الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر

الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر

 

د. رمضان عمر

 

بين الإصلاح والتجديد قرائن اتفاق ودقائق اختلاف، فالأولى  تشير إلى إعادة صياغة واقع فاسد وغربلته مما علق به  من شوائب، أو إصلاحه من عطب أحل به، بينما تشير الثانية إلى بعث روح جديدة فيه بعد أن جمد وتوقف .

والحديث عن التجديد والإصلاح في ظل الثورات العربية  وما تبعها من  انتخابات اقتضت أن تقدم الحركات الإسلامية رؤية تواكب العصر وتستجيب لمتطلبات المرحلة، ولا يعني بالضرورة انقلابا فكريا أو انحرافا في التصور أو تمردا على مدرسة من المدارس، وإحداث نوع من التغيير الإستراتيجي في حركة التصور السياسي والفكري الإسلامي، بل هو امتداد طبيعي لمراحل سابقة لكنه هذه المرة أضحى  حالة وعي بالواقع واستثمار ضمن فقه الأولويات لمقتضياته.

فهذه الصحوة المعاصرة بكل ما تحمله من جديد تمثل امتدادا لحركات فكرية وعلمية ضاربة في الجذر التاريخي الحديث..

فقد نقشت لنا الذاكرة التاريخية أسماء أعلام رسموا معالم التجديد الفكري على صفحات هذه البسيطة من طنجا إلى جاكرتا، ومن جنوب السودان إلى أعالي القوقاز .

"يذكر التاريخ منهم مجدد الجزيرة العربية باعث الدعوة السلفية، خريج المدرسة الحنبلية الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ/ 1792م) الذي قامت على أساس دعوته الدولة السعودية.

ويذكر منهم مؤسس الحركة السنوسية في ليبيا الشيخ المعلم المجاهد محمد بن علي السنوسي (ت 1276هـ/ 1859م).

 ويذكر منهم الداعية الثائر المجاهد، الذي أيقظ الإسلام في الشعب السوداني، وقاتل الاستعمار الإنجليزي، وانتصر عليه، وأقام للإسلام دولة في جنوب وادي النيل، الإمام محمد أحمد المهدي (ت 1302هـ/ 1885م).

 ويذكر منهم موقظ الشعوب، ومنبه الأفكار، وعدو الاستعمار، وباذر بذور الثورة عليه في عالم الإسلام، داعية (الجامعة الإسلامية) السيد جمال الدين الأفغاني (ت 1314هـ/ 1897م).

ويذكر منهم الأديب الرحالة المصلح، داعية الحرية السياسية، وعدو الاستبداد السياسي، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب الكتابين الشهيرين: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى" (ت 1320هـ/ 1902م).

ويذكر منهم تلميذ الأفغاني وشريكه في تحرير (العروة الوثقى) وفي حركة الإيقاظ والتجديد، رائد الإصلاح الفكري والتعليمي، وشيخ المدرسة العقلية الحديثة الأستاذ الإمام محمد عبده (ت 1323هـ/ 1905م).

 ويذكر منهم تلميذ الشيخ عبده وصاحبه، وناشر علمه، الذي أخذ منه شيخه الاستقلال في الفكر، والثورة على الجمود والتقليد، وأضاف إليه التوغل في علم الحديث وآثار المدرسة السلفية، فجمع بين القديم والجديد، ووازن بين المعقول والمنقول، وأصبح يمثل بجلاء (السلفية المجددة) التي تجسد الأصالة والمعاصرة بحق. ذلكم هو العلامة السيد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) و(تفسير المنار) والكتب التي كانت في وقتها نماذج تحتذى، ومصابيح بها يهتدي (ت 1354هـ/ 1935م).

 ويذكر منهم المربي المجاهد الصابر، الذي قاوم علمانية الكماليين، وطغيان أتاتورك وأشعل جذوة الإيمان في قلوب الأتراك، بالتربية والقدوة، وبالرسائل الموجهة، الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي.

ويذكر منهم الرجل القرآني، والمعلم الرباني، الذي جسد بدعوته شمول الإسلام وتوازنه وربانيته وواقعيته، فربط الفكر بالحركة، ومزج العلم بالعمل، وجمع بين التربية والجهاد، كما جمع بين لقاء العقيدة السلفية وروحانية الصوفية السنية، ودعا إلى الإسلام عقيدة ونظاما، دينا ودولة، عبادة وقيادة، مصحفا وسيفا، وحارب الفساد والظلم في الداخل والاستعمار والصهيونية في الخارج، وربى على الإسلام جيلا جعل الله غايته، والرسول أسوته، والقرآن شرعته، والجهاد وسيلته، والموت في سبيل الله أسمى أمانيه، إنه مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحديثة في العالم: الإمام الشهيد حسن البنا (ت 1368هـ/ 1949م) واضع أسس العمل الإسلامي الجماعي. الذي انتشرت رسائله وتلاميذه، وتلاميذ تلاميذه في العالم كله انتشار أضواء الصباح، وشاء الله أن تكون المحن المتتابعة التي صبت على إخوانه وتلاميذ مدرسته، سببا في هجرتهم بدعوتهم، وتفرقهم في أقطار الشرق والغرب، فتنتشر بهم الدعوة والصحوة في كل مكان.

 ويذكر منهم المفكر المجدد، صاحب النظر العميق، والتحليل الدقيق، ناقد الحضارة الغربية على بصيرة، والداعي إلى نظام الإسلام عن بينة، صاحب الكتب والرسائل التي ترجمت إلى عشرات اللغات، الذي وقف في وجه دعاة (التغريب) وأعداء السنة والمنادين بنبوة جديدة، والمرتزقة من الخرافيين والقبوريين، ومشوشي الفكر، من المقلدين الجامدين مؤسس كبرى الجماعات الإسلامية في شبه القارة الهندية: العلامة أبا الأعلى المودودي (ت 1399هـ/ 1979م) الذي اتفقت أصول دعوته مع أصول دعوة حسن البنا، وإن لم يلتقيا، وإنما التقى أبناء المدرستين وتعاونوا في مجالات شتى، وخصوصا في أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى".

 

 هذه السلسلة الذهبية في التجريب الفكري المنير لا تغفل حقيقة التطور الدرامتيكي في إستراتيجيات هذه الحركات عمليا بعد أن أصبحت وجها لوجه مع ممارسة السياسة؛ ذلك أن وجود هذه الحركات عبر عقود لم يتح لها فرصة الممارسة العلنية، وبقيت تخاطب الشعوب ضمن إطارها التنظيمي الدعوي، مما جعلها حركات تربوية فكرية لا حركات ( برامج سياسية).

 

التجديد  ومقتضيات المرحلة

  أما الآن فقد أصبحت تواجه تركة سياسية مفرغة من قيمها الايجابية بعد انهيار النظام العربي الدكتاتوري القديم، وتطالب بأن تلبي حاجات الناس وفق إستراتيجيات الواقع، فتسد فراغا كبيرا، وتنقل الأمة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا وعلميا إلى حيث تريد الأمة أن تكون، ثم تعمل بعد ذلك على إقناع هذه الجماهير التي لم تعتد أن ترى الإسلام حاكما في حياتهم اليومية الوظيفية أن يلبي تلك الحاجات .

أي أن التصور وحده لا يكفي كطرح إستراتيجي في التفاعل المطلوب، بل على الحركة أن تقنع جمهورها بأنها قادرة على ملء الفراغ المفترض، وتلبية الاحتياجات العصرية المعروفة دون أن تفرط بثوابت الدين والعقيدة، ودون أن تصبح مضطرة لإطلاق شعارات لا تستطيع تطبيقها أو تنجر خلف تنازلات لا يرضاها الشرع.

  إذا كان الواقع السياسي التفاعلي السريع هو الذي فرض هذا التغيير في إستراتيجيات التفكير الحركي؛ فإن المطلوب اليوم الانتقال من مجرد الطرح الفكري إلى الطرح المؤسساتي الإداري، لتنظيم شؤون الناس في عام 2012 وما بعدها؛ أي أننا بحاجة إلى هيكلة العمل الفكري، ومن هنا فلا يجوز أن يبقى السباق تناظريا وتنظيريا بين الحركات في طرح أيديلوجياتها الفكرية .

  فثوابت العقيدة واضحة وأركان الإسلام أيضا واضحة لكن الفراغ المتشكل في ظل الثورات العابرة يتمثل في القضايا الإدارية والسياسية والاقتصادية، فهل كانت هذه الحركات على استعداد واعٍ لتحمل المسؤولية وتقديم برامج فاعلة؟

 

مبررات وآفاق الإصلاح والتجديد بعد عام 2011

 حاول الغرب أن يجعل من أحداث سبتمبر -في بداية القرن الحالي- فاصلا بين زمنين، ودخل المصطلح القاموس الكوني تحت عبارة (ما قبل أحداث سبتمبر وما بعدها)، وأكره العالم على ولوج هذه المعادلة -كما تريد أمريكا- وصنف البشر وفق القراءة الأمريكية إلى: إرهابيين وحضاريين .

 

  لكن عقدا من الزمن قلب الموازين وأعاد الكرة إلى ملعب الحقيقة؛ فكانت انعطافة عام 2011 خير انعطافة وأصدق تغيير، تستحق أن يقال معها (العالم بعد عام 2011 والعالم قبله).

 هذه الحقيقة الساطعة تجعل التفكير المنطقي في إستراتيجيات الفعل السياسي الإسلامي  ضرورة من ضرورات الإصلاح والتجديد. ثم إن انتقال الحركة الإسلامية العالمية من مربع المعارضة إلى واجهة القيادة حضاريا وميدانيا يجعل هذه الضرورة أكثر إلحاحا، ويقتضي أن تقف الأمة على عتبات واضحة في مفهوم هذا الإصلاح المرتقب، ومن هنا أجد أن من الخير أن نضع هذه النقاط التي تمثل رؤية في استراتيجيات التفكير السياسي المقبل الملائم للعالم بعد 2011:

 

 أولا – لا مساومة مع العقيدة:

  فان  عمل المسلم في الدنيا لا ينفلت من غاية خلقه وهي إرضاء ربه، فأي انحراف عقدي عاقبته وخيمة، ولكن التصور العقدي لم يكن في يوم من الأيام تصورا انغلاقيا؛ فهو حجة تأتي وتستحضر وتمارس وفق وجه شرعي .

 ثانيا- مركزية المشروع الإسلامي:

  نحن أمة واحدة تنفلت من إقليميتها، وتسعى لتوحيد البشرية تحت لواء الخالق جل وعلا، ومن هنا فإن الانغلاق السياسي والأقلمة لن يخدم مشروع الصحوة؛ فالعالم الآن يتشكل سياسيا من خلال مركزيات اقتصادية وفكرية وثقافية، والمسلمون أمة واحدة، ولا يعني هذا انتفاء الخصوصية ومراعاة الأقلمة من خلال التطبيق العملي للسياسة، لكن المشروع الإستراتيجي هو في توحيد الأمة.

  هذا التوحيد الجغرافي يقتضي توحيدا فكريا؛ فنحن حينما نتحدث مثلا عن فوز الإسلاميين في انتخابات مصر -نقصد السلفيين والإخوان- فهم من سيقودون مصر القادمة، فهل ستقاد مصر الإسلامية بخلافات حالقة، تحرق الحصاد، وتفشل التجربة معاذ الله!؟

ثالثا- الانفتاح على العالم:

مشروع الأمة هو أن تصل رسالة السماء إلى كل شبر، والعلاقات الدولية علاقات معقدة، ومفهوم الجهاد وفرضيته تخضع لأسس وضحتها الشريعة، والحكمة في العمل السياسي جزء من العمل ذاته، ولا اعتقد أن المجابهة قبل البناء والاستعداد تخدم مشروعنا  وتنهض به.

  والانفتاح لا يعني الذوبان بل استحضار المسؤولية في تشكيل مشروع إسلامي عالمي قادر على المواكبة والمنافسة وتقديم الأفضل.

 رابعا- المؤسسة الفقهية:

 لا أدعو إلى تحرير الفقه من قيوده فليس هذا من مهمات أمثالي، لكني أنتظر من الفقه أن يكون فاعلا ومدركا لمقتضى التجربة في استكمال دور السياسي لإقامة منظومة قيم إسلامية قادرة على إقناع البشرية والمرور بالقافلة إلى بر الأمان، أما أن يبقى الفقه جامدا معاندا والسياسة تبحر في التجريب، فان التناقض النظري بين الممارسة  والمرجعية ستفقد الخطاب الإسلامي وهجه وتخلخل أساس بنائه، وهذا  ما لا نريده ولا نتمناه.

 خامسا - الاستفادة من التجربة الماضية:

 عاشت الحركات الإسلامية عقودا من التجريب الفكري والسياسي، ولم تستطع الحركات الإسلامية متفرقة أو مجتمعة أن تفرض منظومة قيم تحكم مرافق الحياة السياسية والفكرية، والثقافية في قطر من الأقطار؛ فقد أخفقت السودان، وفشلت في أفغانستان، وحوصرت في فلسطين، وانتهت إلى مراجعات متكررة في كل من مصر والجزائر، وسوريا. والإخفاق الذي نتحدث عنه لا يتمثل في أدائها الفكري وتأثيرها الدعوي بل في موقعيتها السياسية كمشروع حضاري منافس يقف أمام الاختراقات الغربية الفكرية والسياسية والاقتصادية؛ حيث بقيت هذه الحركات على الرغم من جهودها المشكورة تمثل مدارس فكرية خارج نطاق التمثيل السياسي على الأرض، ومن هنا فإن المنعطف الذي تواجهه هذه الحركات بعيد الثورات العربية منعطف خطير يستدعي أن تراجع هذه الحركات تجاربها، وتستفيد من أخطائها السابقة، وتعمل على سد الثغور، وبناء الجسور، وإقامة هيكلية فاعلة لبناء دولة مؤسساتية تحكم وترسم وتخطط وتنجز على أرض الواقع كي لا نجتر الماضي ونعيد إخفاقاته ونتحمل أعباءه وتبعاته.

 

 

المصدر: المركز العربي للدراسات والأبحاث.
 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك