حوار ساخن فى قضايا هادئة

حوار ساخن فى قضايا هادئة

ومقصودنا بأن هذه القضايا التي سِنشير إليها أنها هادئة ؛ أي أنها ليست مطروحة للنقاش ولا مطروقة بين الناس، ولا مُثارة في المجتمعات، ولا تشكل همّاً مؤرقاً ، ولا يكون فيها التفكير والبحث عن أصولها وأسبابها وحلولها، بل هي قضايا شبه غائبة كأنها لا وجود لها، وذلك لعل من أسبابه كما سنذكر عدم استشعار أهميتها، فهذه القضايا التي سأذكر أمثلة يسيرة منها لها نظائر أخرى .. نجد أنها تحتاج  إلى أن تكون حاضرة في العقول والقلوب، وأن تكون موضوع للأخذ والرد وأن تكون مجال للبحث والنقاش وأن يكون فيها سبل وطرق للعلاج والعمل .

   

مع أنا نرى أهميتها إلا أنها في واقع الحال ليست على ما تقتضيه أهميتها ولذا أحببت أن أذكر بعضاً منها وأن أثير حولها حوار ساخن وجدلا قوياًً حتى تلتفت الأنظار إليها وإلى مثيلاتها، وفي المقابل سنرى أن هناك قضايا هي أقل شأنا وأبعد خطراًً - أي أبعد في الخطر من ملامسته لنا ولواقعنا - ومع ذلك قد تأخذ حيزاً من الاهتمام بها والنقاش حولها أكثر مما تستحق، إضافة إلى أن هناك حماسا قوياً واندفاعاً ظاهرا في طرق بعض القضايا مع أنها تحتاج إلى رويه وهدوء وذلك ما سيكون لنا فيه حديث آخر في المستقبل إن شاء الله بعنوان : " حوار هادئ في قضايا ساخنة".

 

أحب أن أشير إلى أن القضايا التي أود أن أذكرها هي ثلاث قضايا ، وعندما بحثت القضية الأولى منها وجدت أن أهميتها تكاد أن تستغرق كل ما نحتاج إليه ومن الوقت أو ما يتاح لنا من وقت، وقد كنت أفكر في أن أجعلها موضوع الحديث وأغير العنوان لكنني لم أفعل ؛ نظراً لما أريد من التمثيل بالقضايا الأخرى، ولذا سيكون حجم الحديث منصبا في القضية الأولى في تفصيل وتطويل أحسب أنه قليل في حقها، ثم سأذكر ما يتيسر في القضيتين الأخريين تنبيهاً إلى أهميتها وأيضا فتحاً لأبواب القياس لقضايا أخرى مثيرة .

   

قضية التربية الإيمانية

وهذه القضية على وجه الخصوص، يناقش فيها ويبحث أمرها مع المتلزمين أكثر من غيرهم ، ومع الدعاة العامين بالإسلام بشكل أقوى وأكثر وأعمق من غيرهم؛ فإن الحديث عن التربية الإيمانية لا يتوجه بالدرجة الأولى إلى المعرض الغافل الغارق في الشهوات، فذلك يحتاج إلى حديث آخر يمهد لهذا الحديث ، وإلى تذكير وزجر وترهيب وتخويف ؛ حتى يفيء أولاً إلى ما ينبغي له من الإيمان وما ينبغي له من الصلة بالله عز وجل، ثم بعد ذلك يأتي مثل هذا الحديث ولننظم هذا الحوار الساخن حول هذه القضية نطرح سؤال :

لماذا هذه القضية الغائبة ؟ لماذا أسميناها قضية هادئة ؟ هل هي في الواقع وفي الحقيقة  مثل ما نصفها أم أنها غير ذلك ؟

 

ملامح الهدوء والانزواء عن الحوار والبحث في القضية

1 - غلبة الاهتمام على قضايا الفكر والسياسة :

في قضايا العمل الإسلامي حوار مستمر ، ونقاش دام ، وتفكير عميق ، وفي قضايا الفكر والسياسة والتخطيط ونحو ذلك، وطلب أن يكون الدعاة والعاملون للإسلام على مستوى من الثقافة المعاصرة ، والفقه الواقع ، ومعرفة الإداريات وبناء المؤسسات .. وغير ذلك من الأقوال والأحاديث التي يطول شرحها .

 

والقضايا التي يطول شرحها، نجد أن لها أهمية كبرى في الواقع ؛ حتى أنها تفرد لها صفحات المجلات الندوات والمؤتمرات، وتصدر فيها المؤلفات وهذه كلها بزخمها وزحامها غطت وحجبت إلى حد كبير الحديث عن التربية الإيمانية ؛ حتى تكاد أن تكون غائبة لا وجود لها في ظل هذا الزحام من القضائي والحوارات .. وحسبك أن تنظر إلى الإنتاج المعاصر من الكتب العلمية أو الدعوية ، فستجد النسبة ظاهرة في صف غير التربية الإيمانية، انظر كذلك إلى غير هذه الأمور من مجلات وحوارات فستجد هذه الظاهرة لا تخطئها العين .

 

2 - النظر السلبي للقضية على أنها من الدروشة :

ثمة خلل كبير يتمثل في نظرة البعض إلى قضايا التربية الإيمانية ، وهو أيضا سبب من أسباب غيابها عن البحث والحوار، ذلك أن بعض الناس ينظرون إلى التربية الإيمانية على أن الحديث فيها ضرب من الدروشة أو أنها مرحلة ابتدائية يخاطب بها عامة الناس وعظاً وتذكيراً وترقيقاً لقلوبهم والمقبلين على الخير في أول مراحلهم، أما نحن الذين قد أخذنا في سلم الالتزام ورقينا فيه ، بل خطونا في طريق الدعوة ، وبذلنا فيه فكأن هذه القضية ، وهذا الأمر ليس هو الذي نحتاج إليه ولا ينبغي أن يخاطب به المثقفون والمتعلمون والباذلون في سبيل الله، مع أن هذا هو الواجب في حقهم والإلزام لهم ، وقد غفل هؤلاء عن سمت السيرة النبوية وهدي السلف الصالح وشعار العلماء المصلحين ودأب الدعاة المصلحين؛ فإننا لا نجد عالم من العلماء ولا إمام من الأئمة ، ولا داعية من الدعاة  برز نجمه ولا عظم تأثيره إلا ونجد سمت الإيمان والتربية الإيمانية أحد أبرز المعالم التي تميز شخصيته والتي لأجلها أو بسببها يكون له مثل هذا الأثر أو الجهد الذي يبارك الله عز وجل فيه .

 

3 - الظن الخاطئ بتحقق القضية ووجودها :

فالظن المتمثل في أن القدر المطلوب من التربية الإيمانية متحقق بما يكفي ويشفي، فكثيراً ما نسمع أننا - بحمد الله - نشهد الصلاة ، ونرتاد المساجد ، ونقرأ بين الفينة والأخرى آيات من كتاب الله عز وجل، وكأن هذا هو الذي يكفينا ! مع أن المتأمل كما سيأتي يظهر لنا أن الكثير - أو أن هذا العمل الذي نظنه كثيراً - هو أقل من القليل اللازم، هذه الأمور من زحام القضايا ومن النظر إلى التربية الإيمانية على أنها مرحلة دنيا وأولية، ومن تصور أن الزاد الذي أخذناه أو نحن آخذون به جعل هذه القضية تنزوي في دائرة ضيقة أو يلفها حجاب النسيان، فلا تأخذ حظها من الحوار ومن النقاش ومن الجدال الذي يهدف إلى أن يكون جدال عملياً يقصد به تنبيه على الأهمية وحث على التطبيق .

 

بواعث الحوار الساخن في قضية التربية الإيمانية

أولا : التربية الإيمانية هي الأساس

ولا دعوة ولا عمل بدون أساس فالتربية الإيمانية هي الإيمان والأركان، عندما نقول التربية الإيمانية نعني بها أركان الإسلام ونعني بها أركان الإيمان فهل هذه مرحلة أولية ؟ وهل هذه  يخاطب بها عامة الناس دون العلماء أو دون الدعاة ؟ وهل هذه أمر ثانوي ودروشة لا قيمة لها، إن التربية الإيمانية هي أساس البناء الذي يمكن أن يقوم كل عمل وجهد في سبيل الله، ولا بد أن نتذكر المدرسة المكية التي علمت الصحابة سمت الإيمان ، ورسخت جذور اليقين وحفلت بالذكر إحياء للقلوب ، وقيام الليل زيادة للإيمان ودوام التلاوة ، وكثرة السجود والبكاء والأنس في الرجاء في الله عز وجل ودعاء الأسحار وكلمات التذلل والاستغفار .

   

هذه المدرسة الإيمانية ظلت نحو عشر سنوات واستمرت أيضا على نهجه بعد ذلك هذه المدرسة الإيمانية في المرحلة المكية تخرج منها الصحابة - رضوان الله عليه - وانطلقوا إلى ميادين الجهاد وإلى إقامة الدولة ، وكانت حياتهم تمثل الشعار القائل من المحراب إلى السياسة من الروحانية إلى الإدارة من الذكر والاستغفار إلى القوة والانتصار من حياة القلوب إلى مواجهة الخطوب، وليس العكس، ليس العكس هو الذي يكون صحيحاً ؛ بل العكس يكون خطأ فاحشا وأثره واضح .

 

إنه لا بد لنا من تربية إيمانية لنستطيع أن نقاوم الباطل وأن نقف في وجهه ، وأن نثبت على دين الله عز وجل، وأن نصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى .

إننا بحاجة إلى التربية الإيمانية ليصح منا القول ويسدد منا العمل ويصح منا الفهم بإذن الله عز وجل .

 

ثانياً : أن التربية الإيمانية بمثابة المفتاح

إذا أردت أن تدخل البيت لا بد لك من مفتاح وإذا فتحت الباب ، بعد ذلك لك أن تذهب هنا وإلى هناك، وأن تصعد إلى الأعلى أو تنزل إلى الأسفل ، لكنك بدون المفتاح لن تلج الدار مطلقاً ، وبدون الإيمان لا تستطيع ،ن تمشي في طريق تظن نفسك تبذل فيه لله عز وجل ، وتقيم فيه هذا الدين وتؤسس مجتمع الإسلام الأول في صدر الإسلام وعهد النبي صلى الله عليه وسلم وليس العكس أبداً صحيحاً .. بل العكس مرتكس ومنتكس وآثاره وخيمة، فالذي ينطلق على غير أساس إيماني فإنه يقع في مواقع ومشكلات كثيرة وينكس على عقبيه إلا من رحم الله عز وجل ، وأراد أن يهديه ويرجع إلى الطريق من أوله، ورحم الله عمر بن عبد العزيز - ونحن نعلم من هو عمر بن عبد العزيز - لما تولى الخلافة قال كلمة تبين عظمة التربية الإيمانية ، وأنها هي الأول والآخر فأنت عندما تلج ميدان الحكم ؛ فإن التربية الإيمانية تحدوك من وراءك ، وتحثك من أمامك ، وتحذرك من يمينك ويسارك ، وإذا كنت أيضاً في ميدان الجهاد في سبيل الله ؛ فإن التربية الإيمانية تذكرك بعظمة الإخلاص لله عز وجل ، وتشعل في قلبك الشوق إلى لقاء الله عز وجل وتذكر بمثل كان عليه أنس بن النضر لما قال :"واشوقا إلى الجنة والله إني لأجد ريحها دون أحد" .

   

كيف أن ننطلق في ميادين العمل لله عز وجل والدعوة في سبيله وإلى دينه سبحانه وتعالى ونحن نفتقر إلى هذا الأساس، عمر بن عبد العزيز في خطبة توليته في أول خلافته قال : " أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف " ، تقوى الله خلف لكل شيء تفقده كل ما تفقده في هذه الحياة إن كانت عندك التقوى والتربية الإيمانية ؛ فإنك عند الخلف والتعويض عن كل شيء، إذا فقدت التربية الإيمانية فلا خلف ولا عوض لك في أي شيء من الأشياء وإن حققت في بعض الأمور فاعلم أن هذا النجاح منقوص ويوشك أن يكون منقوضاً .

 

 

ثالثاً : التربية الإيمانية تعنى بالباطن

بالجوهر وليس بالمظهر وليس بالأشكال والرسوم إن ميدانها القلب وتطهيره وإصلاحه بحسن الظن بالله ، وصدق التوكل عليه ، وعظمة الخشية فيه ، وقوة الثقة فيه ودوام الإنابة إليه، والقلب هو أمير الأعضاء وموجه الجوارح ، وحسبنا في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ) ، أفليست التربية الإيمانية والقضية التي تتولى علاج القلب وتقويته وتهيئته لما يستقبل من أعمال ينبغي أن تكون أولى القضايا وأهمها في حياة الأمة الإسلامية عموماً وحياة العاملين في ميدان الدعوة والجهاد في سبيل الله خصوصاً ؟

 

رابعاً : طبيعة الزمن المعاصر

نحن اليوم في زمن كثرت فيه المحن ، وتوالت الفتن ، واشتعلت نيران الشهوات ، وزاد سعار المادة ، وسطع بهرج الدنيا، فالمعاصي تحيط بالمسلم من كل جانب، إن غض عنها بصره سبكت في إذنه ، وإن حمى عنها إذنه غزته في أهله ، وإن حصّن بيته غزته في مجتمعه وبيئته، فضلاً عن صور الإغراء التي ذكرتها .. فهناك شرك الابتلاء من مؤامرات الأعداء ، ومن تشويه للسمعة ، وتضييق في الرزق ، ومن سجن وتعذيب كل ذلك لا كفاء له بعد الله عز وجل إلا زاد الإيمان ويقين القلب .

 

فإذا كان هذا الزمن المعاصر فيه هذه البلايا والرزايا التي تميت القلوب ، وتغتال الإيمان وتطفئ  نورانية الحق في قلب المؤمن ؛ فإنه جدير به ان يذكي نار هذا الإيمان ، وأن يحي معاني الربانية والإيمانية بجهد مضاعف أضعاف مضاعفة، ولئن كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون في مجتمع طاهر لا يرون فيه عورات مكشوفة ولا محارم منتهكة ولا قول لاغياً ، ولا فعلاً باطلا .. ثم مع ذلك كانوا أحرص الناس على هذه التربية الإيمانية ، وكذلك كان سلف الأمة من بعدهم، فكيف بنا وقد وصفت بعض الأحوال التي في مجتمعاتنا وبيئاتنا وكثير من ديار الإسلام التي فيها أخطر وأعظم، ومع ذلك لا نلتفت ولا نتنبه إلى خطورة هذه القضية ونثير حولها ألف حوار وألف نقاش ونقاش ، ونطلب لها ألف عمل وعمل ، ونجعل لها ألف رقابة وحساب ؛ علنا أن نسلم كفاف لا لنا ولا علينا .

 

الآثار المترتبة على ضعف الروحانية

ولست بسبب استقصاء هذه الآثار وإنما أذكر بعضا منها فيما يتعلق بأمر العمل الإسلامي والدعوة إلى الله عز وجل :

أ  - ذهاب مسحة الفطرة والإيمان

لقد ابتعدت بعض صور العمل الإسلامي عن فطريتها واشراقتها الإيمانية التي فيها معالم الأخوة ، والتي فيها صدق التوكل على الله ، وذلك بسبب نقص الأخلاق وضعف الروحانية، ولذا كثير ما تظهر في ميادين العمل الإسلامي بعض المنافسات على الإداريات والمماحكات والخصومات والانقسامات وكثيراً ما تضيع القرارات الصائبة الأعمال الراشدة في زحمة هذه الظواهر المرضية ، وكثير ما يكون هناك فرق بين الشعار والواقع وثير ما يفتقد الناس السمت النبوي في أصحاب الدعوات، وهذه لعمر الله مصيبة من أكبر المصائب ومقتل من أعظم المقاتل ، ولا شك أن أثر ضعف التربية الإيمانية واضح في هذا الميدان وفي هذا المثال .

 

ب - ضعف تقبل الناس للدعوة

وتأثرهم بالكلمات والأساليب التي توجه لإرشادهم ونصحهم وتغير مسارهم وسلوكهم، أفلسنا نرى اليوم في كل مساجد المسلمين آلاف ومئات الآلاف وملايين في كل جمعة على مدى أزمان طويلة يتلون آيات الله ويذكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرون بسيرة السلف، ولكنك كأنك تخاطب آذانا صماً أو توجه الحديث إلى قلوب قد عميت - نسأل الله السلامة- ليس بالضرورة أن يكون العيب في السامعين ، بل العيب في المتكلمين وهذا يحدث كثيرا، إننا عندما نفتقر ونفتقد السمت الإيماني قد نحرم من خير كثير لعل ابرز هذا الخير هو قدح القبول في قلوب الناس، وأذكر بالآية في قصة عيسى عليه السلام { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي }المائدة ،  إنها ليست غزارة العلم ولا فصاحة اللسان ولا قوة الحجة ولا وضوح البرهان إنما هو توفيق الرحمن سبحانه وتعالى .

إن  الإخلاص والإيمان وإشراقة الروح أبلغ شيء في حصول التأثير وتنزل القبول،  والمحروم من الروحانية قد يحرم من توفيق الله عز وجل .

 

وأقرأ لكم عن شاعر إسلامي أعجمي - ليس بعربي - ترجمت كلماته فإذا هي تعبر أصدق تعبير عن هذا المعنى يقول الشاعر :

" جكر مراد أبادي "

ما أروع كلمات الخطيب ،ولكنني لا أجد في عينيه بريق الحب، ولا أقرأ في وجهه نور الإيمان وسيماء الحياء والحنان، ويعلق داعية على قوله ، فيقول : " إن فقدان الإخلاص في خطبهم أمات الكلمات ودفنها تحت الأقدام إلى غير رجعة، ولو ترددت على شفاه موتى كانت مترنحة لا حيوية فيها ، ولا حركة مثل جثة هامدة لا حراك فيها، بعد انتزاع روحها منها " ، ويقول محمد إقبال في ترجمة عربية في شعره : " الصفوف منشقة ،معوجة ، والقلوب خاوية فارغة ، والسجدة خامدة جامدة لا حرارة فيها ولا شوق ، ولا عجب فقد انطفأت شعلة القلب وخمدت جمرة الفؤاد،"  وهذا سر عظيم وخطر وبيل من أخطار ضعف التربية الإيمانية وهو من الكواشف التي تبين لنا إدبار الناس مع إقبالنا عليهم، و عدم تأثرهم مع إكثارنا لهم وذلك ليس من شيء .

 

وهذا ابن مسعود وقد وصف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال في وصفهم ما هو أعجب وأعظم مما يبين لنا حقيقة الفقه الإيماني في الدعوة إلى الله : " أبر هذه الأمة قلوبا ،وأقلها تكلفاً، كان الواحد منهم يتكلم بالكلمة يهدي بها الفئام من الناس" ، كلمة واحدة تخرج من قلب صادق ممتلئ بالإيمان ، مخلص لله يرجو المثوبة ، ويفرح بالاستجابة ، ويشفق على العاصي ، ولا يستعلي على المتخلف أو المقصر، يهدي به الله عز وجل وبها من لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وما ظنك بانتشار الإسلام في شرق الأرض وغربها ، في زمن الإخلاص والإيمان، إلا أن الله جل وعلا قد زرع البركة وأحل القبول بأولئك الذين أخلصوا له سبحانه وتعالى .

 

ج - الضعف في المواقف

والدعاة والعاملون للإسلام يتعرضون لمواقف الإغواء والإغراء كما يتعرضون لمواقف الوعيد والترهيب وأمام الشدائد والمحن وفي وجه الغواية والشهوة لا يثبت إلا من ثبته الله عز وجل بالإيمان وبهذه التربية التي تعمق فيه ثقته بالله عز وجل، وحسن ظنه به ورجاءه فيما عنده ويتذكر قول الله : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } النساء ، وعندما نذكر أمثلة الدعاة والأئمة ؛ فإننا نرى أن زادهم الإيماني كأنما يكون  في سنام الجمل عندما يبقى الأيام الطوال لا يأكل ويجتر من ذلك الطعام الذي اختزنه وزاد الإيمان يمدهم ويمدهم،فإذا هم في ظلمات السجون موصول بالله عز وجل وإذا بهم في شدة المحن لا يترددون ولا يتراجعون وإذا بنا نشهد أمثال شيخ الإسلام - رحمة الله عليه - وهو يخاطب من كادوا له ومن حاربوه يقول : " ما يفعل أعداءي بي ، إن جنتي في صدري ، إن سجني خلوة وإن نفي سياحة وإن قتلي شهادة " إنه معنى الإيمان الذي يثبت بإذن الله في المواقف .

   

وعندما نرى ساحات الدعوة الإسلامية وأوضاع المسلمين في بلاد كثيرة نرى كيف تهاوى كثير ممن ساروا في هذا الطريق لأنهم لم يكن لهم أساس من هذا الإيمان وتلك التربية وكأنها عبارة عن قطوف دانية ما إن جاءت لها هزة حتى تساقطت تساقط مريع مخيف، ولذلك نرى إن سر الأسرار في مواقف العمل الإسلامي في العصور المتأخرة يكمن في الانطلاق إلى الدعوة قبل إنضاج الربانية والتربية الإيمانية .

 

د - قلة التأييد الرباني

وإن كنت قد ذكرت ذلك فيما مضى إلا أني أعني بهذا التأييد الرباني الظاهر في صور معينة محددة، إن المؤمن المسدد بنور الله الموفق بتوفيق الله عز وجل ، يهديه الله عز وجل من المثبتات والأمور الحسية والمؤيدات الحسية ما يجعله - بإذن الله - أرسخ قدماً في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى .

 

نحن نعلم أن في سمت الإيمان إلهام صادق يلهمه الله عز وجل  للعبد المؤمن فيوفق إلى الخير وإلى الفكرة الصائبة ، وإن كانت غائبة والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك في الحديث الصحيح في البخاري : ( إن يكن في أمتي محدثون فعمر ) إنه إن كان ملهماً ، ونعرف انه قد ذكر أمورا فجاء الوحي متنزل بالآيات القرانية يصدق رأي عمر ويوافقه فيه ، كما في حوادث كثيرة في فداء أسرى بدر وفي الصلاة خلف المقام وغيرها، إن المؤمن ينظر بنور الله .

 

أمر آخر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه بقية من بقايا وآثار النبوة بعد ختامها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي الرؤيا الصالحة التي ربما افتقدناها حتى كأننا إذا سمعناها لا نقبل بها وننكرها و نستغربها ونستبعدها، إن الرؤى الصالحة كانت تقع لأهل الإيمان تسديدا وتوفيق من الله ، ثم يحققها الله عز وجل في واقع الحياة، وكما قال الزمخشري في تفسيره لأولياء الله قال : " أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة " ، وهذه الكرامات لا شك أنها نوع من التأييد الإلهي ونوع من ما يهيأ به مزيد من القبول وتغير المواقف حتى من قبل أعداء الله عز وجل .

 

وقد ذكرنا ونذكر دائماً قصصا كثيرة  مما ثبت للصحابة رضوان الله عليهم ولبعض سلف الأمة وكيف كان لهذا أثره القوي المؤثر في واقع الحياة، إذا أيها الأحبة هذه أمور وأسباب تجعلنا ندير الحوار ساخناً في هذه القضية لأنها أساس ولأنها تتناول الباطل، ولأننا في عصر نحتاج فيه إلى المزيد والمزيد منها، ولأن غيابها يؤثر تأثيرا قوياً ظاهرا في مسيرة ونصرة هذا الدين وانتشار دعوة الله .

 

صور من هزال الروح وضعفها

وهذه الصور كثيرة والحق كما أشرت عندما أردت أن أتناول هذه القضية كلما ذكرت أمراً وجدته أعظم، فإذا ذكرت غيره رأيت أنه أعظم مما سبق وهكذا حتى وجدت أن الأمر متحقق فينا وفي من يتحدث إليكم أولا بأول، بصورة تستحق أو تستحق أن نخاف منها وأن نخشاها .

 

وأذكر بعض هذه الصور مع ذكر النماذج التي كانت للصحب الكرام وللسلف الصالح ، ونهيج عواطفنا وقلوبنا ليكون من وراء ذلك إصرار وتواصي ومحاسبة على تغيير ما نحن فيه من غفلة وتجديد هذه المعالم من تربية الروح ، وتزكية القلوب وإحياء الإيمان :

1- ضعف الاهتمام وقلة الحرص والحزم في التزام الفرائض

نحن نرى في حياتنا وفي تصرفاتنا ضعف في هذا الجانب ضعفا في التزام الفرائض والمسارعة إليها والاجتهاد فيها .. واسأل نفسك وقل : أين شباب الصحوة ورجال الدعوة من تكبيرة الإحرام والصف الأول ؟

 

والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر لنا أن الصف الأول لو لم يجد أهل المسارعة إلى الخيرات إلا أن يستهموا عليه لأستهموا عليه من شدة حرصهم وسباقهم إليه، وابن المسيب - رحمة الله عليه - ما أذن المؤذن إلا وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فهل نطيق ذلك في يوم واحد في خمس فرائض نشهدها مع أذانها ومع تكبيرة إحرامها ؟ كم نحن مفرطون في هذا وكم هو مدى القصور، في هذا الجانب الذي  ربما يشكل علامة خطر تحتاج إلى مزيد من الاهتمام ؟ أين الملتزمون في صلاة الفجر  { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }الإسراء ؟

 

والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر عنه وعن العشاء في شأن المنافقين : ( لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ) ، أين أنت من بشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم ( بشر المشائين بالظلم بالنور التام يوم القيامة ) ؟ أين أنت من شهود الحدث الأعظم الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الصبح ) ؟ عجباً كيف نغفل عن هذه المعاني، ولا تشتاق إليها قلوبنا ، ولا تتحرك إليها هممنا ، ولا تبذل فيها جهودنا ؟!

 

وكان سلف الأمة كما وصفهم القائل :

نحن الذين إذا دعوا إلى صـلاتهم *** والحرب تسقي الأرض جاما أحمراًَ ً

جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا *** في مسمــع الروح الأمين فكبرا

 

في وقت الجهاد وقعقعة السيوف وفي غبار المعركة يتوجهون إلى الله عز وجل ، يقبلون على الفرائض والطاعات، وهذا المجال هو ركن ركين وأساس متين من فرط فيه فهو لما سواه مضيع وأكثر تفريطاًً .

 

2- إهمال النوافل والرواتب

أين السنن القبلية إذا جئت إلى الصلاة متأخرا ًوأين السنن البعدية إذا خرجت بعد الصلاة مسرعاًً، وأنت في تلك الحالة تقول : " أسعى في خدمة المسلمين وأعمل في ميدان الدعوة " ، وأي عمل وأي سعي وأنت مفرط في هذه الخيرات ، وفي هذا السياج العاصم بإذن الله عز وجل من كثير من الفتن والمحن ؟!

 

أين أنت من حديث عائشة رضي الله عنه وهي تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) ، أين أنت من حديث أم حبيبة أم المؤمنين وهي تنقل لنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يصلي في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعا  غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ) والحديث في صحيح مسلم .

   

أين نحن من البيوت التي أوشكت أن تصبح قبوراً ، ولم نرعها كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) ، أين نحن عندما نستعرض سيرة الأعلام ننظر إلى ابن حنبل فنرى أنه كان قامعاً للبدعة ، وناصراً للسنة ، وننسى أن نقول أنه كان يصلي في كل يوم وليلة - كما ذكر ابن الجوزي في ترجمته - ثلاثمائة ركعة ، فلما أسنّ وبلغ الثمانين ، وجلد في المحنة ، وضعف جسده صار يصلي بعد هذا السن وبعد هذا التعب في اليوم الواحد مئة وخمسين ركعة .. لمَ لا نذكر في سيرهم هذه الملامح الإيمانية والمسابقة إلى رضوان الله ، والغنيمة العظيمة التي كانوا يغتنمونها من الطاعات ، ومن الخلوة بالله سبحانه وتعالى ولذة المناجاة له .

 

3 - ضعف الصلة بالقرآن

والله سبحانه وتعالى يقول : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور } فاطر ، فهل نحن في غنى عن مثل هذه التجارة الرائجة الرابحة التي فضلها عند الله عز وجل عظيم جداً ؟

 

هل نحن نسينا مقالة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهو يكشف لنا سراً من أسرار أدوائنا وأمراضنا ويقول : " لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل" ، فما بالنا كأننا في غنى أو في شبع من تلاوة القرآن ، وما ذلك إلا لداء دوي في قلوبنا ، ولله در ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد ) ، وهو الذي صدع بالقرآن في مكة حتى ضربه كفار مكة ومشركوها حتى أغمي عليه .

 

ولعلك أخي لا تنسى حديث الناقتين الكوماوين حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم  أن من سعى إلى المسجد ليتعلم آيتين خير له من ناقتين كوماوين وإذا تعلم ثلاثة خير له من ثلاث ،وأمثالها - أي من أمثالها في العدد - ولا أظنك تجهل البشارة في حديث أبي أمامة : ( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة  شفيعا لأصحابه ) ، وأين اشتياقك إلى مرافقة الملائكة ، والعلو إلى منازلهم في حديث المصطفى : ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ) ، وقد وصف ابن عباس أنه كان يتقلب بين الوضوء والصلاة وما بينهما القرآن وتلاوته ..

 

 

هذه معالم ونماذج ، وانظر إلى حالنا كم نتلو من كتاب ربنا ! كم نشنف الآذان بسماعه ! كم نرطب الألسنة بتلاوته ! كم نحيي القلوب بتدبره ! انظر وقس واسأل نفسك فأجب فكل بنفسه أعلم : ( بل الإنسان على نفسه بصيراً ) القيامة.

 

4 - قلة الأذكار وندرة الاستغفار

ورسولنا - وهو من هو - أعظم الخلق وأعلاهم منزلة ورتبة عند الله عز وجل يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة ، وفي روايات مائة مرة ، ويقول لك - عليه الصلاة والسلام - فيما يرويه ابن عباس : ( من لزم الاستغفار جعل الله من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب ) والحديث عند ابي داود والترمذي والحاكم وصححه .

 

وانظر إلى سيد الاستغفار الذي علمنا إياه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال في أجره ومثوبته : ( من قاله حين يصبح فمات في يومه دخل الجنة ، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة )  ، واستمع إلى ابن القيم وهو يجمع لك جمعاً عجيبا لهذا الأثر الإيماني في الذكر لله عز وجل ، ودوام الاستغفار ، فيقول في مقالة ضافية رائعة بديعة الذكر : " منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ، ومن منعه عزل ، وهو قوت قلوب القوم التي متى فارقها صارت الأجساد له قبورا، وهو - أي الذكر - عمارة ديارهم ، التي إذا تعطلت عنها صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وهو ماءهم الذي يطفئون به لهب الحريق ، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منها القلوب ، وهو السبب الواصل ، والعلاقة بين العبد وبين علام القلوب ، به يستدفعون الآفات ، ويستكشفون الكربات ، وتهون به عليهم المصيبات إذا أظلهم البلاء ، فإليه ملجأهم ، وإذا نزلت بهم النوازل فإليهم مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ، وهو رؤوس أموال سعادتهم التي بها يتوجهون ، يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً ، ويرسل الذاكر إلى المذكور ، بل يدع الذاكر مذكور"  .

   

وهذا من أجمع القول وأنفعه ، وما أحسب أنه كلام علم ، ولكنه كلام إيمان واستشعار كان يراه، وقال عقب ذلك والكلام في الوابل الصيب : " وقد رأيت شيخي - يعني ابن يتيمة - رحمه الله عليه مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله قريباً من انتصاف النهار ، ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي ولو لم  أتغدى الغداة سقطت قوتي " ، وقال مرة : " لا أترك الذكر إلا بنية إجماع نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة إلى ذكر آخر"، فعندما نذكر ابن تيمية لا نذكر حربه للبدعة ، ولا نذكر مواجهته لأهل الباطل ، وإنما نذكر أيضا سمته الإيماني الذي ذكره فيه البزار أحد تلامذته في [ المقام العلية في مناقب ابن تيمية ] أنه كان يجلس في كل يوم من بعد صلاة الفجر  إلى ما بعد طلوع الشمس يذكر الله ويقرأ فاتحة الكتاب .

 

5 - ضعف التأثر بالعبادة

ونحن نرى الصلاة ونبحث عن الخشوع ، ونحن نرى المناجاة ونبحث عن الدموع .. إننا نفتش عن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : ( رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) ، ونخاطب ويخاطب كل منا نفسه ويهيج قلبه ، ويقول : ألست حريصاً على وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) ، ولله در أبا هريرة رضي الله عنه وهو يصور لنا صورة رائعة فيما رواه البيهقي عنه في نزول قول الله عز وجل : { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون } قال أبو هريرة بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم فبكينا لبكائهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ) .

 

انظر إلى هذه الصورة وأهل الصفة يبكون في مسجد النبي فيسمعهم من في الحجرات فيبكي الناس لبكائهم .. قلوب حية قريبة من تأثرها بكلام الله عز وجل .

 

والحسن البصري - رحمة الله عليه - في هذا الموضع قرأ هذه الآية { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون } ثم والله إن كان أكيس القوم في هذا الأمر لمن بكى فابكوا هذه القلوب وأبكوا هذه الأعمال ؛ فإن الرجل لتبكي عيناه ، وإن قلبه لقاسي .. إننا نريد تلك القلوب التي تبكي قبل العيون ، ورحم الله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما - وهو يصف لنا وصفاً حينما كان في شأنه من أحبابه - وقد كان يوما في الحجر في ظلال الكعبة المشرفة ، فالتفت إلى أصحابه وقال : " ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا ، ولو تعلمتم العلم لصلى أحدكم حتى ينقطع ظهره ولبكى حتى ينقطع صوته " والحديث عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .

   

وابن عمرو بن العاص إنما كان وارثاً لجيل الصحابة الكبار العظام من أمثال أبي بكر الذي روى عنه ابن المبارك في كتاب الزهد - وهو شيخ الأمة في هذه المعالم - قال رضي الله عنه : " من أستطاع  أن يبكي فليبكي ومن لم يستطع فليتباكى " وقد كان رقيقاً فصيحاً ، وقد قالت عنه عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أمر أبو بكر أن يصلي بالناس ، فقالت : يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ، لا يملك إن صلى أن تغلبه عيناه فيبكي ويبكي الناس لبكائه، ومن قبل أبي بكر وعبد الله بن عمرو والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا الأولى ، وجاء في وصفه - كما هو في الحديث الصحيح - كان عليه الصلاة والسلام إذا صلى يسمع له أزيز كأزيز المرجل من البكاء .

 

وهذه معالم عظيمة جدا وقد نادى بها سلف الأمة وصاحوا بها ، فهذا يزيد الرقاشي يقول : " يا معشر من الموت موعده ، والقبر بيته ألا تبكون ؟! " ، والحق أنه بهذا الكلام لو كانت لنا قلوب حية لتأثرنا ولكننا أن نحتاج إلى أن نكتشف العلة .

 

6 - نسيان الموت والآخرة :

الله أكبر ! وهل هناك حقيقة أكبر وقضية أظهر ومثال يتكرر مثل الموت ؟!

وحسبنا آيات ساطعة قرآنية تذكر هذه الحقيقة بصورة تنبه كل غافل ، وتوقظ كل نائم، وتنبه وتذكر وتؤكد ما ينبغي أن لا يغيب عن الذهن مطلقاً { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } آل عمران ، ويقول جل وعلا : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } الأنبياء ، عجبا من آيات توقظ كل نائم وتنبه كل غافل { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ق ، فما ظنك بالقبر وظلمته ، والحساب وشدته ، والصراط وزلته .. الله أكبر ! ما أعظم الهول وقد ذكره الله عز وجل { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } الأنبياء، إنها أمور عظيمة جداً ، وقضايا خطيرة جداً ، وكلها - كما قلت لو ظن ظانٍ - أننا أخذنا منها بحظ ؛ فإنه أقل من القليل وأدنى من المطلوب ، وأبعد عن حصول المقصود ، وأقل في حصول التأثير الذي نرجوه من هذا، ولست - كما قلت - في صدد استقصاء هذه الصور ، ولا من تلك النماذج من سير السلف ، ولكني أذكر في هذا المقام مقالة ابن الجوزي في وصف الصحابة عندما قال : " صاح في الصحابة صائح { اقترب للناس حسابهم } فخشعت لذلك قلوبهم ، فسالت أودية بقدرها " ، فكانت قلوبهم حية متذكرة لهذه المعاني ، وكانوا يدركون قيمة الزمن ، ومعنى الأجل ويصدق فيهم تذكرة المذكر الواعظ :

نسير إلى الآجال في كل لحظـة *** وأيـامـنا تطوى وهن مراحل

ولم أرى مثل الموت حقا كـأنه *** إذا ما تخطـتـه الأمـاني باطل

ما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شاعل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فـعـمـرك أيـام وهن قلائل

   

وهناك قضايا أخرى فيها صور من الهزال والضعف : من قيام الليل ، وضعف المراقبة ، وقلة المحاسبة ، والاستكثار من المباحات ، وفيها تتم عشر صور من هذه الصور .

 

وإذا سألنا أنفسنا بعد هذا الاستعراض الموجز  : ماذا نريد ؟ وأي شيء نطلب ؟ إننا نريد لنا ولكم ولكل مسلم - وعلى وجه الخصوص لكل داعية ومجاهد - أن يكون ربانياً ، أن يكون موصولاً بالله عز وجل ، دائماً متذكراً لربوبية الله عز وجل ، قائماً بعبوديته سبحانه وتعالى .

 

مزايا الربانية

1- الربانية هي : التي يقذف الله بها في قلبك الحكمة والنور ، والله عز وجل يقول : { ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } .

2- الربانية تمنحك الفرقان ، الذي تفرق به بين الحق والباطل ، وتحكم به على الأمور ، وتزن القضايا : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء }المائدة

3- أن ربانيتك تجعلك معلماً ناجحاً ،ومؤثراً فاعلاً { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } آل عمران.

4- من قاعدة الربانية تنطلق لقول الحق ، لا تأخذك في الله لومة لائم ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وأن لا تبتغي بذلك إلا وجه الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى قد قال : { لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت }المائدة ! إن الرباني هو الأجدر والأقوى على هذه المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل .

5- سمت الربانية هو الذي يؤهلك للجهاد { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } آل عمران ، قال أهل العلم في الربيون الكثيرون : " هم المؤهلون أن يكونوا من أتباع الأنبياء ، ومن رثتهم ، ومن السائرين في طريق الجهاد ؛ لأن هذه الربانية هي التي تؤهلهم لذلك " ونريد بإذن الله أن نتحقق بهذه المعالم ؛ لعلنا أن ننال ولاية الله عز وجل وأن نكون من أولياء الله الذين وصفهم  علي بن ابي طالب بقوله "أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من العبر ، خمص البطون من الجوع ، يبس الشفاة من العطش .

وقال عنهم سعيد بن جبير ، عندما سئل : من هم أولياء الله ؟ فقال : " الذين يُذكر الله عز وجل لرؤيتهم " .

   

وأخيرا أنقل لك كلمات أحسبها صادقة ، من داعية ينبهك ويذكرك ويدعوك إلى سمت الربانية فيقول :" لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك ، والناس نيام ، والخلق هجع، وقد سكن الكون كله ، وأرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، فتستحضر قلبك ، وتتذكر ربك ، وتتمثل ضعفك ، وتشعر بعظمة مولاتك ، فتأنس بحضرته ، وتطمئن بذكره ، وتفرح وتبكي من خشيته ، وتشعر بمراقبته ، وتلح في الدعاء ، وتجتهد في الاستغفار ، وتفضي بحوائجك لمن لا يزعجه شيء ، ولا يشغله شيء عن شيء ، {إنما قوله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس ، وتسأله لدنياك وآخرتك ولجهادك ولدعوتك ولآمالك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوتك { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم }آل عمران " .

 

وهذه كلمات رأيت أنها من الأهمية بما يستدعي أن يطول الحديث فيها ، ولذا كما تقدمت سيختصر الحديث في بقية الأمور ؛ لأن المراد منها هو التذكير بحسب وأحسب أن حديثنا في القضية الأولى ليس المقصود منه هو الحديث ولا جمع هذه الأقاويل ، ولا حشد هذه النصوص وإنما ما نرجو أن نتوصل به إلى أن يؤثر ذلك في القلوب ، ويغير في السلوك ، ويحيي السمت الرباني ، ويحيي معاني الروحانية ؛ لعل الله أن يجعل لنا بها خيراً بإذنه سبحانه وتعالى .

 

القضية الثانية : ضعف استشعار المسؤولية

وهذه القضية لا يخاطب فيها الملتزمون والدعاة وإنما عموم الناس معهم ، وهي قضية أن همّ الإسلام وقضاياه وأموره كأنها عند كثير من الناس - إلا من رحم الله - ليست مسؤوليته ، ولا موضع اهتمامه ، ولا يطلب منه فيه شيء مطلقاً .. نرى كثير من الناس ، وتمر به الأيام والليالي - بل الشهور والسنوات - بل الأعمار والدهور ما شغل فكره ، ولا أتعب قلبه ، ولا أمضى وقته شيء لا يخصه وحده ، ويخص أمة الإسلام والمسلمين ؛ فإن قلت له قال : " وهل أنا مسئول ؟! " ، وإن حاصرته قال - بكل قوة ووضوح - : "إن هذا شأن الأمراء أو شأن العلماء ، أو شأن من انتدب لهذا الأمر " ، وأما هو فليس بمسئول ، ولا مخاطب بأي شيء من هذه الأمور .

   

ونعيد الأسئلة مرة أخرى : لماذا هذه القضية غائبة ؟ لماذا لا نرى من عامة الناس من يخطر على بال هذا السؤال ولو مرة في العام : ما دوره تجاه أمته ؟ ما دوره في هذه القضايا والأحداث التي تعيشها الأمة ؟

إن السؤال لا يرد أصلاً ، وإن المسئولية لا تستشعر مطلقاً ؛ فضلاً عن أن يكون وراء ذلك تحركاً وعملاً !

 

ملامح الهدوء والانزواء عن الحوار والبحث في القضية

1- هذه المسئولية تستدعي حملها ، والقيام بالأعمال ، وكثير من الناس يحب الراحة ، ويميل إلى الدعة ، ولا يرغب في معالي الأمور وصعابها، يريد أن يأكل لقمة العيش ، وأن ينام ملء عينيه ، وأن يأكل ملء مضغيه ، وأن يضحك ملء شدقية ، وأن لا يكون لهم همّ في الدنيا ؛ أي عناء ولا تعب، وهذا يصدق فيه قول القائل :

من لم يعود صعود الجبال *** يعيش أبد الدهر بين الحفر

   

وقول قائلهم في هذا الشأن : " وهل سأصلح الكون ؟! " ، وآخر : " وما لي وللناس ؟! " ، وثالث يقول : " هذا من إلقاء النفس بالتهلكة ! " ، وكله أوهام أو أستار يخفي فيها ضعفه الذي لا يريد معه أن يقوم بأي عمل  يريد أن يأكل وأن يشرب ..

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقـعـد فأنت الطاعم الكاسي

 

2- لأن هذه القضية فيها مواجهة وفيها كشف وفضح للعوار ، والتقصير والتخلي عن المسئولية، وكثير من الناس لا يحب أن ينتقده أحد ، ولا يحب أن ينسب القصور إليه ، ولا يحب أن يقال إنك في هذا الجانب أخطأت ، ولا في هذا الأمر قصرت .. هو يريد أن يلغي بالمسؤولية يميناً ويساراً ، وأن  يلبس النقص فلان وفلان ! أما هو فقد برأ من كل عيب ، وسلم من كل نقص، وهذه نفسية مريضة ابتلي بها كثير من المسلمين إلا من رحم الله ؛ لأن الناس بطبائعهم والأعداء بدهائهم ومكائدهم جعلوا الناس ينشغلون بأمورهم الخاصة ، ولا يكون عندهم من الوقت ولا الجهد ولا التفكير ما يبذلونه للأمور العامة، فقد طحن الناس في مجتمعات المسلمين ، وشغلوا بلقمة العيش ، وتجد صاحب فضل وعلم شغله طلب الرزق بصورة هذه الحياة الدنيا ، وبتخطيط الأعداء عن أن يؤدي رسالة العلم ، وأن يقوم بواجب الدعوة .

 

وتجد كثرة من الناس لا  هم له إلا قوت العيال ، وعناء هذه الحياة ومتطلباتها ، وهذا - لا شك - أنه نوع من الحلقات المربوطة بعضها ببعض ، فتجد الإنسان - نسأل الله عز وجل السلامة - في هذه الحياة كأنه حمار الرحى ، يدور ويدور ويكدح كأنما خلق ليأكل ويشرب، وقد قال القائل : " من كان همه في طعامه وشرابه فقيمته بمقدار ما يخرج أو يتخلف عنهما" ، وهو كلام فصيح يغني في إشارته عن عبارته :" من كان همه طعامه وشرابه فقيمته بمقدار ما يتخلف عنهما" ونحن نعلم ما يتخلف عن الطعام والشراب .

 

بواعث الحوار الساخن حول هذه القضية

أولاً : في عصرنا الحاضر شدة عداء للإسلام والمسلمين

وتجمّع عجيب رهيب لأعداء الله عز وجل في كتلة واحدة ضد أبناء هذا الدين؛ ولأن الأعداء يرمون عن قوس واحدة .. أفيليق بنا أن يكون شعارنا : " أنا والطوفان من بعدي " ؟!

إذا سلمت لك المعاشات والرزق فلا همّ لك ، عجباً كيف يكون أهل الكفر يسعون في أدغال أفريقيا ، وفي ثلوج سيبريا ، يبذلون من أموالهم ، ويخططون لعقولهم لا لمصلحتهم ؛ لنصرة أمتهم أوديانهم ، وأنت المسلم تقول : " حسبي نفسي " ! لا شك أنها قضية خطيرة تستحق الحوار .

 

ثانيا : لأن هذا الداء أخطر الأدواء على الإطلاق

لأن قوة الأمة بقوة أفرادها ، فإذا تخلى الفرد عن المسؤولية ؛ فإنه يكون قد ضرب في مقتله وكما يعبر تم اغتياله من الداخل ، فأصبح هذا الفرد لا قيمته له في تيار الأمة، نعم له قيمة عنده فكر وعنده جهد ، لكن في دائرته الخاصة ، فإذا تصورنا ذلك ؛ فإن هذا الداء لو لم نناقشه ولو لم نحرص على تغييره لكان كما قال القائل :

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا *** وإذا افـتـرقن تكسرت آحادا

فهذا المقتل عندما تكون الأنانية ، والنظرة الشخصية ، وعدم استشعار المسؤولية هو أعظم خطر يحيط بالأمة ويحدق بها .

 

ثالثاً : لأن الخطر المترتب على هذه القضية يصيب المتخلي عن هذه المسؤولية نفسه

بعض الناس لم يفعل هذا لم يجتنب قضايا الأمة ، والسعي في نصرة هذا الدين إيثار للسلامة ، وحب للنجاة ، وبعداً عن المشكلات، وشعاره كما يتشدق الكثيرون {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } البقرة، وقد ذكرت مرة ما ورد في سنن الترمذي وغيره أن سبب نزول هذه الآية ، ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو سبب فريد عجيب : " نزلت فينا معشر الأنصار لما نصر الله عز وجل رسوله ، قلنا نرجع إلى ديارنا وإلى ثمارنا ، ونرعى أهلنا فنزلت فينا : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة ترك الجهاد والركون إلى الدنيا " أو كما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه هذا الحديث .

   

هذا الذي يؤثر السلامة ، وستكون عاقبته وخيمة ، وسلامته ضائعة ؛ لأن الكيد والبلاء والمشكلات عندما تأتي عليه ، وعندما تصبّ على الأمة لن تفرق بينه وبين غيره، حسبه أن يكون اسمه إسلامياً بل يكفيه أن يكون له جد أو جذور إسلامية ولو بعد أجداد وأجداد !

 

وحسبنا ما رأينا في البوسنة الهرسك وغيرها، ولذلك أخاطب المسلمين عامة ونخاطب أنفسنا ونقول : إن الذي يعيش لنفسه يموت ذليلاً ، ويعيش حقيراً ، ويموت حقير ؛ لأنه لا يهمّه إلا نفسه ، واللقمة التي يأكلها ، والنومة التي ينامها ، فهذا لا يهيأ لشيء ، ولا يعد لأمر ولا ينتدب في مهمة، إنه كما نقول اليوم : إن هؤلاء أصفار على شمال الأرقام لا قيمة لها ، فهل ترضى لنفسك أن تكون من الأعداد الزائدة والهمل .

  

وكما قال الرافعي الأديب : " إن لم تزد على الدنيا بأمر كنت أنت معنى زائداً عليها " أنت في هامش الحياة أنت صفر من الأصفار فهل ترضى لنفسك أن تكون في هذا الوصف ، وهل ترضى أن تكون متجمع مع أصفار كثيرة تتكاثر وتتكاثر ، ثم لا يكون قيمتها إلا صفر آخر ! وإن كان بشكل أكبر وبصوة أظهر وأجمل، لكنه في حقيقة الأمر يظل صفراً ، كما هو وتبقى الأمة في أصفار كثيرة ؛ حتى يناديه المنادي بألف مليون مسلم ولا يجد إلا أن هذه كأنها أصفار نقلت من جهة اليسار إلى جهة اليمين .

 

ونخاطب أيضا المسلم ، ونقول : إن قيمة الفرد عظيمة إذ بعض الناس لا يغفل في هذا الميدان ، ويقول ماذا عساي أن أبذل ؟ لو أن هذا الجمع صاح كل منهم صيحة واحدة لارتج هذا المسجد ، وربما سمع الناس هذه الصيحة من خارج المسجد ولفتت الأنظار !

لو أن أمه الإسلام لو كل  واحد بصق في وجه الأعداء لربما كان سيل يغرق هؤلاء الأعداء ، لو أن في هذا الجمع واحد أساء إلينا ثم صفعه كل واحد منا يوشك أن ينتقل من الأحياء إلى الأموات ، فأي صفعة هي التي قتلته لا ندري لكنها مجموع الصفعات ! وأي صيحة سمعت لكنها مجموع الصيحات !

 

وهكذا أيها الإخوة قيمة الفرد عظيمه جدا ؛ لأن الفرد هو أساس هذه الأمة ؛ وحسبك أن تكون المسئول الوحيد لا تنظر لا يمنيا ولا يساراً، انظر تحت قدميك ، وانظر بمرآة التي أشرت إليها سابقاً لترى نفسك، اعلم أنك المسئول الوحيد ، وعن كل بلاء يصيب المسلمين لو استشعرت هذا لشاب رأسك ، ولأمضيت وقتك ليل ونهار فيما تفك فيه رقبتك من سؤال الله عز وجل يوم القيامة ، وانظر إلى أبو بكر في يوم الردة ، وجيش أسامة يوشك أن ينطلق ، وجاء عمر - وهو من نعلم حدب على الإسلام وحرص على الأمة – وأراد أن يراجع أبو بكر ، فأخذه اللين الرقيق ، وجذبه وشده وهو الشديد القوي : " أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر ؟! والله لو منعوني عقار بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم دونه " ، يعني حتى لو كان وحيدا فكان فردا وجاءت الأمة بعده، كما قال القائل : " أبو بكر يوم الردة وابن حنبل يوم المحنة " ، كان فرداً ولكن وقوفه جمع الأمة ، وكتلها من وراءه .. فأي فرد كـان فرداً بأمة إلا إبراهيم {كان أمة قانتا لله } ينبغي أن ندرك قيمة الفرد ونوجه طاقته في خدمة الأمة .

 

رابعاً: لنا ولإخواننا المسلمين نذكرهم بحديث أبو بكر رضي الله عنه : " أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ،  أو ليوشكن  الله أن يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ) " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم يقول أبو بكر منبهاً لما يمكن أن يقع فيه بعض الناس في فهم قوله تعالى : { عليكم أنفسكم  لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } المائدة، وهذه النظرة خاطئة ، ولذا قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول يعني هذه الآية تتمتها ، ومن واجبها أن تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

وقد ذكر شيح الإسلام ابن تيمية أن هذه الآية يستدل بها على وجوب الأمر والنهي ، والسعي في الجهاد في سبيل الله قال : { عليكم أنفسكم } يعني القيام بأمرها، وقيام المرء بأمر نفسه يعني أن يؤدي كل ما أمر به ، وأن يبتعد ما انتهى عنه ، وأداء كل ما أمر به يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأيضاً نقول لإخواننا نذكرهم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون تتكافئ دماءهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم ) ، وكذلك نذكرهم بقول الله سبحانه وتعالى : { المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ، وما نبه الله به على خطورة هذا الأمر { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } الأنفال ، وأيضاً نذكر بالقضية العامة المثل القائل : "

 أكلت يوم أكل الثور الأبيض " ، والأمة بهذه القضية تذهب هيبتها ، وتضيع قوتها ، ويصدق فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( .. بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من قلوب عدوكم الهيبة ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ) ، قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟! قال : حب الدنيا وكراهية الموت .

 

القضية الثالثة : التخلف التقني والصناعي

وهي قضية غائبة ، وكيف نرى أنها غائبة ؟

هل ترونها مذكورة في الصحف والمجلات أو مبثوثة عبر وسائل الإعلام ، أو معقودة لها المؤتمرات والندوات ؟

إننا لا نرى من ذلك شيئاً ، بل نرى من مجالات أخرى أقل وأدنى مما هو مغطي عليه .

 

ملامح الهدوء والانزواء عن الحوار في هذه القضية

1- وضع القضية في إطارها النظري والسعي العملي في غيرها

نحن أي في مجتمعات المسلمين - إلا ما رحم الله عز وجل - نريد أن نقول : إننا وصلنا إلى المنافسة العالمية ، وإلى مصاف الدول المتقدمة، وإلى أن نحاذي القوم في الأمور والقضايا والأعمال التي يرى أنها ذات إيجابية ، ولكننا لا نرى الاهتمام إلا بعداء يسبق في سباق السابقات ، ويقال قد وصلنا العالمية، وبلغنا مصاف الدولية وهكذا .. وكذلك إذا فاز مصور في مسابقة تصوير عالمية، أو غير ذلك من الأمور هي التي نراها في الصحف والمجلات والتي تبحث أيضا في ندوات ومؤتمرات، فلن يكون بعد ذلك حيز لهذه القضية وهي تخلف الأمة التقني والصناعي .

 

2- عدم الشعور بالخطر لعدم الحظر

نحن نستخدم هذه التقنية ونستفيد من هذه الصناعات ، ولم نشعر بالخطر لعدم وجودها في أيدينا ؛ لأننا لم نمنع منها، وليس ذلك من حب أعدائنا لنا ولكنه من كيدهم بنا، وليس ذلك من حب أعدائنا لنا ولكنه من كيدهم بنا وليس ذلك من حب أعدائنا لنا ولكنه من كيدهم بنا ؛ لأن بعض الناس يقول :" ما قصروا معنا أرسلوا لنا السيارات والطائرات ، والأجهزة ، وكل شيء .. " ،هذا يعطيك حتى لا تفكر ، وحتى لا تعمل ، وحتى لا تنتج ، وعندما نشعر بهذا لا يكون عندك قضية ! وهذا أيضا معلم خطير .

 

بواعث الحوار الساخن حول هذه القضية

1- صورة من صور الاستعباد والتبعية

إنني أخاطب كل واحد منا ، فأقول : إن ثوبك الذي تلبسه ، وحذائك الذي تنتعله ، وقلمك التي تكتب به ، وسيارتك التي تركبها ، وبيتك الذي تسكنه ، وسريرك الذي تنام عليه ، ونورك الذي تبصر به كله من صنع أعدائك .. فأي شيء لك ؟ وأين أنت من مقياس القوة والاستقلالية ؟ هذا السؤال يكفي عندما نتصوره أن نرى خطورة هذه القضية وأهمية إثارتها .

 

2 - سيطرة عقدة الأجنبي

كثير من الناس في أكثر البيئات الإسلامية ، إذ أراد أن يشتري شيء وجد صناعة أجنبيه - يعني غير إسلامية  وصناعة إسلامية - فإنه إذا كانت قدرته المالية متوفرة لا يتردد لحظة في أن يفضل هذه الصناعة الأجنبية على الإسلامية، وهذه السيطرة تجعلنا نرى أن هناك خطراً وهو أن هناك قناعة في تعظيم الأعداء والأجانب ، وتهويل لشخصياتهم وانبهار لعقلياتهم ، واغترار بتقدمهم ؛ مع أن كثير من هذا التقدم الذي حازوه إنما هو من جهود كثير من أبناء المسلمين ، ومن ديار العرب ومن أجناس أخرى من شرق وغرب خلطاء لقطاء مجموعون في إطار واحد ليصبوا جهودهم في هذه الميادين الصناعية والتقنية .

 

3- بقاء هذه القضية تقوية للأعداء واستمرار للاستعلاء الذي هم فيه

وهذا أمر ينبغي لكل مخلص لهذه الأمة أن يفكر فيه ؛ لا بد كما كان الناس في عهد الاستعمار والاستخراب كانوا يفكرون متى يأتي اليوم الذي يحاربون فيه هؤلاء الأعداء ، ويجلونهم عن أراضيهم ، وما زالوا يحتلون بلاد الإسلام وكثير منها بما يمسكون بها من زمام هذه التقنية ، فأي قوة وأي تقوية للأعداء نصبها لهم عندما لا نثير هذه القضية وننتبه لها ، وأقول خطاباً للأمة الإسلامية ولنا جميعا هناك أمور مهمة .

 

وصايا وأطروحات

1- العقول المهاجرة

التي تخدم في شرق الأرض وغربها ، وتعطي عبقريتها وإنتاجها لغير بلاد الإسلام والمسلمين ، لا بد أن نبحث فيها بحثاً صادقاً وليس بحثاً شكلياً كما قد يكون واقع الحل لما أولئك القوم على هذه الصفة، بعضهم قد نزع ولاءهم للإسلام ولديار الإسلام ولأمته ؛ لأنه رآها قد تنكرت له ، وفضلت عليه غيره ممن لا قيمة له ولا أثر ولا نفع في جهده مطلقاً .

 

2- الرعاية المبكرة للمواهب المتفجرة

فإن رعاية الموهبة من بدايتها هو الذي يمكن أن يصقلها ، وأن يؤدي بها إلى مزيد من الإنتاج والعطاء .

 

3- لا بد من وجود وتهيئة الظروف المساعدة للعمل والإنتاج

فإننا في كثير من البلاد الإسلامية بسيطرة الأعداء وبنوع من التراخي نجد أن المتخصص في الهندسة يعمل في مجال الإدارة ، والمتخصص في الإدارة يعمل في مجال العلاقات العامة ، والمتخصص في الجيولوجيا يكون ممارس لعمل إعلامي ! وهذا الخلط هو الذي ضيع هذه الطاقات ، ووأد قدرة الإنتاج والعطاء ، ولذلك تجد أن الظروف العملية التي تساعد على هذا الإنتاج يعني عجيب يخلط الأوراق ، ويبعثر الجهود فلا تحظى بنتيجة ولا تصل إلى غاية .

 

4 - لا بد أن نبدد الأوهام بالحقائق

بعض الناس يقول لا يمكن الآن الصناعات والعلم والتقدم لدى الغرب ، ولدى الشرق وهذه أمور صعبة جداً ولا يمكن بحال من الأحوال أن نصل إليها ، ولا أن تتقن صناعتها الأمة ، ولا يمكن أن نجد من يصل إلى هذه المراتب، وأذكر مثال لذلك " قصة اليابان " نعلم أنها دمرت في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن فيها - كما يقولون - من بنية أساسية حتى ذكرت بعض المصادر قصة لأول دارس ياباني ذهب إلى الغرب ، ودرس هناك لكنه درس ليخدم أمته ووطنه بشكل عجيب ، فظل يدرس ويدرس ، وجوبه ببعض الأسرار العلمية التي يمكن أن تفيده ، فظل يصر ويواصل الليل والنهار حتى ابتكر  وجاء بأول آلة صناعية ، فماذا وجد ؟

وجد التقدير والاحترام وإمبراطور اليابان الأعظم - رأس كل هذه الأمة وسيدها - هو الذي ينزل إلى استقباله ، ويعتبره من أعظم من خدم الأمة اليابانية، فبعد ذلك تدرج أولئك القوم حتى اليوم هم الذين يفتقر كثير من القوى الصناعية والتقنية إليهم .

 

وقد سبقوا في مجالات كثيرة وليس هناك حقيقة للوهم الذي يظنه بعض الناس ، وهو أن العربي والمسلم هذا عقله له حد ومستوى معين لا يمكن أن يتعداها ؛ بل العكس هو الصحيح ؛ فإن الإيمان والإسلام والعقل والعلم هذا أمر جعله الله عز وجل متاح ومتروك لمن يبذل ويتعلم ، لا يفرق إلا بحسب حكمته وسنته فيما يقتضيه قدره سبحانه وتعالى .

 

هذا الوهم لا بد ينزع من أفكارنا ؛ إننا نقول : إننا نستطيع أن نكون ليس مثل أعدائنا في الصناعة والتقنية والتقدم بل نفوقهم ؛ لأننا نحن الذين علمناهم ، ونحن الذين أخذوا عنا وبنوا على ما عندنا ، وينبغي أن يعود الأمر إلينا، هذه قضايا ولها أمثلة أخرى ومظاهر أخرى كثيرة لا نرى لها نقاش ولا حوار ، وهي غائبة متوارية في طي النسيان مع أهميتها وعظمة تأثيرها في واقع الأمة ؛ لذلك أحببت أن أشير إليها وأن أذكر هذه العجالة السريعة فيها .

 المصدر: http://almisk.net/ar/article.php?id=683

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك