القرآن وأميّة بن أبى الصلت: من أخذ من الآخر؟

القرآن وأميّة بن أبى الصلت: من أخذ من الآخر؟

إبراهيم عوض

أمية بن أبى الصلت شاعر مخضرم من قبيلة ثقيف، التي كانت تسكن الطائف. وكان أبوه أيضا شاعرا، كما كانت له أخت تُسَمَّى: "الفارعة"، وبنتان وعدة أبناء بعضهم شعراء. وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجهم التردِّى الخلقى الذي كان شائعا في الجزيرة العربية، وتطلعوا إلى نبى يُبْعَث من بين العرب، بل إنه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبى.

 

وكان أمية يخالط رجال الدين ويقرأ كتبهم ويقتبس منها في أشعاره. وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدح بعض كبار القوم كعبد الله بن جدعان وينال عطاياهم وينادمهم على الخمر، وإن قيل إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه. وتُجْمِع المصادر على أنه مات كافرا حَسَدًا منه وبَغْيًا، إذ ما إن بلغه مبعث النبي محمد حتى ترك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول في أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف. وتذكر لنا الروايات مع ذلك أنه وفد على النبي ذات مرة وهو لا يزال في أم القرى واستمع منه إلى سورة "يس" وأبدى تصديقه به مؤكدا لمن سأله من المشركين أنه على الحق. بَيْدَ أن حقده الدفين منعه من أن يعلن دخوله في الإسلام رسميا وبصورة نهائية رغم أنه، كما جاء في إحدى الروايات، كان قد اعتزم أن يذهب إلى المدينة للقاء الرسول مرة أخرى وإعلان دخوله في الدين الجديد، لكن الكفار خذّلوه وأثاروا نار حقده على محمد من خلال تذكيره بأنه قتل أقاربه في بدر ورماهم في القليب، فما كان منه إلا أن عاد أدراجه بعد أن شقّ هدومه وبكى وعقر ناقته مثلما يصنع الجاهليون. ثم لم يكتف بهذا، بل رثى هؤلاء القتلى وأخذ يحرض المشركين على الثأر لهم منضمًّا بذلك إلى جبهة الشرك والوثنية ضد الإسلام، وظل هكذا حتى لقى حتفه على خلاف في السنة التي مات فيها ما بين الثانية للهجرة إلى التاسعة منها قبل فتح النبي الطائف بقليل، وهو الأرجح (1).

 

ولأمية ديوان شعر يختلط فيه الشعر الصحيح النسبة له بالشعر المنسوب له ولغيره بالشعر الذي لا يبعث على الاطمئنان إلى أنه من نظمه، وهذا القسم الأخير هو الغالب. وأكثر شعر الديوان في المسائل الدينية: تأمّلاً في الكون ودلالته على ربوبية الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكايةً لقصص الأنبياء مع أقوامهم، إلى جانب أشعاره في مدح عبد الله بن جدعان والفخر بنفسه وقبيلته وما إلى ذلك. ومن الشعر الدينى المنسوب إليه ما يقترب اقترابا شديدا من القرآن الكريم معنًى ولفظًا وكأننا بإزاء شاعرٍ وَضَع القرآنَ بين يديه وجَهَدَ في نظم آياته شعرا. ومن هذه الأشعار الشواهد التالية:

 

لك الحمد والنعماء والمُلْك ربنا *** فلا شىء أعلى منك جَدًّا وأَمْجَدُ

مليكٌ على عرش السماء مهيمنٌ *** لعزّته تَعْنُو الجباه وتسجدُ

مليك السماوات الشِّدَاد وأرضها *** وليس بشىء فوقنا يتأودُ

تسبِّحه الطير الكوامن في الخفا *** وإذ هي في جو السماء تَصَعَّدُ

ومن خوف ربى سبّح الرعدُ حمده *** وسبّحه الأشجار والوحش أُبَّدُ

من الحقد نيران العداوة بيننا *** لأن قال ربى للملائكة: اسجدوا

لآدم لمّا كمّل الله خلقه *** فخَرُّوا له طوعًا سجودا وكدّدوا

وقال عَدُوُّ الله للكِبْر والشَّقا: *** لطينٍ على نار السموم فسوَّدوا

فأَخْرَجَه العصيان من خير منزلٍ *** فذاك الذي في سالف الدهر يحقدُ

* *** *

ويوم موعدهم أن يُحْشَروا زُمَرًا *** يوم التغابن إذ لاينفع الحَذَرُ

مستوسقين مع الداعى كأنهمو *** رِجْل الجراد زفتْه الريح تنتشرُ

وأُبْرِزوا بصعيدٍ مستوٍ جُرُزٍ *** وأُنـْزِل العرش والميزان والزُّبُرُ

وحوسبوا بالذى لم يُحْصِه أحدٌ *** منهم، وفى مثل ذاك اليوم مُعْتبَرُ

فمنهمو فَرِحُ راضٍ بمبعثه *** وآخرون عَصَوْا، مأواهم السَّقَرُ

يقول خُزّانها: ما كان عندكمو؟ *** ألم يكن جاءكم من ربكم نُذُرُ؟

قالوا: بلى، فأطعنا سادةً بَطِروا *** وغرَّنا طولُ هذا العيشِ والعُمُرُ

قالوا: امكثوا في عذاب الله، ما لكمو *** إلا السلاسل والأغلال والسُّعُرُ

فذاك محبسهم لا يبرحون به *** طول المقام، وإن ضجّوا وإن صبروا

وآخرون على الأعراف قد طمعوا *** بجنةٍ حفّها الرُّمّان والخُضَرُ

يُسْقَوْن فيها بكأسٍ لذةٍ أُنُفٍ *** صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا سَكَرُ

مِزاجها سلسبيلُ ماؤها غَدِقٌ *** عذب المذاقة لا مِلْحٌ ولا كدرُ

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها *** ولا البصير كأعمى ما له بَصَرُ

فاسْتَخْبِرِ الناسَ عما أنت جاهلهُ *** إذا عَمِيتَ، فقد يجلو العمى الخبرُ

كأَيِّنْ خلتْ فيهمو من أمّةٍ ظَلَمَتْ *** قد كان جاءهمو من قبلهم نُذُرُ

فصدِّقوا بلقاء الله ربِّكمو *** ولا يصُدَّنَّكم عن ذكره البَطَرُ

* *** *

قال: ربى، إنى دعوتك في ا لفـــــــــــــــ*ــجر، فاصْلِحْ علىَّ اعتمالى

إننى زاردُ الحديد على النــــــــــــــــــــــــ*ــاس دروعًا سوابغ الأذيالِ

لا أرى من يُعِينُنِى في حياتى *** غير نفسى إلا بنى إسْرالِ

 

وقد ظنت طوائف المبشرين ممن فقدوا رشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبى الصلت لهذه المشابهات. والواقع أن عددا من كبار دارسى الأدب الجاهلى، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رَأَوْا عكس هذا الذي يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التي تُنْسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد في القرآن عن خلق الكون والسماوات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هي أشعار منحولة عليه. قال ذلك على سبيل المثال تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، ود. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود.عمر فروخ ود.شوقى ضيف ود. جواد علي وبهجة الحديثي من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك من يدعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنّف كالمستشرق الفرنسى كليمان هوار، ومنهم من قال إن الرسول وورقة قد استمدا كلاهما من مصدر واحد.

 

وإلى القارئ تفصيلا بهذا: فالمستشرق الألمانى كارل بروكلمان يؤكد أن أكثر ما يُرْوَى من شعر أمية هو في الواقع منحول عليه، ماعدا مرثيته في قتلى المشركين ببدر، وأنه إذا كان كليمن هوار المستشرق الفرنسى قد زعم أن شعره كان مصدرا من مصادر القرآن، فإن الحق ما قال تور أندريه من أن الأشعار التي نظر إليها هوار في اتهامه هذا إنما هي نَظْمٌ جَمَع القُصَّاصُ فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآنى، وأن هذه الأشعار لا بد أن تكون قد نُحِلَتْ لأمية منذ عهد مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، فقد سماه الأصمعي: "شاعر الآخرة"، كما أراد محمد بن داود الأنطاكي أن يفتتح القسم الثانى في الدِّينِيّات من كتابه "الزهرة" بأشعار أمية (2). يريد بروكلمان أن يقول: لولا أنه كان هناك شعر يدور حول الموضوعات الدينية التي ذكرناها قبلا منسوب لأمية منذ ذلك الوقت المبكر لما أطلق عليه الأصمعي هذه التسمية ولما فكر الأنطاكي أن يورد له أشعارا دينية في كتابه المذكور.

 

ويقول المستشرق براو كاتب مادة "أمية بن أبى الصلت" بـالطبعة الأولى من "دائرة المعارف الإسلامية"، تعليقا على اتهام هوار للقرآن بأنه قد استمد بعض مواده من أشعار أمية، إن صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمر مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدا قد اقتبس شيئا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط، هو أن أمية كان على معرفة أوسع بالأساطير التي نحن بصددها، كما كانت أساطيره تختلف في تفصيلاتها عما ورد في القرآن. ثم أضاف أنه، وإن استبعد أن يكون أمية قد اقتبس شيئا من القرآن، لا يرى ذلك أمرا مستحيلا. وهو يعلل التشابه بين أشعار أمية وما جاء في القرآن الكريم بالقول بأنه قد انتشرت في أيام البعثة وقبلها بقليل نزعات فكرية شبيهة بآراء الحنفاء استهوت الكثيرين من أهل المدن كمكّة والطائف، وغذّتها ونشّطتها كلٌّ من تفاسير اليهود للتوراة وأساطير المسلمين. ثم يخبرنا براو بما توصَّل إليه تور أندريه من أنه ليس في قصائد أمية الدينية ما هو صحيح النسبة إليه، وأن هذا اللون من شعره هو من انتحال المفسرين (3).

 

وعند طه حسين أن "هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية بن أبى الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي (ص) وجاؤوا قبله إنما نُحِلَ نَحْلاً. نحله المسلمون ليثبتوا أن للإسلام قُدْمَةً وسابقةً في البلاد" (4). ويرى الشيخ محمد عرفة أنه لو كانت هناك مشابهةٌ فعلا بين شعر أمية والقرآن الكريم لقال المشركون، الذين تحداهم الرسول بأن يأتوا بآية من مثله، إن أمية قد سبق أن قال في شعره ما أورده هو في القرآن زاعمًا أنه من لدن الله. لكنهم لم يقولوا هذا، بل اتهموه بأنه إنما يعلّمه عبد أعجمي في مكة. كذلك يؤكد أن شعر أمية لا يشبه في نسيجه شعر الجاهلية القوي المحكم، إذ هو شعر بيِّن الصنعة والضعف على غرار شعر المولَّدين. ومن هنا كان هذا الشعر المنسوب لذلك المتحنف الطائفي هو شعر منحول عليه ومنسوب زورا إليه (5).

 

أما د. عمر فروخ فيؤكد أن القسم الأوفر من شعر أمية قد ضاع، وأنه لم يثبت له على سبيل القطع سوى قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين. وبالمثل نراه يؤكد أن كثيرا من الشعر الدينى المنسوب لذلك الشاعر هو شعر ضعيف النسج لا رونق له (6). ويرى د. شوقى ضيف أن المعاني التي يتضمنها شعر أمية مستمدة من القرآن بصورة واضحة، إلا أنه لا يرتب على ذلك أن يكون أمية قد تأثر بالقرآن، بل يؤكد أن الشعر الذي يحمل اسمه هو شعر ركيك مصنوعٌ نَظَمَه بعضُ القُصّاص والوُعّاظ في عصور متأخرة عن الجاهلية. وردًّا على دعوى هوار بأن القرآن قد استمد بعض مادته من أشعار أمية ، يقول الأستاذ الدكتور إن ذلك المستشرق لا علم له بالعربية وأساليب الجاهليين، وإلا لتبين له أنها أشعار منحولةٌ بيِّنة النحل، ولما وقع في هذا الحكم الخاطئ (7).

 

ويؤكد د. جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب" أن بعض أشعار أمية الدينية مدسوسة عليه، ومن ثَمّ لا يمكن أن يكون أميّة قد اقتبس شيئا من القرآن، وإلا لقام النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون بفضحه. وعلى هذا فهو أيضا يرى أن شعره الذي يوافق فيه القرآنَ إنما صُنِع بعد الإسلام صنعا لأنه ليس موجودا في التوراة ولا في الإنجيل ولا غيرهما من الكتب الدينية، اللهم إلا القرآن الكريم، وأن أكثره قد وُضِع في عهد الحجاج تقربا إليه، وبخاصة أن شعره الديني يختلف عن شعره المَدْحِيّ والرثائي وغيره، إذ يقترب من أسلوب الفقهاء والمتصوفة ونُسّاك النصارى، كما تكررت إشارات الرواة إلى أن هذا الشعر أو ذاك مما يُعْزَى له قد نُسِب لغيره من الشعراء. ثم إنه قد مدح الرسول عليه السلام، كما أن في الشعر المنسوب له ما يدل على أنه قد آمن به، فكيف يتسق هذا مع رثائه لقتلى بدر من المشركين؟ (8).

 

أما بهجة عبد الغفور الحديثي فإنه يقسم شعر أمية الديني إلى قسمين: قسم يظهر عليه أثر الحنيفية وكتب اليهود والنصارى، وقسم يظهر عليه أثر القرآن. وهو يميل إلى أن يكون القسم الأول له كما يظهر من أسلوبه ومعانيه، أما الثانى فمنحول عليه بدليل ما يبدو عليه من ركاكة لغته وضعف صياغته، ومن أسلوبه المستمد من القرآن (9).

 

وقد بحثت عن طريق المشباك (النِّتّ) في كتب الأحاديث النبوية الشريفة عن روايات تذكر شيئا من شعر أمية فلم أجد إلا ثلاثة أبيات له في مُسْنَد أحمد يتحدث فيها عن الشمس وعرش الله بما لم يأت شىء منه في القرآن، وأن الرسول عليه السلام قد صدّقه فيها، وهذا نصها:

 

رجلٌ وثورٌ تحت رجْل يمينه *** والنسر لليسرى، وليثٌ مُرْصَدُ

والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراءَ يصبح لونها يتورّدُ

تأبَى فلا تبدو لنا في رِسْلها *** إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدُ

 

كما جاء أيضا في مُسْنَدَىْ ابن ماجة وأحمد أن الشريد بن الصامت قد أنشد النبيَ صلى الله عليه وسلم ذات مرة مائة بيت من شعر أمية، وكان كلما انتهى من إنشاد بيتٍ قال النبي عليه الصلاة والسلام: "هِيهْ"، يستحثه على الاستمرار في الإنشاد، ثم عقّب صلى الله عليه وسلم في النهاية قائلا: "كاد أن يُسْلِم"، وفى رواية أخرى في مسند أحمد أن النبي لم يعلّق في نهاية الإنشاد بشىء، بل سكت فسكت الشريد بدوره. وهذا كل ماهنالك، فلم نعرف من الحديث ما هي الأبيات التي أنشدها الصحابى الكريم على مسامع رسول الله، ولا مدى مشابهتها للقرآن. على أن هاهنا نقطة لا بد من تجليتها قبل الانتقال إلى شىء آخر، إذ لا أظن الصحابي الجليل قد قصد عدد المائة تحديدا، فليس من المعقول أنه كان يعدّ الأبيات التي كان ينشدها على مسامع النبي أوّلاً بأوّل وهو يتلوها. ذلك أمر غير متخيَّل، والأرجح بل الصواب الذي لا أستطيع أن أفكر في غيره أنه أراد الإشارة إلى أنه قد أنشد سيّدَ الأنبياء عددا غير قليل من الأبيات.

 

كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التي قام بها بهجة الحديثي في رسالته عن أمية، فلفت انتباهي أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التي يوجد فيها ذلك التشابه، لم تَرِدْ في أيٍّ من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبرة ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبى زيد القرشى، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغاني" للأصفهاني، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان في تفسير القرآن" للطبري مثلا. بل إن كثيرا من هذه الأشعار لم تَرِدْ في طبعة الديوان الأولى، فضلا عن أن بعضها قد نُسِب في ذات الوقت إلى غيره من الشعراء.

 

ونقطة أخرى مهمة جدا: لماذا لم يُثِرْ علماؤنا المتقدمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكي، الذي كان يردّ، فيما يبدو، على من اتهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح لأنه عليه السلام لا يمكن أن يستعين في كتابه بشعر رجل أقر بنبوته وصدّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحا رغم ذلك لسارع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقط دعوته صلى الله عليه وسلم بأيسر مجهود وأقلّه؟ (10).

 

لقد كان ابن داود الأنطاكي من أهل القرن الثالث الهجرى، في حين أن صاحب "الأغاني" قد جاء بعده بقرن، فكيف اطمأن المتقدم وشكّ المتأخر، أو فلنقل: كيف أورد المتقدمُ الشعرَ المنسوب لأمية، بينما لم يورده الأصفهاني، الذي جاء بعده بقرن كما قلنا؟ والأحرى أن يكون الوضع بالعكس حيث يكون المتقدم أقرب زمنا إلى صاحب الشعر فيستطيع من ثم أن يحسم الحكم في مسألة نسبة الشعر إليه، على الأقل قبل تراكم الروايات وازدياد صعوبة غربلتها وإصدار حكم بشأنها. بَيْدَ أن مثل هذا الوضع لا غرابة فيه، فعندنا مثلا ابن إسحاق وابن هشام اللذان اشتركا في كتابة "سيرة رسول الله": تأليفًا بالنسبة لابن إسحاق، ومراجعةً وتعليقًا وتنقيةً بالنسبة لابن هشام، وجاء الأول قبل الثاني بزمن غير قصير كما هو معروف، ومع هذا لم يمنع ابنَ هشام تأخُّرُ زمنه عن النظر في السيرة التي كتبها سَلَفُه وإجالة قلمه فيما يرى أنه لا بد من تغييره أو تصحيحه أو التعليق عليه بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للحق، مثلما فعل عندما أنكر على ابن إسحاق مثلا إيراد أشعار لآدم وثمود والجن، بل لأفراد من قريش ذاتها ممن قال إن أهل العلم لا يعرفون لهم شعرًا أصلا أو ينكرون ما ينسب إليهم من شعر. والمسألة بَعْدُ هي مسألة اختلاف في شخصية الباحث ما بين مطمئنٍ يقبل ما يُرْوَى له ومدقِّقٍ لا يقبل إلا بعد تمحيص وتقليب...وهكذا.

 

ومعروف أن ابن سلام وابن قتيبة وأبا الفرج الأصفهانى هم من النقاد ومؤرخى الأدب القدماء المشهود لهم بالتمحيص والتنقيب وعدم قبول أي شىء على علاته، بينما لا يزيد ما فعله ابن داود الأنطاكي في كتابه "الزهرة" عن جمع الأشعار وتنسيقها، إلا حين يعلّق بكلمة هنا أو هناك تدور عادةً على شرح لفظة صعبة أو تحليل جانب من جوانب عاطفة الحب التي ألف كتابه عنها.

 

إن هذا كله من شأنه أن يعضّد القول الذي سمعنا كبار دارسي الأدب العربى من مستشرقين وعرب يرددونه من أن القصائد التي تتشابه مع القرآن من الشعر المنسوب لأمية هي في الواقع قصائد منحولة. ولقد نبهني هذا الاكتشاف إلى ما أحسست به عند مراجعتي لديوان أمية مؤخرا من أني لا أستطيع أن أتذكر قراءتي لأىٍّ من هذه الأشعار في الكتب التي أومأتُ إليها لِتَوِّى. وهذا هو السبب في أنني قد استبدّ بي الاستغراب أثناء مطالعتي لذلك النوع من قصائد أمية حين فكرت في الكتابة عن هذه القضية بالرغم من كثرة ما قرأت عن الرجل من قبل في "الأغاني" و"طبقات الشعراء" و"الشعر والشعراء" مثلا، وكذلك في كتب تاريخ الأدب العربى التي ألفها باحثون معاصرون ممن تكلموا في هذه القضية، لكنهم لم يوردوا شيئا من الأشعار محل الخلاف والمناقشة مكتفين بالكلام النظرى فيها.

 

وبالمثل كان الانطباع الذي شعرتُ به بمجرد قراءة تلك الأشعار هو أنها أقرب إلى النظم الذي وضع صاحبُه أمام عينيه آياتِ القرآن الكريم وأخذ يجتهد في تضمينها ما ينظم من أبيات: فالكلام مهلهل وغير مستوٍ، وفيه فجوات يملؤها الناظم بما يكمّل البيت بأي طريقة والسلام، على عكس شعر أمية في رثاء قتلى المشركين ببدر مثلا أو مدائحه لعبد الله بن جدعان. وغني عن القول ألاّ وجه لمقارنة هذا الشعر بأسلوب القرآن وما يتسم به من فحولة وجلال وشدة أسر وسحر ينفذ إلى القلوب نفوذا غلابا قاهرا، وهو ما يجعل القول بتأثر شعر أمية بالقرآن لا العكس هو ما يمليه المنطق وتَهَشّ له العقول والضمائر إذا صحَّت نسبة هذه الأشعار له. ومع ذلك كله فلسوف أسلك الطريق الصعب فأفترض أن تلك الأشعار محلَّ الخلاف هي أشعار صحيحة قالها أمية فعلا، وأن الأحداث التي رافقت نظم هذه القصائد هي بالتالى أحداث صحيحة وقعت هي أيضا.

 

والآن لو تتبعنا أهم الأحداث في حياة المصطفى وأمية مما يتصل بهذه القضية فماذا نجد؟

 

أول كل شىء أن شاعرنا كان، كما جاء في الروايات التي تحدثت عنه، يتوقع أن يكون هو النبي المنتظر، وأنه حين علم أن النبوة تجاوزته لم يستطع صبرا على المُقام بالطائف على مقربة من الرجل الذي كان حُكْم القدر أن ينزل عليه وحي السماء، فأخذ ابنتيه وهرب إلى اليمن. ومعنى ذلك أنه هو الذي كان مشغولا بمحمد لا العكس. وهذا أحرى أن يجعله متنبها لكل ما يتعلق بمحمد، وعلى رأسه القرآن، الذي كان يتمنى بخلع الضرس بل بِفَقْءِ العين أن يكون هو النبي الذي يتلقاه ويبلغه للناس، حرصا منه على الشهرة والسمعة والمكانة بين قومه، جاهلا في غمرة حماقته وحسده الأسود العقيم أنه سبحانه وتعالى "أعلم حيث يجعل رسالته". ومن المنطقي جدا، كما أومأنا، القول بأنه لم يستطع أن يتجاهل الرسول رغم غيظه، بل قل: بسبب غيظه من عدم اختياره هو نبيا للعرب، وأنه كان يتصيد الآيات والسُّوَر التي تنزل على الرسول ويضعها نصب عينيه وهو يَنْظِم شعره، جَرْيًا على المثل الشعبى القائل: "إن فاتك المِيرِىّ تمرَّغْ في ترابه". إنه "عبده مشتاق" الجاهلي، الذي يمكن أن نرى فيه رائدا لنظيره في كاريكاتير جريدة "الأخبار" القاهرية، مع بعض التلوينات المختلفة هنا وهناك تبعا لاختلاف طبيعة الدور الذي يريد كل من هذين العبدين أن يؤديه والظروف التي يتحرك في نطاقها! ولقد فاتته النبوة، فليضمّن نصوصَ وحيها إذن شعره، فهذا أفضل من أن "يخرج من المولد بلا حمّص"! وهو حين يصنع هذا إنما كان يجرى على عادته قبل سطوع بدر الإسلام من العكوف على الكتب الدينية السابقة والاقتباس منها فيما يَنْظِم من أشعار. فهو إذن لا يفترع طريقا جديدا حين يقتبس من القرآن، بل يستمر في سبيله القديم. والطبع غلاب كما يقولون! ولا أدرى في الواقع لماذا، بدلا من هذا الهروب غير المجدى من الطائف، لم يواجه محمدا ويقل له في وجهه إنه قد سبقه في شعره إلى ما يقوله هو في قرآنه، وإن هذا دليل على أنه ليس نبيا حقيقيا، ومن ثم فهو أفضل منه، على الأقل من ناحية العلم والحكمة. ألم يكن هذا هو ما يقتضيه المنطق لو كان عند أمية ذلك الدليل القاهر الذي يلوّح به بعض المستشرقين ويتابعهم عليه، في غباءٍ لا يليق بمن عنده مسكة من عقل، مبشّرو آخر الزمان، ومن خلفهم ذيول المسلمين الذين فقدوا كل معنى من معانى الكرامة والرجولة؟

 

ومن الواضح أن الرجل كان يحب الظهور بمظهر العالم الحكيم، هذا الوصف الذي وصفه به خطأً بعض من ترجموا له من القدماء، إذ لو كانت الحكمة من صفاته حقا لما ترك الحسدَ يطوّحه ويقلقله في بلاد العرب جنوبا وشمالا وشرقا وغربا كراهيةَ أن يكون على مقربة من الرجل الذي آثرته السماء عليه في مسألة النبوة (وإن ذكرتْ بعضُ الروايات، حسبما رأينا، أنه وفد عليه في مكة واستمع إلى ما تلاه عليه من قرآن وقال كلاما طيبا في حقه)، ولأَقْبَلَ بدلا من ذلك عليه بجْمْع قلبه وإخلاصه ما دام يرى أنه على الحق كما يشير إلى ذلك الشعر الذي يتحدث فيه، قبل البعثة النبوية، عن حاجة البلاد لنبي يأخذ بيدها في طريق الهداية، وكذلك القصيدة التي قالها في مدحه عليه الصلاة والسلام والدين الذي أتى به. بَيْدَ أنه، لحَِظّه التعيس، لم يحزم أمره، وظل مترددا يقترب بقلبه حينًا بعد حينٍ من الدين الجديد، لكنه سرعان ما تثور به عقارب الحقد فيبتعد عنه...إلى أن أقبل أخيرا في نوبة قوية بعض الشىء من نوبات يقظته الخلقية والروحية ليعلن إسلامه رسميا، فوقفت قريش في طريقه وأخبرته بأن المسلمين قتلوا عُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة وغيرهما من رجالات الطائف ممن كانوا يمتّون إليه بواشجة القرابة، فما كان منه إلا أن لوى عِنَان فرسه مبتعدا عن طريق النور والسعادة حاكما بذلك على نفسه ببؤس المصير إلى الأبد، وهو ما يدل بأجلى بيان على أنه لم يحزم أمره يوما، وهذه هي مشكلته المزمنة مع نفسه، فأين الحكمة هنا إذن؟

 

أما العلم فإن نصيبه منه لا يخرج، فيما هو واضح، عن نقل النصوص والقصص من كتب الأمم السابقة إلى شعره دون الانتفاع الحق بها، فهو إذن كالحمار يحمل أسفارا، وإلا فلماذا لم يستفد بها في اتّباع الحق الذي كان يؤمن به في أعماق قلبه، وفضّل عليه الانحياز إلى الوثنية ممثلةً في أقاربه الذين رثاهم ومجَّدهم حين سقطوا وهم يحاربون تحت رايتها ضد التوحيد، وزاد فشقّ جيوبه عليهم وبكى وجدع أنف ناقته كما كان يفعل أهل الجاهلية الجهلاء حسبما ذكرت كتب السيرة وتاريخ الأدب (11)، وهو الذي طالما صدّع أدمغتنا من قبل بالحديث عن الحنيفية؟ ولْنقارن بين موقفه هذا وموقف النبي عليه السلام حين أسلم وَحْشِىّ قاتل عمه الغالي وأخيه من الرضاع حمزة بن عبد المطلب، وكذلك هندٌ آكلة الأكباد ومدبّرة مقتله المأساوي رضي الله عنه. لقد قَبِلهما النبي في دينه، وكأن شيئا لم يكن، رغم الجرح الغائر الذي خلّفه موت سيد الشهداء في قلبه، وذلك نزولا على مبدئه العظيم القائل بأن "الإسلام يَجُبّ ما قبله". أو لماذا لم يقم هو بالدعوة إلى ما كان يؤمن به (حسبما نقرأ في الشعر المنسوب إليه)، ولو في أضيق نطاق بين قومه في الطائف فقط ما دام ادعاء النبوة سهلا إلى هذا الحد كما فعل محمد، الذي لم يكن قارئا كاتبا مثله؟ فانظر وقارن يتبين لك الفرق بين النبوة والحسد الذي يأكل قلب صاحبه أكلاً فلا يتركه يهنأ بحياته أبدا!

 

أما المحطة الثانية التي نحب أن نقف عندها فهي ذهاب رسول الله إلى الطائف حين شعر أن مكة تستعصى على دعوته بغباء غريب ما عدا القليلين الذين دخلوا في دعوته رغم التضييق والعنت الشديد والأذى المتواصل، فحَسِبَ أن الطائف قد تكون أحسن استقبالا للدين الجديد، لكن أهلها للأسف لم يكونوا أفضل حالا من قومه في مكة. ترى لو كان أمية قد سبق القرآن إلى تناول الموضوعات التي نقرؤها في ذلك الكتاب بنفس الألفاظ والعبارات في كثير من الأحيان، ومن ثم أخذ محمد بعض قرآنه من شعره، أكان يفكر مجرد تفكير في السفر إلى بلد ذلك الشاعر معرضا نفسه للسخرية والاتهام من جانب أهلها بدلا من إقبالهم عليه ودخولهم في دينه؟ إنه إذن لـ"كالمستجير من الرمضاء بالنار" كما جاء في أمثال العرب، أو كمن "جاء يُكَحِّلها فأعماها" كما يقول المثل الشعبى! ولم يكن الرسول يوما بالشخص الذي يمكن أن يقع في مثل هذا التصرف الأخرق العجيب، بل لم يتهمه أحد من أَعْدَى أعدائه بشىء من ذلك قط! ثم فلنفترض بعد هذا أنه قد ارتكب هذا التصرف الأحمق (وأستغفر الله العظيم على هذا التعبير الذي اقترفتُه لأكون في غاية السماحة مع "الأنعام" الذين لهم قلوب لكن لا يعقلون بها، ولهم أعين لكن لا يبصرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها!)، فكيف فات الطائفيين الأمرُ فلم يجابهوه ويجبهوه بهذه السرقة التي كانت كفيلة بقصم ظهر الدعوة التي أتى بها بدلا من إغرائهم صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم بمطاردته بالحجارة في شوارع المدينة حتى أخرجوه منها منتهكين بتصرفهم الوحشىّ هذا ما توجبه التقاليد العربية الراسخة القاضية بإكرام الضيف الوافد، واضطروه إلى اللجوء إلى بستانٍ لعُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة حيث قابل هناك خادمهما عداس، الذي قدّم له قِطْفا من العنب يتقوّت به ويزيل عن نفسه التعب، ثم أقبل عليه في حب وإجلال حين رآه يسمّي الله قبل الطعام وعرف شيئا من دينه على ما هو معروف لقارئي السيرة النبوية؟

 

ثم هناك قدوم أمية على النبي ومدحه إياه بقصيدة يقرّه فيها على دعوته ويثني عليه ويصدّق به. ويبدو أن ذلك كان بتأثير الأسئلة التي من المؤكد أنها كانت توجَّه له ممن حوله، إذ لا بد أن يثور في أذهانهم التساؤل عن السبب، يا ترى، الذي يمنعه من الإيمان بمحمد ما دام يردد ما يقوله تقريبا ويضمّن شعره بعض ما جاء في قرآنه! أقول هذا رغم أن في نفسى من صحة هذه القصيدة شيئا للأسباب التي سأذكرها من فوري، لكننى قلتُه على الشرط الذي وضعتُه حين بينتُ أنه لكى نقبل أشعار أمية التي تشابه القرآن الكريم لا بد أن نقبل معها الأحداث التي صاحبتها حسبما أوردتها الروايات. على أية حال هأنذا أورد جُلّ أبيات القصيدة أولا، ثم ننظر فيها بعد ذلك :

 

لك الحمد والمنّ رب العبا *** د. أنت المليك وأنت الحَكَمْ

ودِنْ دين ربك حتى التُّقَى *** واجتنبنّ الهوى والضَّجَمْ

محمدًا ارْسَلَه بالهدى *** فعاش غنيا ولم يُهْتَضَمْ

عطاءً من الله أُعْطِيتَه *** وخصَّ به الله أهل الحرمْ

وقد علموا أنه خيرهم *** وفى بيتهم ذى الندى والكرمْ

نبىُّ هدًى صادقٌ طيبٌ *** رحيمٌ رءوف بوصل الرَّحِمْ

به ختم الله من قبله *** ومن بعده من نبىٍّ ختمْ

يموت كما مات من قد مضى* يُرَدّ إلى الله بارى النَّسَمْ

مع الأنبيا في جِنَان الخلو *** دِ، هُمُو أهلها غير حلّ القَسَمْ

وقدّس فينا بحب الصلاة *** جميعا، وعلّم خطّ القلمْ

كتابًا من الله نقرا به *** فمن يعتريه فقدْمًا أَثِمْ (12)

 

وقد رفض د. جواد علي هذه القصيدة على أساس أن ما فيها من إيمان قوي بالنبى ودينه يتناقض مع ما نعرفه من تردد أمية بالنسبة للإسلام وافتقار قلبه إلى الإيمان العميق، وأنه يشير فيها إلى وفاة الرسول التي لم تقع إلا بعد موت أمية أوّلا (13). لكن بهجة الحديثي لا يشك في القصيدة، بل يرى أنها تمثل خطرة من الخطرات التي كانت تنتاب أمية، فالمعروف أنه لم يكفر بالرسول تكذيبا بل حسدا، إذ كان في دخيلة نفسه مصدِّقا بما جاء به، بل همّ أن يعلن إسلامه فعلا. كما أن الأنطاكي، الذي كان يعيش في القرن الثالث الهجرى، قد أكد أنها موجودة في شعره ومفهومة عند أهل الخبرة به (14). والحق أن الحجة الأخيرة تكاد تكون العقبة الوحيدة التي تمنعني من القطع بزيف هذه القصيدة رغم ما فيها مما يدابر المنطق: فهي تتحدث عن اختتام النبوة بمحمد عليه السلام، وهى قضية لم تكن قد طُرِحَت بعد، لأن القصيدة لا بد أن تكون قد سبقت غزوة بدر على آخر تقدير حيث حسم أمية أمره بعد تلك الغزوة وشقَّ جيوبه وعقر ناقته وتراجع نهائيا عن الدخول في الإسلام، على حين أن الإشارة إلى أن نبوة محمد هي خاتمة النبوات قد وردت في سورة "الأحزاب"، التي نزلت بعد ذلك بزمن طويل على ما هو معروف. أما ما جاء في القصيدة من ذكر موت النبي فلا يعني بالضرورة أنه قد مات فعلا، إذ الكلام يحتمل هذا، كما يحتمل أنه سيموت كسائر البشر حسبما جاء في قوله تعالى: "إنك ميتٌ، وإنهم ميتون" (15)، إذ أتى الفعلُ الدالّ على الموت في القصيدة في صيغة المضارع لا الماضي كما لا بد أن يكون القارئ قد لاحظ، رغم أن في ذكر الموت في حد ذاته في هذا السياق كثيرا من الغرابة والخروج على مقتضيات المديح. كذلك فوصف الرسول بأنه "رحيم رءوف" هو صَدًى لوصفه في القرآن في الآية قبل الأخيرة من سورة "التوبة" بهاتين الصفتين، وإن جاءتا في القصيدتين بعكس ترتيبهما في السورة، والآية المذكورة تنتمي لمرحلة زمنية متأخرة عن تاريخ نظم القصيدة. ‏كذلك ففى القصيدة صَدًى لقول رسول الله في حديث أبى هريرة: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيَلِج النار إلا تحلَّة القسم"، والمقصود الإشارة إلى قوله تعالى في الآية 71 من سورة "مريم": "وإنْ منكم إلا وارِدُها.كان على ربك حتما مقضيًّا"، ومعروف أن أبا هريرة إنما أسلم في المدينة في السنة السابعة للهجرة، أي بعد نظم أمية قصيدته بأعوام، فكيف يمكن أن يتأثر أمية بحديث كهذا لم يكن قد قيل إلا بعد ذلك ببضع سنوات؟

 

وأنا هنا، كما يلاحظ القارئ، أنطلق من أن القصيدة هي التي تأثرت بالقرآن لا العكس ما دام أمية قالها في مدح النبي والتصديق بدعوته، إذ معنى هذا أنه لم يكن يرى في القرآن أي أثر لشعره، وإلا ما فكر في مدحه عليه السلام بتاتًا، بل في هجائه وفَضْحه. ثم إن في النظم هَنَاتٍ لا يقع فيها جاهليٌّ عادة: فقد جاءت كل من كلمتي "أرسله" و"الأنبياء" في القصيدة بهمزة، وهو ما يحدث اضطرابا في موسيقى البيتين اللذين وردت الكلمتان فيهما، إلا إذا حذفنا الهمزتين كما فعلت أنا هنا، فعندئذ نشعر على الفور أننا بإزاء شعر إسلامي صوفي مما يصعب انتماؤه للعصر الأموى أو حتى بدايات العباسي. لكن هل يمكن أن يكون هذا قد فات ابن داود الأنطاكي؟ تلك هي المعضلة.

 

إلا أننا لو استحضرنا في المقابل أن كبار مؤرخي الأدب ونقاده في تلك الفترة، وهم العلماء الذين شغلتهم قضية الانتحال في الشعر الجاهلى والمخضرم كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ وأبي الفرج وابن هشام، لم يَرْوُوا شيئا من هذا الشعر لأمية، لوجدنا أنها ليست بالمعضلة التي تستعصي على الحل. وأيا ما يكن الأمر فكما قلت: إن من يريد منا أن نقبل نسبة الأشعار محل الدراسة لأمية فلا بد أن يقبل معها الأحداث المصاحبة لها في الروايات التي أوردتْها لنا.

 

ومما تقوله الروايات عن النبي وأمية أيضا ذلك اللقاء الذي تم بينه صلى الله عليه وسلم وفارعة أخت الشاعر حينما جاءته عند دخوله الطائف في السنة التاسعة للهجرة وحكت له قصة أخيها وأنشدته من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به عليه السلام قائلا: "يا فارعة، إن مَثَل أخيك كمَثَل من آتاه الله آياته فانسلخ منها" (16). هل يعقل أنه صلى الله عليه وسلم يسعى إلى فتح ملفّ أمية ويقول فيه هذه الكلمة القارصة، وعلى مسمع من أخته، وفي أشد اللحظات على أهل الطائف وطأةً لأنها لحظة انكسار وانهزام، لو كان قد استمد شيئا من قرآنه من شعر الرجل؟ إنه في هذه الحالة كمن يمد يده في جحر الثعابين والعقارب معرِّضا نفسه لخطر الهلاك الوَحِىّ دونما أدنى داع، ومعاذَ الذكاء المحمدي أن يفوته عليه السلام ما ينتظره من الخطر فيقدم على التصرف بمثل هذا التهور!

 

ونفس الشيء نقوله عن موقفه من الشريد بن الصامت، إذ لماذا يشجعه صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في إنشاد الشعر الذي من شأنه أن يفضح دعواه لو كان أمية قد قاله فعلا قبل القرآن، واستمد هو قرآنه منه؟ بل لماذا ينشد سويد أمامه شعر أمية أصلا لو كان متطابقا مع القرآن هذا التطابق الذي يدل على استمداده منه؟ بل كيف لم يتنبه لهذا التشابه ولم يختلج على الأقل ضميره بالشكوك والوساوس؟ ولنفترض بعد ذلك كله أنه صلى الله عليه وسلم قد أقدم على هذا التصرف الخاطئ في الحالين، فكيف لم يصدر عن الطرف الآخر أي شىء يُلْمِح إلى أسبقية شعر أمية على القرآن أو حتى إلى مجرد المشابهة بين النصين ولو على سبيل فلتات اللسان؟

 

وعندنا من الثقفيين، غير فارعة أخت شاعرنا، كنانة بن عبد ياليل، وكان رئيس ثقيف في زمانه، واشترك مع أبي عامر الراهب العدو اللدود للإسلام في التآمر على الدين الجديد وصاحبه، ولم يتركا سبيلا إلا وسلكاه لبلوغ هذه الغاية حتى إنهما ذهبا إلى قيصر للاستعانة به ضد الإسلام. ولما فشلا بقي أبو عامر في الشام، وعاد ابن عبد ياليل بعد تطواف هنا وهناك وأعلن إسلامه. ويقال إنه كان من بين المرتدين، ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن لو كان الرسول قد أخذ شيئا من شعر أمية هو: كيف سكت مِثْلُ كنانة فلم يتخذ من هذا الأمر سلاحا يوجهه إلى قلب الإسلام في مقتل فيريح نفسه وقومه والعرب جميعا من هذا البلاء الذي أرَّقهم وأزعجهم بدلا من الضرب في الآفاق والاستعانة بمن يساوي ومن لا يساوي؟ أليس هذا هو ما كان ينبغي أن يمليه المنطق على مثل ذلك الزعيم القبلي؟ لكنه لم يفعل، فعلام يدل هذا؟ أيعقل أن يكون بيده ذلك السلاح الحاسم ولا يفكر في استخدامه على طول ما حارب الإسلام وكثرة ما تآمر ضده؟ (17).

 

وكان عروة بن مسعود الثقفي قد بكَّر بالدخول في الإسلام قبل قومه بزمن، فأراد من حبه لهم أن يهديهم الله على يديه، فاستأذن الرسولَ عليه السلام أن يأتيهم فيدعوهم إلى الدخول في دين التوحيد، لكنه صلى الله عليه وسلم حذره من أنهم سيقتلونه. إلا أنه لم يكن يتصور أنهم يمكن أن يعادوه ويتأبَّوْا عليه اعتقادا منه أنهم يحبونه ويكرمونه أشد الإكرام، فعاود الاستئذان، والرسول يحذره، ثم أذن له في الثالثة ليذهب إليهم ويلقى المصير الذي حاول الرسول أن يجنبه إياه، إذ ما إن بدأ يدعوهم إلى الإسلام حتى اجتمعوا إليه من كل جانب ورَمَوْه بالنبل فقتلوه، رضى الله عنه (18). أولو كان الرسول قد أخذ قرآنه من أمية ابن الطائف التي طال استعصاؤها على الإسلام إلى وقت متأخر، أكان عروة يدخل في دينه مخالفا قومه بهذه البساطة؟ بل أكان الرسول يرضى أن يذهب إليهم هذا المندفع الذي لا يفكر في العواقب، ومعروف أن أول ماسيجيبونه به هو: أوقد نسيت أن الرسول الذي تدعونا إلى الإيمان بدينه ليس سوى سارق لشعر شاعرنا، أخذه وزعم أنه قرآن يُوحَى إليه من السماء؟ وحتى لو لم يفكر أي منهما في تلك النتيجة التي لا يمكن أن يتجه الذهن إلى أي شىء غيرها، أكانت ثقيف تدع تلك الفرصة السانحة دون أن تتهكم بعروة على غفلته وتحمسه لدين يقوم على هَبْش النصوص الشعرية من الشعراء الآخرين والزعم بأنه وحي من عند رب العالين؟

 

وهناك أيضا من مشاهير الثقفيين الشاعر أبو محجن، الذي كان مدمنا للشراب، وكان يتأرجح بين عشقه المتوله للخمر وتحرجه الدينى، وإن كان للعشق الغلبة في بداية أمره حتى لقد حُدَّ فيها مرارا، ونفاه عمر إلى إحدى الجزر...إلى أن جاءت حرب القادسية، وقصته فيها معروفة، إذ كان ساعتها في القيد في بيت سعد بن أبى وقاص (قائد المسلمين في تلك المعركة) بسبب الخمر انتظارا لإيقاع الحدّ عليه، فأخذ يلحّ على امرأة سعد من وراء زوجها أن تحل وثاقه كى يستطيع المشاركة في الجهاد في سبيل الله، ولها عليه عهد الله أن يعود من تلقاء نفسه بعد المعركة فيضع رجليه في القيد كرة ثانية، حتى نجح في إقناعها فأطلقته فحارب وأبلى في الحرب بلاء حسنا وانتصر المسلمون، فكان عند كلمته وعاد فوضع رجليه في القيد، ثم أعلن توبته النهائية عن أم الخبائث بعد أن أبدى سعد إعجابه به ووعده أنه لن يحده أبدا، إذ صرَّح قائلا إنه يستطيع الآن أن يقلع عنها دون الخوف من أن يقول أحد عنه إنه تركها خشية العقاب. ولا يزال ديوانه يمتلئ بالأشعار التي يتغزل فيها في بنت الكَرْم متمردا على تحريمها في دين محمد. بل إنه كان أحد الذين دافعوا عن الطائف أثناء حصار المسلمين لها عقب فتح مكة، وأصاب سهمه فيها ابنًا لأبى بكر (19). والسؤال هنا أيضا: كيف لم يتحدث مثل هذا الشاعر عن استعانة الرسول بشعر ابن قبيلته ولو في نوبة من نوبات تهتكه وتمرده على تحريم الإسلام الصارم لأم الخبائث، أو في شعره قبل دخوله في الإسلام؟

 

ثم لدينا من الثقفيين أيضا الحجاج بن يوسف، الذي كان معلما للقرآن في بداية حياته كأبيه لا يبتغي بذلك مالا، بل احتسابًا عند الله، ثم أصبح فيما بعد أحد عمال بني أمية الكبار. وهو الذي أدخل على نظام الكتابة العربية المزيد من الإتقان والضبط، إذ عهد إلى نصر بن عاصم بإعجام الخط، أي وَضْع النقاط للتمييز بين الأحرف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء...طلبًا لمزيد من الدقة والتسهيل في قراءة القرآن، الذي يدَّعي بعض الرُّقَعاء أنه مقتبَس في بعض مواضعه من شعر أمية. كما كان، رغم كل ما قيل عن قسوته أيام ولايته على العراق، من المداومين على قراءة القرآن. وكذلك كان يشجع بكل وسيلة على حِفْظه، ويُدْنِى منه حُفّاظه (20). والآن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما الذي جعل الحجاج يتحمس لدين محمد كل هذا التحمس لو كان هناك ولو ذرة واحدة من الشك تحوم حول مصدر هذا الكتاب، وبخاصة أن المصدر في هذه الحالة لن يكون شيئا آخر غير شعر ابن القبيلة التي يعتزى هو إليها؟ لا ليس ابن قبيلته فقط، بل هو ابن خالة جده الرابع لأمه: معتب بن مالك (21). ولا يظنَّنّ أحد أن شعر أمية لم يكن يهم الحجاج لانشغاله بالسياسة وما يتصل بها، فقد رُوِيَ عنه قوله: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام" (22)، أي أن نصوص الشعر والأدب إنما تضيع بذهاب من يحفظونها. وههنا نقطة مهمة جدا، ألا وهى أن شعر أمية قد ضاع، على أقلّ تقدير،ٍ جانبٌ كبير منه قبل الحجاج، فكيف وصلنا إذن كل هذا الشعر الذي يشابه القرآن إذا كان واحد من أقرب من تصله به رابطة الدم يشكو من ضياعه على هذا النحو؟

 

وأهم من ذلك كله دلالةً على ما نريد من أن القضية التي يثيرها الفارغون الجهّال من المبشرين ومَنْ لَفَّ لفَّهم من أبناء المسلمين الذين ختم الله على قلوبهم وعقولهم وأعينهم، فهم لا يفكرون ولا يستمعون إلا لكل مغرض ممن يريد أن يقضي عليهم وعلى أمتهم، إنما هي زوبعة في كستبان لا أكثر، أن الفارعة أخت أمية، وأبناءه القاسم وأمية وربيعة ووَهْبًا، قد دخلوا مع ثقيف كلها في الإسلام، وكان القاسم وأمية وربيعة يقولون الشعر، ولم يُؤْثَر عن أي منهم ولا من غيرهم ممن كان يمتّ بصلة نسب إلى أميّة أية كلمة تومئ مجرد إيماء إلى أن الرسول يمكن (يمكن فقط) أن يكون قد استفاد من شعر ذلك الشاعر على أي نحو من الأنحاء، ودعك من أن مجرد اعتناقهم الإسلام هو في حد ذاته برهان على تكذيبهم بأبيهم وانحيازهم إلى محمد، وهو ما ينقض ما يهرف به الأغبياء المحترقون حقدًا على دين محمد من أن القرآن هو في بعض جوانبه اقتباس من شعر متحنّف الطائف. كما أن كثيرا من العرب قد ارتدّ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان لكل قبيلة تعلاتها السخيفة التي تحاول أن تسوّغ بها هذه الردة، لكننا لم نسمع قطّ أن أحدا ممن ارتدّ قد فتح هذا الموضوع. بل إن قبيلة ثقيف قد هَمَّتْ بالارتداد، لولا أن عثمان بن العاص كرّه إليهم الإقدام على مثل ذلك التصرف الذي لا يليق، فما كان منهم إلا أن فاؤوا إلى رشدهم ولم يعودوا إليها، بل كان منهم كثيرون حاربوا المرتدّين بكل إخلاص. وهنا أيضا لم نسمع أية نأمة حول الاستفادة المحمدية المزعومة من شعر أمية! ليس ذلك فحسب، فهناك، كما أشار د. جواد علي (23)، يوحنا الدمشقي مثلا، وهو من أوائل من كتب من النصارى مهاجما الإسلام، وكان معاصرا لدولة بنى أمية. أفلو كان لهذه الشبهة أي ظل من الحقيقة مهما ضَؤُل، أكان هذا الراهب المتعصب على الإسلام، والذى يريد أن يهدمه على رؤوس أصحابه ويثبت بكل وسيلة أن محمدا لم يكن نبيًّا صادقًا، يُفْلِت تلك السانحة الغالية ويسكت فلا يستخدم هذه الورقة الجاهزة والرابحة بكل يقين؟

 

بهذا تكون القضية قد ظهرت على وجهها الحقيقي: فلا أمية ولا أي واحد من أبنائه أو أقاربه أو قبيلته أو حتى من العرب، بل ولا من النصارى واليهود الذين عاصروا النبي أو جاؤوا بعده بقليل، قد أثار هذا الأمر على أي وضع. أليس لنا الحق بعدئذ في أن نصف من يفتح هذا الموضوع الآن بالرقاعة والوقاحة؟ إن ذلك بمثابة رفع دعوى من غير ذى صفة، بل من شخص لا يستند إلى أي توكيل من أي من أصحاب الشأن رغم أن الظروف كلها من شأنها أن تدفع أصحاب الشأن هؤلاء إلى الكلام لو كان لتلك المزاعم أساسٌ أي أساس!

 

خلاصة القول إنه ليس أمامنا في هذه المسالة إلا أمران: فإما قلنا بزيف نسبة هذه الأشعار إلى أمية، وإما قلنا إنه قد نظمها تقليدا لما جاء في القرآن. لكن د. جواد علي يرفض الاحتمال الثاني ولا يرى إلا احتمالا واحدا هو زيف الأشعار المعزوّة إلى أمية. ومن بين ما اعتمد عليه في هذا الرأي أن النبي عليه السلام لم يتهم أمية بالأخذ منه (24). وأنا، وإن كنت أميل إلى رأي الأستاذ الدكتور، لا أستطيع أن أنبذ الرأي الآخر مائة في المائة لعدم توفر دليل قاطع على صحته، ولكيلا أترك فرصة لأي جَعْجَاع يريد أن يُجْلِب على القرآن والرسول، فكان لا بد أن أسدّ هذه الثغرة. ومن هنا فإني أجيب على الحجة التي ساقها د. جواد بالقول إن النبي عليه السلام أكبر من أن يقف عند هذه الأشياء، وبخاصة أنه قد نزل عليه القرآن كى يفيد منه الناسُ أيا كان نوع تلك الإفادة لا ليشمخ به عليهم. ثم إن القرآن ليس ملكا للرسول بل هو كتاب الله، فماذا كان يمكن للرسول أن يقول لأمية في هذه الحالة، وبالذات إذا علمنا أن أمية لم يواجهه بل اكتفى بالازورار؟ وحتى هذا الازورار لم يكن كاملا، فقد جاء في بعض الروايات أنه وفد عليه ذات مرة واستمع منه إلى سورة "يس"، وشهد له بالحق، وأنه، عند عودته من الشام، قد أخذ طريقه إلى المدينة ليعلن الدخول في دين محمد لولا تحريض المشركين له بإثارة نقمته على الرسول جرّاء مقتل بعض أقاربه على يد المسلمين في بدر حسبما جاء في "الإصابة" لابن حجر و"مجمع البيان" للطَّبَرْسِىّ وغيرهما (25). أما إذا كان لا بد من أن يردّ عليه النبي رغم ذلك كله، أفلا يكفينا ما رُوِىَ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله فيه: "آمن شعره، وكفر قلبه" أو "آمن لسانه، وكفر قلبه" (26)؟ إذ معنى "آمن شعره أو لسانه" أنه كان يأخذ ما جاء في القرآن ويردّده في شعره ترديد المؤمن به، لكن حسده له عليه السلام قد منعه أن يعلن ذلك بصفة رسمية ونهائية، وهذا معنى كفران قلبه.

 

أما الاحتمال الثالث الذي طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألمانى شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبي وأمية قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك فهو احتمال ليس له رِجْلان يمشى عليهما، إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكانى والنفسى؟ ثم لماذا هما وحدهما بالذات من دون العرب كلهم بل من دون العالم أجمع؟ * د. إبراهيم عوض : أستاذ جامعي - الدوحة.

 

الهوامش :

 

1- شعراء النصرانية قبل الإسلام/ ط2/ دار المشرق/ بيروت/219 وما بعدها، ود. جواد على/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1978م/ 6/ 478- 500، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ مطبوعات وزارة الإعلام/ بغداد/ 1975م/ 46 فصاعدا. وله تراجم في "طبقات الشعراء"، و"الشعر والشعراء"، و"الأغانى" وغيرها

2- كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/ 113

3- دائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/ 463- 464

4- في الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1958م/ 145

5 من تعليق الشيخ محمد عرفة على مادة "أمية بن أبى الصلت" في "دائرة المعارف الإسلامية"/ 4/ 465

6- د.عمر فروخ/ تاريخ الأدب العربى/ ط5/ دار العلم للملايين/ 1948م/ 1/ 217- 218

7- د. شوقى ضيف/ العصر الجاهلى/ ط10/ دار المعارف/ 395- 396

8- المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 491- 496

9- أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ 127

10- الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائى ود. نور حمود القيسى/ ط2/ مكتبة المنار/ الزرقاء/ 1406هـ- 1985م/ 2/ 503

11- د.جواد على/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 479

12- أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره" لبهجة عبد الغفور الحديثى/ 260- 264

13- المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 497- 498

14- أمية بن أبى الصلت/ 78- 79

15- الزُّمَر/ 30

16- ابن حجر/ الإصابة في معرفة الصحابة/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 363، والاستيعاب في معرفة الأصحاب/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 379

17- ابن حجر/ الإصابة في معرفة الصحابة/ 2/ 496، و3/ 305

18- أبو نعيم الأصفهانى/ دلائل النبوة/ ط2/ حيدر أباد الدكن/ 1950م/ 467

19- الزركلى/ الأعلام/ ط3/ 5/ 243، ودائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 2/ 597- 598، وديوان الشاعر، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت/ 42- 43

20- أحمد صدقى العَمَد/ الحجاج بن يوسف الثقفى- حياته وآراؤه السياسية/ دار الثقافة/ بيروت/ 1975م/ 86- 87، 96، 474، 477- 478، وهزاع بن عيد الشّمّرى/ الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى في تاريخ الإسلام/ دار أمية/ الرياض/ 44

21- انظر في نَسَبه "الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى في تاريخ الإسلام" لهزاع بن عيد الشّمّرى/ 15

22- د. جواد على/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 483

23- في كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"/ 6/ 493

24- المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/491

25- د. جواد على/ المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 486

26- صحيح مسلم من كتاب "الشعر". وقد أورده الدكتور جواد نفسه في "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام "/ 485

 

المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك