صناعة القرار

صناعة القرار

 

 

المقدمة :

نبدأ بالتعريف ، ونمضي بعد تعريف القرار إلى ذكر أنواعه وأسس اتخاذه والمحاذير والأخطاء التي قد تصاحب ذلك في بعض الأحوال.

القرار في أصل اللغة العربية مشتق من القرِ ، وأصل معناه على ما نريد هو : " التمكن " ، فيقال قرّ في المكان ، أي قرّ به وتمكّن فيه .

ومن هذا الباب الإقرار ، وهو ضد الجحود وهو الإذعان للحق والاعتراف به ، فإذا أقرّ الإنسان بشيء ، فمعنى ذلك أنه اعترف بخطئه وأعطى الحق لصاحبه ، فيكون بذلك قد اتخذ قراراً أمكن فيه صاحب الحق من حقه ورد الأمر إلى نصابه.

 

ومن ذلك أيضاً يوم القرِ ، وهو أول أيام التشريق في منى ، يسمى كذلك ؛ لأنه يوم استقرار وسكون ، وهذا المعنى هو الذي سيكون له ارتباط بمعنى القرار.

فالقرار هو أن تستقر على أمر وتميل إليه وتثبت عليه وتختاره دون غيره .

 

أما القرار الذي نتحدث عنه بمعنى أنك تتخذ قراراً ، أي تحدد أمراً للتنفيذ دون غيره من سائر الأمور فهو كما يعرّفه أهل الإدارة : هو التعرف على البدائل المتاحة لاختيار الأنسب بعد التأمل بحس متطلبات الموقف وفي حدود الوقت المتاح " ، ما معنى ذلك؟ إننا عندما تعرض لنا مشكلة أو نعزم على أمر ؛ فإن هناك عدة خيارات تظهر لنا فنحلّ المشكلة أو نتغاضى عنها ، أو نحلها بمواجهتها مواجهةً عنيفة ، أم نتخذ طريق التدرج ونحلها جزئيً، أم نستعين بغيرنا في هذا الحل هذه خيرات متنوعة ؟ .

 

فالقرار أن تعرف هذه الخيرات والبدائل ، ثم تصل إلى الخيار الأمثل ، وذلك من خلال التأمل وحسب الظروف المحيطة وحسب متطلبات الموقف ، وفي حدود الزمن المتاح ؛ لأن الزمن أيضاً أحياناً يكون له أثر حاسم في اتخاذ القرار ، فالذي يريد - مثلاً - أن يتخذ قراراً في أن يدرس في جامعة كذا وجامعة كذا لا بد أن يتخذ القرار قبل انتهاء مدة القبول والتسجيل ، فإذا اتخذ قراره بعد ذلك أبح قراره بعد فوات الأوان كما يقال .

 إذاً فالقرار الذي نتحدث عنه هو كيف تختار الأمثل والأفضل والأكمل ليكون له الأثر النافع والمفيد في المدى القريب والمدى البعيد بإذن الله تعالى.

 

أنواع القرارات

لأن هذا الموضوع في غالب الأحوال يتحدثون عنه في القرارات الإدارية في المؤسسات التجارية والمنشات الصناعية ، ونحن نتحدث هنا عن القرارات الشخصية في الحياة العامة على وجه الإطلاق.

 

أ – القرارات الفردية

هناك قرارات فردية وأخرى جماعية قرار فردي يخصك وحدك ، كما قلنا طالب يريد أن يحدد جامعة أو رجل يريد أن يختار للزواج امرأةً ، فهذا أمر محدود ، لكن إذا كان القرار يخص جمعاً من الناس أو يخص الأمة برمتها ،كقرار يتخذه الحاكم في مصلحة الأمة أو كحكم يتخذه القاضي بشأن متنازعين مختلفين .

 

إن مثل هذا القرار يكون أكثر حساسية وأكثر أهمية ، ولا بد له من مزيد من أخذ الأسباب الموصلة للقرارات ؛ لأن الأول قرار يخصك وحدك ؛ فإن وقع فيه خطأ فأنت الذي تتحمله وإن كان به ضرر فدائرته مخصوصة به وحدك ، أما أن يكون القرار تتخذه فيتضرر منه الآلف أو الفيام من الناس ، أو أن تتخذ الحكم فيتضرر به أو النظام فيتضرر به كثير من الناس فهذا أمر يحتاج إلى مزيد من الروي.

 

ب – القرارات المصيرية

أيضاً من جهة أخرى هناك قرارات عادية وأخرى مصيرية .. قرار عادي تريد أن تهدي لأخ لك هدية ، وهل يا ترى أهديه من الطيب أم أهديه كتاب من الكتب ؟ قضية عادية متكررة ليست خطيرة ولا كبيرة ، لكن هناك قرار ربما يكون بالنسبة للفرد وأحياناً على مستوى الأمة مصيرياً هل تريد أن تدرس أو تعمل؟ ربما يكون قرار مصرياً بالنسبة لك هل تريد أن تبقى في هذه البلاد أو ترحل إلى بلاد أخرى؟ هذه أمور لها آثار أكبر لذلك لا ينبغي أحياناً أن يزيد الإنسان من التفكير والبذل للجهد في قرار عادي يتكرر فيجمع جمعاً من الناس يستشيرهم .. هل يهدي هذا أو هذا ولا يكون ؟

أيضاً العكس فيأتي في قرار مصيري فيتخذه ويقرره وهو في جلسة لشرب الشاي دون أن ينتبه للخطورة التي تترتب على ذلك.

 

ج – القرارات الدورية

وهناك أيضاً قرارات دورية وأخرى طارئة ، ما معنى قرارات دورية ؟ أي تتكرر دائماً ، على سبيل المثال بالنسبة للطالب الاختبارات أمر يتكرر دائماً ، فيحتاج أن يقرر هل يبدأ بدراسة الكتاب أو بدراسة المذكرة أو يبدأ بدراسة المادة الأولى أم الثانية ؟ فالأمور الدورية مثلاً الشركات أو المؤسسات توظف موظفين لديها وأحيناً تفصل آخرين هذه الأمور الدورية المتكررة القرار فيها هو اتخاذ النظام الأمثل ، بحيث لا تحتاج في كل مرة إلى أن نعيد القرار ندرس القضية مرةً واحدة نضع شروط لتعليم الموظفين نضع نماذج نحتاج إليها وينتهي الأمر أما في كل مرة نعاود التفكير ، كلا ! قرار دوري يأخذ دائماً أما الشيء الطارئ الذي يحتاج إلى بعض ذلك الأمر إذاً فهمنا هذه الصورة العامة في القراراتِ وبأسلوب مبسط ويلامس واقع حياتنا.

 

أحب هنا أيضاً وقفة مع اتخاذ القرار ماذا يعني هذا الاتخاذ للقرار؟ فما هي بعض حثيثياته وملابساته ؟.

 

حيثيات اتخاذ القرار

أولاً : اتخاذ القرار لا يكتسب بالتعليم وحده وإنما أكثره بممارسة والتجربة

لن تكون صاحب قرارات صائبة بمجرد أن تقرأ كتاباً ، أو بمجرد أن تستمع لمحاضرة ، ولكنها التجربة تنضجك شيئاً فشيئاً .. ولكنها الخبرة تكتسب مع الأيام .. ولكنها الدربة يملكها الإنسان مع ممارستها شيئاً فشيئاً ..

 ومن هنا يتميز كبار السن وأصحاب التجربة بالحنكة وصواب الرأي ودقة الاختيار أكثر من غيرهم ، فالغرّ الشاب الناشئ كثير ما لا توجد لديه الأسباب والملكات لاتخاذ القرار الصحيح ، هنا يحتاج إلى المشورة أو المعونة.

 

ثانياً : اتخاذ القرار أفضل من عدم اتخاذه وإن كان في القرار أخطاء

خاصةً في الأمور التي لا بد منها من اتخاذ قرار ؛ لأن عدم اتخاذ قرار يصيب الإنسان بالعجز والشلل في مواجهة الأحداث وحل المشكلات بعض الناس دائماً لا يبث الأمور لا يتخذ قرار يبقيها معلقة فتجده حينئذً شخص غير منجز ، ولا متخذ لقرار ، دائماً يدور في حلقة مفرغة ، يمرّ الوقت دون أن ينجز شيئاً ؛ لأنه لم يختر بعد " هل يدخل في كلية الطب أم يدرس في كلية الهندسة ؟ " يمر العام والعامين وهو على غير استقرار فلا ينجز ، والذي يتردد كثيراً فيدرس فصلاً في الطب والثاني يختاره في الهندسة ، ثم يقول : ليس ذلك اختياراً صائباً فيمضي للعلوم ، ثم يرى أنها لا تناسبه فتمر السنوات يتخرج الطلاب وهو - كما يقولون - يتخرج بأقدمية يكون معها قد استحق أن يأخذ عدة شهادات بدل شهادة واحدة .

 

أيضاً تضيع الفرص وتمرّ ؛ فإن لم تتخذ القرار وتغتنم الفرصة لأن الفرص لا تتكرر ، وهذه مسألة أيضاً مهمة ، البديل لاتخاذ القرار هو لا شيء ، واتخاذ القرار يكسبك جرأةً ويعطيك شجاعةً ، وأيضاً يتيح لك الفرصة للتقويم بعد الخطأ فلا تكن أبدأً متردداً في اتخاذ القرارات ، اعزم واعقلها وتؤكل ، وأمضِ فإن أخطأت فإن الخطأ تجربة جديدة وعلماً جديداً يفيدك في مستقبل الأيام بإذن الله عز وجل .

من المنطلق الإسلامي وجه آخر إن أخطأت فلك أجر واحد وإن أصبت فلك أجران ، فلماذا تحجم إذاً؟ ولماذا تتردد؟ خذ الأسباب واجتهد وامضي ولا تخشى الخطأ فإن الخطأ مع النية الصالحة السليمة ومع العمل الذي بني على اجتهاداً صحيح يكون مغفوراً بإذن الله عز وجل ، بل ويثاب صاحبه كما في الحديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ).

 

 

ثالثاً - ليس اتخاذ القرار مبنياً على العلم الشرعي فحسب

بل لكثير من الأحوال يبنى على معارف الحياة العامة وعلى طبيعة الظروف ومعرفة الأحوال وحاجات الناس ومصالحهم وهذه كلها تمثل أسساً لا بد من معرفتها عند اتخاذ القرارات .

 

رابعاً - اتخاذ القرار يحتاج إلى عقلية متفتحة مرنة

بعيدةً على الجمود وأحادية الرأي ؛ فإن الذي لا يفكر إلا من طريق واحد ولا ينظر إلا من منظار واحد تستغلق عليه أمور وتوصد في وجهه الأبواب ويظن ألا حل ويستسلم لليأس ، مع أنه لو نظر عن يمينه أو عن يساره أو خلفه أو أمامه لا رأى أبواباً كثيرة مشرعة وطرق كثيرة ممهدة إنما أعماه عنها أنه لم يتح  لعقله أن يسرح في الآفاق وأن يولد الأفكار حتى تكون هناك مخارج عدة بإذن الله عز وجل.

 

خامساً - ليس اتخاذ قرار هو نهاية المطاف بل في الحقيقة هو بدايته

لأن اتخاذ القرار يحتاج بعده إلى التنفيذ والتنفيذ يحتاج إلى المتابعة والتقويم والتقويم ربما يدخل كثير من التعديلات على تلك القرارات ، فليس المهم هو اتخاذ القرار وإنما أهم من ذلك أيضاً ما بعد اتخاذ القرار.

 

أسس اتخاذ القرار

وهذه أسس مهمة ، ونحب في الحقيقة -كما أشرت - ألا نمضي مع ما يقرره الإداريون لمثل هذه الموضوعات فحسب فنحن لنا رويتنا ولنا ديننا وعندنا تاريخنا وبين أيدينا سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك كثير من الخير الذي قد نغفل عنه في بعض الأحوال.

 

الأساس الأول : الأساس الإيماني

 وأحببت أن نبدأ بهذا ونركز عليه ونلفت النظر إليه ؛ لندرك أن كثير من الأمور بل ربما كل الأمور مفتاحها وصمام أمانها هو هذا الأساس الإيماني ، ماذا أعني بذلك؟ على سبيل المثال ونذكر بعض النقاط.

حسن الصلة بالله عز وجل ، ودوام الارتباط به ، واللجوء إليه هذا الأمر هو مفتاح لكثير من الخير ، وهو باب التوفيق ، وهو أساس في صواب الرأي وفي سداد القول ..

فإن من كان مع الله كان الله معه ، ومن تعلّق بالله أجرى الله الحق على لسانه ، ومن كان دائم الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى ، وفقه لما اختلف فيه من الحق بإذنه أن يصيب وجه الحق فيه .

ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يطلب من الله - عز وجل - أن يهديه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه ، وهذا من آيات القرآن أيضاً في الدعاء للمؤمنين هذه أمور أساسية ومهمة .

على سبيل المثال أيضاً استدعاء التوفيق بالدعاء وسؤال الله - عز وجل - الدائم لأن يخرجك من كل مشكلة ومعضلة ، هذا أمر من الأمور المهمة في حسن اتخاذ القرار أو صواب الحل للمشكلات ، وأيضاً ما هو من أحكام الدين وما هو من تشريعاته وعباداته فصلاة الاستخارة كان الصحبة - رضوان الله عليهم -يخبرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ما هي صلاة الاستخارة ؟ إنها استمداد للتوفيق من الله - سبحانه وتعالى - إنها براءة من الحول والقوة البشرية إلى حول الله وقوته .. إنها طلب البصيرة أن يقذفها الله - عز وجل - في قلب المؤمن ليرى الحق حقاً ويرزقه اتباعه ، ولذلك ماذا يقول في دعاء الاستخارة ؟ ( إني أستخيرك بعلمك وأستعين بقدرتك ) ..

إنه طلب استمداد العلم من الذي وسع علمه كل شيء والقدرة من الذي نفذت قدرته في كل شيء وهو على كل شيء قدير ومن أنت؟ وما عقلك الذي تفكر فيه؟ ما إمكاناتك التي تستعين بها؟ إنها لا شيء إذا لم يكن لك توفيق من الله - عز وجل - إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده ، فنحن إذا أردنا أن نوفق في قراراتنا ونسدد في آرائنا ونصوب في أعمالنا ؛ فإن طريقنا الأول إلى ذلك فإن طريقنا الأول إلى ذلك هو أن نكون مع الله سبحانه وتعالى فيفتح علينا حينئذً بإذنه جلا وعلا.

 

الأساس الثاني : جمع المعلومات

 لأن القرارات لا بد أن تبنى على المعلومات ولا تبنى على العواطف وعلى التخمينات ، إذ أردت أن تتخذ قراراً لتدخل - كما قلنا - في جامعةً بعينها أو في تخصص بعينه ؛ فإن أول بديهية هي أن تعرف هذه الجامعة ما كلياتها قد لا يكون فيها التخصص الذي تريد فانتهى أمرها في ثوانٍ معدودة ، أو قد لا تنطبق عليك شروطها فانتهى الأمر أيضاً دون الحاجة إلى بذل جهد .

 

المعلومات التي نحتاج إليها لاتخاذ القرار

1- المعلومات المطلوبة دون غيرها

بمعنى أنه ليس المراد حشد معلومات كثيرة ليست ذات صلة بالموضوع ؛ لأن هذه تشوش أكثر وتصيب بالحيرة بشكل أكبر ، إنما أريد المعلومات الحقيقية المناسبة للموضوع هذا .وكما قلت إذا أردت أن أدخل الجامعة فليس من داع أن آخذ معلومات عن الكليات المتوسطة ولا على المعاهد دون المرحلة الجامعية ولا أن آخذ معلومات عن المدارس الثانوية لأن هذا ليس مطلوباً في هذه المسألة.

 

2- المعلومات في الوقت لا بعده

لأنه إذا أراد مثلاً أن يعرف موعد التسجيل فعرف اليوم أن موعد التسجيل كان قبل أسبوعين أصبحت المعلومة غير مفيدة فالمعلومات القديمة لا فائدة منها.

 

3- المعلومات الدقيقة المحددة

المعلومات العامة لا تفيدنا هذه الجامعة جيدة وممتازة لا يكفي ولذلك تجد الدقة في المعلومات - وللأسف - أنها قد تكون في بلاد غير المسلمين أكثر لا يقول لك الجامعة ممتازة وتأخذ المرتبة الأولى ، كلا ! يقولون في تخصص كذا أفضل الجامعات هي هذه وفي التخصص الآخر جامعةً أخرى فليس التفضيل في الإطلاق وليس التحديد على سبيل الإجمال بل هو أمر دقيق محدد فلا بد من مثل هذه الدقة ؛ لأنها من أعظم الأسباب التي تعين على اتخاذ القرار أيضاً من الأمور المتعلقة للمعلومات هي المشروعية لمعنى مشروعية هذه المعلومات الوصول إليها هل هي معلومات توصل إليها لطريق غير مشروع ؛ لأنه يريد مثلاً أن ينشئ عمل تجاري في عمل ما فيذهب ويتلصص أو يسرق معلومات من الذين يعملون في هذا المجال ويكذب عليهم ، ويقول : جئتكم شارياً ، أو جئتكم لأكون شريكاً ثم يأخذ المعلومات ينتفع بها هذا ليس مقبول عند المسلم ؛ لأن الغاية لا تبرر الوسيلة في منهج المسلمين .

 

أيضاً لا يصح الخداع ولا تجوز التقية ، ولا ينبغي أن يكون هناك شيء من المغالطة لمثل هذه الأمور ، طبعاً المعلومة التي تأخذها هل هي مفيدة في الحد ذاته الجواب لا المعلومة تفيد بعد التفكير والتأمل .

 

خذ مثلاً النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر لما أراد أن يعرف قوة أعدائه وعددهم قال : كم ينحرون من الإبل ؟ فقيل له : كذا وكذا حينها عندما علم هذه المعلومة المعلومة ليست مباشرة في الأمر ، لكن كل ناقة أو كل جمل يأكله عدد من الناس ، قال : القوم بين التسعمائة وألف .. هكذا استنتج من المعلومة بمعادلة بسيطة ، ولذلك لا بد من تحليل المعلومات والاستفادة منها ، وهذا أمر - كما قلنا - مهم جداً .

طبعاً طرق تحصيل المعلومات إما أن تكون المعلومات متاحة ، وإما أن يسعى إليها الإنسان من خلال المقابلات ، أو من خلال الاستشارات أو من خلال الوسائل المتاحة في المعلومات من كتب أو غيرها.

 

الأساس الثالث : الاستشارة

وما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار .. الاستشارة والمشاورة أمر من صميم ديننا ، وقد أمر به من هو أغنى الناس وأغنى الخلق عن المشاورة .. إن قلنا : إن المشاورة تدل على نقص في عقلً أو تدل على فقر في خبرة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مبرأ من ذلك ومع ذلك أمر بقول الله عز وجل : { فشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتؤكل على الله }آل عمران ، ووصف المؤمنون بأنهم كما قال الله عز وجل : { أمرهم شورى بينهم } الشورى.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

وفي الحديث بسند الرجال ورجال الصحيح من حديث عبدالله ابن الزبير رضي الله عنه ( قال المستشار مؤتمن )، وهذا يدل على أن هناك من يستشار وأن الاستشارة مرغوب فيها وأنها تحتاج إلى الأمانة

 

وكما قال القائل :

الرأي كالليل مسود جوانبه **** والليل لا يـنجلي إلا بمصباح

فأضمم مصابيح آراء الرجال إلى **** مصباح رأيك تزدد ضوء مصباحِ

 

فإن ملاقحة العقول وأخذ آراء الرجال يكون له أثر محمود في الوصول إلى الرأي الصحيح والاختيار المناسب بإذن الله - عز جل - وهنا نسأل من هو المستشار؟ ومن الذي نأخذ مشورته؟ ومن نسأل إذا أردنا أن نتخذ قراراً هناك أمران اثنان في الجملة صلاح، وكفاية يعني في المر الذي نستشير فيه .

وكما كنت أضرب مثلاً في بعض الموضوعات الأخرى كنت أقول : إذا تعطلت سيارة أحدكم فماذا يصنع وأين يذهب ؟ فأجاب الجميع : بأنه يذهب إلى الميكانيكي الذي يصلح السيارات ! وقلت : ولماذا لا تذهب إلى إمام المسجد ؛ فإنه رجل صالح يحفظ القرآن ويصلي بالناس ؟ فماذا يقول لك ؟ يقول : " هو صالح لكنه غير متخصص .. ليس هذا مجاله " بل هذا قد قاله أهل العلم في الحديث وهذا الذي مثل نضربه في علوم الحديث عند تدريسها ؛ لأن مالك - رضي الله عنه - كان يقول : " أدركت في هذا المسجد - وهو مسجد رسول الله - سبعين مما يستسقى بهم " ، فإذا صلاحهم وتقواهم كلهم لا يؤخذ منهم حديث ، ولم يقال ليس من أهله .. لم يتخصصوا فيه .. ولم ينتدبوا له .. ولم يحفظوا نصوصه .. ولم يعرفوا رجاله فلا يؤخذ منهم ، وليس ذلك قدحاً فيهم ، ولا نقصًا من قدرهم .

 

 فينبغي أن نأخذ جانب الصلاح مع جانب التخصص فإذا أصابتك علة في بدنك فأذهب إلى طبيبً ثم اختر من الأطباء أصلحهم وأورعهم وأتقاهم فتكون قد جمعت بين الحسنيين ، فإذاً في جانب الصلاح الإيمان والصدق والإخلاص الإيمان فالمؤمن لا يكذب ، بل إنه يصدقق وينصح لك والإخلاص والشفقة فلإخلاص يولد الشفقة ؛ فإنه يريد مصلحتك فيخشى عليك المضرة ، وبالنسبة للكفاية علم بالأمر وخبرة فيه وتجربة سابقة فإن من حاز ذلك فإنه يكون أهلاً للمشورة.

 

ماذا تجني من المشورة والاستشارة ؟

1- أفكار جديدة قد تكون مناسبة وملائمة لا تخطر ببالك ولم ترد على عقلك ، وهذا شيء طبعي ؛ فإن الإنسان يفكر في الأمر فيرى فيه حلان أو ثلاثة ، فإذا سأل غيره زاده واحدة ، وإذا سأل ثالثاً زاده رابعاً ، لكن إذا استشار مائة جاءه مائة حلاً لم يعرف بعد ذلك ما الذي يختار منها يغرق في بحر من هذه الاختيارات ، فلذلك ينبغي أن تكون الاستشارة محدودة بقدر الحاجة - كما قلت - إذا أردت أن تهدي هدية استشر واحداً ممن حولك ، هل أهدي هذه أو تلك ؟ لكن لا تجمع لها كل أصدقائك وكل الخبراء والعلماء حتى يعطوك رأي في مثل هذا ؛ فإن هذا يزيدك حيرة وأيضاً يضيع الجهد والوقت في مثل هذا ، ثم أيضاً يكون في المشورة نوع من تحمل المسؤولية ؛ فإن الإنسان إذا اتخذ القرار وحده فأخطأ عنّف نفسه ولامها ، فإذا كان قد استشار ذوي الخبرة ثم وقع الخطأ كان وضع ذلك على نفسه أخف ، ووطأة اللوم عنده أقل ، ورضاه عمن شهد فيه والأسباب الذي أخذ بها أكبر ، فيكون ذلك أعون له على أن يتجاوز الخطأ وينتفع به في مرات قادمة .

 

وهذه مسألة مهمة ؛ فإن بعض الناس ينفرد برأيه حتى إن كان الأمر يخصك إن أشركت غيرك ممن تثق به - كما قلنا - وفيه خير ، يكون لذلك أثر .

أيضاً المشورة تفيدك أمر مهماً وهي اكتشاف جوانب الخطأ والكسور فيما قد عرض لك من الخيارات والحلول قد تمضي وتقول إني أريد أن أفعل كذا ، ورأيت أن أقول كذا وكذا ، أو أن آخذ بهذا الأسلوب فيقال لك لكن هذا بالتجربة يؤدي إلى كذا وكذا على الأقل تعرف ماذا يكون في هذا الاختيار حتى وإن اخترته قد يكون هو اختيارك بعد ذلك ؛ لأن أضراره أقل من غيره لكن تعرفها وتتوقعها وتستعد لها ، وهذا أيضاً أمر مفيد جداً .

 

 النقطة الأخيرة في هذا من تستشير من حيث تنوع الناس هناك أصناف من الناس الأقربون والأدنون وأعظم الأصناف في هذا الوالدان والأساتذة والمربين هؤلاء هم أقرب ، وأيضاً أخبر وأكثر حرصاً على الشخص والإنسان والفئة الثانية الخبراء والمستشارون الذين ربما لا يكونون قريباً منك ولا يعرفونك ولا تعرفهم ، لكن عندهم من العلم والخبرة في هذا الشأن ما يجعلهم بصيرين قد مرّت بهم كثير من الأحوال التي قد تطابق حالك وعرضت لهم كثير من المشكلات التي قد تشابه مشكلتك ، فيكون لهم دور فيها والصنف الثالث هم أيضاً الأقربون والأصحاب متى يكون هذا في الأمر اليسير - كما قلنا - وفي الأمر الذي قد يكون صاحبك قد مرّ به أليس بالضرورة أن تكون الاستشارة من الأدنى للأعلى بل قد يستشير الأعلى من هو دونه أو من هو مثله في بعض الأحوال .

 

وأخيراً نقول : الاستشارة ليست قراراً وإنما سبب ووسيلة معينة لاتخاذ قرار الذي يشير إليك لا يتخذ قرار بالنيابة عنك ولا ينفذ شيئاً إنما يعطيك ما قد تستفيد منه بعض الناس يستشير ، ثم كأنه يقول لمن يستشيره : قم وأفعل بدلاً مني كذا وكذا كأنما إذا استشار أحياناً مثلاً في شأن الزواج يسأل عن هذه الأسرة أو عن تلك المرأة فيقولون : هي صالحة أو فيها خير هل أتزوج يقول له أعطيتك المعلومات ، ثم يقول هل أقدم فيسأل أنت الذي تأخذ المشورة ، ثم تتخذ قرارك لا أحد يتخذ قرار بدلاً منك .

 

الأساس الرابع : الإمكانات

الإمكانيات والقدرات ؛ فإنه قد تستشير ويكون الأمر أخذاً بهذا الحل ، لكنك إذا دققت عرفت أنك لا تستطيع ، وكل أمر لا تستطيعه تجاوزه إلى ما تستطيع ، وخذ الأمر الأقل حتى تكون أقدر على ما هو أكبر منه ، لذلك من المهم جداً أن يعرف الإنسان إمكانياته ؛ لأن ليست القضية هي اتخاذ القرار .. يتخذ القرار يقول : أريد أن أدخل كلية الطب طيب ما هي الإمكانيات مجموعه 60% ولا يعرف العلوم التي تتعلق بالطب وليس عنده حافظة قوية وهو مهمل ولا يحب الدراسة !

 

ما من شك أن هذا أمر غير مقبول وهكذا لا قيمة لقرار لا يمكن تنفيذه لا تتخذ قراراً وأنت تعلم سلفاً أنك لا تنفذه ؛ لأن ذلك يفت في عضدك ويشعرك بالفشل ويصيبك بالإحباط ، وهذا أمر مهم تأمل ما كان في شأن الصحابة - رضوان الله عليهم - في يوم بيعة العقبة الثانية لما كانوا نفراً قليلين أمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ، وكانوا يحملون بين جنوبهم إيماناً متقداً ، ويقيناً كاملاً ، وصدقاً وإخلاصاً فقالوا : " يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل هذا الوادي ميلة واحدة لفعلنا ! " ، وبذلوا للنبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الاستعداد وكانوا صادقين فيه ، لكن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ينظر بنور الله - عز وجل - وبتسديد الوحي لا شك ، لكنه أيضاً ينظر بالمقياس البشري والأسباب المادية المطلوب مراعاتها ، قال : ( إنا لم نؤمر بذلك ) .

 

والنبي - عليه الصلاة والسلام - طاف حول الكعبة يوم عمرة القضاء وحولها 360 صنم ، ما كسّر واحداً منها ولا عابها ولا بزق فيها ، لكنه بعد أقل من عامين مباشرة جاء في يوم الفتح في أوانه وزمانه ومكانه وقدرته ، فدخل مكة فاتحاً وأخذ محجنه يطعن به في هذه الأصنام وهي تتهاوى ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) الإسراء..

إن كنت ضعيفاً وخصمك قوي لا تستطيع في المصارعة أن تصرعه فانتظر حتى تتقوى أو خذ أساليب غير أساليب القوة خذ قوة العقل الذي قد تفوقه فيه فدبر الحيلة في مواجهته ورد كيده ، فالمسألة لا بد من معرفة مكمن القوة ، هل قوتك في ذكائك ؟ هل قوتك في بدنك ؟ هل قوتك في حسن معاملتك ؟ اكتشف قوتك في ما تحتاج إليه في الأمر التي أنت فيه ، ومن هنا هذا الأمر مهم ذكر ابن حجر - رحمه الله - في تعليقه على بعض الأحاديث ، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ذكر ما ذكره بعض أهل العلم كالشافعي وغيره عندما قالوا : " إن طلب العلم أفضل من أداء النوافل من الصلوات " ، علّق على ذلك تعليقاً جميلاً ما مفاده : " اعرف نفسك فإن كنت من أهل العبادة والجلد في الطاعة ، فخذ بها وزد منها ، وإن كنت من أهل العلم ؛ فإن أخذك له ربما كان أنفع " ، لكنه قال : " فإن كنت تعلم أنك من لست صاحب حافظة قوية ولا ذهن صافي ولا ذاكرة حديدية فلا تتعب نفسك ، ولا تضيّع وقتك في طلب العلم " ؛ لأنه سيتخذ مجالاً بمعنى ليس لطلب العلم الأساسي وإنما طلب العلم الذي تريد أتتطور فيه وأن تتوسع وأن تكون فيه صاحب اختصاص بما هو أكثر من حاجتك الشخصية فهذا أمر أيضاً مهم جداً.

 

الأساس الخامس التحليل والدراسة

فإن كل الذي ذكرناه من المعلومات التي جمعتها والمشورات التي حصّلتها ، والإمكانات التي عرفتها ، كل ذلك يحتاج إلى أن تدرسه مع بعضه البعض لتنظر في أمرك وتتخذ قرارك ما الذي تدرسه؟ وما الذي تحلله ؟ السلبيات والإيجابيات عندي خياران فأنظر لو أنني أخذت في هذا ما الذي سيحصل سأجني كذا وكذا وكذا ، وقد يقع علي كذا وكذا أنظر إلى الثاني فإن رأيت ترجيح المصالح أكثر من المفاسد كان هذا معين على اتخاذ القرار ، وأيضاً يدرس عنصر الزمن هل هذا القرار مسألة عابرة أم قرار مصيري؟ هل هو طويل المدى أم قصير المدى؟ فإذاً أحتاج لمثل هذا الأمر والتفكير فيه أيضاً أنظر إلى الآثار هل ستكون آثاره علي وحدي أم علي وعلى أبنائي وأسرتي ؟ علي وعلى حولي من الناس أم علي وعلى وزملائي ؟ ما الذي سيترتب على هذا القرار؟ هل القرار لذاته أم لغيره؟ هل أنا أريد أن اتخذ القرار لذاته أم أنا أريده أن يحصل شيء آخر متعلق به؟

 

من اللطائف مما يكون في هذا سئل عنترة عن شجاعته وخوف الشجعان منه كيف حصل ذلك؟ قال: " إني لأعمد إلى الرجل الجبان الرعديد فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الكني الشجاع " ، فهو ذهب إلى هذا قصداً لكي يكون عبرةً ولكي يكون رسالة إلى غيره فهذا كله أيضاً مما تنبغي مراعاته.

ولننظر إلى بعض الصور التي تعتبر أمثلة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض أصحابه ؛ لنرى أنهم كانوا يرون ذلك ويأخذون إلى ما أشرنا إليه من هذه الأمور .

النبي - عليه الصلاة والسلام - في يوم الخندق لما بلغه نقض قريضة من اليهود عليهم لعائن الله للعهد ماذا قال؟ أمر السعداني سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة أن يستجليا الخبر ، وهذا جمع للمعلومات والتأكد من صحتها حتى يبني القرار على أساس صحيح لا على مجرد شبهة أو وهم أو شائعة ثم أيضاً كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد ألا تكون للمعلومة آثار سلبية قبل اتخاذ القرار فقال : انظرا الخبر ؛ فإن كان كما قيل فألحنا لي لحنًا لا يعرفه غيري ، أي إذا كان اليهود نقضوا العهد فلا تصرحوا بذلك ولا تعلنوه بين الناس وعلى رؤوس الأشهاد لئلا يكون على هذا أثر في النفوس ، بل قولا قولً أعرفه ولا يعرفه غيري ، قالا : عضل وقارة.

ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتخذ قراراً ليخذل عن المسلمين ، ما القرار الذي أراده ؟ أراد أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة ؛ حتى يرجعوا إلى ديارهم فيتفتت تماسك المحاصرين للمدينة ، فهل اتخذ القرار وحده؟ وهل مضى فيه لسبيله؟ كلا ! قد استشار أصحابه ، فجاء إلى سعد وسعد - وهما زعماء الأنصار - فاستشارهم ، فقالا : يا رسول الله أوحي من الله لا رأي لنا فيه أم هو الرأي ؟ فقال : بل هو الرأي ، فقالوا : لقد كنا نحن وغطفان في جاهليةٍ وكفرٍ لا يطمعون منا بثمرةً من ثمر المدينة إلا عن قرى -يعني إلا ضيافةً - أبعد ما عزنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف يا رسول الله " ، فنزل الرسول - عليه الصلاة والسلام - عند رأيهم فاتخذ القرار بعدم الترخص لا مع غطفان ولا مع غيرها ، ولو مضينا مع هذه الصورة ؛ فإننا نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ القرار بالتماسك وبالصمود ، وأخذ لذلك أسبابه ، ثم أرسل حذيفة لمعرفة مزيد من أحوال القوم ، ثم قبل ذلك أيضاً استعان بنعيم بن مسعود لما أسلم قال : خذّل عنا ما استطعت ، فأخذ النبي - عليه الصلاة والسلام - بكل ذلك وقبل ذلك وبعده كان عليه الصلاة والسلام دائم الالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى - فكان الأمر بعد ذلك بتوفيق الله ونعمته وقوته جلا وعلا : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال }الأحزاب.

 

موقف آخر أيضاً نراه كثيراً في سير ومواقف عمر الفاروق - رضي الله عنه - وهو إذا كان عرضت له المسألة يجمع لها كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار فيستشيرهم فيها ، وكان يستشير في سائر الأحوال ومنها استشارته في تولية الرجال ، وقد ورد أنه مرةً جاء إلى بعض الصحابة وقال : أشيروا عليّ في أمر قد أهمني يريد تولية رجل ، فأشاروا عليه برجل ، قال : ليس ذلك الذي أريد ، فقالوا : من تريد ؟ فذكر لهم المواصفات ، قال : أريد مؤمناً صادقاً قوياً في دينه آخذ بالجد في عمله ، فقالوا له : الربيع بن زياد الحارثي ، قال : ذاك الذي كنت انشدُ ، فأخذ برأيهم.

 

وقصة عمر في مشورته للصحابة في استشارته للصحابة في شأن أرض السواد في العراق ، لما فتح الله على المسلمين شاور الصحابة ثم مضى للرأي السديد ؛ لأن جعلها وقفاً على أمة الإسلام جميعاً الأمثلة في هذا كثيرة ، ومع ذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن صاحب المسؤولية العظمى وصاحب الولاية الكبرى وصاحب المهمات العظيمة ؛ فإنه يحتاج إلى أن يكون في آخر الأمر هو صاحب الرأي الأول والأخير بعد أن يستعين بالله وأن يستشير المستشارين ، وأن يأخذ بالأسباب كما فعل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عند حرب المرتدين جاء الصحابة كانوا على خلاف رأيه فأبدى لهم ما خفي عليهم من ذلك الأمر ، ثم كان حسمه وعزمه وتضييقه لفجوة الوقت ومبادرته لاتخاذ قرار كان له الأثر الأعظم في استبداد الأمن ورجوع المرتدين إلى الإسلام ، وحصول ما كان ينشده أبو بكر - رضي الله عنه - من تماسك الأمة ورجوعها إلى دينها فلم يمضي عام لم يمضي العام أقل من العام خمدت فتنة الردة وتماسكت الأمة ، ثم سير الجيوش إلى فتح فارس والروم ولو تردد أو تأخر أو كان منه غير ذلك لكان الأمر غير ما مضت به أقدار الله سبحانه وتعالى.

 

المحاذير في اتخاذ القرار

1- لا للمجاملات في اتخاذ القرارات

 فإنه من يأتيك من يستشيرك - على سبيل المثال - وترى أنه لا يصلح لهذا لكنك تجامله فتقول : توكل على بركة الله تكون غششته ولم تنصح له وتكون قد هيأت له سبباً أو أمراً يتضرر به وتقع به عليه مشكلة دون أن يكون لذلك فائدة ، دعه يعرف الحق ، أو حتى كن صريحاً حتى مع نفسك لا تجاملها يأتيك اللوم عندما تقول لا في البداية لكنه يأتيك مضاعفً عندما تقول لا في النهاية وهذا أحياناً يحصل في جوانب كثيرة فبعض الناس يتأثر بمن حوله فيقول : ماذا سيقول الناس عني الآن؟ ينتظرون مني قرار حاسماً ! أو يريد مثلاً جاءه الرجل الكفء المناسب لابنته وصالحاً تقي ماذا يقول؟ قل : أريد أن أوافق لكن البنت أختها قد تزوجت كذا ، والوسط الاجتماعي يقول كذا وكذا ، فيترك الرأي السديد والقرار الصائب مجاملة للآخرين دونما وجود ضرر حقيقي أو مخالفة حقيقة.

 

2- لا للعواطف

لأن العواطف عواصف ، وهذا نراه كثيراً بين الأباء والأبناء ،كم تغلب العاطفة الأباء والأمهات فيتخذون لأبنائهم قرارات ، أو يساعدونهم على مسارات هي عين الضرر عليهم .

وأيضاً كم تكون العاطفة سبباً في اتخاذ موقف لا يتفق مع المبدأ أو يخالف العهد والميثاق أو يخالف ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان العاطفة مؤثرة لا شك في ذلك لها أثر حتى في القرارات ، لكن إذا غلبت العاطفة أصبح الرجل - كما يقولون - عاطفياً يأتي المجرم المذنب الذي ثبت جرمه فيبكي عند القاضي ، فهل يقول  له القاضي ما دمت تبكي اذهب فأنت من الطلقاء ؟ ضاعت الأمور واختلت الأحوال واطربت الحياة من كل جوانبها بمثل هذا ويأتي الابن وقد أخطأ ويستحق العقوبة واستحق على أقل شيء نوع من الحزم ، وشيء من الجد فإذا به يجد أباه يطبطب على ظهره ويبتسم له ويكافئه عند الخطأ ، فيكون ذلك من أعظم الأسباب والأضرار .

 

وتأمل كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف الموقف الحاسم في شأن العاطفة دونما نظر إلى تأثيراتها ، ما دام الأمر الذي حسم والقرار الذي اتخذ فيه الخير والمصلحة في يوم صلح الحديبية كان النبي - عليه الصلاة والسلام - مسدداً بالوحي لا شك في ذلك تحرّكت عاطفة نواره في نفس الفاروق عمر - رضي الله عنه - فجاء إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - ألسنا على الحق ؟قال : بلى ، قال : أليسوا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ ونحن الآن في قوة لماذا نقبل بهذه الشروط؟ النبي عليه الصلاة والسلام يروض تلك العاطفة فيقول : إني رسول الله وإن الله لن يضيعني ..

انظر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - عندما ذهب إليه عمر وهو بهذه العاطفة ، ماذا قال الصديق رضي الله عنه ؟ قال : الزم غرزه فإنه رسول الله .

 لكن الشاهد الأقوى في هذه الحادثة بعد أن أبرم العقد بالمشافهة ، وقبل أن يكتب جاء أبو جندل ، ابن سهيل بن عمرو والذي تولى عقد الصلح من كفار قريش لإجراء الصلح ، جاء وهو يرصف في قيوده مسلم مضطهد معذب مقيد ؛ جاء ليلتحق بالرسول وبالمسلمين ، فلما رأوه المسلمون تحركت نفوسهم ، وهاجت عواطفهم ، وكان موقفاً عصيباً وله وقع في النفوس عظيم ، فماذا قال سهيل بن عمرو ؟ قال : يا محمد قد لجت القضية بيننا - الاتفاق ابرم وإن لم يكتب - فأمر رسول الله أبا جندل أن يبقى مكانه ، وبقي - عليه الصلاة والسلام - على عهده ووعده ولم تغلب العاطفة في حادثةً قد يكون لها ضرر عظيم بل جعل العاطفة في حدها وجعل لها أوان يأتي بإذن الله عز وجل في وقتها.

 

3- لا للتردد والتراجع

كثيراً ما يتردد الناس ولا يعزمون أمراً ولا يتخذون قراراً ، ولا ينشئون عملاً ، ولا يبدون بممارسة ، فتضيع الأوقات دونما شيءً . وأيضاً التراجع يبدأ ثم يرجع ، ويأخذ ثانية ثم يتقاعس هذا أيضاً مبدد للجهد ومضيع للوقت ومؤثر في النفس ، وتأمل في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، يوم كانت العاطفة عند من لم يشهد بدر موّاره ، وكانوا يريدون أن يشهدوا غزوة وجهاد في سبيل الله كما شهد أصحاب بدر ، فألحوا على النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان رأيه أن يبقى في المدينة وأن يتحصن فيها وأن يكون موطن القتال في أزقتها فيكون له الغلبة على عدوه ، فكان الشباب المتحمسون يريدون الخروج والقتال والجهاد فبعد أن كثر الكلام ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوال هؤلاء وهؤلاء دخل إلى بيته ولبس لامته أي - عدة حربه - فرأى أولئك النفر المتحمسون أنهم قد ضغطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم قد ألزموه أو ألجئوه إلى ما لم يكن يحب ، وإلى ما لم يكن يميل إليه ، فقالوا : يا رسول الله رجعنا عن رأينا فافعل ما بدا لك ،كان من الممكن أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه ) .. القائد الأعظم ما يتقدم بقرار ثم بعد أسبوع يلغي القرار ، ثم يتخذ قراراً ثانياً ثم يبدله بثالث .. تصبح الأمور فوضى ، ويشعر الناس أن القائد ليس بصاحب خبرة ، أو على أقل تقدير أنه ليس بصاحب جد ولا اعتناء بالأمور ، أو أنه تؤثر فيه المؤثرات وتغيره المؤثرات ، فلا يكون حينئذً ثقة ولا حصول للمصلحة المنشودة في مثل هذه القرارات .

 

4- لا للإذاعة والنشر ( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )

 بعض الناس إذا أراد أن يفعل أمراً أو يتخذ قراراً أذاعه في كل الصحف والإذاعات هو يريد أن يتزوج امرأة وإذا به يشرق بحديثه ويغرب فتأتيه أمور لا يدركها أو لم يكن يحسب لها حساب ..

من تحتاج إليه واستعن على قضاء حاجتك بالكتمان ؛ فإن ذلك أوفق وأوصل إلى الغاية وإن كثرة الكلام وإشاعة الأخبار لا يحصل منها في غالب الأحوال فائدة .

 

5- لا للعجلة

فإن العجلة كثيراً ما تصاحبها الندامة ، وأيضاً البطء الشديد غير مطلوب ، لكن العجلة كثيراً ما نرى أحوال الناس مع طبيعة الحياة اليوم يقولون نحن في زمن السرعة أو في عصر البرق والاتصالات السريعة نعم نحتاج إلى رفع الكفاءة في اتخاذ قراراتنا لكن العجلة المفرطة التي لا تعطي للزمن قدره كثيراً ما تأتي بعواقب وخيمة وبأمور لا تحمد عقباها في غالب الأحوال .

 

المؤثرات في اتخاذ القرار

أولاً : القيم والمعتقدات

فإن الذين يدعون إلى اتخاذ القرارات بعيداً عن هذه القيم ، وبعيداً عن المعتقدات ، قوم متناقضون مع أنفسهم ومع حقائق ووقائع النفس البشرية وتفاعلها في الحياة لا يمكن ، والمسلم مطلوب منه أن يكون أساسه واعتقاده ومبدأه في اتخاذ قراره فيمن يوالي وفيمن يعادي ، فيمن يحب وفيمن يبغض ، فيمن يصل وفيمن يقطع ، أو فيمن يبذل له وفيمن يمنع عنه كل هذا مبني على هذه الناحية .

 

ثانياً : الشخصية والاهتمامات

لكل إنسان شخصيته ، ولكل فرد اهتماماته ، ولا يمكن أن يكون اتخاذ القرار مبرأ من أثر لهذه الشخصية ، وأمر ذلك الاهتمام .

على سبيل المثال لو جئت لرجل طبعه حاد ، وشخصيته -كما يقولون - صدامية تجد غالباً أن قراراته فيها شيء من الشدة والمواجهة ، وإذا الرجل طبعه الهدوء ، وميله إلى السكون ، وعنده من رحابة الصدر شيء كبير وعظيم ؛ فإن أيضاً قراراته تأتي فيها مسحة من شخصيته وبصمة من اهتماماته وهذا ليس فيه شيء إذا كان بقدره .

 وأبو بكر - رضي الله عنه - نموذج للرقة وذلك عندما أمر النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة وزوجاته قال : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) فاجتهدن وامروا عمر ، فما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال : ( يأبى الله ذلك ورسوله ) ، قالت : إن أبا بكر رجل بكّاء يوشك إذا صلى بالناس يبكي ..

هذا الرجل الحليم الأسيف الكثير البكاء ماذا كان في يوم الردة ؟ كان أسداً عجيباً في شجاعته وجرأته ، حتى إن عمر الذي كان مشهوراً بالقوة والشجاعة والجرأة جاء يقول له : يا أبا بكر كيف تقاتل ؟ فضرب أبو بكر الرقيق على صدر عمر القوي ضربة قوية ، قال : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر ؟! رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك يا عمر ؟! هذه شخصيته لكن إذا جد الجد ليست الشخصية هي التي تطغى وإنما متطلبات الموقف ، لكن يبقى أن رأي أبي بكر في أسرى بدر ماذا كان كان الفداء وكان رأي عمر بحسب شخصيته أقتلهم يا رسول الله لا تبقي منهم أحداً ، الشخصية لها أثر لكن لا ينبغي أن يكون أثرها غالب فتفسد اتخاذ القرار الصحيح .

 

ثالثاً : الميول والطموحات

و شهوة ما تجد أنه في قراراته يحسبها بالأرقام وبالحسابات الدقيقة كما يقولون ومن له رغبة في الأمور المعنوية وطموحاته دائماً في أن ينال شهادة تقدير لا يريد شيء يريد شهادة تقدير لا يريد مبلغ من المال تجد أيضاً تفكيره في الحلول وفي اتخاذ القرارات ينحو هذا النحو بطبيعة ما يطمح إليه وما يرغب فيه من الناحية النفسية هذا أيضاً أمر يحف بهذه القرارات .

 

وأخيراً نقول إن اتخاذ القرار في أخر الأمر له أثر في الراحة النفسية ، وإزالة الحيرة والاضطراب ، وله أثر في العمل والإنجاز وتحقيق الطموحات والآمال . ونسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نتخذ القرارات الصائبة وأن يوفقنا للحلول الصحيحة لمشكلات حياتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .  

المصدر: http://almisk.net/ar/article.php?id=661

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك