تنافس الصحابة على الوقف الخيري

تنافس الصحابة على الوقف الخيري

 

 

من أعظم الأدلة على رُقِيِّ المجتمعات في العمران البشري: سرعة استجابة الناس في هذا المجتمع إلى التبرع الواسع في الأعمال الخيرية، وتنفيذ المشاريع الاجتماعية والتعليمية والصحية، التي يَعُمُّ نفعُها كثيراً من الناس. وهذه الظاهرة هي التي رسَّخَها النبِيُّ صلى الله عليه وسلم في مجتمع المدينة المنوَّرة؛ فقد كان البذلُ العامُّ واسِعاً، والوقفُ الخيري منتَشِراً في كل المجالات، ويوفر للناسِ كلَّ أنواع الخدمات.
وقد تنافَسَ الصحابة رضي الله عنه على الوقفِ الخيري؛ حين صار الوَقفُ ثقافةً يتنافَسُ فيها الناس: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) المطففين: ٢٦. فقد روى مسلم وابن خزيمة في باب (ذكر الدليل على أن أجر الصدقة المحبَّسَة يكتب للمحبِّس بعد موتِه ما دامت الصدقة جارية) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). وفي رواية أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيرُ ما يُخَلِّفُ المرءُ بعدَه ثلاث: ولدٌ صالِحٌ يدعو له فيبلغه دعاؤه، أو صدقةٌ تجري فيبلغه أجرها، أو علمٌ يعمل به بعده). ورواه النسائي في السنن الكبرى باب (خَيْرُ مَا يَخْلُفُ الْمَيِّتَ بَعْدَهُ). وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته: علماً علَّمَه ونَشَرَه، أو ولداًُ صالِحاً تَرَكَه، أو مسجداً بَناه، أو بيتاً لابنِ السبيل بناه، أو نهرا كراه، أو صدقةً أخْرَجَها مِن مالِه في صِحَّتِه وحياتِه؛ تلحقُه من بعد موته).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة للصحابة في الوقف: فقد أوصى بوقف ما يتركه كما روى البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاََ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَؤُونَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ). وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: (مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا، وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً، وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً).
وجاء تفصيل الوقف النبوي في حديث عمر رضي الله عنه: (ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ. ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ؛ فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي تُكَلِّمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِي يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ وَجَاءَنِي هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاََ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالاَ نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ. فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ؛ فَإِنِّي أَكْفِيكُمَاهَا).
وأمثلة الوَقْفِ والتنافس فيه على عهدِ الصحابة رضي الله عنه كثيرةٌ، مِمَّا يتشبَّه به الأخيارُ المُحْسِنون: منهم: عمرُ رضي الله عنه: فقد أوْقَفَ أرضاً له بخيبرَ (لا يُباعُ أصلُها ولا يُبتاع، ولا يُورَثُ، ولا يُوهَب). كما روى البخاري رحمه الله في باب (الشروط في الوقف) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ قَالَ إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ. قَالَ ابْنَ سِيرِينَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً): "أي غير جامع".
وقد كان عمر رضي الله عنه سابقا في الوقف، وحديثُ وقفِ عمر سهمَه بخيبر من أعظم الأصول لفقهِ الوقف وأكثرها ذكراً في أبواب (الوقف) في كتب الفقه المختلفة؛ حتى إنَّ ابن خزيمة رحمه الله ترجَمَ له ترجمةً طويلةً في صحيحه باب (ذكر أول صدقة محبسة تصدق بها في الإسلام واشتراط المتصدق صدقة المحرمة حبس أصول الصدقة والمنع من بيع رقابها وهبتها وتوريثها وتسبيل منافعها وغلاتها على الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف)، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أول صدقة تصدق بها في الإسلام صدقة عمر بن الخطاب، وأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مالا وأنا أريد أن أتصدق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حبس أصله وسبل ثمره).
وأوْقَفَ بنو النَّجَّار رضي الله عنه حائطَهم لبناءِ المسجد، وقالوا: (وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ). كما روى البخاري رحمه الله في باب (وقف الأرض للمسجد) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا. قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللهِ). وهذا من الوقفِ لتوفير أماكن العبادة، وهو كثيرٌ وعريقٌ بحمدِ الله في تاريخ الوقفِ الإسلامي.
وقد أوْقَفَ الزبيرُ  دُورَه (لا تُباعُ ولا تُورَثُ). وأوْقَفَ سعدُ بن عُبادة رضي الله عنه حائطَه صَدَقةً على أُمِّه. وأما عثمان رضي الله عنه فهو نموذج موضوعنا القادم في تنويع الوقف.
وكلُّ هؤلاء النبلاء رَضِيَ الله عنهم قُدوةٌ طيِّبةٌ، وأسوةٌ حَسَنةٌ لنا.
وما أحوجَ عالَمَنا الإسلامي إلى إحياءِ سُنَّةِ الوَقْفِ لِنَشْرِ قِيَمِ التنمِيةِ والعمرانِ والتعاونِ في حياةِ المسلمين، فهذا بابٌ عظيمٌ من أبوابِ الخيرِ والتعاوُنِ على البِرِّ والتقوى.

صحيح ابن خزيمة 4/122.
صحيح ابن خزيمة 4/122، حديث 2494.
صحيح ابن خزيمة 4/122، حديث 2495. قال الألباني : إسناده حسن لغيره.
السنن الكبرى للنسائي 9/400، حديث 10863.
صحيح ابن خزيمة 4/121، حديث 2490. قال أبو بكر: كراه يعني حفره. قال الأعظمي: إسناده حسن لغيره لشواهده.
صحيح البخاري 4/99، حديث 3096.
صحيح البخاري 4/2، حديث 2739.
صحيح البخاري 4/98. وروى ابن خزيمة رحمه الله في باب (الوصية بالحبس من الضياع و الأرضين) عن أبي هريرة  قال: سمعت رسول الله  يقول: (والذي نفسي بيده لا تقسم ورثتي شيئا مما تركت، ما تركناه صدقة، وكانت هذه الصدقة بيد علي غلب عليها عباسا، وطالت فيها خصومتها فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها عباس غلبه عليها علي، ثم كانت على يد حسن بن علي ثم بيد حسين بن علي ثم بيد علي بن حسين و حسن بن حسين فكانا يتداولانها ثم بيد زيد بن حسن و هي صدقة رسول الله  حقا).صحيح ابن خزيمة 4/120، حديث 2488.
صحيح البخاري 9/263، ومسلم 6/22.
صحيح البخاري 3/259-260، حديث 2737. وصحيح مسلم 5/73، حديث 4311.
فتح الباري لابن حجر 4/491.
صحيح ابن خزيمة 4/117، حديث 2483.
صحيح البخاري 2/202، حديث 410. وصحيح مسلم 3/114، حديث 816.
صحيح البخاري 4/14، حديث 2774. وفي باب (إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهْوَ جَائِزٌ). 4/14، حديث 2771.
سنن الدارمي 10/173.
البخاري 9/308.

المصدر: http://www.meshkat.net/node/13861

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك