البيئة وأخلاقياتها بين الشرائع السماوية والتيارات الفلسفية

البيئة وأخلاقياتها بين الشرائع السماوية والتيارات الفلسفية

 

* عصام محمد عبد الشافي

 

البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي مهد وجوده، وحامل تاريخه منذ نشأته وعلى مرّ أجياله، ووعاء مستقبله إلى نهاية وجوده، وهي المسرح الذي يؤدّي عليه ما كُلّف به، لذلك تحتل البيئة شّأناً عظيماً في تفكيره، والاهتمام الكبير في سلوكه، ابتداء من لحظة نشأته عليها، واستمرارا طيلة وجوده فيها، ولكن مع تغيّرٍ في طبيعة الاهتمام وأشكاله بحسب تغيّر تلك الظّروف والأحوال. ولم يكن اهتمام الإنسان اهتماما نظريّا بالبيئة متأخّرا كثيرا على اهتمامه العملي بها، فقد بدأ منذ وقت مبكّر من حياته يرصد الموجودات والمظاهر البيئيّة من حوله، ويحاول أن يجد لها تفسيرا في تصوّرات أسطورية لتلك الموجودات والمظاهر يبتدعها الخيال، ثمّ تطوّر ذلك إلى تفسير بتصوّرات فلسفيّة من تأمّلات العقل تعاقبت حلقاتها عبر الزّمن، وكانت أثناء ذلك كلّه تنزل الأديان السّماويّة بتصوّرات تفسّر البيئة على أساس عقدي ظلّت تتراوح في الأذهان بين النّسيان والذّكر حتّى انتهت إلى الدّيانات الثّلاث الكبرى التي شكّلت التّصوّر البيئي لدى الإنسان على نطاق واسع. إنهّ تاريخ طويل يمتدّ على طول تاريخ الإنسان نفسه، وإن اختلفت حلقاته وتطوّرت باختلاف مراحل الحياة وأطوارها، ولكنّ هذا الاهتمام بالبيئة ظلّ زمنا طويلا مطويّا ضمن النّسيج الثّقافي العامّ للإنسان يتصرّف به في تعامله السّلوكي مع البيئة وفي تفسيره النّظري لها ضمن ما يتصرّف به في جملة حياته سلوكيا ونظريا دون أن يُفرد له في المنظومة المعرفيّة فرع خاصّ مثل سائر فروع المعرفة الأخرى([1]). وفي القرن الأخير شهد الاهتمام بالبيئة تطوّرا نوعيّا، إذ بدأ يستقلّ بنفسه عمّا كان عليه من سريان في النّسيج الثّقافي العامّ ليتشكّل فرعا معرفيّا خاصّا له قوامه وأصوله وقواعده وقضاياه مثل سائر فروع العلم الأخرى، وذلك في تواصل مع تلك الفروع العلمية بحسب قربها منه وبعدها عنه في طبيعتها، وفي تواصل أيضا مع ذلك النّسيج الثّقافي ولكن من موقع متميّز غير الموقع الذي كان فيه الاهتمام بالبيئة ساريا فيه على غير تميّز معرفي. وذلك العلم هو ما أصبح يُعرف بعلم البيئة. ومن أهم أسباب تطوّر الاهتمام بالبيئة إلى أن أصبح علما مستـقلاّ، ما أحدثته الثّورة الصّناعية على مدى القرنين الماضيين بالأخصّ من أثر سلبيّ في البيئة الطّبيعيّة جرّاءَ الاستنزاف لمواردها والتّغيير في بنيتها والتّدخّل في نظامها، ممّا نشأ عنه ظواهر من الاختلال في التّوازن، ومظاهر من التّلوّث في الكثير من المرافق الضّروريّة للحياة، وقد ظلّت تلك الظّواهر وهذه المظاهر تتكاثر في أنواعها وتتفاقم في أحجامها، باطّراد حتّى بلغت حدّا أصبحت به نذير دمار شامل للبيئة، ونذير فناء للحياة الإنسانية. والبيئة وما يرتبط بها من قضايا قبل أن تكون محوراً للتحليلات العلمية، فإنها تشكل محوراً أساسياً من محاور القيم الأخلاقية التي دعت إليها الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، فالبيئة وما يرتبط بها من أخلاقيات، تشكل الأساس والمنطلق لما استجد بعد ذلك من علوم وتصنيفات. ومن هنا يزيد من أهمية هذه الدراسة: تزايد الاهتمام بالمكونات الأخلاقية والروحية في مختلف المجالات الحياتية، ومنها علوم البيئة، وما يرتبط بها قضايا، وتزايد الأخطار التي يواجهها العالم المعاصر من جراء تلوث البيئة، وارتباط مواجهة هذا التلوث المتفاقم، بتنمية القيم الأخلاقية فيما يتعلق بالبيئة وحمايتها، وخاصة تلك المستمدة من الشرائع الدينية والتيارات الفكرية المعاصرة.

 

أولاً: الأخلاق البيئة بين اللغة والمصطلح:

تعد مسألة السلوك الأخلاقي بمثابة الركيزة الأساسية التي يقوم عليها أي نشاط إنساني، فهي القوة التي تنظم الحياة الاجتماعية من كل جوانبها، ومن هنا فإن افتقاد الإنسان للسلوك الأخلاقي الطيب، ينعكس وبصورة سلبية على تعاملاته فربما يكون سببا في إحداث أي نوع من أنواع التلوث في البيئة التي يعيش فيها، ولأن البيئة النظيفة تحتاج إلى إنسان لديه من القيم الخلقية ما يجعله يغار على تلك البيئة ويسعى جاهدا للمحافظة عليها، باذلا جهده ووقته وماله من أجل خدمتها والدفاع عنها .

ومعيار الاهتمام بالبيئة يتمثل بالدرجة الأولى في وجود مجموعة من القيم الخلقية التي يتمثلها الإنسان ويعبر عنها في سلوكه، وعلى سبيل المثال فإن قيمة النظافة تجعل الإنسان يمتنع عن إلقاء المخلفات في الشارع أو في أي مكان من الأماكن الغير مخصصة لإلقاء تلك المخلفات، وهو على  قناعة بما يفعل .

كذلك فإن الصدق كقيمة وفضيلة من الفضائل الهامة التي يتمثلها الإنسان تجعله لا يكذب أبدا مهما كانت الظروف والمبررات، وعن أهمية الخلق فقد أشاد الإسلام بالخلق الحسن ودعا إلى تربيته في المسلمين وتنمية نفوسهم، وفى ذلك نجد الحق تبارك وتعالى قد أثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 119)، وقد أخرج أحمد وابن حبان عن ابن عمرو "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: أحسنكم خلقا"، وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والطبراني بسند جيد عن أنس قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله قال: عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلها".

فالأخلاق عنوانها الرحمة، الرحمة من الإنسان لأخيه الإنسان، والرحمة من الإنسان للحيوان، والرحمة من الإنسان للطبيعة فلا يعبث بثرواتها التي هي خيرات أمده الله بها، ويكفى أن نعلم أن عدم التفريط بالثروة وصل لدرجة عدم الإسراف بالماء عند الوضوء حتى لو كان المسلم يتوضأ من ماء نهر جار، والرحمة مطلوبة أيضا من الإنسان لنفسه، فلا يطلب منه أن يحمل مالا يطيق، فالقاعدة (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) .

وقد جاءت الأديان كلها بالدعوة إلى الإعداد الخلقي للنّاس، وجعلته على قمة أهدافها التوجيهية والتربويّة، وقد أكّد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأهمية الإعداد الخلقي للشباب أنّ الأخلاق مجالها الحياة كلّها، وسلوك الإنسان كلّه، وعلاقاته بربه وبنفسه وبالآخرين؛ بل وبالمخلوقات كلها.

فالإعداد الخلقي للشباب هو الذي يجعل من الصفات الحسنة، عادات في سلوك الشباب وحركته الدائبة، كما تجعله نافراً في سلوكه اليومي من الصفات السيئة، وبهذا الإعداد يتجنب الشباب مظاهر غير مرغوبة في السلوك الإنساني.

ولكن المتأمل في واقع المجتمع في العصر الحالي يلمس مدى التدهور الأخلاقي وانعدام العديد من القيم التي كانت تميز ذلك المجتمع، ولعل الحديث عن مظاهر التلوث البيئي، يرجع السبب المباشر في حدوثها إلى الإنسان، ولو أحسن تربيته تربية أخلاقية بمفهومها الشامل لما أقدم على فعل ذلك، ولهذا وجب علينا أن نركز على دراسة السبب الأساسي وراء تلوث البيئة قبل أن ندرس مظاهر التلوث، والسبب المباشر يتمثل في عدم وجود تربية أخلاقية، وبالتالي وجود تلوث خلقي. وفي هذا الإطار، وعند تناول أخلاقيات البيئة، تبرز أهمية تحليل مفهومي "الأخلاق"، و"البيئة"، ويمكن ذلك علي النحو التالي:

1ـ مفهوم الأخلاق:

ليس ثَمَّةَ إجماعٌ بَيْنَ المفكِّرين على تعريف الأخلاق تعريفاً جامعاً مانعاً بالمعنى المنطقي، شأنها في ذلك شأن جلِّ الاصطلاحات والمفاهيم المستخدمة في العلوم الاجتماعيَّة، فهي تطلق مثلاً على السُّلوك الفرديِّ المتوافق مع أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده السَّائدة، "كما تطلق على قواعد السُّلوك وأسلوب المرء وطريقته في الحياة"([2])، ويرى البعض أنَّ الخلق "هو العادة، والسَّجيَّة، والطبع، والمروءة، والدِّين"([3])، وتتَّخذ أيضاً صيغةً عرفيَّةً لتدلَّ على أخلاق فئةٍ من النَّاس تجمعهم مهنةٌ أو صفةٌ معيَّنةٌ، فيقال لذلك: أخلاق المعلمين وأخلاق الأطباء وأخلاق المحامين، مع التأكيد علي الدَّلالة الاجتماعيَّة للأخلاق من حيث اتجاهها للاقتران بالعادات والأعراف والتَّقاليد المؤطَّرة بزمانٍ ومكانٍ محددين([4])، ثُمَّ كذلك المنحى الدِّيني الذي يربط الأخلاق بالحلال والحرام.‏

ومن هنا يمكن القول أن الخلق هو كلُّ سلوكٍ بشريٍّ معنويٍّ يمكن نعته بأنَّه خيرٌ أو شرٌّ. وهذا التَّعريف في اعتقادنا هو الأكثر جَمعاً للنِّقاط المشتركة والأساسيَّة بَيْنَ مختلف الاتجاهات.‏

والأخلاق في جانبها العملي أمر مكتسب يخضع للممارسة والتعود حتى يتطابق مع النظريّ المجرد، وإذا كانت التربية تتناول قوى الإنسان وملكاته فإنّ عمل الأخلاق هو توجيه هذه الملكات والأعمال نحو الاستقامة، وجعلها عادات سلوكيّة راسخة، لذلك كله فإنّ إعداد الشباب إعدادًا خُلُقياً يحتاج إلى أن نحدّد أولاً الأهداف التي نسعى إليها ثم الوسائل الموصلة إلى الأهداف، وتتمثل هذه الأهداف في:

(أ) تغيير الاتجاهات النفسيّة والفكريّة المتعارضة مع السلوك الاجتماعي المرغوب فيه إلى التغيير المرغوب فيه، والمتناسب مع عقيدة المجتمع، وقيمه، ومظاهر سلوكه الخلقي؛ وهذا يقتضي إزالة التناقض بين الأنظمة والقوانين المسيّرة للحياة من ناحية، ورغبات المجتمع وتطلعاته وآماله المستمدة من عقيدته أخلاقه من ناحية أخرى حيث تعاني مجتمعاتنا من تباين القوى والعوامل المؤثرة فيه، والموجّهة لسلوك الشباب؛ حيث تتعدد الاتجاهات السلوكية وتتعارض كثيراً.

(ب) ربط التقدم الاقتصادي، والتكيّف الاجتماعي بالأخلاق، فالتقدّم الاقتصادي لا يعتمد على ما تملك الأمة من إمكانات مادية، وقوى بشرية متعلمة مدربة فحسب، بل على ما يتحلّى به الأفراد العاملون المنتجون من سلوك أخلاقي يحكم علاقات الإنتاج، ويحقق التعاون، ويعمق الإحساس بالمسؤولية، ويصون الحقوق العامة والخاصة، ثم ما يساعد الأفراد على زيادة التكيّف الاجتماعي والتوافق النفسي في المجتمع.

(ج) تحقيق التوازن بين القيم الأخلاقيّة النظريّة والقيم الممارسة في المجتمع، والأخذ من العادات والتقاليد بما يتمشى مع قيم الإسلام الثابتة؛ التي يتطور الناس ليرتقوا إليها وليمارسوها في صور أفضل من ممارستها في أجواء الجهل والتخلف. وهذا التوازن هو الذي يحقق ما يسمى بالتكيّف مع المتغيرات، ويساعد على إعادة النظر في العادات والتقاليد الاجتماعية لتتطابق كلها مع قيم الحياة التي يتطور الناس حولها، ويغيّرون من أساليبهم وطرقهم لملاءمتها([5]).

2ـ مفهوم البيئة:

شاع استخدام لفظة " البيئة " في السنوات الأخيرة، بحيث تجرى على ألسنة العامة والخاصة، وأفرط الكثيرون في استعمالها، وظهرت مصطلحات من قبيل "البيئة الاجتماعية " و"البيئة الثقافية" ([6]) و"البيئة السياسية" و"البيئة الاقتصادية"، و"البيئة الحضرية"، و"البيئة العمرانية "، و"البيئة الهوائية"، و"البيئة الصحراوية" و"البيئة البرية" و"البيئة البحرية"  ... إلخ، حتى يخيل أن هذه الكلمة باتت ترتبط بجميع نواحي الحياة، ورغم ذلك، فإن المفهوم الدقيق لكلمة "البيئة" ما يزال يشوبه الغموض للكثيرين، لا سيما وأنه ليس هناك تعريف واحد محدد، يبين ماهية البيئة.

(أ‌)    المفهوم اللغوي للبيئة:

(1) في اللغة العربية:

يعود الأصل اللغوي لكلمة "البيئة " في اللغة العربية إلى الجذر "بوأ"، والذى أخذ منه الفعل الماضي "باء". ويقول صاحب مختار الصحاح: أن أصل اشتقاق كلمة "بيئة" هو "بوأ" و"تبوأ".([7]) وقال ابن منظور في "لسان العرب": ([8]) "باء إلى الشيء يبوء بوءا، أي رجع . و"تبوأ" نزل وأقام؛ وبوأتك بيتا: اتخذت لك بيتا، وقيل تبوأه: أصلحه وهيأه، وأباءه منزلا وبوأه إياه وبوأه له وبوأه فيه، بمعنى هيأه وأنزله ومكن له فيه، ويقال: بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا"، والاسم البيئة، والبيئة والباءة والمباءة: المنزل، والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه ([9]).

والبيئة هي المنزل أو المحيط الذى يعيش فيه الكائن الحى، والكائن محيطه يؤثر ويتأثر كل منهما بالآخر([10])، ويرى البعض أن البيئة في اللغة هي المكان الذى ينزل فيه المرء ويتخذ مقاما كما أنها تعنى الحالة أيضا، فيقال فلان حسن البيئة أي حسن الحالة".([11]) والمتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يدرك اشتمالهما على ألفاظ وعبارات ترشد إلى البيئة بالمعنى اللغوي، أي المنزل أو المكان المهيأ لحياة الكائنات التي بثها الله في الكون أو على الأرض، أو حتى في الجنة أو فى النار عندما تقوم الساعة ([12]).

ففي القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً "(يونس: 87). "أي أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوأ"، "أي يتخذا لقومها بمصر بيوتاً" ([13]) وقوله سبحانه وتعالى: "وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء" (يوسف:56). والمعنى أن الله سبحانه وتعالى مكن سيدنا يوسف فى أرض مصر، بحيث يتخذ منها منزلا حيث يشاء، ويتصرف فيها كيف شاء([14])،وقوله سبحانه وتعالى "وبوأكم فى الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا"(الأعراف: 74) والمعنى أن الله عز وجل أنزلكم فى الأرض منازل، تبنون القصور بكل موضع، وتنحتون البيوت فى جبالها لطول أعمارهم، حيث كانت السقوف والأبنية تبلى قبل فناء أعمارهم. ([15])

وفى السنة النبوية المطهرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى الحديث الذى رواه مسلم: "إن كذبا على ليس ككذب على أحد، فمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقوله صلى الله عليه وسلم " فليتبوأ مقعده" معناه: "لينزل منزله من النار" . ([16]) وفى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ..." أراد بالباءة: النكاح والتزويج، والأصل فى الباءة المنزل، ثم قيل لعقد التزويج باءة، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، وبذلك يتجلى عمق الإعجاز العلمي للقران الكريم والسنة النبوية المطهرة، حيث سبقا علوم العصر فى بيان معنى البيئة، " أي الوسط أو المحيط المزود بعناصر تجعله مهيأ للحياة والبقاء ". ([17]) ونخلص مما سبق، أن لفظة " البيئة " فى اللغة العربية هي النزول والحلول فى المكان، وتطلق مجازا على المنزل، أو الموطن، أو الموضع الذى يرجع إليه الإنسان فيتخذ فيه منزله وعيشه .

(2) فى اللغة الإنجليزية:

يعنى لفظ "البيئة Environment "، كما جاء فى القاموس القانوني، أنها "مجموعة الظروف، والعوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والجمالية التي تحيط وتؤثر على قيمة الملكية والرغبة فيها والتي تؤثر أيضا على نوعية حياة الناس([18]) وجاء فى معجم "لونجمان" تحت كلمة "بيئـة" "أنها مجموعة من الظروف الطبيعية والاجتماعية التي يعيش فيها الناس".([19])

(ب‌)المفهوم الاصطلاحي البيئة:

استخدم علماء المسلمين كلمة " البيئة " استخداما اصطلاحيا منذ القرن الثالث الهجري، وربما كان " ابن عبد ربه "، صاحب العقد الفريد، من أقدم من ذكر المعنى الاصطلاحي للفظ "البيئة" للإشارة إلى الوسط الطبيعي (الجغرافي والمكاني والأحيائي) الذى يعيش فيه الكائن الحى، بما فى ذلك الإنسان، وللإشارة إلى المناخ (السياسي والأخلاقي والفكري) المحيط بالإنسان. ([20])

ويرجع الفضل الأكبر فى تحديد مفهوم "البيئة" العلمي إلى العلماء العاملين فى مجال العلوم الحيوية والطبيعية. بينما يعتبر مصطلح "البيئة" حديث العهد بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وما زال يشوبه بعض الغموض، وعدم التحديد، وليس من السهل تعريفه تعريفا دقيقا، وهو الأمر الذى دعا البعض إلى القول: أن "البيئة "عبارة عن كلمة لا تعنى شيئا لأنها تعنى كل شيء".([21])

وذهب البعض الآخر إلى " أن مصطلح " البيئـة " يعتبر من تعبيرات "السهل الممتنع"، فمصطلح البيئة مصطلح يفهمه كل إنسان دون أن يكون قادر على تعريفه.([22])وبالرغم من صعوبة وضع تعريف للبيئة إلا أن ذلك؛ لم يثنى البعض عن الاجتهاد فى وضع تعريف اصطلاحي للبيئة وان كان ذلك أدى إلى اختلاف الآراء وتعددها، ومن ذلك:

ـ أنها "المكان الذى نعيش فيه جميعا". ([23]) .

ـ هي " الإطار الذى يعيش فيه الإنسان و يبنى فيه سكنه، ويقيم صناعته، ويشق فيه طرقه وشبكة مواصلاته، ويفلح فيه أرضه، ومراعيه إلى غير ذلك من النشاط الذى تتميز به حياة الإنسان " . ([24])

ـ هي مجموعة من النظم الطبيعية، والاجتماعية، والثقافية التي يعيش فيها الإنسان، والكائنات الأخرى، والتي يستمدون منها زادهم ويؤدون فيها نشاطهم . ([25])

ـ أن كلمة بيئـة تعنى كل ما يحيط بالإنسان من ظروف ومتغيرات، فتوجد بيئة حضرية، وبيئة طبيعية، أو جغرافية، وبيئة اجتماعية، وبيئة ثقافية، وبيئة عمالية، وبيئة فضائية، إلى غير ذلك . ([26])

 

ـ أن " البيئة هي الوسط أو المكان الذى يعيش فيه الإنسان وغيره من الكائنات الحية، وهى تشكل مجموعة الظروف، والعوامل التي تساعد الكائن الحى على بقائه، ودوام حياته، أو هي مجموع العوامل الطبيعية، والعوامل التي أوجدتها أنشطة الإنسان، والتي تؤثر فى ترابط وثيق على التوازن البيئي وتحدد الظروف التي يعيش فيها الإنسان يتطور المجتمع .

وهذا التعريف يشير إلى أن البيئة اصطلاح ذو مضمون مركب؛ فهناك البيئة الطبيعية، بمكوناتها التي أودعها الله فيها وتشمل الماء والهواء، والتربة، وأشعة الشمس وما يعيش على تلك العناصر، والمكونات من إنسان ونبات وحيوان. والبيئة بهذا المضمون تقابل " الطبيعة" فى العلوم الطبيعية، أو علم دراسة الكائنات الحية. وهناك البيئة الاصطناعية، وهى تشمل كل ما أوجده تدخل الإنسان فى تعامله مع المكونات الطبيعية للبيئة، كالمدن والمصانع والعلاقات الإنسانية، والاجتماعية التي تدير هذه المنشآت كالقانون والتنظيمات الإدارية والاقتصادية، وهذا المفهوم الثاني يقابل اصطلاح Environment  . ([27]).

ـ ذهب البعض إلى أن لتعبير البيئة مفهومين: الأول مفهوم موسع، ويقصد به ذلك الكل الشامل لجميع العناصر اللازمة للوجود الإنساني. والثاني مفهوم ضيق، وغالبا ما يشمل النواحي المكانية، والبيولوجية، أو الايكولوجية، وبالتالي يهتم بمشكلات استخدام المكان، أو مشكلة تزايد السكان، أو حماية الطبيعة، وتلوث البيئة واستخدام المواد الأولية.([28])

ـ يذهب البعض إلى أنه " لا يوجد  فى الوقت الراهن أي مفهوم متفق عليه عالميا للبيئة، ذلك أن بعض  العناصر التي تعتبر جزءا فى تعريف البيئة الوارد فى بعض الاتفاقيات لا توجد فى اتفاقيات أخرى . ويرى أنه يوجد مفهوم ضيق للبيئة ويقتصر على الموارد، مثل الهواء، والتربة، والماء، والحيوان، والنبات دون غيرها وعلى التفاعلات فيما بينها ؛ وهناك مفهوم موسع أوسع يشمل المناظر الطبيعية وما يسمى بـ" القيم البيئية " للمنفعة أو المتعة الناشئة عن البيئة . وإن كان هناك رأى أخر يرى أن " البيئة " تشمل النظم الإيكولوجية، والموارد الطبيعية، والحيوية، وغير الحيوية مثل الهواء، والماء والتربة، والحيوان، والنبات، والتفاعل بين هذه العوامل . ([29])

ونلاحظ بعد استعراض تلك التعريفات؛ التي تم ابدائها فى تحديد مفهوم البيئة الاصطلاحي يمكننا القول: مع غالبيـة الفقـه الدولي([30]) أن مفهوم البيئة يشتمل على عنصرين: عنصر طبيعي وعنصر صناعي.

ـ العنصر الطبيعي: يشتمل على كل مظاهر الوجود المادي المحيط بالإنسان، والذى لا دخل لإرادة الإنسان فيه، والذى وجد قبل خلق الإنسان ونزوله إلى الأرض، وهو ما يطلق عليه بالبيئة الطبيعية والذى عرفها البعض " بأنها البيئة المحيطة بالجنس البشرى"، والتي ينمو فيها هذا الجنس البشرى، فضلاً عن المجالات التي يكون الحفاظ عليها عنصراُ جوهريا فى حماية هذه البيئة، ويقول: شارحا لتعريفه الذى أبداه، أنه يقصد بهذه العبارة بصورة خاصة " البحار، والغلاف الجوي، والمناخ والغابات، وأنواع الغطاء النباتي الأخرى، والحيوانات والنباتات وغيرها من العناصر البيولوجية . ([31])

ـ العنصر الصناعي أو المستحدث: فيشتمل على كل الأنشطة الإنسانية فى البيئة الطبيعية سواء كانت وسائل، أو أدوات ابتكرها الإنسان  للسيطرة عليها، أو ما أنشأه من منشآت فيها، أو ما وضعه من نظم تنظم علاقته بها .

وبعد تناول المفهوم الاصطلاحي للبيئة، نجد أنه لا يختلف مع المفهوم اللغوي لها، وإن كان المفهوم اللغوي يقتصر على المكان، أو الوسط، أو المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، أما المفهوم الاصطلاحي " للبيئة " فيضيف إلى ذلك ما أنشأه الإنسان وما أضافه إلى البيئة الطبيعية، إلا أن ذلك لا يتعارض مع المفهوم الاصطلاحي فى الشريعة الإسلامية للبيئة، لأن الإنسان مكلف بعمارة الأرض باعتباره خليفة الله فى أرضه.

ثانياً: أخلاقيات البيئة بين الإسلام والمسيحية:

إنّ كلّ تصرّف إنسانيّ في البيئة إنّما تكون آثاره فيها صلاحا وفسادا محكومة بتصوّره الثّقافي في عنصرين أساسيين: أوّلهما التّصوّر الأخلاقي دينيّا أو فلسفيّا لحقيقة البيئة في ذاتها مـن حيث وضعها الوجودي ضمن منظومة الوجود العامّ وعلاقتها بأطراف تلك المنظومة في مأتاها ومصيرها وسيرتها بين المأتى والمصير. وثانيهما، التّصوّر الأخلاقي دينيّا أو فلسفيّا لعلاقة الإنسان بالبيئة من حيث الائتلاف والاختلاف بينهما، ومن حيث تبادل الأثر والتّأثير فيما هو كائن وفيما ينبغي أن يكون، فهذان التّصوّران الثّقافيان هما الموجّهان الأساسيان لكلّ أثر إنسانيّ في البيئة من جرّاء ما يمكن أن يكون لمساعيه فيها من صلاح وفساد. وعلى صعيد الواقع فإنّ الآثار المُخلّة بالبيئة التي أحدثتها الثّورة الصّناعية لم تكن في مجملها إلاّ بسبب التّصوّر الثّقافي المتعلّق بذينك العنصرين، وهو الذي كان تصوّرا لصانعي تلك الثّورة منذ بدايتها إلى مبلغ ذروتها، وذلك ضمن التّصوّر الثّقافي العامّ المنطبع بالطّابع المادّي الذي قامت عليه الحضارة الغربية الرّاهنة، فالمنزع المادّي لذلك التصوّر على تفصيل سنورده لاحقا هو الذي وجّه الثّورة الصّناعيّة كما سنبيّن الوجهة التي أحدثت بها هذه الآثار الضّارّة بالبيئة. وتبعا لذلك فإنّ البحث عن الحلول لتعديل مسيرة الدّمار البيئي كان يجب أن يتّجه بالأساس إلى تعديل ذلك التّصوّر الثّقافي الذي أفضى إلى المشكلة، وبذلك تكتمل القضايا ‎‎التي انشغل بها الفكر البيئي وتتكامل عوض أن تقتصر على وجه واحد هو الوجه الإجرائي المادّي المنصبّ على الآثار لا على الأسباب. وفي هذا الإطار يمكن تناول مواقف الشرائع السماوية من البيئة وحمايتها، وتنميتها، وما يرتبط بها من أخلاقيات، تشكل مرتكزات في هذه الحماية وتلك التنمية:

1ـ أخلاقيات البيئة في الشريعة الإسلامية:

الإسلام باعتباره دينا يملك رؤية شاملة للوجود وللإنسان وللحياة، وباعتباره دينا قامت على أساس رؤيته تلك حضارة واقعيّة مشهودة، تكوّنت منه ثقافة نظريّة وواقعيّة يمكن أن تساهم مساهمة ثريّة في معالجة قضايا البيئة على وجه من الشّمول والتّكامل من شأنه أن يدفع إلى إنضاج الفكر البيئي في معالجة تلك القضايا منذ أصبح علم البيئة علما مستقلاّ، وذلك على الأخصّ باستكمال مـا بدا ناقصا من القضايا في ذلك العلم المستقلّ. والثقافة الإسلامية تملك تصوّرا عميقا للبيئة الكونية من حيث وضعها الوجودي، وذلك في نطاق الرّؤية العقدية للوجود كلّه، ففي ذلك التّصوّر تحديد لمصير تلك البيئة وتحديد لأبعادها الرّوحية والماديّة وللقوانين الكلّية التي تحكم تلك الأبعاد. وفيه بسط لعلاقة الإنسان بالبيئة روحيا ومادّيا، وذلك من حيث التّرابط الوجودي بينهما، ومن حيث تبادل التّأثّر والتّأثير والفعل والانفعال. وفي ذلك التّصوّر أيضا توجيه عملي لتعامل الإنسان مع البيئة، وذلك فيما يتعلّق بنشاطه فيها من أجل الانتفاع بمرافقها، أو فيما يتعلّق بالحفاظ عليها من أن ينالها الفساد([32]).

وفي إطار الرؤية الإسلامية، تعددت الآيات التي القرآنية، التي تناولت البيئة وأحكامها، وأخلاقياتها في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالي: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. [الأعراف: 85] وقوله {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. [الروم: 41]، وقوله: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}. [المائدة: 32]، وقوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. [غافر: 43]، وقوله تعالي: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

كما تضمنت السنة النبوية المشرفة، عدداً من الأحاديث، التي تناولت البيئة وأخلاقياتها، ومن ذلك: قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار"، وقوله: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء، وفي الظل، وفي طريق الناس"، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار". [رواه ابن ماجة]، وقوله: "لا يغرس مسلم غرسًا ولا يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة". [رواه مسلم]، وقوله :"لا يَبُوْلَنَّ أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه" [رواه البخاري]، وكذلك قوله عليه السلام: "مَا مِنْ إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقّها، إلا سأله الله- عز وجل- عنها يوم القيامة"، قيل: يا رسول الله، وما حقُّها؟ قال: "حقُّها أن يذبحها فيأكل، ولا يقطع رأسه فيرمي به" ([33]).

وفي إطار تلك الآيات والأحاديث، جاءت التربية البيئية في الإسلام، والتي يمكن تعريفها بأنها: "النشاط الإنساني الذي يقوم بتوعية الأفراد بالبيئة وبالعلاقات القائمة بين مكوناتها، وبتكوين القيم والمهارات البيئية وتنميتها على أساس من مبادئ الإسلام وتصوراته عن الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، ومطالب التقدم الإنساني المتوازن ".

وفى ضوء هذا التعريف يجب أن يكون هناك تفاعل إيجابي بين الإنسان والبيئة، وأن يكون ذلك التفاعل شاملا ولا يقتصر على زمان معين أو مكان معين، وليصبح جهد الإنسان موحدا وموظفا توظيفا حضاريا وتاريخيا في ضوء العقيدة الإسلامية، وتأتى أهمية وحتمية وجود أهداف للتربية البيئية من منظور إسلامي لتؤكد أن الإسلام دين يؤكد على احترام وتقدير البيئة انطلاقا من أهداف عدة منها:

ـ تنمية الوعي البيئي لدى الإنسان المسلم عن طريق تزويده بالرؤية الصحيحة عن البيئة ومكوناتها بما يحقق دوره المطلوب في الأرض باعتباره خليفة الله فيها .

ـ تنمية وتكوين القيم والاتجاهات والمهارات البيئية الإسلامية لدى الإنسان المسلم، حتى يستطيع على ضوئها مواجهة مختلف صعابها بإرادة قوية، ومن ثم استغلالها بصورة نافعة بما يحقق أهداف الإسلام .

ـ تنمية قدرة الإنسان المسلم على تقويم إجراءات وبرامج التربية والتعليم المتصلة بالبيئة من أجل تحقيق تربية بيئية أفضل .

ـ إيجاد التوازن وتعزيزه بين العناصر الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية المتفاعلة في البيئة لما فيه صالح الإنسان المسلم .

ـ فهم الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والطبيعية وعلاقة الإنسان المسلم بالقضايا والتلوث

وفي إطار هذه الأهداف تتعدد القيم البيئية التي أمد عليها الإسلام، والتي تشكل مجموعة الأحكام المعيارية المنبثقة من الأصول الإسلامية، التي تكون بمثابة موجهات لسلوك الإنسان تجاه البيئة، تمكنه من تحقيق وظيفة الخلافة في الأرض. وتنقسم القيم البيئية الإسلامية، إلي: قيم المحافظة، وقيم الاستغلال، وقيم التكيف والاعتقاد، وقيم الجمال:

ـ قيم المحافظة: وتختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو المحافظة على مكونات البــيئة وتشمل: المحافظة على نقاوة الغلاف الجوي، وعلى نظافة الثروة المائية، وعلى رعاية الثروات النباتية، وعلى رعاية الثروات الحيوانية، وعلى استخدام الثروات المعدنية و اللامعدنية، وعلى نظافة الطرقات، وعلى نظافة بيوت الله والبيوت العامة، وعلى الصحة البدنية، وعلى الهدوء وتوفيره .

ـ قيم الاستغلال: هي تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو الاستغلال الجيد لمكونات البيئة. وتتضمن عدم الإسراف، وعدم التبذير، والبعد عن الترف، الاعتدال والتوازن في كل شيء، حيث يدعو الإسلام إلى الاعتدال في استهلاك موارده البيئية بحيث تكفى ضرورته وحاجاته، بدون إفراط ولا تفريط

ـ قيم التكيف والاعتقاد: هي تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الأفراد نحو التكيف مع بيئتهم، ونحو تصحيح معتقداتهم السلبية تجاهها وتشمل الآتي : التكيف مع التغيرات الطبيعية مثل (قسوة الظروف المناخية، طبيعة الأرض) وكذلك الابتعاد عن المعتقدات الخرافية مثل (التعاويذ والتمائم والتبرك بالشجر، والكهانة، والتشاؤم .. الخ)

ـ قيم جمالية: وهى تلك القيم التي تختص بتوجيه سلوك الإنسان نحو التذوق الجمالي لمكونات البيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). أخرجه مسلم.

وترسيخاً لهذه القيم قال الحق سبحانه وتعالي: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}. (فاطر: 27–28). وقال كذلك: "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا..." (فصلت: 9–12)([34]).

2ـ أخلاقيات البيئة في المسيحية:

تعددت الإشارات التي تضمنها الإنجيل، وتضمنته كلمات السيد المسيح عليه السلام، حول البيئة، وما يرتبط بها من أخلاقيات، ومن ذلك:

ـ في الطّهارة (متى 15: 1 ـ 20)، (مرقس 7: 1 ـ 23)  جاء اليهود يشتكون إليه أن تلاميذه لا يغسلون أيديهم قبل تناول الطعام، وأظهروا له أهمية تطهير الجسد بالغسل والتنظيف، إلا أن المسيح قال لهم: "ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان"، ثم قال: "كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف، وأما ما يخرج من الفم، فمن القلب يصدر".

 

ـ الأرض الجيدة (متى 13: 1- 9 ، 18- 23) أراد المسيح أن يعلم تلاميذه عن طبيعة الإنسان الذي يسمع كلمة الله، وردود فعله نحوها، فقص عليهم قصة زارع خرج ليزرع وألقى بالحبوب، فسقط بعضها على الطريق، وجاءت الطيور وأكلته، وسقط بعض آخر على أرض محجّرة، نبت حالاً ثم احترق، وسقط بعض آخر على الشوك الذي خنقه، ثم سقط بعضه على الأرض الجيدة، فأعطى ثمرًا وفيرًا. وفسر المسيح المثل بأن كل من يسمع الكلمة ولا يفهم، يأتي الشيطان ويخطفها، ومن يسمع ويقبل بفرح دون عمق وفهم، لا ينتفع من الكلمة، والذي يواجه الاضطهاد هو مثل الحبوب التي نبتت بين الشوك، أما الذي يسمع ويفهم ويقبل الكلمة بعمق و فهم، فهو كالأرض الجيدة.

ـ التأمل في الطبيعية (متى 6: 25- 33) يلفت المسيح الأنظار نحو طيور السماء كيف يُقوّتها الله، وإلى زنابق الحقل، وكيف تلبس. فإن كان الله يهتم بالطيور والعشب، فكم بالحرّي يهتم بعباده. ووضع المسيح تعليمًا خالدًا فقال: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تُزاد لكم".

فالشريعةُ والناموسُ في الكتاب المقدس توجهٌ نحو محبة الله التي تتجسد في محبة القريب لذلك يجب أن يسعى الإنسان للسلام والمصالحةِ مع نفسه، مع الله، مع الآخرين، ومع البيئة التي يعيش فيها، وهذه المصالحةُ تتجسد من خلال أعماله الصالحةِ وإيمانِه المتجسد بالعمل "الإيمانُ بدون أعمالٍ ميت" "الديانةُ الطاهرةُ النقيّة عند الله الأب هي افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم وحفظُ الإنسان نفسَه بلا دنسٍ من العالم"(يع1: 27)

فالإنسان مخلوقٌ حرٌ وله كامل الحريةِ والإرادةِ بأن يسعى نحو الخيرِ أو يميلَ نحو الشرِ وقد خلقه الله على صورة القداسة والبر على صورته كشبهه ومثاله. فعندما مال الإنسانُ بملءِ إرادته نحو الشر واتجهَ نحو الخطيئةِ التي فصلته عن علاقته مع الله، ومع الآخرين، فأفسد الشر طبيعة الإنسان و رأى الرب أن شر الإنسان قد كثُر في الأرض وأنَّ كلَّ تصورِ أفكارِ قلبه إنما هو للشر كل يوم (تك 6 : 5 ) وفسدت الأرض أمام الله فخاطب داود النبي الله قائلاً : لأنك أنت لست إلهاً يُسرَّ بالشر ولا يساكنك الشرير ولا يقف المفتخرون أمام عينيك . أبغضت كل فاعلي الإثم . تهلك المتكلمينَ بالكذب لأن رجل الدماء والغش يكرهه الرب (مزمور 5 : 4-6 ).

وهكذا أصبح فكر الإنسان شريراً وفاسداً واتجه نحو إيذاءِ خليقة الله المقدسة فتلوث فكره وفسد عقله وتغلغل إلى قلبه الطمع والجشع والكبرياءُ والحسدُ والنميمةُ والقتلُ والدمارُ، والجميع ضلوا وأعوزهم مجد الله فجاءت تعاليم الكتاب المقدس التي تردُّ النفسَ وتفرحُ القلبَ وتنير العينين بما فيها من تعاليم سامية مع وصايا السيد المسيح التي هي خيرُ نورٍ وهدىً إلى طريقِ الصواب وإلى الحقِ والحياةِ ونَزعِ أوزارِ الخطيئة والعدوانية والشرَّ ومقوماته عن فكره لتوجهَهُ نحو الخير والصلاح و محبة أخيه الإنسان ومحبة الله.

ومن تعاليمه، عليه السلام: "أحبوا بعضَكم بعضاً كما أنا أحببتُكم ... ما من حب أعظمُ من هذا أن يبذل الإنسانُ نفسه عن أحبائه .. أحبوا أعداءَكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم .. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ( متى 5 : 43)، "فليضيء نورُكم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" ( متى 5:16)، "أنتم ملحُ الأرض ولكن إن فَسُد الملح فبماذا يُملَّح لا يصلح بعد لشيءٍ إلَّا لأن يطرح خارجاً ويداسَ من الناس" (متى 5 : 13)، "الإنسان الصالحُ من كنزِ قلبهِ الصالحِ يُخرجُ الصلاح والإنسانُ الشريرُ من كنزِ قلبهِ يُخرجُ الشر" ( لوقا 6 : 45).

ومن هنا تؤكد تعاليم المسيحية علي أن المسؤوليةُ تقع على عاتق كل واحدٍ منا في الحفاظِ على هذهِ الخليقةِ المقدسةِ نقيةً طاهرةً وصافيةً، وأنه بجانب الملوثات البيئية المادية، يوجد "التلوثَ الفكري" الذي يجب أن ينقّى ويصفّى لأنه أصل كل الشرور والحقيقةَ يجب أن ننقّي باطن الكأس لا خارجَها لنشرب منها، واعتقد أن التلوث الفكري وخاصة هذه الأيام هو مرض العصر فقد أثَّرَ من خلال تياراته المتعددة الاتجاهات والمصادر. والتلوثُ الفكريُّ هو الذي سببَ التلوثَ، وهو الذي سمح للدول العظمى باستعمال الأسلحةِ الفتاكةِ الكيماويةِ والنوويةِ لإبادة كل الكائناتِ الحيةِ على وجه الخليقةِ. واستخدامِ التكنولوجيا للأضرارِ بأخيه الإنسان وخليقة الله الجميلة التي وجدت لصالحه ونفعه فحوّلها إلى طرق غير شرعية وعليه أن يأخذَ ما ينفعهُ منها لخيرهِ وخيرِ الآخرينَ كما قال الرسول بولس: "كل الأشياء تحلُّ لي ولكن ليس كلُّ الأشياءِ توافق، كلُّ الأشياء تحلُّ لي ولكن لا شيء يتسلط عليّ " (1كو6: 12).

وفي إطار هذه التعاليم ساهمت الكنيسةَ عبرَ العصورِ والأجيال في مكافحةِ التلوثِ البيئيِّ بكافة أشكاله، من خلال الأديرة والمؤسسات الكنسية والمحلية والعالمية، ومن خلال إرشاداتها ومواعظها وندواتها الثقافية المستمرة ([35]).

ثالثاً: أخلاقيات البيئة في التيارات الفلسفية المعاصرة

قدم الدين مصدرا خصبا للمفاهيم والنظريات الجديدة، الخاصة بالبيئة، فقد انجذب الكثيرون من حركة الخضر إلى الصوفية الشرقية حيث رأوا فيها فلسفة تعبر عن حكمة علم البيئة، كما رأوا فيها منهج حياة يحث على التعاطف مع بني البشر وغيرهم من الفصائل ومع العالم الطبيعي، ويرى آخرون أن مبادئ علم البيئة يتجسد في الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية والإسلام التي تعتقد أن البشر والطبيعة من صنع إلهي. وقد وصف جوناثان بوريت المدير الأسبق لجماعة أصدقاء الأرض الكوكب الأرضي بأنه يمثل "أقوى تجسيد باد لنا لصنع الخالق"، ويرى أن المحافظة على هذا الكوكب وصيانته واجب ديني، وأن الإنسان لن يتوافق مع الطبيعة إلا إذا اعتبر نفسه عبدًا لله فوق الأرض.

ولكن لشيوع العلمانية تعود أكثر مفاهيم الخضر الغربيون انتشارًا إلى أفكار ما قبل المسيحية، فلم تميز الديانات البدائية في الأغلب بين البشر وغيرهم من أشكال الحياة، وقلما ميزت بين كائنات حية وغير حية؛ فجميع الأشياء الحجارة والأنهار والجبال وحتى الأرض نفسها التي صورت في الغالب بـ"الأرض الأم".

وتهتم السياسة البيئية بجميع أشكالها بتوجيه التفكير الأخلاقي في عدة اتجاهات مختلفة؛ وذلك لأن الأنظمة الأخلاقية الحداثية تكرس الفردية مركزية الإنسان بشكل واضح. فالمذهب النفعي "الخير" و"الشر" يقوم على أساس ما يمر به الإنسان من آلام ومتع. وللأفراد أن يتصرفوا بأي طريقة تجلب لهم أكبر قدر من السعادة وأقل قدر من التعاسة، وذلك بموجب أنهم نفعيون من الدرجة الأولى.

والموضوع الأخلاقي الذي يتشبث به علماء البيئة بشدة هو الالتزام الأدبي تجاه الأجيال القادمة، وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين عدة تيارات أو فلسفات، من أهمها([36]):

 

1ـ المذهب البيئي اليميني:

كان أول ظهور لعلم البيئة السياسي ذا توجه يميني بالأساس، وتجلى ذلك بشكل متطرف بظهور المذهب البيئي الفاشي خلال الفترة النازية في ألمانيا، وكان يمثله وولتر داريه الذي كان وزيرًا للزراعة أثناء حكم هتلر من 1933إلى 1942، كما تولى منصب زعيم الفلاحين النازيين، فقد أدت تجربة التحول السريع نحو التقدم الصناعي في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى ظهور حركة قوية تنادي "بالعودة إلى الأرض"، والتي جذبت الطلاب والشباب في حركة الشباب الألماني؛ حيث لجأت أعداد كبيرة من الطلاب إلى التجول في الغابات والجبال للخروج من غربة الحياة في الحضر، وكانت أفكار داريه مزيجا من العنصرية الجرمانية وإعلاء مكانة الحياة الريفية، وقد اندمجت لتصبح فلسفة زراعية حول "الدم والتربة"، وتداخلت في مواضع كثيرة مع الاشتراكية القومية.

وارتبطت النازية بشكل من أشكال المذهب الحيوي، التي تؤكد دور "قوى الحياة"، وعلى الرغم من ارتباط داريه بالنازية فإن أفكاره تتشابه تشابها كبيرا مع الحركة الخضراء الحديثة، فقد اقتنع أن الرضا الحقيقي لا يتأتى إلا بالحياة بالقرب من الطبيعة وفوق الأرض؛ ولهذا تمنى إعادة إنشاء ألمانيا الريفية. وردد علماء البيئة المحدثون هذه الأفكار، كما أن داريه أصبح مؤيدا قويا للزراعة العضوية التي تستخدم المخصبات الطبيعية فقط مثل سماد الحيوان وترفض المخصبات الكيميائية تأسيساً على الدورة الطبيعية: "الحيوان، التربة، الغذاء، البشر".

وفي "اليمين المعتدل" أظهر المحافظون تعاطفا مع الموضوعات البيئية. فعلى سبيل المثال وصفت مارجريت تاتشر (المرأة الحديدية) المحافظين في المملكة المتحدة في "خطابها الأخضر" الشهير عام 1988 بأنهم "حماة ورعاة الأرض". ومثل هذه الإدراكات البيئية اهتمت بالتركيز على موضوع المحافظة على البيئة، أي حماية ما يسمى بالموروث الطبيعي كالغابات والفصائل الحيوانية والنباتية بالتوازي مع حماية الموروث المعماري والاجتماعي، ومن ثم ترتبط المحافظة على الطبيعة بالدفاع عن القيم والمؤسسات التقليدية.

2ـ المذهب الاشتراكي البيئي:

تتميز الحركة الخضراء بطابع اشتراكي غالب، وتجلى ذلك بوضوح بين الخضر  الألمان؛ حيث كان كثير من زعمائهم أعضاء سابقين  للجماعات اليسارية بما فيها المتطرفة، وكثيرا ما يعتمد المذهب الاشتراكي البيئي على التحليل الماركسي، ويرد استنزاف الطبيعة للرأسمالية، وفي الوقت ذاته دأب على استبعاد الأفكار شبه الدينية التي كانت ذات تأثير لدى تيارات عديدة من الحركة البيئية أيضًا على خلفية الفكر الماركسي وموقفه من الدين. وقد أثار موقف ماركس  فيما يخص العالم الطبيعي جدلا حوله؛ فالبعض يرى إيمانه بالتنمية التقدمية للقوى المنتجة على أنه بيان كلاسيكي عن التقدم الصناعي والبعض الآخر يعتقد أن تناوله للعمل في أعماله الأولى بوصفه "إصباغا للإنسانية" على الطبيعة و"إصباغا للطبيعة" على الإنسان يمثل علامة بيئية لا محالة.

وجوهر المذهب الاشتراكي البيئي يتمثل في أن الرأسمالية هي عدو البيئة، أما الاشتراكية فهي صديقتها. ولكن هذه الصياغة تجسد صراعا بين عنصرين، ولكن الصراع هذه المرة بين أولويات "حمراء" و"خضراء". فإذا كانت الكارثة البيئية ما هي إلا نتاج ثاني للرأسمالية فإن حل المشكلات لن يتأتى إلا بسقوط الرأسمالية أو ترويضها على الأقل، تماما مثلما تسعى الحركة النسائية الاشتراكية، وبالتالي على علماء البيئة أن يعملوا في إطار الحركة الاشتراكية، وأن يناولوا الموضوع الحقيقي المتمثل في النظام الاقتصادي، ولا يركنوا إلى تشكيل أحزاب خضراء متفرقة أو إلى إقامة المنظمات البيئية الضيقة، بل يغيروا النظام برمته الذي كان استنزاف البيئة مجرد أثر من آثاره.

ومن ناحية أخرى أشاع معارضو الاشتراكية النظر إلى الاشتراكية على أنها اعتقاد سياسي آخر "مؤيد للإنتاج" لتأييدها استنزاف ثروات الكوكب لصالح البشرية بأسرها لا لصالح مجموعة محدودة من الرأسماليين، فلا فارق جوهري يحق لها أن تزعمه لنفسها في مواجهة الرأسمالية. ونتج عن ذلك أنه كثيرا ما رفض علماء البيئة تهميش الأخضر أمام الأحمر، ومنها إعلان الخضر الألمان أنهم "لا يساريين ولا يمينيين"، ونادى العديد من علماء البيئة الاشتراكيين إلى أن الأزمة البيئية شديدة الإلحاح لدرجة أنه يجب أن تكون لها الأولوية عن الصراع الطبقي، مؤكدين أن الاشتراكية بيئية بالأساس، فإذا كانت الثروة ملكية جماعية فإنها تستخدم لصالح الجماعة، وهو ما يعني على المدى البعيد مصالح البشرية.

ولكن تجربة اشتراكية الدولة في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية نتج عنها بعض من أكثر المشكلات البيئية، فقد قامت الأولويات الاقتصادية في الشرق الشيوعي على تتبع خط النمو الكمي، وفي ستينيات القرن العشرين مثلا أعيد شق طريق النهرين الأساسين اللذين يغذيان بحر "أرال" في أسيا المركزية السوفيتية لزراعة القطن والأرز، ونتج عن ذلك أن انكمش حجم بحر "أرال" الذي كان رابع أكبر بحيرة في العالم إلى نصف حجمه الطبيعي، كما تراجعت شواطئه100 كيلومتر في بعض المناطق مخلفة صحراء مالحة وملوثة.

وكان انفجار تشيرنوبل النووي في أوكرانيا 1986 أكثر الكوارث البيئية المعلن عنها حيث أجبر دوي الانفجار النظام السوفيتي على مزيد من الصراحة بخصوص المشكلات البيئية بصفة عامة. وفي عصر ما بعد الشيوعية انطلقت جماعات الاحتجاج البيئية من الاتحاد السوفيتي، ولكن من الملاحظ أن هذه الجماعات قلما اعتنقت المذهب  الاشتراكي البيئي، بل ارتبطت أكثر بالمناحي السياسية المعارضة للاشتراكية كتجربة ضاغطة وشمولية بخلاف الحركة الخضراء في الغرب.

3ـ المذهب الفوضوي والبيئة:

تبدو الفوضوية أكثر الأيديولوجيات حساسية تجاه البيئة، ويدين الكثير في "الحركة الخضراء" بأفكارهم إلى الشيوعيين الفوضويين الذين ينتمون إلى بواكير القرن العشرين، وأن هناك توازيا واضحا بين أفكار الفوضوية ومبادئ علم البيئة التي جاء التعبير عنها في فكرة "علم البيئة الاجتماعي"، وهو الاعتقاد أن التوازن البيئي هو أساس الاستقرار الاجتماعي.

ويؤمن الفوضويون بمجتمع بلا دولة يتولد فيه التناغم من الاحترام المتبادل والترابط الاجتماعي بين الأفراد؛ فيقوم رخاء مثل هذا المجتمع على التنوع والاختلاف. ويؤمن علماء البيئة كذلك أن التوازن والتناغم يتولدان بصورة تلقائية في الطبيعة فيظهر على شكل أنظمة بيئية لا تتطلب سلطة أو رقابة خارجية تمامًا، مثل المجتمعات اللاسلطوية التي تتخلى عن مؤسسة الدولة المركزية وتهمشها، ومن ثم يتوازى رفضهم  للحكومة في المجتمع البشري وتحذيرات علماء البيئة من "الحكم" البشري في العالم الطبيعي؛ لذا شبه بوكتشين المجتمع اللاسلطوي بالمنظومة البيئية، ورأى أن كليهما يميزه احترام مبادئ التنوع والتوازن والتناغم.

 

وأيد الفوضويون بناء مجتمع لا مركزي  ينظم كمجموعة من القرى والجماعات  وتكون الحياة فيه قريبة من الطبيعة؛ حيث تسعى كل جماعة لتحقيق درجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي. ويتنوع اقتصاد هذه الجماعات فينتجون الغذاء إلى جانب نطاق واسع من السلع والخدمات الأخرى، وبالتالي ينضوي اقتصادهم على الزراعة والأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة، ويحث الاكتفاء الذاتي كل مجتمع على الاعتماد على بيئته الطبيعية فيتأتى فهم العلاقات العضوية وعلم البيئة بالتبعية. ويرى بوكتشين أن اللامركزية ستؤدي إلى" استخدام أكثر حكمة  للبيئة" فالمجتمع الذي ينظمه التراحم التلقائي بين الأفراد من شأنه أن يشجع التوازن البيئي بين الأفراد والعالم الطبيعي.

4ـ الحركة النسائية البيئية:

تقدم الحركة النسائية تناولا فريدا للموضوعات الخضراء إلى حد أن تطورت الحركة النسائية البيئية لتصبح أحد أكبر المدارس الفلسفية للفكر البيئي، وموضوعها الأساسي يتمثل في أن جذور الدمار البيئي تعود إلى البطريركية الذكورية؛ فالطبيعة معرضة  للتهديد لا من قبل الجنس البشري كله ولكن من قبل الرجال ومن مؤسسات سلطة الرجل. ومؤيدو الحركة النسائية الذين يتبنون موقفا جندريا من الطبيعة البشرية (لا يميزون بين الذكورة والأنوثة وينكرون الفروق بينهما)  يرون أن البطريركية قد شوهت غرائز وأحاسيس الإنسان عبر عالم التنشئة "الخاص" والعلاقات الشخصية و الأسرية، ومن ثم فإن التقسيم القائم على الجنس (المرأة للبيت/ والرجل للكسب والإنفاق) من شأنه أن يحث الرجل على التقليل من قدر المرأة والطبيعة؛ حيث يرى الرجل نفسه "سيداً" لكليهما، ومن هذا المنظور يمكن تصنيف علم الحركة النسائية البيئي  كشكل خاص من علم البيئة الاجتماعي.

ومن ثم تتمثل القيم "الأنثوية" التقليدية في مبدأ المعاملة بالمثل والمشاركة والتنشئة، وهي قيم "لينة" ذات طابع بيئي، وإذا كانت ثمة رابطة "حتمية" أو "طبيعية" تربط بين المرأة والطبيعة؛ فلأن علاقة الرجل بالبيئة تختلف اختلافًا شديدًا، فبينما المرأة تعتبر كائنا طبيعيا يعد الرجل كائنا ثقافيا، فعالم الرجل صناعي من صنع الإنسان، وهو نتاج الإبداع البشري لا الإبداع الطبيعي؛ إذًا يتقدم الفكر في عالم الرجل على الحدس ترتيبا، وتتفوق القيمة المادية على الروحانية، كما يكون الاهتمام بالعلاقات الميكانيكية أكثر من العلاقات الكلية.

وقد انعكس ذلك في الصعيد السياسي والثقافي في الإيمان بتحقيق الذات والتنافس والتدرج الهرمي وإيحاءات ذلك للعالم الطبيعي واضحة، ومن هذا المنظور تسيطر الثقافة من خلال البطريركية على البيئة؛ حيث تصبح الطبيعة ما هي إلا قوى وجب تسخيرها أو استنزافها أو تخطيها. وبالتالي يمثل كل من الدمار البيئي وعدم المساواة القائم على النوع جزءًا من عملية هيمنة الرجل على المرأة، وهي رؤية تكرس الصراع في دائرة مفرغة موظفة البيئة كموضوع لتكريس التمركز حول الأنثى. 

وأمام هذه التيارات يري البعض أن التوقعات بخصوص المذهب البيئي للقرن الحادي والعشرين تبدو شديدة الارتباط بحالة الأزمة البيئية والمستوى العام لفهم القضايا والمشكلات البيئية؛ فمن المتوقع أن يزيد البحث عن بديل للتقدم الصناعي المولع بالنمو، وإحدى المشاكل التي تواجه الأحزاب الخضراء أن منافسيهم قد اتخذوا مواقف "صديقة للبيئة" كانت قبل ذلك حكرًا على الخضر؛ إذ لن يكون للجنس

البشري بدٌّ في القرن الحادي والعشرين من قلب السياسات والممارسات التي كادت أن تدمر كل من الجنس البشري والعالم الطبيعي.

وتواجه النظرية البيئية عددًا من المشكلات:

ـ صعوبة جعل المذهب البيئي أيديولوجية عالمية، فالقيود التي تكبل الدول النامية قد سلبتها فرصة اللحاق بركب الغرب، حيث تطورت الدول الغربية بالصناعات الكبيرة وباستنزاف الموارد المحدودة والتلوث... إلخ، وهي ممارسات يسعون الآن إلى إنكارها على الدول الساعية للتقدم. والغرب الصناعي مثله مثل العالم النامي غير مهيأ لأخذ الأولويات البيئية في الاعتبار، حيث يعني ذلك التخلي عن الرخاء الذي ينعم به بوصفه أكبر مستهلك للطاقة والموارد.

ـ سياسة النمو المستديم أو اللا نمو قد تكون غير مشجعة للجماهير بحيث تستحيل عمليًا كخيار انتخابي.

ـ قد يكون المذهب الأخضر ما هو إلا بدعة حضرية في مرحلة ما بعد الحركة الصناعية، وهو ما يعني أن الوعي البيئي ما هو إلا رد فعل مؤقت للتقدم الصناعي، ويميل إلى الاقتصار على الشباب والأغنياء الذين يملكون ترف الاحتجاج.

ـ أن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنها تتضمن تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة، فالبيئية الحقيقية أكثر راديكالية من الاشتراكية والفاشية والحركة النسائية أو أي اعتقاد سياسي آخر، فهذا المذهب لا يقتصر على المطالبة بتحول النظام الاقتصادي أو إعادة تنظيم العلاقات بين السلطات داخل النظام السياسي فحسب، بل لا يرضى بأقل من إقامة نمطا جديدًا للوجود أي أسلوب مختلف في تجربة الوجود وفهمه. والأكثر من ذلك أن نظرياته وقيمه وأحاسيسه تتعارض كلية مع تلك الخاصة بالمجتمعات التي يهيمن عليها التقدم الصناعي.

وبعد...

من هذا العرض لمفهوم البيئة، وموقف الشرائع السماوية والتيارات الفلسفية من أخلاقياتها، يمكن الخروج بعدة ملاحظات:

أولاً: أن الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكونات معالم نظرية البيئة وما يرتبط بها من قضايا في مقدمتها أخلاقيات البيئة، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني بأقسامه، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها، فالرؤية الكلية تدخل في المكونات الفكرية للنظرية البيئية، وتدخل في المقابل في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدًا في الكون، ومستخلفًا من الله على الكون بكائناته ومخلوقاته، فلا هي مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسان الطبيعة، ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسئولة في الدنيا.. واليوم الآخر.

ثانياً: أن الاستدامة في الاهتمام بالأخلاقيات البيئية في الفقه الإسلامي، تدخل في نظرية المقاصد في العدل كمقصد وحفظ المال، ومراتب هذا الحفظ من حفظ بقاء لحفظ أداء لحفظ نماء. والقيم الأخلاقية لا تقتصر على المسئولية تجاه الأجيال بل المسئولية أمام الله بالأساس عن الموارد والكائنات، بدءاً من التوجيه النبوي بعدم الإسراف في الماء ولو للوضوء، مروراً بالرحمة الواجبة بالحيوانات، فالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية بل و الجمادات التي يؤمن الإنسان بأنها تسبح لله. ويحكم الإنسان في كل موقف ميزان الضرر والنفع، في الحال والمآل. والأمة توفر لسياسات البيئة التمويل عبر الأوقاف ، وتضمن الالتزام بالقواعد والنظم بالقانون، والأهم من ذلك عبر إدماجها في السلوكيات والآداب اليومية العبادية والفردية والجماعية.

ثالثاً: أنه في مقابل رؤية الأيدولوجيات الفلسفية للبيئة وأخلاقياتها كدائرة حيوية، يجعلها الإسلام أمانة على الإنسان التعامل معها بمنطق العمارة، والإنسان هنا يحمل قيمًا ربانية، ويستوي في حملها الرجال والنساء؛ فليست المرأة أقرب للطبيعة من الرجل، ولا هو أكثر إفسادا لطبع فيه من النساء كما تذهب النسوية، بل المناط التقوى والالتزام بالعدل والقسط، والرحمة صفة المؤمن وليست شيمة النساء، وهكذا في كل قضية تندرج تحت نظرية البيئة وتجد لها في خريطة الفكر والفقه الإسلامي موضعًا يرتبط بملامح تلك الخريطة المتأسسة على عقيدة التوحيد لله الأعلى الذي خلق الإنسان ويسأله يوم القيامة عما استرعاه. ولكن الملاحظ أن التيارات الإسلامية المعاصرة لم تستنبط هذه المقاصد المرتبطة بالبيئة، وتصوغها بلسان معاصر تأسيسًا على تراث غني، بل انصرفت لرؤية مركزية للدولة، وبالتالي لتعريف ضيق للسياسة همّش قضايا البيئة رغم كونها من أولويات المشروع الحضاري الإسلامي في الواقع البيئي الدولي الراهن. 

رابعاً:   أنه بالمقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية والحضارات قبلها التي كان لها تأثّر بها، فيما يتعلق بالأخلاقيات البيئية، وتحديداً ما يتعلق منها بتجنب الإسراف والاقتصاد في الموارد، نجد فرقاً شاسعاً بين الطّرفين، فالحضارة الرّومانية التي لها أثر في الحضارة الغربية كانت تقوم على الأبّهة والفخامة في كلّ شيء، ولا أدلّ على ذلك من هذه الهياكل العمرانية الضّخمة المنتشرة آثارا في البلاد التي وطئتها هذه الحضارة، وأغلب هذه الهياكل بما أُنفق فيها من الموارد الطّائلة إنّما كانت لأغراض باذخة مترفة مثل مصارعة الحيوانات وإقامة الاحتفالات والمباريات، ويُقاس عـليها كثير غيرها من التّصرّفات في المأكل والملبس والمركب، بحيث يتبيّن أنّ تلك الحضارة كانت تسلك مسلك السّرف في استنزاف مقدّرات البيئة دون وعي بما يؤدّي إليه ذلك الاستنزاف من اضطراب وخلل فيها. أمّا الحضارة الغربية فهي قد استصحبت معاني السّرف المنحدرة إليها من الحضارة الرّومانية، واستحدثت غايات تلتقي في مجملها عند تحقيق الرّفاه المادّي غاية عليا للحياة، فأدّى بها ذلك كلّه إلى أن أصبحت أكثر من أيّ حضارة سابقة لا تكتفي بأن تجعل من الإسراف في استنزاف موارد البيئة سلوكا عمليا، بل تجعل من ذلك الإسراف قيمة عليا تجتهد فيه، وتجدّ في اختراع وسائله وطرقه، وتتفنّن في الدّعوة إليه والإغواء به. خامساً: من واقع ما عكسته الشرائع السماوية والتيارات الفلسفية، يمكن القول أنّ مقياس التّقدّم والتّخلّف في أية حضارة من الحضارات هو مدى ما يستهلكه الفرد من الموارد، فكلّما كان شعب أو دولة أكثر استهلاكا كانت أعلى شأنا في سلّم التّقدّم الاقتصادي والحضاري، وإذا ما خفّ الاستهلاك لسبب أو لآخر هبّت أجهزة الدّولة تدفع النّاس إليه، وكلّ استهلاك في أيّ مرفق من مرافق الحياة إنّما هو في حقيقته استنزاف بصفة مباشرة أو غير مباشرة لموارد البيئة المتجدّدة منها والنّاضبة على حدّ سواء. سادساً: إنّ التّعاليم الإسلامية فيما حدّدت للإنسان من وجهة في استخدام مكونات البيئة الطّبيعيّة كانت ترسم له منهجا عمليّا متكاملا في ذلك الاستخدام، وهذا المنهج يبتدئ باستنفاع البيئة استنفاعا مادّيّا وروحيّا، لا يجور فيه الأوّل على الثّاني فيكون العداء والمغالبة، ولا يجور فيه الثّاني على الأوّل فيكون الانزواء، وإنّما ينخرط به في الدّورة البيئيّة الكبرى ملتزما بما قُدّر له فيها من مهمّة في الحياة، وملتزما أيضا بما قُدّر له منها من مقدَّرات تمكّنه من أداء تلك المهمّة. ثمّ إنّ هذا المنهج يكتمل بالرّفق بالبيئة خلال استنفاعها رفقا يلتزم فيه بصيانة مقدّراتها، وذلك بتنميتها أوّلا، وبحفظها من التّلف والتّلوّث ثانيا، كما يلتزم فيه بالاقتصاد في استهلاك مواردها المتجدّدة والنّاضبة. وحينما تكتمل حلقات هذا الفقه البيئيّ العملي في التّعامل الواقعي مع البيئة، وتنضمّ إلى حلقات ذلك الفقه النّظري الذي يتشكّل من التّصوّر الثّقافي الإسلامي لحقيقة البيئة وعلاقتها بالإنسان، وحينما يُلحظ الأثر الفعلي لذلك الفقه كما تمثله تجربة الحضارة الإسلامية، وحينما يُقارن ذلك كلّه بما في الحضارات الأخرى عامّة والحضارة الغربية خاصّة من ثقافة بيئيّة أسسا نظريّة وآثارا عمليّة. فإنه يبرز مدي عظمة الفقه الإسلامي في المجال البيئي، فقه كفيل بأن يسهم إسهاماً فاعلاً في علاج الأزمة البيئيّة الرّاهنة، وأن يجنّب الإنسانية العديد من الأزمات البيئية، لو تعاملت مع قضايا البيئة من خلال منظور إسلامي، ثقافةً نظريةً وتطبيقًا عمليًا.

المصدر: http://www.hdf-iq.org/ar/index.php?option=com_content&view=article&id=206:2011-10-13-13-11-03&catid=48:2010-11-07-15-50-33&Itemid=154

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك