معالم التربية الاقتصـادية في الإٍسلام

معالم التربية الاقتصـادية
فـي الإســلام
المشكلات والتدابير الواقية

إعداد
د. زيـــد بن محمد الرمـــاني
الـمستشار الاقتصادي عضو هيئة التدريس
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم

مـدخــــل

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عبده المصطفى.
أما بعـد:
فإنَّ البحث في التاريخ الاقتصادي للمجتمع الإسلامي في عصوره الزاهية، لا سيما في عصر صدر الإسلام، منبت الحضارة الإسلامية، وخاصة بعد الهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب)، ودراسة الحضارة الاقتصادية النبوية، تزوّدنا بعبر وعظات، وتدعونا إلى التعمّق في معرفة خصائص الأمة الإسلامية، بغية الردّ على أباطيل الأعداء، وتساعدنا في استلهام التجارب الاقتصادية النبوية، المعينة على معالجة القضايا الراهنة، وحلّ المشكلات الاقتصادية الصعبة العصيّة.
وفي هذه الدراسة نقف على أهم المظاهر الاقتصادية، وأبرز الظواهر الاقتصادية، وأوضح المشكلات الاقتصادية، التي عانى منها مجتمع الرسول الكريم  قبل الهجرة إلى المدينة المنورة، وبعدها.
ومن أجل الاختصار والإيجاز رأينا أنَّ من الأنسب أن نختار ظاهرتين اقتصاديتين مهمتين ونسلّط عليهما الضوء تحليلاً ودراسة، فاخترنا: ظاهرة المقاطعة الاقتصادية في مكة المكرمة قبل الهجرة، وظاهرة ورود المهاجرين إلى المدينة المنورة بعد الهجرة، وما نتج عنهما من قضايا ومشكلات؛ مبرزين أهم التدابير الاقتصادية لمواجهتهما.
أولاً : مشكلة الحصار الاقتصادي أو المقاطعة الاقتصادية (حصار الشعب):
أجمع كفار قريش أمرهم على قتل رسول الله ، وكلّموا في ذلك بني هاشم وبني المطلب، ولكنهم أبوا تسليمه إليهم.
فلما عجزت قريش عن قتله  أجمعوا على منابذته ومنابذة مَنْ معه من المسلمين ومَنْ يحميه من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا بذلك كتاباً، تعاقدوا فيه على ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يُسلّم بنو المطلب رسول الله  إليهم للقتل، وعلّقوا الكتاب في جوف الكعبة.
والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات، بدءاً من المحرم سنة سبع من البعثة إلى السنة العاشرة منها، وقيل: استمر ذلك سنتين فقط.
وكان ذلك بعد هجرة الصحابة إلى الحبشة، وبعد إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد اجتمع في شعب أبي طالب، المسلمون والكافرون، المسلمون تديناً، والكافرون حَميَّة، إلا أبا لهب، فقد خرج إلى قريش وظاهر النبي  وأصحابه رضي الله عنهم.
وجهد النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون جهداً شديداً في هذه الأعوام الثلاثة واشتدّ عليهم البلاء، حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله  وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله  بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فوضعتها بين حجرين، ثم أكلتها، وشربت عليها من الماء، فقويت عليها ثلاثاً.
وقال السُّهيلي في (الروض الأُنُف): (كانت الصحابة إذا قدمت عيرٌ إلى مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام، قوتاً لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً وقد علمتم حالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يطعمهم به).
ولقد صبر النبي  ومَنْ معه في حصار الشعب، حتى استثار صبرهم حميّة بعض القوم من أمثال: المطعم بن عدي، وهشام بن عمرو، وزمعة بن الأسود، فقاموا بأمر نقض تلك الصحيفة الظالمة.
وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ رسول الله  قال لأبي طالب: يا عمّ، إنَّ ربِّي قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان. فأكلت الأرضة الصحيفة إلا (باسمك اللهم).
وقد قيل إنَّ مَنْ كتب الصحيفة (صحيفة قريش) قد شلّت يده، جزاءً من الله سبحانه وتعالى، وكان منصور بن عكرمة هو كاتب الصحيفة.

ومن الدروس الاقتصادية المستفادة ، ما يلي:
(1) يقصد بالمقاطعة الاقتصادية: قطع أي علاقة اقتصادية، من مثل: الحظر البحري، الحظر الجوي، تجميد الأرصدة، منع الاستيراد والتصدير، إيقاف المساعدات والمعونات.
(2) بدأت المقاطعة الاقتصادية (حصار الشعب) في السنة السابعة من بعثة رسول الله  وكانت في شعب أبي طالب.
(3) كان حصار الرسول  والصحابة في شعب أبي طالب تمريناً على الصبر، كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد آتت هذه الوسيلة ثمارها في التغلب على الأزمات.
(4) زاولت قريش سلاح المقاطعة الاقتصادية، وضيّقت الحصار على المسلمين ، حتى انقطع عنهم العون وقلّ الغذاء، وبلغ بهم الجهد أقصاه، وسُمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب، وعضَّتهم الأزمات العصيبة.
(5) عانى الصحابة رضوان الله عليهم مع رسول الله  نتيجة الحصار أو المقاطعة الاقتصادية من:

أ‌- أنهم لا يبيعون ولا يشترون.
ب – قطع أسباب الرزق عنهم.
ج – أنهم لا يجدون ما يأكلون وأطفالهم.
د- الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار.
هـ - الجوع وسوء التغذية، حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الحاجة.
نتيجة لذلك، دعا رسول الله  الصحابة للهجرة إلى المدينة المنورة.

ثانياً : مشكلة ورود المهاجرين إلى المدينة المنورة (الهجرة إلى المدينة):
بعد انجلاء الغمة، وذلك بالخروج من الحصار في شعب أبي طالب، وبعد مُضي عام الحُزن، الذي توفي فيه عمّ الرسول أبو طالب، وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وفي السنة العاشرة من البعثة دعا رسول الله  الصحابة للهجرة إلى المدينة، وهاجر بنفسه مع أبي بكر رضي الله عنه، وكان معهما دليلٌ خبير هو عبد الله بن أبي أريقط، وهو حينئذٍ مشرك.
وكان مـمّا قام به رسول الله  بعد هجرته إلى المدينة، أمورٌ مهمّة، منها:
أ – بناء المسجـد : حيث بركت ناقته  في موضع لغلامين يتيمين من الأنصار، وبنى المسجد في هذا الموضع، واشتراه من الغلامين بعشرة دنانير، وقد شارك رسول الله  في بناء المسجد.
ب – المؤاخاة : بين المسلمين عامّة، والمهاجرين والأنصار خاصّة. آخى بينهم على الحقّ والمواساة، وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات، حتى نزلت آية المواريث:           [ الأنفال: 75 ]، وبقيت النصرة والرفادة.
جـ - كتابة وثيقة أو دستور : يحدّد نظام حياة المسلمين بينهم، وعلاقتهم باليهود.
لقد أدت هجرة المسلمين من مكّة إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية على عاتق أهل المدينة.
فالمهاجرون – أهل مكة – من الصحابة كانوا في مكة أهل غنى وجاه، وكانوا أهل تجارة، فأصبحوا في المدينة فقراء.
والأنصار – أهل المدينة من الأوس والخزرج – كانوا أهل زراعة، يملكون الأرض والبساتين والنخيل والإبل والماشية والغنم.
إنَّ ورود المهاجرين من مكة إلى المدينة المنورة أدى إلى:
أ‌- زيادة الأعباء الاقتصادية على عاتق الأنصار.
ب‌- ارتفاع نسبة الفقر في المدينة.
ج – عدم توفّر فرص العمل (المناسبة للمهاجرين).
د – عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتلبية حاجات السكان الجدد (المهاجرون).
هـ - الحاجة إلى دور للسكنى للمهاجرين.
و – وجود الثروات الثابتة في يد الأنصار.
فهل تدور عجلة الحياة الاقتصادية على أساس الثروات الثابتة في يد الأنصار وحدهم، بينما يكون المهاجرون عمّالاً لديهم؟!.
وما هي الحلول المقدّمة، والتدابير الاقتصادية المرئية لحل مشكلة ورود المهاجرين إلى المدينة؟!.
أولاً : لقد استضاف الأنصار إخوانهم المهاجرين بكرم كبير، وتجلّى هذا الكرم في مظاهر عديدة منها:
(1) تأمين السكن.
(2) تأمين الطعام والمال.
(3) تقديم المنائح.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (لما قدم المهاجرون المدينة، قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم، كل عام يكفونهم العمل والمؤونة).
وقد قال رسول الله  للأنصار: (إنَّ إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا: أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله  أو غير ذلك، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم، وتقاسمونهم الثمر، فقالوا: نعم يا رسول الله.
وكان الرجل من الأنصار يجعل للنبي  النخلات.
وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه عند مؤاخاة عبدالرحمن بن عوف، سعد بن الربيع رضي الله عنهما، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد الرحمن: أقاسمك مالي نصفين، وأزوّجك. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلّوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطاً وسمناً، فأتى به أهل منزله.
ووصل الأمر بالمهاجرين أن قالوا يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم.
ثانياً : رفض رسول الله  أن يقوم المجتمع على أساس قوم يملكون ويتحكمون، وقوم آخرين يعملون ويتحكم فيهم، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قول الرسول الكريم : (مَنْ كانت لـه أرض فليزرعها، أو يُزرعها أو فليمنحها أخاه).
وهـــنا قــــدّم رسول الله  حق العمل على حق ملك الرقبــــة.
ثالثاً : حلول وتدابير اقتصادية:
(1) المؤاخاة : لعلاج مشكلة الفقر والغنى، إذ كان غالبية المهاجرين من مكة فقراء، بعد أن تركوا أموالهم وضياعهم وعقارهم وتجاراتهم وأعمالهم، إلا أنَّ بعضهم استطاع أن يهاجر بماله كله، أو ببعض ماله، مثل: أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين رضي الله عنهم وغيرهم، مما كان له الأثر المفيد في التكفّل بنفقات نفسه، وعياله، دون أن يكلّف إخوانه الأنصار شيئاً، بل وأسهم في نفقات بعض إخوانه من المهاجرين.
إنَّ الأثر الاقتصادي للمؤاخاة ، يبرز في:
أ – الـميـــــــراث . ب – السكنى في دور الأنصار.
جـ - العون المالي. د – سدّ حاجة المهاجرين.
(2) الإقطاع: لـمَنْ لا يملك أرضاً، وقد أقطع رسول الله  بلال المزني، والزبير بن العوام، والشفاء بنت عبد الله رضي الله عنهم وغيرهم.
(3) المزارعة : كما في حديث رسول الله : (مَنْ كانت لـه أرض فليزرعها، ومَنْ لم يزرعها، فليمنحها أخاه).
(4) إحيـاء الأرض الموات: كما في حديث رسول الله : (مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهي لـه) وفي رواية أخرى: (مَنْ سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو لـه).
(5) السوق : وقد خطَّ رسول الله  السوق للمسلمين وقال عليه الصلاة والسلام: (هذه سوقكم لا تتحجروا) وفي رواية أخرى قال: (نِعم سوقكم هذا، فلا ينقص ولا يُضربنّ عليكم خراج).
(6) فيء بني النضير : وقد خصّ رسول الله  به المهاجرين، حتى تتقارب مستويات المعيشة، وبيّن ذلك رسول الله  للأنصار، واستئذانهم في ذلك، وقبل الأنصار هذه السياسة، وأعطى رسول الله  أبا دجانة وسهل بن حنيف من الأنصار فقط، لحاجتهما وفقرهما، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهُمَّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار).
إذا تأمّلنا الإجراءات والحلول والتدابير الاقتصادية لهذه المشكلة وغيرها، في مجتمع النبي الكريم ، وجدناها ذات طابع إنساني واجتماعي واقتصادي.
وقد واجه رسول الله  وأصحابه في مكة وفي المدينة مجموعة من المشكلات والأزمات الاقتصادية، كما في مشكلة الجدب والقحط في المدينة التي انتهت باستسقاء الرسول للصحابة حتى ارتوت الأرض ونبت الزرع، ودرّ الضرع وانتعشت الحياة الاقتصادية، وهناك أزمة المياه في المدينة التي انتهت بشراء بئر رومة الذي اشتراه عثمان ذو النورين رضي الله عنه، وهناك مشكلة تمويل النفقات الحربية التي انتهت بتجهيز جيش العُسْرة، وهناك أزمة التطويق الاقتصادي من خلال التضييق على المسلمين في أداء عباداتهم وأموالهم، إضافة إلى مواقف اليهود والمنافقين وكفّار قريش من الرسول الكريم وأصحابه، والأذى الذي تعرّض لـه الرسول  والصحابة قولاً وفعلاً، لا سيما بعد وفاة عمّ الرسول أبو طالب وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في عام واحد (عام الحُزْن)، الأمر الذي دعا الرسول الكريم  لحث أصحابه للهجرة إلى الحبشة، ثمّ إلى المدينة المنورة.
وقد قام عليه الصلاة والسلام باتخاذ التدابير والإجراءات والإصلاحات الاقتصادية اللازمة لمواجهة المشكلات والأزمات المختلفة، وذلك من خلال:
أ- الزكـاة : حيث يتم تحريك المال من جهة تكون في الغالب هم الأغنياء، إلى جهة أخرى في الغالب هم الفقراء.
ب – الميراث والصدقات وحق الضيف والهبات والمنح والهدايا: لتقليل الفوارق المالية بين فئات المجتمع، وتخفيف الأحقاد وآثارها في العلاقات الاجتماعية.
جـ - الجزية : مساهمة من رعايا الدولة من أهل الذمة ماليّاً في سدّ حاجات الجماعة.
د – تحريم الربا : للابتعاد عن الكسل، والكسب من غير عمل.
هـ - الحمى والإقطاع وإحياء الموات : لتوسيع دائــــرة العمل والإنتاج.
لقـد كانت المعالجات الاقتصادية في عهد رسول الله ، تهدف إلى الوصول إلى درجة من الرفاهية، من حيث تناول الطيبات، والأخذ بالزينة والسّعة في العيش، دونما الوصول إلى مرحلة الإسراف والتبذير، والسفه والترف المنهي عنه.
لقد وضع الرسول الكريم  سياسة اقتصادية سليمة، مبنية على الصدق والأمانة وحسن المعاملة ومكارم الأخلاق، ومحاسن العادات.
كما بنى عليه الصلاة والسلام الأسس الإسلامية الصحيحة، والقواعد المتينة لاقتصاد يمتاز بالرواج والانتعاش، إذ حرّم مثلاً ما حرّمه الله في البيوع الظالمة، والمعاملات الفاسدة، وبيّن المنهج السليم في الكسب الحلال، كما حرّم الربا والاحتكار، ونهى عن الغشّ والتدليس وغيرها من الأمور الفاسدة.
وبذلك انتعشت الحياة الاقتصادية، وعاشت مكة والمدينة حياة رواج اقتصادي، وتحوّلت إليهما السيادة التجارية.


الأهميـة الاقتصادية للصّفة

الصّفة تدبير اقتصادي مؤقت، دعت إليه الظروف الصعبة التي عاشها المسلمون في المدينة، ذلك البلد الذي كان اقتصاده يقوم على الزراعة، فالمدينة بلد زراعي يغلب على أهله العمل بها، وقد غلب اليهود فيها على التجارة والصناعة. وقد مرّت ظروف بالمدينة قاسية، فهناك ازدياد مستمر في عدد السكان، نتيجة الهجرة وهذه الزيادات تحتاج إلى رعاية حتى يؤمن الواحد منهم مورد رزق لـه، إضافة إلى كثرة الحقوق والمسؤوليات.
لذا ، كانت الصُّفة تدبيراً نبويًّا، حلَّ مشكلة اقتصادية، هي مشكلة الفقر، أو ظاهرة الفقر.
والصُّفة مرفق اقتصادي مهم، كان لـه أثره طوال المرحلة المدنية.
قال القاضي عياض رحمه الله: الصُّفة ظُلّة في مؤخر مسجد رسول الله، يأوي إليها المساكين، وإليها ينتسب أهل الصّفة.
وقال ابن حجر رحمه الله : الصُّفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلّل، أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل.
وأصل الصُّفة من صفة البيت، وهي شيء كالظُّلة قدامه.
والذي يظهر من دراسة السيرة أنه بعد قدوم المهاجرين وبناء المسجد، كان بعض المسلمين من المهاجرين يلجأون إلى النوم في المسجد، وربما كان ذلك لضيق المكان الذي أنزلوا فيه.
وبعد مضي عام ونصف من الهجرة، نزلت الآيات التي تدعوا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت تجاه بيت المقدس. وأصبحت الصُّفة دار ضيافة، وكانت مكان إقامة مؤقتة، فمن وجد منهم عملاً أو مأوى خارجها، غادرها ولم يستمر فيها.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: وأهل الصُّفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد.
ذلك أنه بعد الهجرة إلى المدينة استضاف الأنصار إخوانهم المهاجرين في بيوتهم وشاركوهم النفقة، إلا أنَّ كبر حجم المهاجرين وكثرتهم، جعل قدرة الأنصار على الاستيعاب محدودة، وخاصة وأنَّ الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه، فكان مَنْ لم يتيسّر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصُّفة في المسجد.
فكان الرجل إذا قدم على النبي  وكان له في المدينة مَنْ يعرفه نزل عليه، وإلا نزل مع أصحاب الصُّفة.
وكان عامة مَنْ نزل الصُّفة من العزّاب الذين لا أهل لهم. كما كان عامتهم من المهاجرين، إذ الأنصار لهم دورهم، وإن كان هذا لا يمنع من نزولهم بالصُّفة.
وكان أهل – أو أصحاب – الصُّفة أناساً فقراء، وكان عددهم يختلف بحسب اختلاف الحال، ومَنْ وجد غنى بعمل أو زواج أو غير ذلك خرج من الصُّفة.
وبناء على ذلك، لم يكن أهل الصُّفة أناساً ثابتين؛ لأنَّ المكث في الصُّفة إنما هو وضع اضطراري يلجأ إليه مَنْ به حاجة.
ولم يكن هناك مورد ثابت ينفق على أهل الصُّفة منه، وإنما كان رسول الله  يؤمّن ذلك بوسائل مختلفة مثل:
(1) الصدقة، فإذا أتت رسول الله  صدقة، بعث بها إلى أهل الصُّفة ولم يتناول منها شيئاً.
(2) الهدية، فإذا أتت رسول الله  هدية، أرسل إلى أهل الصُّفة وأصاب منها وأشركهم فيها.
(3) مساهمات الأنصار، فكان أصحاب حقول النخيل يسهمون في ذلك، إذ كان الرجل منهم يأتي بالقنو والقنوين يضع ذلك في المسجد عند أهل الصُّفة.
(4) السبي، فكان رسول الله يقول لبنته فاطمة رضي الله عنها حين أتاه سبي: والله لا أعطيكم وأدع أهل الصُّفة تطوي بطونهم من الجوع.
مما سبق نستنتج الدروس التالية :
(1) الصُّفة ليست مكان إقامة دائمة، فالذين وجدوا فيها في يوم، ربما لم يكونوا فيها في اليوم الذي قبله، أو ربما لن يستمروا فيها إلى اليوم الذي يليه، أي أنَّ تلك الشدّة كانت مؤقتة.
(2) هذه الحال من الشِّدة ليست جديدة على حياة الفرد العربي، الذي تعود على قسوة الجوع في كثير من أوقاته، فقد كان العرب يأكلون الخنافس والجُعلان، كما قال المغيرة بن شعبة ليزدجرد.
(3) الأحاديث المتعلقة بالصُّفة أكثرها من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، الذي كان أكثر الناس مكوثاً في الصُّفة. وقد كان مكثه في الصُّفة رغبة منه لا اضطراراً، حتى يلازم رسول الله ، ليسمع أكبر قدر ممكن من حديث رسول الله ، ويعرف أحواله، وتبركاً بخدمته عليه الصلاة والسلام.
(4) ليس هناك نصٌ يحدّد تاريخ انتهاء دور الصُّفة، كدار ضيافة مؤقتة، ويغلب على الظن أنَّ دورها انتهى بفتح مكة، حيث أنهى مكة (الهجرة)، لا هجرة بعد الفتح.
ويذكر بعض العلماء أنَّ دور الصُّفة استمر حتى بعد الفتح حتى جاء الله بالغنى، كما قال ابن سعد رحمه الله، أي حين وسّع الله على المسلمين.
(5) عدد أصحاب الصُّفــة، ليس في ذلك إحصـــاء دقيق، فقيل: (400)، وقيل: (600)، وقيل: (700). فقد كانوا يقلون تارة، ويكثرون تارة أخرى.

الحياة الاقتصادية للرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم

يقول تعالى:           [ إبراهيم : 4 ]، وقد كان الرسول الكريم  بناء على ذلك قادراً على مخاطبة قومه بلغتهم، وكان فصيحاً بليغاً، وكان حديثه  إلى أهله وعشيرته الذين يعيشون على ما تُدره التجارة من رزق، كان حديثه، وكان غير قليل من آيات القرآن أيضاً، في شؤون المال والتجارة.
كما أنَّ رسول الله  مارس كثيراً من النشاطات الاقتصادية، داخل مكة وخارجها، قبل البعثة وبعدها، وكان الاقتصادي الأول، النموذج الذي يُقتدى به ويُتأسى بأقواله وأفعاله، مصداقاً لقوله تعالى:          [ الأحزاب: 21 ].
(1) التجـارة : اشتغل رسول الله  بالتجارة، فكان يشتري البزّ من سوق حباشة – على طريق اليمن – ويبيعه في مكة. واشتغل رسول الله  بالتجارة، حيث دخل في شركة مع السائب بين أبي السائب، وكان رسول الله  يقول له: كنت شريكي وكنت نعم الشريك، لا تداري ولا تماري. واشتغل رسول الله  بالتجارة، حيث ضارب بمال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وقام بعدة سفرات إلى اليمن، وجُرش، وسوق حُباشة، وإلى الشام (بُصرى). وقد شجّع رسول الله  الاستيراد، ونهى عن الاحتكار، كما في قولـه : (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون).
وخطّ رسول الله  أول سوق بالمدينة المنورة بعد الهجرة بنفسه، وقال: (اللهم بارك لأهل المدينة في سوقهم). ونهى رسول الله  عن كسر سكّة المسلمين، وكانت السكّة المشهورة عند المسلمين آنذاك هي النقود الرومية، والفارسية (الدنانير والدراهم).
(2) الزراعـة : ازدرع رسول الله  في الجُرْف، بضم الجيم وسكون الراء، موقع في شمال المدينة المنورة، وشجّع رسول الله  أهل المدينة على الزراعة، وأصلح ما بها من جهالات. ففي شأن السلف في الثمار، قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، وفي شأن المزارعة قال عليه الصلاة والسلام: (فيمَ يستحل أحدكم مال أخيه). ودعا رسول الله  إلى إحياء الأرض الموات، فقال: (مَنْ أحيا أرضاً ميتة فهي له) وفي رواية: (فهو أحق بها). وقد أقطع رسول الله  بلال المزني، والزبير بن العوام، والشفاء بنت عبد الله رضي الله عنهم، بغرض الاستفادة من الأرض.
وفي الزراعة توكّل على الله، ويحصل بها ما يقيم المرء صلبه، ويتقوى به على طاعة الله، وفيها نفعٌ عظيم للإنسان والبهيمة والطير. لذا قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو حيوان إلا كان له به أجر).
(3) الرعي: وقد رعى رسول الله  الغنم، جاء في الحديث قولـه عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا رعى الغنم، فقيل له، وأنت يا رسول الله، قال نعم، كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة) وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: (بُعث موسى وهو راعي غنم، وبُعث داود وهو راعي غنم، وبُعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد).
(4) الوديعة : كان يُعرف رسول الله  في مكة قبل البعثة، بالأمين، لصدقه وأمانته ووفائه. وكان أهل مكة القرشيون يُودعون عند رسول الله  أموالهم وأماناتهم.
(5) الحسبة : مارس رسول الله  الحسبة بنفسه، كما في قصة صاحب الصُبْرة، (أفلا جعلته فوق، من غشَّنا فليس منا). وأشرف عليه الصلاة والسلام بنفسه على المكاييل والموازين وتأكد من سلامتها، وهو القائل: (المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة).
(6) حلف الفضول : اشترك رسول الله في حلف الفضول، الذي تعاقد فيه قبائل من قريش وتعاهدوا بالله (لنكونن مع المظلوم حتى يُؤدى إليه حقه)، كما تعاهدوا على (التآسي في المعاش). وقال رسول الله : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت).
(7) كان رسول الله : (يحمل الكلّ، ويكسب المعدوم، ويُقري الضيف، ويعين على نوائب الحق) كما قالت ذلك خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
(8) كان رسول الله  في مهنة أهله، يستوقد ناره، ويَقُم بيته، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه.
(9) تجارة الأمين والدروس الاقتصادية المستفادة:
أ- تعلّم رسول الله  وهو صغير كثيراً من المهارات، واكتسب الخبرة مع قوافل التجارة، واكتسب السمعة التجارية، حيث لُقّب بالأمين.
ب – السمعة التجارية الطيبة للرسول ، قاعدة أساسية للتجارة داخلياً وخارجياً، وهذا يعني أنَّ الرجل الأمين أهمّ من رأس المال المستثمر في التجارة.
ج – الصفات المتعددة لرسول الله  والتي ظهرت من خلال اشتغاله بالتجارة، تعتبر من أهمّ القواعد التجارية في رأس المال البشري، كالأمانة والصدق، والسعي في عمله بإخلاص، وعدم الغش أو التلاعب في التجارة.
د – السيرة العطرة للرسول  ومشاركته للقوافل التجارية وتجارة الأمين، كلها تُعدُّ دروساً اقتصادية، من حيث ضرورة الاحتكاك الاقتصادي والتجاري مع الشعوب في تجارة التبادل الدولي.
هـ - نأخذ من تجارة الأمين مع قوافل قريش، أسس التخطيط الاقتصادي والتجاري السليم، من حرّية التجارة والنمو الاقتصادي للشعوب.



التصحيحات الاقتصاديــــة في عهــد
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

أباح الإسلام للناس البيع والشراء، وبيّن المجالات المشروعة للكسب، وشجّع عليه، وعاب الكسل والخمول وسؤال الناس.
وقــــد أنــزل الله قولـه تعالى:  •                       •      [ البقرة: 275 ]. ولأن البيع قد يقع فيه بعض الصور التي منعها الشرع وحرّمها، لهذا كان على ولي الأمر أو مَنْ ينوب عنه أن يراقب هذا، خاصة لكثرة انتشار الجهل، وفشو السلوكيات الاقتصادية الخاطئة.
ولذا كان رسول الله  ينكر على صحابته البيوع المعتبرة من أنواع الرِّبا، ويخبرهم أنها من الرِّبا، وأنَّ ذلك تحايل للتوصل إليه، وأنَّ ذلك من اختراع اليهود، حتى يُحلِّوا ما حرّم الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله  مرّ على صُبْرة طعام، فأدخــــل يـــده فيــها، فنالت أصابعه بللاً. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: (أفـلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، مَنْ غشّ فليس مني) [ أخرجه مسلم ].
قال ابن تيمية في كتابه: (الحسبة في الإسلام): والغشّ يدخل في البيوع؛ بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيراً من باطنه، كالذي مرّ عليه النبي  وأنكر عليه، ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبخ والعدس والشواء وغير ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام يمنع بعض الصحابة من بعض الحرف، ويدعوهم إلى اختيار الأفضل من ذلك، والبحث عن الصناعات العالية ما يغلب عليها وفيها طلب الأجر والمثوبة من عند الله، ونهاهم عن جعل شيء منها لغير وجه الله عز وجل، حتى لا يُقصد بها طلب الدنيا والتكسب عن طريقها.
يقول عبد الرحمن السليم في كتابه (حسبة النبي): وكان  يرسل بعض المحتسبين ليمنعوا الناس من مخالفة أيّ شيء من أصول البيع ويضربوهم على ذلك.
فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما، حديثاً عن رسول الله  قال فيه: (لقد رأيت الناس في عهد رسول الله  يبتاعون جزافاً – يعني الطعام – يضربون، أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم) [ متفق عليه ].
وكان رسول الله  القدوة في مجال الإنفاق، فقد كان ينفق عليه الصلاة والسلام بسخاء، ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً، وكان يقول لأبي ذر رضي الله عنه وقد أبصر أحُد: (ما أحبُّ أنه تحوّل لي ذهبٌ يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث إلا دينار أرصده لدَيْن..) [ أخرجه البخاري ].
وكان عليه الصلاة والسلام يعلِّم الصحابة أنَّ الإنفاق يجب أن يكون من حلال، وأن يكون عن تروّ وعن سعة حاجة، ولا يكون الرجل محتاجاً إلى المال، فينفقه، ثم يأتي فيسأل الناس.
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي على بلال وعنده صُبْرة من التمر، فقال ما هذا يا بلال؟ قال: يا رسول الله لك ولضيفانك، قال: (أما تخشى أن يكون لها بخار من نار، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) إسناده حسن.
وكان رسول الله  يوفّق بين الأمر بالإنفاق وبين عدم الإنفاق، فإن كان الرجل محتاجاً، لو أنفق لتضرر بنفقته، فإنه يمنعه من ذلك بل ينتهره، وأما إن كان ذا سعة وذا يد عليا، فالإنفاق منه مطلوب.
وكان عليه الصلاة والسلام يُعلّم صحابته العدل في الإنفاق بين الأولاد، حتى لا تقع العداوة والشحناء فيما بينهم، ويُسمّي ذلك جَوْراً وزُوراً. كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (لا تشهدني على جور) [ متفق عليه ].
وكان رسول الله  يطلب من الدائن أن يرفق بالمدين، وإذا تنازعوا كان يأمره أن يُلقي عنه شطر المال لفصل النزاع، وليبقي الود والصلة بينهم كي لا يصبح هذا الدَّين قطيعة بعد أن كان صلة.
وقد ورد أنَّ رسول الله  قال لكعب بن مالك رضي الله عنه، في شأن دَيْن كان له على ابن أبي حدرد، يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال: كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله  : قم فاقض) [ متفق عليه ].
ولأنَّ النساء أكثر وقوعاً في الخطأ والتساهل في شؤون الدين، كان رسول الله يعظهن ويدعوهن إلى التكفير عن ذنوبهن، بدفع الصدقات والإنفاق في سبيل الله. كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه (تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنّم...) [ متفق عليه ].
هذه بعض التصحيحات الاقتصادية في عهده ، مارسها، وندب أصحابه للأخذ بها والالتزام بها، من أجل طهارة التكسب، ورشادة الإنفاق، وعدالة التوزيع، وسلامة حياة الفرد والمجتمع، ورقي الأمة.



معالـــم التـربيـــة الاقتصادية عند
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

التربية الاقتصادية علمٌ وفنٌ، علمٌ يدرس الجوانب التربوية للظاهرة الاقتصادية، وفنّ يبحث في سلوكيات الأفراد والمجتمعات، أثناء ممارستهم للعمليات الاقتصادية.
والسؤال المهم هو : ما هي أهم معالم التربية الاقتصادية في الإسلام، التي نَشَّأ رسول الله  أصحابه عليها، فآتت ثمارها الطيبة ونتائجها الإيجابية؟
فيما يلي نتلمس أهم تلك المعالم، بعد الرجوع إلى كتب السيرة النبوية، وأمهات التاريخ الإسلامي، ومصادر تراجم الصحابة والسلف الصالح.
أولاً : غنى النفس: إنَّ كل إنسان حريص على كثرة أمواله. وهذا الحرص غريزة قائمة في النفس الإنسانية (غريزة حب التملك)، ولذا، يحرص الإسلام من خلال توجيهاته إلى تهذيب هذا الحرص، ووضعه في مقام مناسب.
جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه، قول رسول الله  لـه: أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت (أبو ذرّ): نعم، وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم. قال رسول الله: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب) [ حديث صحيح].
هنا يرتقي الرسول الكريم  بمعنى الغنى إلى مقام أرفع مما تعارف عليه الناس. حيث إنَّ غنى القلب يعني عدم تقبّل المال من كل سبيل، بل مما أحلّه الله، وكذا عدم تقبّل المال من كل سبيل، بل مما أحلّه الله، وكذا عدم التطلع إلى ما في أيدي الناس. وقد جاء في حديث آخر: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)، رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم حديث: (انظروا إلى مَنْ أسفل منكم ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله).
ثانياً : العمل: لا يتوافر للإنسان غنى النفس إلا إذا استطاع الاستغناء عن حاجته إلى الآخرين، وهذا يتوفر بإحدى وسيلتين: وسيلة نفسية، ووسيلة مادية.
أما الوسيلة النفسية فتتضح من خلال حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله  فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، مَنْ يستعفف يعفّه الله، ومَنْ يستغن يغنه الله، ومَنْ يتصبّر يصبّره الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) [ رواه البخاري ]. إذن الوسائل النفسية أهمها: التعفف، الاستغناء، الصبر.
وأما الوسيلة المادّية فهي العمل، جاء في صحيح البخاري: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).
ولهذا كان أهل مكة يعملون بالتجارة في مكة، وبالزراعة في المدينة.
ثالثاً: الاكتفاء الذاتي: أي اعتماد الفرد على دخله الخاص، بحيث تكون مصروفاته في حدود دخله أو أقل من ذلك، حتى لا يحتاج إلى الاستدانة من الآخرين. وفي هذا دعم لاقتصاد الأمة، وتخفيف على الدولة من الأعباء الاقتصادية. جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه (فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان) [ رواه مسلم ]. وفي هذا دعوة من الرسول الكريم  إلى تقليل المصروفات، ويمكن أن نقيس على الفراش سائر الحاجات الأخرى.
وفي صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي  إذ أُتي بجنازة فقالوا له: صلِّ عليها، فقال: هل عليه دَيْن؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً، قالوا: لا، فصلّى عليه . ثم أُتي بجنازة أخرى، فقالوا يا رسول الله، صلّ عليها، قال: هل عليه مَنْ ديْن؟ قيل: نعم، قال: (فهل ترك شيئاً؟) قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلّوا على صاحبكم؟ قال أبو قتادة ، صلِّ عليه يا رسول الله، وعليّ دَيْنه، فصلّى عليه. وهنا دعوة إلى البُعد عن الاستدانة من الآخرين، لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
رابعاً : تربية العطاء : جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله  (اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة) [ رواه مسلم ]. وحث رسول الله  على الصدقة، ونفّر من المسألة، جاء في حديث عدي بن حاتم، قول رسول الله : (مَنِ استطاع أن يستتر من النار، ولو بشق تمرة فليفعل).
إذاً يرتفع المستوى الاقتصادي للمجتمع، إذا كثُر فيه المعطون، وقلّ فيه الآخذون.
هذه هي أهم معالم التربية الاقتصادية في الإسلام، التي نشَّأ رسول الله  أصحابه عليها، وربّاهم على الأخذ بها، ودعاهم إلى سلوكها، فآتت ثمارها على الصحابة، وعلى المجتمع الإسلامي، وكان لها صداها في مجال الدعوة إلى الإسلام.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالـمين.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك