نصيحة من عالم لخليفة

نصيحة من عالم لخليفة

 

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي [*]

 

يا أمير المؤمنين ، إن الله - وله الحمد - قد قلدك أمراً عظيماً ؛ ثوابه أعظم الثواب ، وعقابه أشد العقاب..قلدك أمر هذه الأمة ، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير قد استرعاكهم الله ، وائتمنك عليهم ، وابتلاك بهم ، وولاك أمرهم ، وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد ، فيهدمه على من بناه ، وأعان عليه .

فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية ، فإن القوة في العمل بإذن الله .

* لا تؤخر عمل اليوم إلى غد ، فإنك إذا فعلت ذلك أضعت .

* إن الأجل دون الأمل ، فبادر الأجل بالعمل ، فإنه لا عمل بعد الأجل .

* إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه .

فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار ، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته.

* ولا تزغ ؛ فتزيغ رعيتك.

* وإياك والأمر بالهوى ، والأخذ بالغضب.

* وإذا نظرت إلى أمرين أحدهما للآخرة والآخر للدنيا ، فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا ، فإن الآخرة تبقى ، والدنيا تفنى.

* وكن من خشية الله على حذر ، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد ، ولا تخف في الله لومة لائم..واحذر فإن الحذر بالقلب، وليس باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوقي ، ومن يتق الله يقيه.

* واعمل لأجَلٍ مفضوض وسبيل مسلوك ، وطريق مأخوذ ، وعمل محفوظ ، ومنهل مورود ، فإن ذلك المورد الحق، والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لعزة ملك قهرهم جبروته، والخلق له داخرون بين يديه ، ينتظرون قضاءه ، ويخافون عقوبته ، وكأن ذلك قد كان.

فكفى بالحسرة والندامة يومئذ في ذلك الموقف العظيم لمن علم ولم يعمل ، يوم تزل فيه الأقدام ، وتتغير فيه الألوان ، ويطول فيه القيام ، ويشتد فيه الحساب.

يقول الله تبارك وتعالى في  كتابه : [ وَإنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ]، وقال تعالى : [ هَذَا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ والأَوَّلِينَ ]وقال تعالى : [ إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ]، وقال تعالى : [ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ]، وقال : [ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ].

فيالها من عثرة لا تقال ، ويالها من  ندامة لا تنفع ، إنما هو اختلاف الليل والنهار : يبليان كل جديد ، ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، ويجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب .

* فالله الله ، فإن البقاء قليل ، والخطب خطير ، والدنيا هالكة وهالك من فيها ، والآخرة هي دار القرار..فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين ، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ، ولا يدينهم بمنازلهم..وقد حذرك الله فاحذر ، فإنك لم تخلق عبثاً ، ولن تترك سدى.

وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به ، فانظر ما الجواب.

واعلم أنه لن تزول غداً قدما عبد بين يدي الله تبارك وتعالى إلا من بعد المسألة ؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :  " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن علمه ما عمل فيه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن جسده فيم أبلاه " ، فأعدد - يا أمير المؤمنين - للمسألة جوابها ، فإن ما عملت فأثبتَّ فهو عليك غداً يقرأ ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد .

وإني أوصيك - يا أمير المؤمنين - بحفظ ما استحفظك الله ، ورعاية ما استرعاك الله ، وأن لا تنظر في ذلك إلا إليه وله..فإنك إن لا تفعل تتوعر عليك سهول الهدى ، وتعمى في عينك وتتعفى رسومه ، ويضيق عليك رحبه ، وتنكر منه ما تعرف ، وتعرف منه ما تنكر ، فخاصم نفسك خصومة من يريد الفلج [1] لها لا عليها ، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة بإذن الله ، وأورده أماكن الحياة والنجاة .

، فإذا ترك ذلك أضاعه، وإن تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع ، وبه أضر، وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك ، ووفاه الله أضعاف ما وفى له.

فاحذر أن تضيع رعيتك ، فيستوفي ربها حقها منك ، ويضيعك - بما أضعت - أجرك ، وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم .

وإنما لك من عملك ما عملت فيمن ولاك الله أمره ، وعليك ما ضيعت منه ، فلاتنس القيام بأمر من ولاك الله أمره ، فلست تُنسى ، ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم ، فليس يُغفل عنك .

ولا يضيع حظك من هذه الدنيا في هذه الأيام والليالي كثرة تحريك لسانك في نفسك بذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً ، والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، نبي الرحمة ، وإمام الهدى - صلى الله عليه وسلم -

وإن الله بمنه ورحمته جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه ، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم ، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم .

وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة الحدود ، ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت والأمر البين..وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً ، فإن إحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت.

وجور الراعي هلاك للرعية ، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة .

فاستتم ما أتاك الله - يا أمير المؤمنين - من النعم بحسن مجاورتها ، والتمس الزيادة فيها بالشكر عليها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز : [ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ].

وليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح ، ولا أبغض إليه من الفساد ، والعمل بالمعاصي كفر بالنعم ، وقلّ من كفر من قوم قط النعمة ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم ، وسلط الله عليهم عدوهم .

وإني أسأل الله - يا أمير المؤمنين - الذي منَّ عليك بمعرفته فيما أولاك ، أن لا يكلك في شيء من أمرك إلى نفسك ، وأن يتولى منك ما تولى من أوليائه وأحبائه ، فإنه ولي ذلك والمرغوب إليه فيه .

وقد كتبت لك ما أمرت به ، وشرحته لك ، و بينته ، فتفقهه ، وتدبره ، وردد قراءته حتى تحفظه ، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحاً ، ابتغاء وجه الله وثوابه وخوف عقابه .

وإني لأرجو - إن عملت بما فيه من البيان - أن يوفر الله خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد ، ويصلح لك رعيتك ، فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم ، ورفع الظلم عنهم ، والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم .

وكتبت لك أحاديث حسنة ، فيها ترغيب وتحضيض على ما سألت عنه ، مما تريد العمل به إن شاء الله..فوفقك الله لما يرضيه عنك ، وأصلح بك ، وعلى يديك .

_______________________

(*) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري ، الكوفي ، البغدادي صاحب الإمام أبي حنيفة ، وتلميذه ، وأول من نشر مذهبه ، كان فقيهاً علآمة ، من حفاظ الحديث ، واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب ، ولي القضاء أيام المهدي والهادي والرشيد ومات في خلافته ببغداد وهو على القضاء ومن كتبه المطبوعة : الخراج ، والآثار (وهو مسند أبي حنيفة) .

(1) الفَلَج : الانتصار .

(( مجلة البيان ـ العدد [5] ص 80 شعبان 1407  ـ  أبريل 1987 ))

الأكثر مشاركة في الفيس بوك