حوار مع الدكتور حافظ إسماعيلي علوي - صابر الحباشة

حوار مع الدكتور حافظ إسماعيلي علوي - صابر الحباشة

 

حوار مع الدكتور حافظ إسماعيلي علوي - أستاذ النحو واللسانيات/ جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية- أكادير/ المملكة المغربية

حاوره/صابر الحباشة

لم تعد اللسانيات مادة تعليمية في دراسات اللغة في كليات الآداب بالجامعات العربية، بل أصبح لها مقرراتها ومسالكها ومختصوها. ولكن الملاحظ أن الاهتمام بهذا العلم الحديث (حيث لا يتجاوز عمره القرن الواحد) ظل مظنة كثير من الشبهات لدى قطاع من "التقليديين". ولعل مزيد التعمق في مباحثه قد يعجل من إيلاجه في عمق النظر اللغوي العربي. ولعل البلاد العربية تتفاوت من حيث الانفتاح على اللسانيات أو مزاولتها... ولعل المغرب العربي يشهد في العقود الأخيرة نهضة لسانية معتبرة، جعلت الباحثين العرب يطمحون إلى أن يكون لهم إسهام كوني فيه.

 

في هذا اللقاء نستعرض مع الدكتور حافظ إسماعيلي علوي بعض شواغل البحث اللساني العربي وعددا من محطاته.

في مسعى لوضع حصيلة مقتضبة واستشراف بعض الآفاق

· حبذا لو تعرّف القارئ ببحوثك وبجديد دراساتك في اللسانيات؟

ج. حاولت منذ سنوات أن أسلك مسلكاً بحثياً جديداً في مجال اللسانيات، هذا المسلك بدأه أستاذي الدكتور مصطفى غلفان، وأحاول أن أسير على هديه وأن أطور بعض جوانبه، وفي هذا الاتجاه يمكن أن أصنف جل ما كتبته لحد الآن.

يقوم هذا الاتجاه في عمق تصوره على تتبع حصيلة ما يكتب وينشر في مجال اللسانيات في الثقافة العربية وتقييمه ودراسته دراسة تحليلية نقدية؛ وهذا يعني أن المقاربة المعتمدة إبستمولوجية بالأساس، وهذا جانب، مازالت الثقافة العربية تفتقد إليه على الرغم من أهميته. من محاسن هذا التوجه أنه مكنني من متابعة ما يكتب وينشر في جل مجالات البحث اللساني دون انتقاء

أو تهميش أو إقصاء، وقد نشرتُ في هذا الموضوع أزيد من ثلاثين بحثا في مجلات مغربية وعربية، وصدر لي مؤخرا كتابان جديدان: اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة: دراسة تحليلية نقدية في قضايا التلقي وإشكالاته، دار الكتاب الجديد المتحدة بلبنان 2009م، وكتاب مشترك مع زميلي الدكتور امحمد الملاخ بعنوان: قضايا إبستمولوجية في اللسانيات، الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف بلبنان 2009م.

· هل يمكن أن نتحدث عن مدرسة مغربية أو عربية في اللسانيات؟

ج. بعيدا عن الإقليمية الضيقة، يمكن أن أقول بكل موضوعية إن المغرب متميز في محيطه في مجال اللسانيات، لكني في الوقت نفسه

أرفض رفضا قاطعا الحديث عن مدرسة مغربية أو عربية في مجال اللسانيات؛ لأن اللسانيات لسانيات وكفى، لا يجوز إطلاقا أن نتحدث عن لسانيات مغربية أو لسانيات عربية، ولم أسمع قط من يتحدث عن "لسانيات فرنسية" أو "لسانيات إسبانية"... (بالمعنى المراد هنا)، تماما كما لا يجوز أن نتحدث عن "رياضيات ألمانية"، أو "فيزياء أمريكية"،... فالعلم طابعه كوني، لذلك تجدني في كتابي: "اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة"، أتحاشى استعمال عبارة "اللسانيات العربية"، وأستعمل بديلا عن ذلك "اللسانيات في الثقافة العربية"، والفرق كبير؛ فالمقصود في الاستعمال الثاني هو الوقوف على أهم الخصوصيات الإبستمولوجية والسوسيوثقافية التي وسمت تلقي اللسانيات في ثقافتنا، لا أن أجعل هذا العلم بخصوصية عربية متميزة، لأن هذا النوع من التمييز يكرس إقليمية ضيقة في البحث عديمة الجدوى.

· ما فائدة تطوير العلوم اللسانية التي يمكن أن نُغريَ الساسة وأصحاب القرار بها، ونقدم إليهم هذا العلم، كي لا يبقى طيّ النسيان؟؟

ج. العلوم اللسانية في تطور مستمر شاء من شاء وأبى من أبى، ولا يمكن لأحد أن يوقفها. من المغالطات المتداولة في الثقافة العربية أن "اللسانيات-وبعض العلوم الأخرى- لم تنفتح على محيطها"، وهذه كلمة حق يراد بها باطل، أعتقد أن ما يجب أن يكون هو العكس، أعني تحديدا أن ينفتح المحيط على اللسانيات، وعلى كل العلوم التي يمكن أن تكون مفيدة. لا أحد اليوم يستطيع أن يشكك في أهمية اللسانيات ومكانتها، فهي تقود قاطرة البحث الإنساني المعاصر، وهذا يفرض على الساسة وعلى غيرهم أن ينفتحوا على المعرفة اللسانية لا العكس، فمن أدوات السياسي اللغة، وهذه اللغة هي الموضوع الذي تتناوله اللسانيات بالدراسة والتحليل، لا أعرف كيف يمكن للسياسي أن يكون خطيبا جيدا ومحاججا بارعا إذا لم يكن متحكما في زمام اللغة قبل كل شيء؟؟

 · ما هي أهم مشاريعكم اللسانية التي تعتبرون أنها تقدم مساهمة فعالة في توطين اللسانيات في الحقل العربي بشكل علمي ومنهجي؟

ج. قد يكون من السابق لأوانه أن أتحدث عن مشروع علمي، فأنا في بداية الطريق. أعول كثيرا على كتابي: "اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة"، في لفت انتباه المهتمين باللسانيات، والقراء عموما، إلى المشاكل الحقيقية التي تحول دون تقدم اللسانيات في الثقافة العربية. الكتاب يحاول تشخيص واقع البحث اللساني في ثقافتنا دون مزايدة أو ادعاء. في السياق نفسه أجريت مجموعة من الحوارات مع نخبة من رواد البحث اللساني الحديث، وهي حوارات شاركني في إعدادها زميلي الدكتور وليد العناتي، وقد جمعناها في كتاب بعنوان: "أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات"، الكتاب صدر مؤخرا عن الدار العربية للعلوم، ومنشورات الاختلاف،

ودار الأمان، 2009. وأعتبر الكتابين خطوة أساسية وضرورية لتشخيص مكامن الخلل (الأزمة) في اللسانيات في الثقافة العربية. ويجب أن تلي هذه الخطوة مرحلة التأسيس، وهي مرحلة طويلة ومعقدة، ومن المفروض أن تتدارك أخطاء المراحل السابقة حتى لا تتكرر من جديد. في هذا السياق أشير إلى أني أشتغل مع أستاذي الدكتور مصطفى غلفان وزميلي الدكتور امحمد الملاخ على مشروع مشترك، الهدف منه تقديم اتجاهات البحث اللساني الحديث إلى القارئ العربي بطريقة علمية مضبوطة؛ كما انتهى الدكتور مصطفى غلفان من كتاب تمهيدي يقدم المفاهيم الأساس للسانيات إلى القارئ العربي عموما، كما انتهينا من كتاب مشترك يتتبع أهم التطورات التي عرفتها اللسانيات التوليدية (من النموذج ما قبل المعيار إلى البرنامج الأدنوي)، بمعنى أن الكتاب يعرض حصيلة نصف قرن من البحث في مجال اللسانيات التوليدية، وسيصدر الكتاب قريبا عن عالم الكتب الحديث بالأردن. علاوة على ذلك هناك مشاريع أخرى ننسق من خلالها مع زملاء يشتغلون في مجال المعجم والدلالة والتركيب والفونولوجيا، والمجال مفتوح أمام كل من يرغب في الانضمام إلى هذا المشروع الطموح الذي نرجو أن تتهيأ له الظروف المواتية ليرى النور قريبا.

 · لو حاولنا أن نسلط الضوء على تاريخ اللسانيات المعاصر في الوطن العربي: ما أهم المحطات التي تختصر مسيرة هذا العلم في ربوع لغة الضاد؟

ج. هذا السؤال يختزل جانبا مهما من الأسئلة التي حاولت أن أجيب عنها في الكتاب، وسأجيب باختصار عن سؤالك، وسيجد القارئ الكريم أجوبة ضافية في فصول الكتاب.

يمكن أن ألخص تاريخ اللسانيات في ثقافتنا في ثلاث مراحل أساسية تكاد تكون متداخلة أحيانا:

1. المرحلة التاريخية-المقارنة: ظهر الاتجاه التاريخي-المقارن في كتابات بعض النهضويين من أمثال إبراهيم اليازجي، ورفاعة الطهطاوي، وجرجي زيدان. وعلى الرغم من أهمية الأبحاث التي قدمها كل هؤلاء فإن كتاب جرجي زيدان "الفلسفة اللغوية"، هو الكتاب الذي يحمل بحق بصمات هذه المرحلة، وما يؤسف له أن هذا الكتاب لم يحظ بالأهمية التي يستحقها لاعتبارات كثيرة شرحتها شرحا ضافيا في الكتاب، وأعتبره بدون مزايدة الحجر الأساس لبداية البحث اللساني في الثقافة العربية الحديثة.

2. المرحلة الوصفية: حظيت هذه المرحلة باهتمام كبير في الثقافة العربية، تشهد على ذلك البحوث والدراسات النظرية والتطبيقية الكثيرة التي تمت مراكمتها في الموضوع، لكن هناك عوائق حالت دون استثمارها الاستثمار الأمثل، لاعتبارات كثيرة يطول شرحها أيضا.

3. مرحلة اللسانيات التوليدية واللسانيات الوظيفية: وهي المرحلة التي مازالت مستمرة إلى اليوم، لكن التراكم في هذا المجال على المستوى التطبيقي، خصوصا، مازال يطرح صعوبات جمة.

إن هذه المراحل مجتمعة مكنت من إدخال اللغة العربية في حوار مباشر مع اللغات الأخرى، كما مكنت من تصحيح مجموعة من الآراء والمغالطات التي عرقلت انفتاح اللغة العربية على البحث اللساني الحديث، من قبيل تلك التي تجعل اللغة العربية لغة مقدسة لا يمكن أن تخضع لآليات الوصف والتفسير اللسانيين، وأنه من غير المقبول أن نقاربها بمناهج وضعت أصلا للغات أخرى... لقد استطاعت البحوث اللسانية أن تخدم اللغة العربية كثيرا، وأن تصحح الكثير من معطيات التراث اللغوي العربي، وأن تكشف في الوقت نفسه عن عمق تحليل النحاة واللغويين للكثير من الظواهر، وعن لا جدوى التمييز بين اللسانيات والتراث اللغوي العربي، وافتعال واختلاق الصراع والتعارض والتمايز والقطيعة بينهما.

· هل تجدون في الباحثين الجدد في اللسانيات من يحمل المشعل لمواصلة درب الآباء المؤسسين والرواد؟

ج. بكل تأكيد الخلف موجود، لكن ما يؤسف له أن هذا الخلف ضُيّق ويضيق عليه الخناق، ولم يعط حرية المبادرة، لأن هناك أجيالاً من الباحثين عاشوا حياتهم (العلمية) ويحاولون أن يسرقوا جانبا من حياة الأجيال الشابة، وهذا واقع نعيشه في كل المجالات، وليس في مجال اللسانيات وحدها. لم يعط كثير من الباحثين الشباب الفرصة، وحتى من أعطيها فإنه يحارَب ويضطَهد من مجموعة من العاجزين الخانعين، وهم قلة قليلة لحسن الحظ، الذين يحبون العيش دائما على ذكريات الماضي، ويدعون أن الجيل الجديد حديث عهد بالبحث وبالمرفق الذي يشتغل فيه؛ يؤسفني حقا أن أقول إن كل شيء يقيم ويقوم بـ"الأقدمية"، لا بالكفاءة والاستحقاق والأهلية والمردودين، إن "البكاء على الأطلال" حاضر دائما في كيان الإنسان العربي عموما... ولا أعتقد أن الأمر يختلف من دولة عربية إلى أخرى. قد أكون من المحظوظين جدا، لأني ناقشت أطروحتي لنيل الدكتوراه في زمن معقول (خمس سنوات ونصف السنة تقريبا) لكن هناك مجموعة من الباحثين الذين ظلوا تحت الوصاية العلمية للمشرف أزيد من عشر سنوات، وخصوصا في إطار تحضير دكتوراه الدولة، منهم من لم يناقش بعد، وحتى الأطاريح التي نوقشت فإن أغلبها ما زال حبيس الرفوف على الرغم من المجهود الكبير الذي بذل فيها. الأكيد أن هذا يرهق الباحث كثيرا، ويقيد حريته، ويحد من حركيته، ويقتل فيه روح البحث والمبادرة، ويولد لديه إحساسا بالإحباط والخيبة، ... تنضاف إلى ذلك أسباب أخرى ترتبط بالوضع السوسيوثقافي العام، فالمجتمع لا يبحث ولا يقرأ، والسوق اللسانية سوق راكدة، زد على ذلك معاناة النشر وسوء التوزيع، وهضم الحقوق... ومن المؤسف حقا أن نجد أقلاما جادة ومتميزة صرفت النظر عن الكتابة والتأليف للأسباب السابقة، ولأسباب أخرى غيرها، والحديث بهذا الخصوص ذو شجون.

لكن وعلى الرغم من كل ما ذكرت فالأكيد أن هناك طاقات تشتغل في صمت وبالجدية والعمق المطلوبين، وهناك أسماء شابة معروفة الآن في الوطن العربي تشق طريقها بنجاح رغم كل المثبطات، وأقول بكل ثقة إن هؤلاء يمكن أن يعول عليهم كثيرا في حمل المشعل إذا منحوا الفرصة لإثبات الذات وحظوا بالثقة الكافية.

· في نظرة نقدية للواقع العلمي في اللسانيات خاصة والعلوم الإنسانية عامة، ماذا يمكن أن نقول؟

ج. إذا فهمت المقصود من سؤالك، لا أظن أن أحدا يستطيع أن يشكك اليوم في علمية اللسانيات، وعندما أقول: "علمية"، فإني أعني بذلك أنها تخضع لشروط العلم ومقتضياته (الملاحظة، ووضع الفرضيات وفحصها، والتجريب والدقة والشمولية والموضوعية. وهذه الخصائص هي التي تميز اللسانيات عن الدراسات اللغوية القديمة). وتكمن أهمية علم اللسانيات في أنه يقدم دراسة علمية للغات البشرية كافة؛ بحيث تخضع للضبط والتجريب والموضوعية، بهدف بناء صيغة علمية "بمفهوم العلم الفيزيائي" لدراسة بنية اللغات البشرية والتوصل إلى صيغ رياضية تجريدية قادرة على وصف هذه اللغات وشرحها بدقة، بحيث يمكننا بعدها مباشرة من الاستفادة التطبيقية لهذا العلم في مجالات حياتية كثيرة. إن الوعي بهذا الشرط الإبستمولوجي للعلم شبه غائب في الثقافة العربية، ولذلك لم تستفد ثقافتنا من اللسانيات والعلوم الإنسانية عموما، كما استفاد الغرب منها، ففي الوقت الذي نجد الغرب يوظف أحدث ما يتوصل إليه في مجال اللسانيات والعلوم الإنسانية توظيفا علميا، في قطاعات مختلفة (تربوية: تعليم اللغة الأم لأبنائها ولغير أبنائها، والترجمة الآلية، والحوسبة الآلية، والاستفادة من الجانب الاجتماعي في دراسة اللغة ...) لا نجد أثرا من كل هذا في الثقافة العربية؛ إذ يظل تأثير اللسانيات والعلوم الإنسانية عموما شبه غائب في ثقافتنا، وكأنه كتب علينا أن تبقى هذه العلوم في ثقافتنا علوما نظرية صرفا، وحقولا لتأجيج الصراع والاختلاف.

· هل يمكن توقع إسهام عربي في اللسانيات العالمية، الآن أو مستقبلا؟

ج. هذا الإسهام ممكن، بل هو موجود فعلا، لكننا لا نعرفه، والسبب بسيط هو أننا نجهل الباحثين العرب الذين يكتبون باللغات الأخرى، ويكفي أن ترجع إلى أي مؤلف صادر حديثا في مجال اللسانيات باللغات الأجنبية فستجد من المراجع والإحالات ما يؤكد زعمي هذا. زد على ذلك أننا نجد من الباحثين من يشهد لهم بالفضل في تطوير اللسانيات، يمكن أن أشير هنا إلى إسهامات الفاسي الفهري في اللسانيات التوليدية، وإسهامات أحمد المتوكل في اللسانيات الوظيفية، وهذا أمر يعترف به رائد اللسانيات الوظيفية سيمون ديك، وقد أشار إليه في أكثر من سياق، كما أن هناك بعض مجالات البحث اللساني الدقيقة التي نجد فيها حضورا لافتا لبعض اللسانيين، ويمكن أن أمثل هنا باللساني المغربي محمد المدلاوي، الذي نجد له إسهامات في المجال الفونولوجي معروفة عالميا، والأمر نفسه يصدق على باحثين آخرين في مجال التركيب والدلالة والسوسيولسانيات... لا يتسع المجال لذكرهم.

· ما قيمة الكتب العلمية الجماعية: هل من نفع لها في مقابل الكتب التي ينفرد بتأليفها مؤلف واحد؟

ج. الكتب الجماعية تقليد غربي معروف، وطريقة في التأليف أثبتت مجموعة من التجارب أهميتها وجدواها، وما يؤسف له أن هذا النوع من التأليف شبه منعدم في الثقافة العربية، على الرغم من توافر مجموعة من المحفزات تجعل هذا النوع من التأليف في ثقافتنا ممكنا، بل وضروريا. دعني أجيب عن سؤالك من خلال تجربة شخصية: قبل نصف سنة تقريبا عنَّت لي فكرة إعداد كتاب جماعي في موضوع أعتبره من المواضيع الأكثر حضورا في الثقافة الغربية اليوم: أقصد الدراسات الحجاجية، كان هذا المشروع في البداية مجرد فكرة/حلم، ثم بدأ يكبر رويدا رويدا، والنتيجة؟

النتيجة: كتاب يصل إلى قرابة ألفي صفحة، شارك فيه نخبة من الباحثين (أزيد من أربعين باحثا) يمثلون كل الدول العربية تقريبا، منهم الرواد ومنهم الشباب الذين يستهويهم هذا المجال من البحث. يقع الكتاب في خمسة أقسام (1. الحجاج: حدود وتعريفات، 2. الحجاج: مدارس وأعلام، 3. الحجاج وحوار التخصصات، 4. الحجاج والمراس، 5. نصوص مترجمة). هذا المشروع سيكون رائدا بكل تأكيد، ومثل هذه المشاريع يجب أن تحتضنها مؤسسات علمية كبيرة، لأنها جد مكلفة. صحيح أن إعداد الكتاب كلَّفني الكثير، لكن رغم كل الصعوبات والمثبطات فقد واصلت المشروع بتفاؤل كبير وبجدية وطموح، وكان الهم الذي يراودني في كل لحظة هو أن أقدم للقارئ العربي كتابا يغنيه عن سواه في مجال من أهم مجالات المعرفة الإنسانية حاضرا ومستقبلا. لقد جعلني هذا العمل أوقن وأؤمن إيمانا راسخا أن الحدود بين الأقطار العربية هي حدود جغرافية استعمارية بالأساس، وأن الباحثين العرب يتقاسمون الهموم نفسها والتطلعات ذاتها، وأنه لا أحد منهم يمكن أن يتأخر في شيء من شأنه أن يخدم ثقافتنا الأصيلة. ومن هذا المنبر أشكر كل الذين شاركوا في هذا الكتاب على انضباطهم وحسن تعاونهم، وأبشر القارئ العربي بقرب صدور هذا الكتاب عن دار عالم الكتب الحديث بالأردن.

س. لو طلبت منك أن تعطينا تقييما في سطور قليلة لبعض الأعلام في اللسانيات العربية ماذا تقول؟

ج. قبل أن أجيب أقول إنه من حسن حظي أن كل من ذكرتهم ربطتني وتربطني بهم علاقة ما، وقد سبق وأن حدثتك عن كتاب: "أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات" الذي شارك فيه جل هؤلاء الأعلام.

1/ عبد القادر الفاسي الفهري: كنت من طلبة الأستاذ الفاسي الفهري في مرحلة الدراسات العليا، وقد أشرف على بحثي عن "الضمائر في اللغة العربية: مسائل في التمثيل والتخصيص والتصنيف"، وهو البحث الذي نلت به شهادة الدراسات المعمقة في اللسانيات بكلية الآداب بالرباط. كانت هذه المرحلة من أهم مراحل تكويني، فعلى يد الأستاذ الفاسي، وأساتذة آخرين، تعلمت أصول البحث العلمي الرصين. وأقول بكل صدق إن الرجل من أهم مؤسسي البحث اللساني في المغرب وفي الوطن العربي، كما تشهد على ذلك كتبه وأبحاثه القيمة.

2/ أحمد المتوكل: تجمعني بالأستاذ أحمد المتوكل علاقة طيبة، صحيح أني لم أدرس على يديه، لكن كتبه مكنتني من الاطلاع على جانب مهم من البحث اللساني المعاصر (اللسانيات الوظيفية). الأستاذ أحمد المتوكل رجل خفيف الظل، طيب القلب، متعاون بشكل كبير، فعلى الرغم من فارق السن الكبير بيننا فإني أجد فيه دائما أريحية الصديق، وتوجيه الأستاذ، ونصح الأب. وأرجو أن تعطى مؤلفات الرجل ما تستحق من عناية واهتمام.

3/ تمام حسان: التقيت الدكتور تمام حسان السنة الماضية في مدينة وجدَة المغربية، حيث شاركنا هناك في مؤتمر علمي، قضيت بمعية هذا الشيخ الوقور ساعات، كنت أحس دائما أن هذا "الهرم" يجسد بوضوح أخلاق العلماء وتواضعهم. إنه يستحق كل التكريم وكل التقدير وكل الوفاء، وأرجو له صادقا طول العمر وموفور الصحة والعافية.

4/ عبد السلام المسدي: أعرف الدكتور المسدي من خلال بعض كتاباته، فقد اطلعت على جل مؤلفاته، وتواصلت معه هاتفيا أكثر من مرة، كنت أود دائما أن أتعرف على الرجل عن قرب، لكني لم أنجح في ذلك. ولا أخفيك سرا إذا قلت إني لا أعرف في أي اتجاه لساني أصنف كتابات الدكتور المسدي لحد الآن؛ فبعض كتاباته يندرج ضمن ما يسمى "لسانيات التراث" (التفكير اللساني في الحضارة العربية)، وبعضها كتب تمهيدية، وبعضها الآخر أقرب إلى مجال الأدب منه إلى اللسانيات، لكن كل هذا لا ينقص من أهمية هذه المؤلفات ولا من مكانة صاحبها.

5/ الطيب البكوش: قد تكون كتابات الأستاذ البكوش قليلة، لكني أعتبره من المفكرين الكبار في العالم العربي. هذا ما قرأته بين سطور الحوار الذي أجريته معه ونشر في كتاب أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات.

6/ مازن الوعر: الدكتور مازن رحمة الله عليه من أطيب الخلق، تواصلت معه أكثر من مرة، كان رائعا حقا، كانت ابتسامته تعلو كلما تحدثنا في شيء، أذكر التفاتته الطيبة عندما طلبت منه أن يشاركنا في كتاب الحوارات، فأرسل لي مجموعة من الوثائق والملفات مازلت أحتفظ بها إلى اليوم. كان بحق رجلا عالما وأستاذا فاضلا، وهذا ما تشهد عليه كتاباته التي قدمت الكثير إلى القارئ العربي. تغمد الله الفقيد برحمته الواسعة.

7/ مصطفى غلفان: دعني أقول بصدق إن إشراف الدكتور مصطفى غلفان على أطروحتي لنيل الدكتوراه لم يغير فقط في توجهي وأفكاري، بل غير مسار حياتي بكامله. وجدت في هذا الرجل الأستاذ والصديق والأخ والأب...، وما وصلت إليه من نجاح فهو بتوفيق من الله عز وجل، وبفضل أستاذي الفاضل، الذي تجمعني به علاقة علمية وإنسانية أكثر من رائعة. الدكتور غلفان يحب أن يشتغل بصمت بعيدا عن الأضواء، لكني أعتقد أن ما قدمه ويقدمه في مجال اللسانيات يحظى باحترام وتقدير كبيرين.

8/ حمزة بن قبلان المزيني: تجمعني بالدكتور حمزة علاقة طيبة جدا، لهذا الرجل محبة ومعزة خاصة في قلبي، أحيانا أفسرها بحسن تعامله وتعاونه، وأفسرها أحيانا أخرى بغيرته على ثقافتنا: ألم يترجم الرجل أمهات الكتب اللسانية التي تحتاج ترجمتها إلى فريق عمل كبير، ومؤسسة بإمكانيات ضخمة؟؟. لن أنسى ما حييت أنه أهداني بعد أول تواصل بيني وبينه نسخة من جميع مؤلفاته وترجماته، ومازلت إلى الآن أستشيره في كل ما استعصى علي، دون أن أحس منه بنفور أو تردد. إنه مثال للتواضع والتضحية والعطاء.

9/ نهاد الموسى: أعرف الدكتور نهاد من خلال أحد طلبته زميلي العزيز الدكتور وليد العناتي، وقد أهداني مجموعة من كتبه عن طريق هذا الزميل. ومن جميل الصدف أني حضرت السنة الماضية مؤتمرا عن تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها نظمته الجامعة الأردنية، كان الأستاذ نهاد هو صاحب فكرة المؤتمر باعتباره رئيسا للقسم. دعاني الرجل إلى مكتبه وتحدثنا لساعات طويلة، ثم طلب مني أن ألقي محاضرة في الجامعة الأردنية عن البحث اللساني في المغرب العربي، كل ما كان يشغلني حينها هو كيف أتحدث أمام علَم من أعلام اللسانيات في الثقافة العربية، حاولت أن أعتذر، لكنه ألح، ومن الذكريات الجميلة التي سأعتز بها ما حييت إشادة الدكتور نهاد بالمحاضرة التي وصل صداها إلى المغرب. ولا أخفيك سرا إذا قلت لك إن اعتزازي وسعادتي بشهادة الدكتور نهاد الموسى والدكتور حمزة بن قبلان المزيني والدكتور مصطفى غلفان التي أثثت كتابي "اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة" لا تعدلها سعادة أخرى، إني أعتز بذلك ما حييت.

وفي الختام أشكرك أخي الأستاذ صابر على هذه الالتفاتة الكريمة، وأرجو لك ولهذا المنبر الذي يهتم بأصوات الشباب مزيدا من النجاح والتألق والعطاء.

--------------

(*) نشر بمجلة الرافد، مجلة شهرية ثقافية جامعة تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، شوال 1430 هـ، أكتوبر 2009م. (بتصرف)

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك