إنسانية الإسلام في النظرة إلى الكون

إنسانية الإسلام في النظرة إلى الكون

الکاتب : د. عبدالحليم عويس

- الإنسان والكون.. بين الإيمان العلمي والإلحاد الخرافي
توجد في الساحات الفكرية المعاصرة تيارات ثلاثة تُؤرِّخ للعلم وتُطوِّره، فأمّا أولاها: فهي التي تتكلّم عن العلم بكثير من الحياد، فلا تربطه بأفكار مسبقة ولا تزعم أنّه يكفي الإنسان وحده، بل تكاد تعترف – ضمناً وليس صراحة – بأنّ الإنسان يحتاج مع العلم إلى الدين والأخلاق.
وهناك مدرسة ثانية قويّة – وإن لم تكن كبيرة الحجم – تؤمن بأنّ "العلم يدعو إلى الإيمان" وبأنّ "الإيمان يتجلّى في عصر العلم"، وبأنّ "الإنسان ذلك المجهول" لا يعلم مفاتيحه إلا الذي خلقه، ولن تتحقق سعادته إلا بخضوعه للمنهج الربّاني الذي أنزله الله الذي يعلم من خلق، وهو (وحده) اللطيف الخبير!!
وهناك منهج ثالث متهافت، لكنّه مدعَّم من أبواق الإعلام الصهيونية والإلحادية في العالم، ويحاول أصحاب هذا الإتجاه الوقيعة بين العلم والدين، ويزعمون أنّ الإنسان يستطيع أن يقوم وحده، وأنّه ليس في حاجة إلى قوّة أخرى تساعده. وهؤلاء يحاولون أن يخفوا وجوههم الحقيقية في بعض ما يكتبون، فيستعملون مصطلحات غائمة، لا يدرك ماوراءها إلا الذي يعرف أهدافهم وأساليبهم.
فمن المصطلحات التي يتستّرون خلفها، رفضهم مبدأ (العلِّية) الكونية تحت راية أنّ نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) ترفض اضطراد الطبيعة (وكأنّه لا قوانين)، وبالتالي ترفض العلِّية أو الثبات في القوانين، وتؤمن بمبدأ المصادفة، أو كما تقول الدكتورة يمنى طريف الخولي، في كتابها الذي أصدرته سلسلة (عالم المعرفة) بالكويت تحت عنوان (فلسفة العلم في القرن العشرين)، في الصفحة 230: "لقد ارتدت المصادفة ثوباً قشيباً، وتخلّصت من أدران جائزة، لحقت بها في عهود يقين العلم الحتمي، الذي كان يفسر المصادفة والإحتمال تفسيراً ذاتياً، أي كان يرجعهما إلى جهل الذات العارفة وعجزها عن الإحاطة بعلل الظاهر. علمتنا الميكانيكا الموجبة ومعادلات "إبرفين شرودنجر" أنّ المصادفة والإحتمال تفسيران لصميم طبيعة الظاهرة موضوع الدراسة، لقد أصبح الإحتمال موضوعياً".
وتتابع الدكتورة تحليلها (اللاعلمي)، فتقول: "والمحصلة أنّه قد تبخر اليقين في عالم العلم، حتى شاع القول الدارج: إنّ العلماء ليسوا على يقين من أي شيء، ويكفي أنّ العوام على يقين من كل شيء".
وكلام الدكتورة المذكور مجرّد نموذج من نماذج التعمية والتورية والألفاظ الزئبقية، التي تخفي وراء مضامينها الجحود بالله، والإيمان بالعبثية والمصادفة والإحتمال واللاقانونية في الكون، بديلاً عن (العناية) و(الرعاية) و(القانونية) و(السببية) و(العلِّية) التي يحكم بها الكون ويسيره بها إلى أن تأتي أوامر بانفراط عقد الكون والحياة، فيقول للجبال الراسيات: كوني صوفاً منفوشاً، ويقول للسماء: أقلعي، ومن ثمّ يُبَعثَر ما في القبور ويُحَصَّل ما في الصدور!!
والحق أنّ العلم الحق غير الموظف لأغراض إيديولوجية قد أسقط الماركسية، كما أسقط هذه الفلسفة العبثية التي تحاول أن تظلم العلم، وتقوده إلى الصدام مع الحقائق الكبرى، التي يقوم الكون عليها: (أفحَسِبتُم أنّما خَلَقناكُم عَبَثاً وأنّكم إلينا لا تُرجَعون) (المؤمنون/ 115).
ولقد أصبحت الحضارة الأوروبية نفسها تئن من هذا الإتجاه ويرفضه علماؤها الكبار وفلاسفة تاريخها.. وقد ظهر هذا الإتجاه جلياً في النصف الثاني من القرن العشرين كلّه، لدرجة أنّ الكاتب الهندي الكبير تقي الدين الأميني (ره)، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة عليكره، رصد ظاهرة انهيار الفلسفة المادية العبثية للعلم في كتاب كامل سمّاه (عصر الإلحاد.. خلفيته التاريخية ونهايته)، كما أنّ الكاتب الهندي الكبير وحيد الدين خان دحض هذا الإتجاه في كتابيه المعروفين (الإسلام يتحدّى) و(الدين في مواجهة العلم).
وفي عالمنا العربي، دحض هذا الإتجاه – أيضاً – مفكِّرون كثيرون على رأسهم العلامة نديم الجسر (ره)، مفتي طرابلس لبنان، وذللاك في كتابه (قصة الإيمان.. بين الفلسفة والدين والعلم).
فما بال بعض أدعياء العلم والفكر في مشرقنا المبتلى ما يزالون يجلسون على المائدة الإلحادية والعبثية، مع أنّ فساد أطعمتها قد وضح لكل ذي عقل وقلب؟!!
إنّ نظريات إلحادية كثيرة تلفّحت برداء العلم الغربي كالتطورية الدارونية، والجنسية الفرويدية، والوضعية الكونتية، والمادية الماركسية قد أسقطها العلم نفسه..
نعم، أسقطها العلم الغربي والشرقي على السواء..
فما بال بعضنا يبقى متخلفاً حتى في التبعية، ولا يعبأ إلا بالطعام الرديء المغشوش (اللاعلمي واللاعقلاني).. والعلم بريء من ذلك كلّه.

- الإيمان العلمي.. رسالة الأنبياء:
في البداية نورد هاتين الآيتين الكريمتين من كتاب الله، ودلالتهما لا تحتاج لبيان، أمّا أولاهما فقول الله تعالى: (وقال الذين أوتوا العِلم والإيمانَ لقد لَبِثتُم في كتابِ الله إلى يوم البَعثِ فهذا يومُ البَعثِ ولكنّكم كُنتُم لا تَعلمون) (الرُّوم/ 56)، وأمّا الآية الثانية فقوله تعالى على لسان الكافرين: (وقالوا لو كُنّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنّا في أصحاب السَّعِير) (الملك/ 10).
ثمّ نقول:
- لقد وفّر الأنبياء (عليهم السلام) بدءاً من آدم، وانتهاءً بمحمد – خاتم المرسلين - ، على الإنسان جهوداً كبيرة كان من الممكن أن يقضيها في التيه العقلي والتخبُّط الفكري، حين علّموه أنّ لكل شيء سبباً وغاية، وأنّ وراء كل سبب مسبباً، ووراء كل صنعة صانعاً، وأنّ هذا الكون – بالتالي – ينعم برعاية صانع خبير عليم حكيم، يدير حركته وفق قوانين، ويدفعه – والإنسان جزء منه – لغايات مرسومة.
- ومع أنّ تعاليم الأنبياء كثيراً ما كانت تتعرّض للضياع والتدخلات البشرية، فإنّ عقل الإنسان – في عصر الضياع هذا – كان كثير التساؤل والحيرة والتأمُّل.
- إنّ حركة الكون المكررة أمامه من ليل ونهار وشمس وقمر ونجوم وعواصف وزلازل، لا شك ستدفعه إلى التساؤل:
1- مَن يصنع هذا؟
2- وكيف يصنع؟
3- ولماذا يصنع؟
- وفي الواقع البشري الإجتماعي والفردي، يجد الإنسان نفسه محاصراً بمجموعة من الظواهر التي تشبه الظواهر الكونية، في ضرورتها وتكرارها.
- فحاجة الإنسان إلى الطعام حاجة أساسية ومتجددة، لا تنتهي.
- وحاجة الإنسان إلى الشراب.
- وحاجة الإنسان إلى النوم.
- وحاجة الإنسان إلى اللباس والمسكن.
فكل هذه حاجات فردية، تجعل الإنسان يتساءل: هل هو مجموع هذه الحاجات؟ وهل حياته لا تخرج عن نطاق إشباع هذه الجوانب؟
- وعندما يصل الإنسان إلى سن البلوغ، ويندمج إجتماعياً، تظهر في حياته حاجات أخرى:
- حاجته إلى الزواج والأولاد.
- حاجته إلى البيئة.
- حاجته إلى المجتمع.
فربّما تساءل الإنسان في مرحلة معيّنة: هل هو رهن هذه الحاجات؟ وهل هو كائن أسري أو بيئي إجتماعي؟ وهل يكفي إشباع هذه الجوانب – بعد الحاجات الفردية – لضمان مسيرة الإنسان في الحياة؟ لكنّ الإنسان عندما تكتمل له حاجاته الفردية وحاجاته الإجتماعية سيشعر بحاجة ملحة إلى نوع آخر من الحاجات.
- فهذا الإنسان يتميّز عن الكائنات الأرضية الأخرى بأنّه يحمل (روحاً واعية) ذات تطلع دائم إلى الأشواق العليا.. وإنّها لتحس بالسأم والملل، حتى بعد إشباع سائر الجوانب إذا لم تحقق إشباعها في الجانب الروحي.
- فهل الإنسان كائن روحي؟ على أساس أن هذه ميزته التي ينفرد بها عن سائر المخلوقات الأرضية الأخرى التي تشاركه بقية حاجاته الفردية والإجتماعية؟
لقد أدرك الإنسان هذا منذ ظهر، ومنذ غرست الأديان السماوية – في فطرته ووعيه – هذه الحقيقة الأزلية، وأزالت عنها – بين الحين والحين – كل ما يطرأ عليها من تحريف وتشويه.. ولئن كان الإنسان قد أدرك هذا، فإنّ هذا الإدراك القائم على أنّ الله هو الصانع وهو الخالق، ليس كافياً للإجابة عن الأسئلة الملحة التي تطرح نفسها على الوعي البشري الموصول.
إنّ الإنسان يدرك حاجته اليومية المتجددة للطعام والشراب والهواء والماء والملبس والمسكن، ثمّ يدرك حاجته الإجتماعية التي يقوم على أساسها كيانه الإجتماعي وبقاء نوعه.. فإلى أي مدى يصل الدور الذي تقوم به هذه الحاجات في استمرار حركته ونموها، وفي ضمان تفاعله مع ما حوله.
وهل هذه الحاجات هدف في حد ذاتها تنتهي رسالته إذا حقّقها؟
وأهم من ذلك كلّه أنّه يريد أن يفهم نواميس الخالق سبحانه وتعالى التي أخضع لها سبحانه الكون والإنسان والمجتمع، لأن فهم الإنسان لهذه النواميس أمر ضروري بالنسبة له، سواء في مستوى حياته العلمية، الرعوية أو الزراعية أو في مستوى تحقيق تقدُّمه الحضاري.
وإنّ ما أعطته رسالات السماء في تفسير حركتي الكون والمجتمع، إنّما هو إطار كلّي، ترك للعقل البشري أن يقوم فيه بالفهم والتفسير، فهذا هو مجال الإختيار، وشأن (تفسير التاريخ) هنا شأن بقية المجالات، التي طرقها الوحي الكريم، فثمة قوانين كلية حاكمة وضابطة، وثمة مساحة الإختيار الإنساني واسعة وفسيحة.
فحتى في علاقة الإنسان المخلوق بالله الخالق ثمة أوامر تكوينية فطرية، وثمة أوامر تشريعية وعبادية، وهناك – في المقابل – مساحة لحرِّيّة الإنسان هي مناط الثواب والعقاب، في تفاعلها – إيجاباً أو سلباً – مع القوانين الفطرية والتشريعية.
وفي ظل هذه الرؤية الإسلامية لعلاقة الإنسان بالكون والأوامر الإلهية الكونية والتشريعية، يتجلّى حظّ الإنسان المتاح له من الحرِّيّة والإرادة. وتتضح (المعادلة) الإنسانية المتوازنة، القائمة على تقنين الحرِّيّة من جانب، وفض نظريات أو إيديولوجيات الحتمية الجبرية من الجانب الآخر.
والحق أنّ المذاهب (الجبرية) أو (الحتمية) قد اهتزت حتى في مجالها الطبيعي المادي، وإنّنا لنجد مفكِّراً كالأستاذ أوبجتون يصوِّر لنا هذا الإهتزاز بأسلوب حاسم، فيقول: "لابدّ لي أن أوضح أنّ النظرة العلمية للمذهب اللاحتمي لا تعني أنّ هناك أحياناً استثناءات للقانون الحتمي، لكنها تعني أن كل ظاهرة لا حتمية بدرجة كبيرة أو صغيرة".
ويقول أوبجتون أيضاً: "طالما أنّ الحتمية قد أزيحت من وضعها الذي يبدو منيعاً في علم الطبيعة، فإنّ من الطبيعي أن نشك في قولها حين تزعم أنّها اتخذت لنفسها وضعاً مؤكداً في مناطق أخرى من الخبرة".
وليس أروع من القرآن الكريم، وهو يرفض تلك الحتمية الجماعية، أو تلك الجبرية الفردية، فيوجه النظر إلى أنّه لا حتمية هنا ولا هناك، وإلا انعدام (المسؤولية) وانعدام (بالتالي) معنى الثواب والعقاب.
يقول القرآن الكريم: (تلك أمّةٌ قد خَلَت لَها ما كَسَبَت ولَكُم ما كَسَبتُم ولا تُسألونَ عمّا كانوا يَعمَلون) (البقرة/ 134).
(قُل أرأيتَكُم إنْ أتاكُم عَذابُ اللهِ بَغتَةً أو جَهرَةً هل يُهلَكُ إلا القومُ الظالمون) (الأنعام/ 47).
أجل.. ليس الإنسان مجبراً أو آلة تُحرِّكها أيّة عوامل، وإنّما هو – قبل أي مؤثر – المسؤول الأوّل عن صناعة الحضارة، وهو المحرِّك الأوّل للحضارة في مرحلة نموها واستمرارها وازدهارها.
إنّه (المستخلف) على هذا الكوكب، وإنّ التاريخ إنّما هو شأنه، سواء كان فرداً.. أو فرداً ممتازاً في هيئة بطل، أو جماعة آمنت بمبدأ إيجابي، ومتى تزايد إقبال الأفراد والشعوب على الطاعة لإرادة الله تحسّنت الأمور، أي أنّ مقياساً أساسياً من مقاييس التقدم الحضاري هو المجاهدة في سبيل التقدم. وفي النهاية، فإنّ كل شعب سيحصل على ما يستحق بالعدل الإلهي!! لكن ذلك لا يعني أنّ الإنسان هو وحده في هذا الكون، وأنّه حر في أن يحطِّم كل (نظام) ويتمرّد على كل أصول عقلية أو قانونية، كسائق السيارة المجنون الذي يعتقد أنّ إشارات المرور إنّما هي قيود وأصفاد، ويرى أنّ تحقيق حرِّيّته يقتضي حرِّية الإنفلات من هذه القواعد المرورية.
إنّ هذه (الحرِّية الفردية اللامبالية) مرفوضة، لأنّها تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، ومن الواضح أنّ هذا المذهب (الحرّ)، إذ يمارس (حرِّيّة اللامبالاة) هذه، إنّما يقضي على (حرِّيّة المجموع) من جانب، ويقضي على المسؤولية الخلقية من جانب آخر.
(الله خالقُ كلِّ شيءٍ وهو على كلِّ شيءٍ وكيلٌ * لهُ مقاليدُ السَّموات والأرض) (الزمر/ 62-63).
(ولله يَسجُدُ مَن في السَّمواتِ والأرضِ طَوعاً وكَرهاً) (الرَّعد/ 15).
(ولهُ مَن في السَّموات والأرضِ كلٌّ لهُ قَانِتون) (الروم/ 26).
كما ينبغي للإنسان – كذلك – ألا ينسى أنّه محكوم بسنن ونواميس إلهية تفوق طاقاته وقدراته جميعاً، ودونها لا يمضي حق وعدل ولا يستقيم نظام كوني ولا وجود بشري، ولا تتحقق حكمة الله سبحانه وتعالى من تسيير الكون، والخلائق جميعاً وفق طرائق محدودة تؤول بهم إلى الأهداف التي رسمها علم الله المطلق، ورفعتهم إليها إرادته التي لا راد لها.

- الكون: صداقة للإنسان ودلالة على الخالق:
وإذا كانت هذه طبيعة العلاقة بين قدرة الله وإرادة الإنسان في الحدث الحضاري، فما حقيقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، التي هي ركن أساسي من أركان العملية الحضارية؟
والحقيقة أنّ مذاهب كثيرة ومفكِّرين كثيرين لم يوفقوا في رسم حدود العلاقة بين الإنسان والطبيعة، إنّ الطبيعة التي يطلق عليها بعضهم (المادة) ويطلق عليها آخرون (التراب) ليست ركناً مقابلاً ومضاداً للإنسان.. إنّها لا تفرض عليه (الصراع) معها لكي يصنع حضارة، كما يذهب إلى ذلك أصحاب التفسير المادي، والمثالي، وبدرجة كبيرة أصحاب التفسير الحضاري، وبعض المفكِّرين المسلمين.
فحتى تعبير أرنولد توربيني الشهير: (التحدِّي) يمثِّل شحنة مكثفة لا تمثل حقيقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
إنّ الطبيعة بالنسبة للإنسان هي مجاله، وهي بيئته وهي مخلوقة من أجله، وإنّ جمالها وأهميّتها وعطاءها الحق لن يتجلى إلا إذا سخرها الإنسان وأعمل فيها عقله ويده، إنّها من غيره جماد وفوضى وتدمير أحياناً.
لقد رفض القرآن الكريم التصوُّر العبراني للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وهي علاقة الرهبة والخوف، لأنّ الطبيعة في التصور القرآني قد خلقت من أجل الإنسان، كذلك فإنّ اللعنة التي تحل بالأرض في العهد القديم بسبب خطيئة آدم وحواء حين أكلا من الشجرة المحرمة لا تتفق مع وصف القرآن للأرض بأنّها مستقر ومتاع إلى حين، بل إنّ الإنسان في القرآن الكريم هو المحور والغاية في عالم الطبيعة، ومن أجله سخّرت الكائنات كلّها، يقول الله تعالى: (وسَخَّر لكُمُ الفُلك لِتَجريَ في البَحرِ بأمرِهِ وسَخَّرَ لكُمُ الأنهار) (إبراهيم/ 32).
(وسَخَّر لَكُمُ الشَّمسَ والقَمَرَ دائِبَينِ وسَخَّرَ لكُمُ اللَّيلَ والنَّهار) (إبراهيم/ 33).
(وهو الذي سَخَّرَ البَحرَ لتَأكُلُوا مِنهُ لحماً طريّاً) (النحل/ 14).
(ألَم تَرَوا أنّ الله سَخَّرَ لكُم ما في السَّمواتِ وما في الأرض) (لقمان/ 20).
وكل ما يخيل لبعضهم أنّه صراع بين الإنسان والطبيعة، ليس من باب التهذيب مثلما يهذب الإنسان أبناءه لينتجوا ويثمروا، كذلك فإنّ الإنسان يتولى الطبيعة بالتهذيب، لكي تضع إمكاناتها وطاقاتها تحت تصرفه، ولكي تعطي وتثمر، وتتعاون معه في إنجاز الحدث الحضاري.. إنّها الجسم، وهو العقل، إنّها الأنثى الودود، التي لا تبخل بالإنجاب – بإذن الله – متى تمّ التفاعل الحضاري، أو حسب تعبير تورينبي متى تمت (الإستجابة) المناسبة.
فالأمر – إذن – ليس (صراعاً)، بل ليس (تحدياً)، وإنّما هو (تدافع) كريم، كذلك التدافع والتدلل والتمنع الذي يتم بين كل أنثى وذكر.. إنّه – في الحقيقة – ليس تحدياً ولا صراعاً، وإنّما هو (استثارة) لكل الطاقة المذخورة!!
ونحب هنا أن نُبيِّن أنّ كلمة (تدافع) ليست من نوع (الصراع)، ولاسيما بمحتواه الفلسفي الجدلي، فإنّ (التدافع) ليس إلا قمة الإستثارة ليبقى – في النهاية – ما ينفع الناس: (ولولا دَفعُ اللهِ الناسَ بَعضَهُم بِبعضٍ لَفَسَدت الأرضُ ولكنّ اللهَ ذو فَضلٍ على العالمين) (البقرة/ 251).
(أنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَت أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحتَمَلَ السَّيلُ زَبَداً رابِياً وممّا يُوقِدُون عَلَيهِ في النارِ ابتغَاء حِليَةٍ أو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثلُهُ كذلك يَضرِبُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ فأمّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنفَعُ الناسَ فَيَمكُثُ في الأرض) (الرعد/ 17).
(بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ على الباطِلِ فَيَدمَغُهُ فإذا هوَ زاهِقٌ) (الأنبياء/ 18).
وكيف يكون الأمر (صراعاً) مع أنّ (الأرض) في الإسلام إنّما جعلت كلها مسجداً؟!
وكيف يكون الأمر صراعاً مع أنّ (الزمن) هو (الدهر) ولا يجوز أن يسب المسلم الدهر؟!
وإذا كانت الحرِّيّة المسؤولة – بمعنى من معانيها – تعني انعدام القيود، فإنّ (الحرِّيّة المطلقة) تعني أن تكون حرّاً من جميع القيود: أي أن تتحرر من الأشياء الخارجية، ومن الطبيعة، ومن الناس من حولك، ومن القانون، ومن العقل، ومن الوراثة، لكنك – من ناحية أخرى – لو تحررت من كل شيء لكان معنى ذلك أنّك لا شيء، فاللاشيء أو العدم هو وحده الحر حرِّيّة مطلقة.. فالحرِّيّة المطلقة هي العدم المجرد، ومن هنا فإذا كان الإنسان بالموت يتوقف عن أن يكون شيئاً، فإنّه – بالموت أيضاً – يكون لأوّل مرّة حرّاً حرِّيّة مطلقة، لأنّه سيصبح لا شيء.
ولهذا – فعندما أطلق الله للإنسان حرِّيّته – أطلقها في حدود الحفاظ على نظام (المرور الكوني) بإشارته وعلاماته التي تحول دون الصدام والموت المحقق، فلا جبر ثمة ولا حتمية، وإنّما نظام يسمح لكل الحرِّيّات التي قد تتصارع بالحركة الحرّة المأمونة.
(أيَحسَبُ الإنسانُ أن يُترَكَ سُدىً) من غير أن تنضبط حركته بقوانين وسنن، وأوامر ونواه.. كلا.. إنّه لن يترك هملا يرعى كما ترعى السوائم، بل لابدّ له من قيود وضوابط يرعى في حدودها ويتحرّك في مجالها.
ويشير الفيلسوف الأمريكي توماس بين إلى ضرورة هذه القوانين الضابطة، فيقول: "إنّ الطبيعة وهي مسيرة بالقوانين التي استنها الله الذي يريد بخلقه خيراً، والإنسان جزء من الخلق، من أجل ذلك لزم أن يكون الإنسان في حال كماله مسيراً بقوانين أخلاقه نحو خيره، فكما أنّ للطبيعة قوانينها، فكذلك للإنسان قانون".
والقرآن الكريم إذا تحدّث عن سنن الله في المجتمع الإنساني، فإنّه يتحدّث عنها كحلقة في سلسلة النظام الكوني القائم على التناسق بين عناصر الكائنات الوجودية تناسقاً يؤدِّي به عملها الذي تقتضيه طبيعة وجودها، فلا مندوحة من أن يهيمن الله على الحركة العامة للكون، ولا مندوحة للإنسان من أن ينسق خطواته على أساس الإنسجام مع هذه الهيمنة الإلهية.
إنّ الله ليس (ساكنا) أو (متفرجاً) على مباراة الكون من خلال شاشة مرئية.. إنّ إلهاً من هذا النوع الإغريقي، ليس إلهاً في الحقيقة وفي الإسلام، فإنّ الله (فعّال) و(قدير) و(مهيمن) و(خبير) و(محيط). ولا ينبغي للإنسان – في التفسير الإسلامي – أن يغفل – ولو لحظة – هذه الهيمنة الإلهية الشاملة على كل ما في الكون ومَن في الكون.
(وللهِ يَسجُدُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ) (النحل/ 49).
وكيف يكون الأمر صراعاً مع أنّ الكون كلّه يسبح بحمد الله ويتجه إلى عبادته؟!
وكل ما في الكون – ابتداءً – إنّما خلقه الله ومهده، لكي يكون في خدمة الإنسان، خليفة الله، فما ضرورة الصراع إذن؟
(هو الذي خَلَقَ لَكُم ما في الأرضِ جميعاً ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهُنَّ سَبعَ سمواتٍ وهو بكلِّ شيء عليم) (البقرة/ 29).
(قل أئِنّكم لَتَكفُرُون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يَومَينِ وتَجعَلونَ لَهُ أنداداً ذلك ربُّ العالمين * وجَعَلَ فيها رَوَاسيَ من فوقها وباركَ فيها وقَدَّرَ فيها أقوَاتَها في أربعةِ أيّامٍ سواءً للسائِلِين * ثمّ استوَى إلى السماءِ وهي دُخانٌ فَقال لها وللأرضِ ائتِيَا طَوعاً أو كَرهاً قَالَتا أتَينا طائعين * فَقَضاهُنَّ سَبعَ سمواتٍ في يَومَينِ وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرَها وزيَّنَّا السَّماءَ الدنيا بِمَصابيحَ وحِفظاً ذلك تقديرُ العزيزِ العَليم) (فصِّلت/ 9-12).
(الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ مَهداً وجَعَلَ لَكُم فيها سُبُلاً لعلّكُم تَهتَدونَ * والذي نَزَّلَ من السماء ماءً بِقَدرلٍ فأنشَرنا بِهِ بَلدَةً مَيتاً كذلك تُخرَجونَ * والذي خَلَقَ الأزواجَ كُلَّها وجَعَلَ لَكُم من الفُلكِ والأنعامِ ما تَركَبونَ * لِتَستَووا على ظُهُورهِ ثمّ تذكُرُوا نِعمَةَ ربِّكُم إذا استوَيتُم عليه وتقولوا سُبحانَ الذي سَخَّرَ لَنا هذا وما كُنّا لَهُ مُقرِنِين) (الزخرف/ 10-13).

 

تصدّى الدكتور عمادالدين خليل بجرأة وشجاعة لمحاولة (التفسير الإسلامي للتاريخ) – قد لمس – بأسلوبه الأخاذ – بعض ملامح هذه العلاقة الكريمة التي تربط الإنسان بالطبيعة، إلا أنّه – أيضاً – ذهب إلى أنّ هناك (صراعاً) بين الإنسان والطبيعة.
إنّه يقول – أوّلاً – في تصور العلاقة بين الإنسان والطبيعة: "إنّ أخلاقية الوجود البشري على الأرض تقتضي الحوار الفعّال بين الإنسان والطبيعة.. هو يسأل وهي تتمنع عن الإجابة، وهو يسعى إليها متسائلاً قلقاً، وهي ترفض أن تفتح له أحضانها وتلقي إليه بكنوزها..
معنى هذا أنّ على الإنسان أن يرفض الكسل والقعود، وأن يتخلى عن السعي الهادئ المطمئن إلى رزقه وتأمين حياته.. وفي القرآن الكريم مئات الآيات والإشارات تنفخ في الإنسان هذا المعنى الحضاري العظيم، وتعلمه أن حواره مع الطبيعة لن يثمر إلا بالسعي، والكدح والحركة.
وكما يطلب الإسلام من الإنسان الحركة العقائدية على الكون كله، فكذلك يطلب أن تكون حركته (العقلية) في نطاق الكون كلّه، فالأرض جزء من الكون، الناموس الذي يحكم الأرض هو نفسه الذي يحكم الكون، والله سبحانه خالق القوانين والأوضاع والإنسان (وهو الذي في السَّماءِ إلهٌ وفي الأرض إله) ومن ثمّ فإنّ اللقاء بين الحركتين: حركة العقل، وحركة الوجدان، حركة الحس، وحركة الروح، حركة الذهن، وحركة القلب، هذا اللقاء القائم على التوافق والتوحيد والإنسجام سيكون محتماً في المدى القريب والبعيد، لأن كلتا الحركتين ستطلع الإنسان على الملكوت وتقوده إلى الله".
وفي موضع آخر يقول: "إنّ هناك بداهة من أشد بداهات الإيمان أهميّة، تلك هي أنّ الله سبحانه مادام قد عبّر عن إبداعه وقدرته الكلية على مستوى الروح والمادة، الإنسان والطبيعة، فليس ثمة معنى أبداً لأي موقف بشري من المادة أو الطبيعة يتميز بالهروب أو الإحتقار أو السلبية أو الإستعلاء. إنّ هذا الموقف مهما كانت درجته غير مبرر في بداهات الإيمان ولا في مقتضيات (الإستخلاف)، ليس هذا فحسب، بل إنّه يقف نقيضاً لهذه البداهات والمقتضيات، ومن ثمّ فهو مرفوض من القرآن الكريم ابتداء".
ومع هذا الذي يبدو من اقتراب الكاتب من طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، لكن الكاتب لا يلبث أن يعود، فيركِّز على قضية (الصراع) مع الطبيعة، فيقول: "إنّ الصراع نفسه يتخذ أشكالاً عديدة لا تقتصر على تقابل الضدّين وتغلب أحدهما على الآخر في عالم الفكر أو المادة.. إنّه يبدو أحياناً إرادة ذاتية تسعى إلى التوحيد والإئتمان الذاتي في وجدان الإنسان، ومع المحيط الخارجي، ويبدو أحياناً أخرى رغبة فعّالة في تحقيق تفاهم متبادل وتعارف وثيق وسليم عام بين الإنسان والإنسان أو بينه وبين الوجود".
فلماذا تكون العلاقة (صراعاً) إذن؟
ولماذا لا نُسمِّيها علاقة (استثارة) لبذل أقصى المذخورة؟!
أجل.. ليس في حركة الحضارة (صراع) من نوع ما، ولا بين المرأة والرجل، ولا بين السالب والموجب، ولا بين أي ذكر وأي أنثى في الحيوان ولا في النبات ولا في الجماد، وإنّما هناك تلك (الإستثارة) التي يبذلها كل من الطرفين المتقابلين، ليستخرج كل منهما أقصى الطاقة المذخورة، حتى يتحقق التكامل المنشود في أفضل صوره الممكنة.
إنّه حوار فطري ثنائي تقتضيه طبيعة الحياة التي فطرها الله عليها، إنّه حب خفي، ووئام، وتكامل، تحققه الحياة بأسلوبها المتنوع..
وإلا فمن دون التقابل المتناغم كيف تعرف خصائص الأشياء؟ بل كيف تعرف حقائق الأشياء؟ فمن دون الأسود كيف نعرف الأبيض؟ ومن دون النار كيف نعرف الليل؟ ومن دون الكره كيف نعرف الحب؟ وكيف نعرف (فوق) إذا لم نعرف (تحت)؟ أو (الشمال) إذا لم نعرف (الجنوب)؟
إنّ القضية تتصل بناموس كوني كبير صاغه الله، وهو ليس (ديالكتيكا) جدلياً، يخضع لصراع تناقضي، بل هو اختلاف وتنوع لا تتحقق (سيمفونية) الحياة التي تقتضي طبيعتها اختلاف الإيقاعات إلا به.
فلكي تنشأ الحياة وتنمو وتزدهر لابدّ من هذه (الزوجية) الإزدواجية المتقابلة المتكاملة.
(حتّى إذا جاءَ أمرُنا وفارَ التَّنورُ قُلنا احْمِلْ فيها مِن كلٍّ زَوجَينِ اثنَين) (هود/ 40).
إنّها سفينة واحدة، لا تحتمل حدّة الصراع، وإنّما الذي تحتمله هي هذه (الزوجية) المتحاورة المتنوعة المتكاملة.

 

 

- القرآن المسطور يقود إلى فقه الكون المنظور:
ثمة آيات قرآنية كثيرة تتصل بالكون، وتتحدّث عن عوالمه المختلفة، المشاهد وغير المشاهد، والمعلوم وغير المعلوم:
(فلا أُقسِمُ بِما تُبصِرُون * وَما لا تُبصِرون) (الحاقة/ 38-39).
(فلا أُقسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وإنّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعلَمونَ عظيم) (الواقعة/ 75-76).
وكثير من الآيات تتكلّم عن صور من الإبداع الإلهي في عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الطبيعة والإنسان (سَنُرِيهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنّهُ الحق) (فصِّلت/ 53)... وكثير من الآيات تتحدّث عن مفردات دقيقة في عوامل الكون، وهكذا بصفة إجمالية نجد القرآن الكريم حافلاً بالآيات العظيمة التي تشد انتباهنا وتلفت نظرنا إلى ذلك الكون البديع الذي نعيش فيه؛ لنرى كيف يسير بدقة وعظمة تنبئان عن أن لهذا الكون خالقاً، خلق وقدر ودبر، ومن هذه الآيات الآية التي تقول: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ ومَن فِيهِنّ) (الإسراء/ 44)!! والسماء هي أسطع لوحة تدل على وجوب وجود الخالق وعظمته سبحانه بما تمتلئ به من الأجرام السماوية الضخمة التي يبلغ حجم بعضها أكبر من أرضنا ألف مرّة.. والتي يسير بعضها بسرعة أكبر من انطلاق القذيفة.. تسير كلها بلا مزاحمة ولا تصادم.. وتسير بلا ضوضاء ولا أعطال.. تحوي آلافاً من القناديل المضاءة التي تساعد الناس في سيرهم.. وهي تضاء بلا زيت ولا كهرباء وتجمل السماء وتجعلها زينة للناظرين.
- وما زالت السماء مع التقدم العلمي الهائل – وستبقى – مجالاً خصباً للبحث والإستكشاف؛ حيث يمكن القول إنّ ما عُرف عنها لا يساوي إلا نسبة مليونية مما يمكن أن يُعرف.. ومع ذلك، فكثير من تجليات الإبداع واضحة لكل مَن ينظر بعقل وبصيرة معاً إلى السماء وما فيها.
فإنّ مَن ينظر في السماء يلمح بجلاء – لو أعمل عقله وخلصت نيته – أنّ السماء وما فيها مسخر ومدبر وموظف، فمن يا ترى فعل ذلك بهذه القدرة الفائقة المعجزة؟ إنّه الله الذي لا إله إلا هو.. إنّها تمضي منذ خلقت وفق ناموس لا يختل قط..!!
- وعندما ننظر في الفضاء ونجده معرضاً للعجائب والخوارق كذلك، ففيه السحاب المعلق بين السماء والأرض، يسقي ساكنيها بالماء، الذي هو أساس الحياة عليها، ويلطف من حرارتها.
فمن الذي سخره وجمعه وأمره أن يُنزل الماء؟! إنّه الله سبحانه وتعالى.
- ثمّ هذا هو الهواء الذي يملأ الفضاء.. فكل ذرّة من ذرّات ذلك الهواء الجامد الذي لا يملك شعوراً، تسمع وتعي ما يلقى إليها من الأوامر الإلهية.. فيستنشقها جميع الأحياء.. وتنقل الأصوات وتنقل الحرارة والضوء والكهرباء.. وتصير وسطاً صالحاً لتلقيح النباتات.. وغير ذلك من الوظائف، فكيف انتظمت وأدّت ذرات الهواء دورها على هذا النحو؟!
- ثمّ لننظر إلى المطر الذي يغدقه الله تعالى علينا من خزائن رحمته على صورة تلك القطرات المتهاطلة، ولذلك أطلق على المطر اسم الغيث والرحمة.. كيف استقام أمر المطر على هذا النحو؟ وكيف أنّ أمماً تعيش على المطر في زراعاتها وحيواناتها؟
- فهل كان ذلك كلّه احتمالاً أو مصادفة؟ وكيف بقيت هذه المصادفة ثابتة آلاف السنين؟
- أو أنّها قدرة الله القوي اللطيف الكريم المحيط بكل شيء علماً، والذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وينزل الغيث، وينشر رحمته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا.. وصدق الله العظيم القائل في كتابه المبين: (أفرَأيتُمُ الماءَ الذي تَشرَبون * أأنتُم أنزلتُمُوهُ مِنَ المُزنِ أم نحنُ المُنزِلون * لَو نَشَاءُ جَعَلناهُ أُجاجاً فَلَولا تَشكُرون) (الواقعة/ 68-70).
وعندما ننظر أيضاً فوق الأرض، فنبصر عالم الحيوانات، وفوق الأرض وبين السماء والأرض فنبصر أسراب الطيور التي لا يمسكهنّ إلا الله وحده، والتي تمضي عابرة المحيطات بذاكرة كمبيوترية لا تخطئ طرقها ولا مساكنها.. عندما يتعمّق تفكير الإنسان، بعقله الواعي – في عالم الطيور والحيوانات على هذا النحو – يجد تلك الحيوانات والطيور تتكلّم بمئات الألوف من الأصوات المتباينة، والألسنة المختلفة، وسوف يجد ذلك الإنسان ثلاث حقائق عظيمة محيطة تشهد على وحدانية الله جلّ جلاله وهي: حقيقة الإيجاد والصنع والإبداع (أي حقيقة الإحياء ومنح الروح)، وحقيقة التميز مع الجمال، التي تتضح من خلال تلك المخلوقات غير المحدودة، والتي يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة وبأشكال مزينة وبمقادير موزونة وبصور منسقة، ثمّ حقيقة خروج كل هذه الأنواع غير المحدودة من بيوض وبويضات متماثلة معدودة ومن قطرات بسيطة متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف.
- فهل تمّ كل ذلك بالمصادفة أو الإحتمال؟ وأي مصادفة أو احتمال يصل إلى هذه العبقرية العجيبة: عبقرية عجيبة في الإيجاد؟
- وعبقرية في حفظ التميز الدقيق بين الأنواع حتى في الصنف الواحد.
- وعبقرية في إخراج كل هذا الإعجاز من بذور ضعيفة، وبويضات ضئيلة.. ومع ذلك فمع ضعفها وضآلتها، تحمل فهرستاً كاملاً بخصائص النوع ووظائفه لا تحيد عنه!!
- وإذا تركنا السماء والفضاء والماء والهواء والمطر.. ثمّ أدركنا النظر إلى الركن الأسفل الذي نبصره، أي إلى الأرض التي نسير فوقها بأقدامنا وننام بأجسادنا، ويخيل إلينا أنّها منبسطة ساكنة خامدة جامدة، بينما هي تمر مرّ السحاب وتدور عدّة دورات كما تدور عقارب الساعات.
- ومع ذلك، نجد فوقها جبالاً كالأوتاد.. هائلة ضخمة رهيبة.
والعجيب أنّنا عندما نتأمّل بفكرنا وعقلنا في عالم الجبال والصحارى، نجد أنّ وظائف الجبال الكلية وفوائدها العامّة من العظمة والحكمة بما يحير العقول؛ فمثلاً نجد بروز الجبال واندفاعها من باطن الأرض بأمر ربّاني يهدئ من هيجان الأرض، ويخفف من حدتها الناجمة عن تقلباتها الباطنية، فتتخلص بذلك من الزلازل المهلكة والتصدعات المدمرة، فالجبال أوتاد للأرض تحفظ توازنها، قال تعالى: (والجِبالَ أوتاداً) (النبأ/ 7)، وقال: (وألقَينا فيها رَوَاسي) (الحجر/ 19)، يضاف إلى ما في جوف هذه الجبال من أنواع الينابيع والمياه والمعادن والمواد والأدوية التي ادخرت بحكمة وكرم وتدبير.
ومع كل ذلك، فهذه الكائنات تتكامل في أداء أدوارها، وتمضي لوظائفها بحب وشوق ووفاق القانون الجاذبية بين السالب والموجب، والذكورة والأنوثة في كل شيء، وحتى علاقة الإنسان نفسه بالكون، مع أنّها علاقة تسخير بين (فاعل) هو الإنسان (وموضوع) هو الكون، إلا أنّ التسخير هنا – في الرؤية الإسلامية – ليس تسخير إذلال وصواع، بل هو تسخير ودود كريم استئناسي، فالرسول يحب جبل أحُد، كما أنّ جذع الشجرة كان يحن لرسول الله (ص)..!!
وهنا نؤكد ونزكي ما يؤكده لنا المفكِّر الإسلامي والمصلح الكبير بديع الزمان سعيد النورسي التركي (ت 1960م) من أنّ للجمادات حساً وعاطفة، مثلها مثل الحيوانات والطيور غير العاقلة.. ولها كلها – جمادات أو حيوانات – أشواق ولذائذ، وهو يؤيد مقولته بأن مَن يبصر بعض الجمادات يجدها تطلب شرفاً ومقاماً وكمالاً وجمالاً وانتظاماً، بل هي تبحث عن كل ذلك، وتفتش عنه لأجل إظهار الأسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، فهي تتنوّر وتترقّى وتعلو أثناء امتثالها تلك الوظيفة.
لنتذكّر أيضاً عالم الحيوانات والطيور غير العاقلة – هنا – أنّ الديك – مثلاً – مع أنّه غير عاقل يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه الهين، دون أن يأكل منها. ويشاهد أنّه يقوم بهذه المهمة، وهو في غاية الشوق، وذروة اللذة، فهناك إذن لذة في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسه.. وكذا الحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تؤثرها على نفسها، إذ تدع نفسها جائعة في سبيل إشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الأفراخ، فتهام الكلب المغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار.
وعلى هذا يقاس جميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشموس في أفلاكها، وانتهاء بدوران الذرات في دائرة جاذبيتها، حتى إن كل ذرة، وكل ذي حياة تبدو كالجندي في الجيش له علاقات ينجذب إليها، وله وظائف وارتباطات مع كل دائرة من الدوائر في جيش الحياة كله!!
وأيّاً كان الأمر، فإنّ مفردات الكون، أو ما نسمِّيه عالم الأشياء، ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
قسم منها: كالماء يُرى ويُحس، ولكن لا يمسك بالأصابع.. ففي هذا القسم المادي ينبغي التجرُّد عن الخيالات والإنغماس فيه بكليتك.. بالطرق العلمية البحتة.. وسوف تكتشف أسراراً عجيبة في الماء وأشباهه تؤكد لك وجود الخالق العظيم.
والقسم الثاني: كالهواء، يُحس ولكن لا يُرى، ولا يُتخذ ولا يُمسك.. فهو نصف مادي ونصف معنوي، وهو بحاجة إلى العلم والبصيرة. وبهما تدرك عظمة اللطيف الرحيم الذي يقيم حياة الناس والكون على كائن لطيف على هذا النحو.
والقسم الثالث: كالنور، يُرى ولكن لا يُحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فيحتاج لعمل الكيان الإنساني كلّه.. من بصيرة القلب إلى الروح.. لأنّ النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالأصابع، وهو يعالج بالفكر والبصيرة.. وبالفكر (الموضوعي النقي) والبصيرة (النقية القوية) نستطيع أن ندرك بعض آفاق عظمة الله في الكون، ولكننا سندرك أوّل ما ندرك أن هذا الكون لا يقوم بغير خالقه الحكيم المدبِّر الخبير المهيمن الرحيم.
وسوف يدلنا كل شيء في الوجود على وجوب وجود الله القدير، وعلى عظمته المطلقة من جهتين:
الجهة الأولى: قيام كل كائن من الذرّات حتى المجرات ومن النملة حتى الفيل بوظائف تفوق طاقته المحدودة بآلاف المرّات، مع أنّه عاجز عن ذلك، فيشهد كل كائن بلسان عجزه على وجود الله القدير المطلق.
الجهة الثانية: توافق حركة كل كائن مع الدساتير التي تكون نظام العالم، وانسجام عمله مع القوانين التي تديم توازن الموجودات، فيشهد – بهذا الإنسجام والتوافق – على وجود الله العليم القدير.
(لو كانَ فِيهِما آلهةٌ إلا اللهُ لَفَسَدتا فَسُبحانَ اللهِ ربِّ العَرشِ عمّا يَصِفون) (الأنبياء/ 22).
ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون!!

المصدر: كتاب إنسانيات الإسلام.. مبادئ شرعية وتجارب واقعية

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك