانية في الإسلام, ولأن تفرغ المتعبد لنفسه, وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة)(10).

وعليه فطلاب العلم النافع الفقراء مُقدَّمون على غيرهم في الإعطاء والإنفاق عليهم, كذلك المؤسسات العلمية مقدمة على غيرها من المؤسسات.

ثالثاً : أولوية الواجبات على السنن والنوافل :

ومن الأولويات التي ينبغي الاهتمام بها والتنبه إليها في العمل الخيري تقديم الواجبات مثل تقديم الأطعمة للذين يموتون من الجوع , والمعونة للذين يتعرضون للإبادة الجماعية والتصفية الجسدية , والأدوية للمرضى, وإيواء المشردين , وكفالة الأيتام , ورعاية المسنين , والأرامل, والمعاقين , والذين يتعرضون للغزو التنصيرى ولا يجدون مطعماً , ولا مشرباً , ولا ملبساً , ولا مدرسة , ولا معلماً , ولا داراً للرعاية , ولا مستوصفاً للعلاج , ولا مركزاً للدعوة , ولا كتاباً للقراءة ... كل ذلك مُقدَّم على تكرار الحج والعمرة, والإنفاق على المعتكفين في المساجد, وموائد الرحمن في رمضان, وشراء السواك وتوزيعه لأن ذلك من قبيل السنن والنوافل.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : " في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر, ويبسط لهم في الرزق, ويرجعون محرومين مسلوبين, يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفاز وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه " (11).

وقال أبو نصر التمار : إن رجلاً جاء يودع بشر بن الحرث وقال قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء , فقال له : كم أعددت للنفقة ؟ فقال : ألفى درهم , قال بشر فأي شيء تبتغى بحجك تزهداً أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضات الله ؟ قال : ابتغاء مرضات الله , قال : فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في بيتك وتنفق ألفى درهم وتكون على يقين من مرضات الله تعالى أتفعل ذلك , قال : نعم , قال : اذهب فأعطها عشرة أنفس مديون يقضى دينه , وفقير يرم شعثه , ومعيل يغنى عياله , ومربى يتيم يفرحه , وإن قوى قلبك تعطها واحداً فافعل , فإن إدخالك السرور على قلب المسلم , وإغاثة اللهفان , وكشف الضر , وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام , قم فأخرجها كما أمرناك , وإلا فقل لنا ما في قلبك , فقال يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي , فتبسم بشر - رحمه الله - وأقبل عليه وقال له : المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضى به وطراً فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين(12).

رابعاً : أولوية العمل الدائم على العمل المنقطع :

ومن أهم الأولويات التي ينبغي التركيز عليها في العمل الخيري الاهتمام بالعمل الدائم الذي يُدر دخلاً دائماً يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً على الفقراء والمحتاجين بدلاً من التصدق عليهم بالعطاءات والأموال التي قد تقل وتنقطع أحياناً.

وفى إمكان الجمعيات الخيرية في العصر الحاضر إنشاء المصانع والمشاغل والمخابز والمطاعم والمطابع ودور المناسبات والسيارات ... وتشغيل القادرين من الفقراء والأرامل بأجور يومية أو شهرية حسبما ترى كل جمعية خيرية.

ولا شك أن ذلك أفضل للمتصدَّق عليهم مادياً ومعنوياً, وأفضل للجمعيات الخيرية حيث إنها تُدر دخلاً عليها يرقى بها في أعمال وتطورات أخرى.

والناظر في السنة النبوية الشريفة يجد أحاديث تعطى أولوية للعمل الدائم وإن قل على العمل المنقطع.

خامساً : أولوية العمل المتعدى على القاصر :

ومن أهم الأولويات التي ينبغي أن تراعى في العمل الخيري, وتُقدم شرعاً على غيرها من الأعمال العمل الأكثر نفعاً على غيره, لأن على قدر المنفعة للآخرين يكون ارتقاء المجتمع, وقوة الأمة, وترابطها وتقدمها , ويكون الفضل والأجر من الله تعالى .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحب الناس إلى الله أنفعهم , وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل - سرور تُدخله على مسلم , أو تكشف عنه كربة , أو تقضى عنه ديناً , أو تطرد عنه جوعاً , ولأن أمشىَ مع أخي المسلم في حاجة أحبُّ إلىَّ من أن أعتكف في المسجد شهراً "(13) .

وعلى رأس الأعمال المتعدية النفع التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام انشاءً ورعاية:

الدعوة إلى الله تعالى: بأن ينفق عليها وعلى القائمين بها ومؤسساتها ووسائلها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء "(14).

وتعليم القرآن الكريم : بأن ينفق على شيوخه وطلابه ودوره ومسابقاته .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "(15).

وقضاء الدَّين المطالَب به :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يُظله الله تعالى في ظله فلينظر معسراً أو ليضع له "(16).

وإقامة البيوت للمشردين :

الذين ينامون في الشوارع, ويسكنون المقابر, أطفالاً ونساءً وشيوخاً....

سادساً : أولوية العمل الأطول نفعاً والأبقى أثراً :

فبدلاً من أن تقدم الجمعيات الخيرية للفقراء والمساكين العطاءات المتنوعة المكلفة مادياً ومعنوياً , والمساعدات المالية , وكل ذلك سرعان ما ينتهى , أولى بها أن تُقدم لهم ما هو أطول نفعاً , وأبقى أثراً , مما يمكن أن يُدر عليهم ما ينفعهم الله تعالى به سنين عدداً .

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يُظله الله تعالى في ظله فلينظر معسراً أو ليضع له "(16).

ومن الأمثلة الصحيحة: بدل أن تهدى إلى الفقير أكلة من السمك, أهد له شبكة يصطاد بها السمك.

ومن الأعمال الأطول نفعاً والأبقى أثراً التي يمكن للجمعيات الخيرية تقديمها للفقراء, توزيع الإبل والبقر والغنم وكل ما يدر عليهم من لبنها لهم ولعيالهم , كذلك توزيع الطيور , والخيول , والماكينات , والسيارات الصغيرة الحديثة, وأدوات المطاعم ... الخ.

ولا شك أن العائد على الفقراء من هذه الأعمال أفضل وأكثر من العائد عليهم من أي عطاء أو مساعدة مادية مؤقتة من الجمعية الخيرية.

-------------------------------------------------------------

(1) الحلس : كساء غليظ مما يُداس ويُمتهن من الأكسية .

(2) الفقر المدقع : الفقر الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء وهى الأرض التي لا نبات بها .

(3) الغرم المفظع : الدَّين الشديد الشنيع .

(4) ذو الدم الموجع: هو الذي يتحمل دية عن أحد أقربائه القاتل يدفعها إلى أولياء المقتول, وإذا لم يدفع يُقتل القاتل.

(5) الترغيب والترهيب جـ 3 ص 12 , 13 و رواه الترمذي وقال حديث حسن .

(6) رواه الحاكم عن سعد وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 1 / 92 .

(7) رواه الترمذي رقم ( 2686 ) وقال حسن صحيح غريب .

(8) رواه ابن عبد البر وغيره عن معاذ مرفوعاً وموقوفاً, والصواب وقفه.

(9) فقه الأولويات د / يوسف القرضاوى ص 57 .

(10) فقه الأولويات د / يوسف القرضاوى ص 57

(11) إحياء علوم الدين. للإمام الغزالي حـ 3 ص 397 .

(12) المرجع السابق حـ 3 ص 397.

(13) رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج والطبراني عن ابن عمر وحسنه في صحيح الجامع الصغير 176 .

(14) صحيح مسلم بشرح النووي حـ 16 ص 227 ك العلم . باب من سنن في الإسلام سنة حسنة أو سيئة.

(15) صحيح البخاري مع الفتح حـ 9 ص 74 ك فضائل القرآن . باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه .

(16) سنن ابن ماجه حـ 2 ص 808 ك الصدقات . باب انظار المعسر .

(17) المنحة: العطية.

(18) طروقة فحل : الناقة التي يطرقها الفعل .

(19) رواه أحمد والترمذي عن أبى أمامة , والترمذي عن عدى بن حاتم وحسنه في صحيح الجامع الصغير ( 1109 ) .

 

المصدر: المركز الدولي للأبحاث والدراسات

الأكثر مشاركة في الفيس بوك