المناعة الفكرية

المناعة الفكرية

عبد الكريم بكار

 

 (1)

زود الله –تعالى- أجسامنا بجهاز للمناعة، يساعدها على المحافظة على آلية عملها، وعلى صيانتها من الوافدات الأجنبية التي يمكن لها أن تضرَّ بها، وتقضي على سلامتها. وجهاز المناعة لدى الإنسان قوي إلى حد مدهش، فالجسد بسبب ذلك الجهاز يظل يقظاً حيال ما يدخل في نسيجه مهما طال الزمان، فالذي تُزرع له كلية – مثلاً – يظل في حاجة إلى أن يأخذ أدوية لتثبيط المناعة في الجسم مدى الحياة!.

 

نحن على المستوى الفكري في حاجة إلى جهاز مناعة مماثل من أجل حماية فكر الأمة من التدمير، ومن أجل إبقائه في حالة من النشاط المكافئ للتحديات التي تواجهنا. وعلينا أن نسلَّم منذ البداية بأننا لن نحصل على نظام لحماية تفكيرنا وأفكارنا كالنظام الذي زوّد الله – تعالى- به أجسامنا، فهذا هبة تامة كاملة. أما ما سنصل إليه باجتهادنا فإنه جهد بشري فيه كل نقائص البشر وكل أشكال قصورهم. وإنما علينا أن نصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه. وإذا تأملنا في هذه القضية وجدنا أننا في حاجة إلى فهم أمور والعمل بها، إلى جانب حذر أمور واجتنابها. ولعلي أتحدث في هذه وتلك بما يقرَّب هذه القضية إلى الأذهان على نحو ملائم.

 

أولاً: الأمور التي ينبغي استيعابها:

 

إن الفكر الإسلامي هو عبارة عن مجموعة الرؤى والتحديدات والطروحات والاجتهادات التي توصل إليها العقل المسلم من خلال اشتغاله على النصوص والأحكام والأدبيات الشرعية والإسلامية، وذلك بغية استيعاب الواقع الموضوعي والارتقاء به وحل مشكلاته. والأفكار هي ثمرات تشغيل العقل، وهي أشبه بالزبدة التي يحصل عليها الفلاح حين يقوم بخضّ اللبن. والتفكير هو ذلك الخضّ التي تقوم به عقولنا لمجموعة ما نملك من مبادئ ونعرف من نواميس وسنن ومعلومات ومعطيات معرفية. إنه بعبارة أخرى انطلاق من معلوم من أجل الوصول إلى مجهول. ومن المهم أن ندرك أن إحاطة عقولنا بما نعدّه معلوماً من مبادئ ومعارف... تظل إحاطة ناقصة وقاصرة، كما أن الجهود العقلية التي نبذلها في سبيل التوصل إلى بلورة رؤى ومفاهيم جديدة تظل هي الأخرى نسبية في اكتمالها ونضجها؛ مما يعني أن عمليات الاجتهاد يجب أن تظل مستمرة؛ لأنها لن تبلغ في أي يوم من الأيام المستوى الذي ينقطع عنده الجدل، وتظهر فيه الحقائق على نحو كامل. ويعني هذا أيضاً شيئاً آخر هو تفاوت الآراء والاجتهادات التي سنتوصل إليها. وهذا التفاوت ناتج من تفاوت إدراكنا لجوهر المعطيات التي تشتغل عليها عقولنا، ومن تفاوت عمليات التفكير التي نقوم بها، حيث لا نملك ما يمكن أن يجعلها موحدة ومتجانسة. ومن هنا فإن اتفاق الناس في الفروع و الجزئيات لا يكون أبداً فضيلة أو شيئاً يُطمأن إليه. إنه يدل على أن العقول توقفت عن العمل لتقف على أرضية مشتركة من التلاشي والعدم فالحياة دائماً متنوعة وملوَّنة . أما السكون والموت فهو شيء واحد بإطلاق.

 

ومن هنا فإن الاختلاف في إطار المبادئ والقواعد الكبرى يعبرّ دائماً عن حيوية فكرية، نحن في أمس الحاجة إليها. ولكن علينا دائماً أن نسعى إلى جعل الخلاف يقوم على أصول عقلية وشرعية معتبرة ومعترف بها.

 

كما أن علينا أن نشجع الحوار والنقد المؤطر والمحلى بالأدب والخلق الإسلامي الرفيع، بعيداً عن التجريح والاتهام ومحاسبة الناس على نواياهم. ومن المهم في هذا السياق أن نحذر شيئين: الجهل والظلم. كما أن من المهم كذلك أن نفصل بين المعطيات والأمنيات وألا نطلق العبارات الرنانة إذا كنا لا نملك من البراهين ما يوفر لها تغطية منطقية واستدلالية مقبولة. إن هذا يساعد مساعدة كبيرة على بناء جدار المناعة الفكرية الذي علينا جميعاً أن ننهض لتشييده.

 

إن العقل في الرؤية الإسلامية عبارة عن قوة إدراكية عظمى، امتنّ بها البارئ – جل ثناؤه- على بني الإنسان. ومع أنه يملك بفطرته مجموعة من المبادئ التي تساعده في إنجاز بعض المهمات إلا أنه يظل غير قادر على الاستقلال بنفسه في محاكمة الأشياء ورسم طريق المستقبل، بل إنها نفسية يسهل خداعها، واستسلامه أمام الخبرة العريقة مشاهد وملحوظ.

 

إن العقل لا يستطيع من غير إرشاد من خارجه الوصول إلى معرفة العلل الأولية ولا الغايات النهائية للوجود. وهو لا يملك محكّات جيدة لتحديد المهم من غير المهم، ولا يستطيع الفرز بين النافع والضار والخير والشر وتحديد ما هو نافع حالاً ضار مآلاً في كثير من الأحيان... وقد شبَّه بعض علمائنا القدامى العقل بوصفه آلة الإدراك بالعين بوصفها آلة الإبصار. وكما أن العين مهما كانت سليمة وجيدة لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، فإن العقل لا يرى الأشياء إلا إذا غمرتها المعرفة، ولهذا فرؤية المشكلات تحتاج إلى معرفة، ولا مشكلات بدون معرفة كما أن لا حلول لها أيضاً من غير علم. الأشياء لا تُرى إلا إذا وجدت العين ووجد النور، والأمور لا تدرك على النحو المطلوب إلا إذا وجد العقل ووجد العلم. والمعرفة دائماً هي خبز الدماغ الذي يقتات عليه. ومن غير ذلك الخبز تنهار عمليات الدماغ، وتنحط إلى المستوى الأدنى. وحين نفكر في مسألة دينية محضة فإن المعرفة المطلوبة آنذاك تكون معرفة إيمانية شرعية. وحين نفكر في مسألة دنيوية، فإننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى معرفة فنية مهنية متخصصة. وهذه الرؤيا للعقل والتي تمت بلورتها قبل ما يزيد على عشرة قرون هي آخر ما توصل إليه العقل والعلم في العصر الحديث، حيث يجري اليوم تشبيه العقل البشري بالعقل الإلكتروني أو الحاسب الآلي والذي قال فيه أحدهم إنه في آن واحد أذكى وأغبى آلة اخترعها الإنسان. وكما أن الحاسب الآلي لا يعمل من غير برامج نحمّلها عليه؛ فإن العقل البشري لا يعمل من غير معرفة جيدة نزوده بها.

 

وقد قال أحد المفكرين – بحق-: إن الذكاء لا ينفع الذين لا يملكون سواه شيئاً. وكما أن الحاسب الآلي لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على البرامج التي نزوده بها ويشتغل عليها، فإن العقل البشري كثيراً ما يقف عاجزاً عن القيام بعمليات نقدية شاملة وعميقة للأصول والمعطيات التي نزوده بها ولهذا شرح طويل، لا يتسع المقام لبسطه.

 

وقد وقع الخلل لدينا في طبيعة الموقف من العقل من قبل طائفتين كبيرتين : طائفة وثقت بالعقل وثوقاً مطلقاً، فحملته مسؤوليات، لا يستطيع القيام بها، ووصل الوثوق إلى درجة الإعراض عن هدي الشريعة الغراء في بعض الأحيان وكانت النتيجة هي استناد العقل إلى معارف واجتهادات وخبرات بشرية متراكمة وإلى العادات والتقاليد والمألوفات السائدة. ولا يمكن لهذه وتلك أن تؤمَّن للعقل حاجاته الأساسية من المبادئ الكبرى والمعارف الصُّلبة والحكمة البالغة والرؤى الشاملة.

 

أما الطائفة الثانية فإنها استهانت بدور العقل، وبخسته حقه، حيث ظنت أنها من خلال معرفتها بالمنهج الرباني الأقوم – تستطيع فهم الواقع الموضوعي وتطويره والاستجابة لمتطلباته وابتلاءاته.وهي لا تدرك – في غالب الظن- الفارق الجوهري بين المنهج الرباني وفقه الحركة به، وهو فقه يعتمد أساساً على تشغيل العقل بطريقة جيدة وعلى النفاذ إلى الاطلاع على القوى الأساسية التي تشكل الواقع وتدفع به في اتجاه دون اتجاه. كما أن هذه الطائفة ربما كانت لا تدرك أن المبادئ والأحكام التي تشكل رؤيتنا الشرعية والحضارية للحياة، لا تعمل في فراغ وإنما تحتاج إلى بيئة وشروط موضوعية محددة. وتأمين تلك البيئة وهذه الشروط من مهامنا نحن، وليست من مهام المنهج الرباني.

 

بالعقل الذكي المسلح بالمنهج وبالخبرة والمعرفة الممتازة نستطيع توظيف المنهج وتوفير الأدوات التي تمكنه من ترشيد حركة الحياة.

 

في المحصلة النهائية لموقف الطائفتين وإن اختلفت على المستوى الشرعي والأخلاقي لكنها على المستوى العملي متقاربة، وهي وجود الانفصام النكد بين أمور الدنيا وأمور الدين، وبين الرؤية النظرية والواقع العملي على ما هو مشاهد في معظم أصقاع عالمنا الإسلامي . وفي حالة كهذه يكون الحديث عن المناعة الفكرية ضرباً من التفاؤل غير المسوَّغ، حيث لا تحصل الأفكار على الصلابة المرجوة إلا من خلال توازن عميق ودقيق بين المعقول وبين المنهج وآليات تطبيقه وتوظيفه .

 

(2)

 

إن كثيراً من القضايا التي تشغل المفكرين المسلمين اليوم تتصل على نحوٍ ما بالواقع الذي تعيشه أمّة الإسلام. وهم يعملون على نحو أساسيّ في إيجاد حلول للمشكلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة من أفق ثوابت الإسلام ومبادئه الكبرى، وإنّ أولئك المفكرين لن ينجحوا في مساعيهم النجاح المنشود إلا إذا استطاعوا إيجاد تيار شعبيّ يتجاوب مع طروحاتهم، ويشارك في علميات التغيير والإصلاح التي يقومون ببلورتها ورسم حدودها. وهذا في الحقيقة يتطلب –فيما يتطلب- أمرين أساسين:

 

الأول: أن يتمكن المفكّرون المسلمون من إبراز أفضل وأوضح صورة ممكنة للواقع الذي يريدون معالجته، تماماً كما يفعل الطّبيب قبل أن يصف أيّ دواء. وإنّ بعض الأمراض يستغرق شهوراً من هيئة طبية متخصصة حتى يتمّ تشخيصه وتحديده على نحو جيّد. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تشخيص الدّاء الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ... هو أصعب -بما لا يقارن- من تشخيص الدّاء الجسديّ. وذلك يعود إلى أنّ أيّ توصيف لوضعيّة اجتماعيّة أو أخلاقيّة... يعتمد أساساً على التعريف لتلك الوضعيّة. والتعريفات في الشأن الإنسانّ تعاني دائماً من القصور الذاتّي، وتعاني من الانتقائيّة والنسبيّة والغموض. ومع هذا فإنّنا حين نتعامل مع مشكلاتنا بعقل مفتوح وبمرونة ذهنيّة جيدة؛ فإنه يمكن الاستدراك والتلافي لكثير من النقص في عمليات التّشخيص والتقويم.

 

الأمر الثاني: يتجسّد في بلورة خطاب يمكن وصفه بأنه من قبيل السّهل الممتنع. خطاب يصور الواقع بعمق الفكرة وبساطة الأسلوب. وعمق الفكرة يأتي من الفهم العميق والشّامل لذلك الواقع. وتأتي بساطة الأسلوب من فهم مستويات المخاطبين، وخلفياتهم الثّقافية، ومن المهارة في تطويع الكلمات والدلالات، وسوقها على نحو يلامس المفاهيم السائدة في أذهان المُخَاطبين.

 

إن من الصّعب في أجواء شديدة العمليّة وشديدة المصلحيّة – المحافظة على مناعة تفكيرنا إذا لم نُثْبِت أنّنا نملك الأفكار والطّروحات والبدائل التي تخفف من وطأة المشكلات التي يعاني منها الناس، وإذا لم نُثبت أنّ الأفكار التي نقدّمها لا تجافي روح العصر إلى حدّ بعيد، أو قل لا تتجاهل تشوّقات الناس وطموحاتهم على نحو كامل. وإنما أقول هذا الكلام لأنّ الناس – ولو كانوا ملتزمين- إذا لم يجدوا لدينا ما يحسَّن مستوى عيشهم وأوضاعهم الأدبيّة والماديّة؛ فإنهم سوف يلتمسون ذلك لدى الآخرين، وسوف يدفعنا ذلك –بالتالي- إلى تقديم تنازلات غير مؤصلة وغير منضبطة بضوابط الشريعة. وإني ألمح شيئاً من هذا يجري اليوم في عدد من المجالات!

 

الإبداع في الحلول، وعدم ترك المشكلات تتراكم، والشّجاعة في تقديم البدائل.. شروط أساسيّة لإبقاء أنظار الجماهير متعلقة بالرُّؤية الإسلاميّة للإصلاح، ومتعلقة بمن يقدمون تلك الرؤية من مفكرين وعلماء ومصلحين.

 

هذا يتطلب أول ما يتطلب فهْم الواقع الذي نريد علاجه؛ فأحكام الإسلام وآدابه ومراميه الحضاريّة ورُؤاه الإصلاحية موجودة في عقولنا ومكتباتنا، تماماً مثل الألوف من أنواع الأدوية الموجودة في (الصيدليات) ومخازن الأدوية. والطّبيب الماهر هو الذي يأمر بإخراج دواء من تلك المخازن دون دواء بحسب رؤيته لداء مريضه.

 

إنّ كثيرين منا – ولا سيّما الشباب- يسارعون إلى الإدّعاء بفهم الواقع والإحاطة به، مع أنهم لم يبذلوا أيّ جهد متميز في فهمه ومقاربته، ولا يُعرف لهم أيّ اختصاص دقيق في معالجة شؤونه!

 

إن الواقع أشبه بمادة هُلاميّة فهو شديد الطّواعية والقابليّة للتّشكيل؛ لكن تلك الطواعية خادعة؛ فهو يطاوعنا حتى نظنّ أنّنا قد سيطرنا عليه سيطرة تامة؛ وهو في حقيقة الأمر محتفظ بطبيعته الخاصة، تماماً كما تفعل ذلك المواد الهلاميّة. إنّ الواقع العام يحتفظ بقدرته على البقاء في حيّز الغموض والتعقيد والتشابك والتّداخل، إنه أشبه بأخطبوط له ألف رأس وألف رجل وألف يد. وتكون ثمرة كل ذلك القابليّة للقراءات والتأويلات والتفسيرات المختلفة. ومن هنا تأتي صعوبة التعامل معه. وتستطيع أن تدرك ذلك بسهولة إذا سألت خمسة من الدّعاة أو العلماء أو المصلحين أو المفكرين – توصيف وضعيّة معينة في أحد المجتمعات أو إحدى البيئات الإسلاميّة، كالالتزام أو العدل أو العفة أو الحرية....

 

وأنا لا أريد من وراء هذا الكلام سوى شيء واحد هو إدراك حجم المهمات التي نُقْدم عليها؛ فلا نتهاون ولا نتعسف ولا نتعجَّل.

 

إذا صحَّ هذا التحليل وهذا التنظير؛ فإن السؤال الذي يقفز أمامنا هو: ما الأدوات وما المناهج التي يجب أن نستخدمها حتى نحصل على صور مقاربة لحقيقة الأوضاع التي نريد معالجتها؟

 

في تصوُّري أنّ أيّ جواب سأقدّمه عن هذا التساؤل سيكون قاصراً؛ لأنّ النّظام اللغويّ الذي نستخدمه في تصوير ما نريد تصويره يظلّ دائماً في حالة من القصور الذاتّي؛ إنه ناقل غير جيّد وغير كُفء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوري عن المناهج والأدوات التي يجب استخدامها في اجتراح ذلك الواقع هو الآخر غير تام وغير واضح وغير دقيق – فإنك ستدرك كم يحتاج جوابي إلى تكميل وإلى نقد وتمحيص. لكن لا بد أن نقول ما توصّلنا إليه، وسنعتبر ذلك أفضل ما هو ممكن إلى أن يتوفر لدينا ما هو أفضل منه.

 

1-نحن نحتاج في بداية الأمر إلى تعريف ما نريد معرفته، فإذا كنا نريد أن نُعَرَّف سوية الالتزام في مجتمع من المجتمعات – مثلاً-؛ فإن علينا أن نُعرَّف الالتزام وأن نذكر مقصودنا من هذه الكلمة. إنّ الذي ضاع منه ولده في إحدى الأسواق الكبرى، ويطلب مساعدة الناس على العثور عليه في حاجة -كي يستطيعوا مساعدته- إلى أن يذكر لهم اسمه وحِلْيته من لون وطول وشكل، وأن يذكر لهم لون ونوع الثّياب...؛ وإلا فإنهم قد لا يستطيعون تقديم أي خدمة له.

 

ونحن بسبب الطريقة التي تعلمنا بها في المدارس والجامعات – قد أدمنَّا الحلول السَّهْلَة؛ ولذا فإننا لا نملك رصيداً ذا قيمة على صعيد التّعريفات والمصطلحات؛ لأنّ الوصول إلى تعريف أو توصيف جيد ليس بالأمر اليسير، ويمكن القول: إنّ التّوصيف الجيّد لأيّ مشكلة يشكّل نصف الحلّ المطلوب. ويتمثل النّصف الثّاني في العثور على العلاج الملائم.

 

سيكون من المفيد جداً أن نبدأ في كل جلسة حوار أو جلسة تفكير وعصف أو إمطار ذهنّي وفي كل معالجة لقضية شائكة- بذكر التّعريف لما نريد بحثه وتحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث. وعندما نتخذ من هذا تقليداً ثقافيًّا فسيتَّضح لنا شيئان مهمان:

 

الأول: صعوبة وضع التّعريفات وصعوبة الحصول على توصيفات جيّدة.

 

أما الثّاني فهو: عظم الفائدة التي سنحصل عليها من وراء ذلك.

 

(3)

 

ذكرت في المقال السابق أن أول خطوة علينا أن نخطوها على صعيد فهم الواقع والإلمام به، تتمثل في تحديد التعريفات والمصطلحات بوصف ذلك الركيزة الأساسيّة لكل ما سيأتي بعده من جهد على هذا الصّعيد. ولعلي أتابع في هذا المقال باقي الخُطُوات في هذا الشأن.

 

أعتقد أن علينا بعد التعريف الجيد للمسألة التي نريد فهمها أن نقوم بتفتيتها إلى أصغر وحدات ممكنة. والحقيقة أن هذا الأسلوب هو ما اتبّعه العالم على مدار التاريخ في التعامل مع الكثير من المعطيات. المعرفة البشريّة – مثلاً- كانت واحدة، ونظراً لضخامتها وصعوبة تعامل العقل البشريّ معها؛ فإنّه تمَّ تقسيمها إلى علوم متباينة من أجل أفضل استيعاب لها. إذا أردنا فهم أو (تقييم) الوضع التربوي في بلد من البلدان – مثلاً- فإن علينا أن نقوم بالآتي:

 

1- فصْل وضع التربية في الأسر عن وضع التربية في المدارس، وعن وضع التربية في الأُطُر الخاصة مثل الجماعات الإسلاميّة. وعليك أن تقوم باستقصاء منهجي داخل كل قطاع من هذه القطاعات لفهم الأداء التربوي فيها على أفضل وجه ممكن.

 

2- في المدارس لا بد في سبيل العلاج وفي سبيل (التقييم) قبل ذلك من القيام بعملية تفتيت للقوى والأدوات المستخدمة في التربية والتعليم؛ فيتمّ النظر في كلٍّ منها على حدة. إن حُسْنَ التربية في مدرسة من المدارس لا يأتي من الكتب المقررة؛ لأنها موحدَّة على مستوى البلاد في غالب الأمر. ولذا فإن الجودة فيها قد تأتي بسبب تفوق إدارتها، أو الهيئة التدريسيّة، أو الأنشطة اللاصفيّة، أو بسبب حُسْن اختيار الطلاب ووضع شروط لقبولهم لا تضعها مدارس أخرى. وقد يكون بسبب البيئة السكانية للمدرسة. وقد يكون تفوق تلك المدرسة بسبب جودة مبانيها وتجهيزاتها المعمليّة والمخبريّة... وقد يكون بسبب حسن كل ذلك. ويمكن القيام على صعيد التفتيت بنحو ذلك في المجال الأسريّ وفي المجالات التربويّة الأخرى.

 

من غير هذا التفتيت لن نستطيع معرفة أسباب حسن أو سوء التربية في أي مدرسة من المدارس. وعلينا أن نلاحظ أننا هنا لا نمارس إصدار الأحكام على كل مدارس الدولة ولا المنطقة ولا المدينة. فإذا أردنا شيئًا من ذلك فإن علينا -بعد فهم واقع المدارس في منطقة- أنْ نقوم بعملية حسابيّة من أجل التوصل إلى المعدل الوسطي لحال التربية المدرسيّة في تلك المنطقة؛ حيث يمكن من خلال الدرجات التي تمنحها كل مدرسة أن نقول: إن 80% من مدارس تلك المنطقة ممتازة أو جيدة أو سيئة. ومن غير القيام بهذا فإن أحكامنا ستكون تقديرية وجزافية إلى حد بعيد. ومن هنا ندرك كم تكون درجة تعميمنا عالية وكبيرة حين نقول: إنّ التعليم في العالم الإسلاميّ هو أسوأ تعليم في العالم أو هو أحسن تعليم في العالم أو ... وبسبب هذا التعميم نُتِيح دائماً مجالاً للفهم المتعدّد وللتأويل الخاطئ والحكم البعيد عن الصّواب. إنّ تجزئة أية مشكلة إلى أصغر وحدات ممكنة يُعَدُّ خطوة أساسيّة ضمن خطوات البحث المنهجي الموثوق. البحث المنهجي مكلف جداً وشاقّ جداً. وفي العالم اليوم عشرات الألوف من مراكز البحث التربوي، وكلها يهدف إلى فهم الواقع التربوي على حقيقته، ثم العثور على وسائل لإصلاحه. ونستطيع أنْ نقول بناءً على هذا: إنّ الدول التي لا تملك – وكذلك الجماعات والمؤسسات- مراكز بحوث تربويّة جيّدة، لا تستطيع التعرف على واقعها التربويّ على النحو المطلوب.

 

3- بما أنّه ليس هناك تفوق تربويّ مطلق ولا تخلف تربويّ مطلق، بمعنى أنه ليس هناك مؤسسة تربويّة كاملة ولا مؤسسة تربويّة كلّها عيوب وسيئات- فإن علينا في سبيل رؤية عقلانيّة لواقع المدارس أن نستخدم (المقارنة) أداة لمعرفة ما عندنا. وقد يكون أفضل ما نُجري فيه المقارنة هو مستوى الخريجين. وفي اعتقادي أن على كل دولة إسلاميّة أن تبلور معايير دقيقة وممتازة لمعرفة مستويات الخريجين لديها. وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى العالم يجب أنْ تكون هناك مقارنات تتعرف من خلالها كل دولة على سويّة مُخْرَجات التعليم لديها. وأذكر في هذا السياق أنّه أقيم امتحان عالميّ منذ بضع سنوات لطلاب الصف الثاني في المرحلة المتوسطة في مادّتي الرياضيات والعلوم. وقد شارك في ذلك الامتحان طلبة مختارون بعناية من أربعين دولة. ولم يشارك في ذلك المؤتمر من العالم الإسلاميّ سوى إيران والكويت. وكان ترتيب طلابهما قريباً من المؤخرة أي بعد السادسة والثلاثين – فيما أذكر- وهذا يعطي مؤشراً غير حاسم لوضع تعليم الرياضيات والعلوم لدى نموذجين في بلدين مسلمين!

 

ولا أريد هنا أنْ أشعَّب البحث أكثر فأكثر فيما تتم فيه المقارنة؛ فذاك حديث طويل وشائك؛ لكن وجود مراكز أبحاث تربوية جيدة لتذلل الكثير من الصعوبات.

 

يمكن لهذه المنهجيّة في التفتيت أنْ تُؤتي ثمارها في أي مجال أو جزء من الواقع الذي نود التعرف عليه. وعلينا ألا ننسى في كل مرحلة أننا لن نخرج من وراء كل ذلك إلا بنتائج ظنية تقديرية؛ لأنّ كل أدوات البحث وكل مفردات منهجيّته لا تتمتع بالصّلابة الكافية، لكن مع هذا نرضى بما نحصل عليه من ذلك بوصفه مساعداً لنا على اتخاذ القرار الراشد.

 

من الأدوات الأساسية في اكتشاف الواقع (الإحصاء) والاعتماد على الأرقام. والحقيقة أن دلالة الأرقام تتمتع ببلاغة عالية جدًا . وهذا يعود –أساسًا- إلى أنّ البنية العقليّة للإنسان تتعامل بكفاءة جيدة مع كل ما هو من قبيل (الكم) كما أنها ترتبك ارتباكاً شديداً مع كل ما هو من قبيل (الكيْف). وقد قال أحدهم : "أَعطني رقمًا أُعطِك كتابًا" فالرقم حين يقع في يد خبير يشكل بالنسبة إليه محورًا هامًّا لاستدعاء الكثير من المعطيات والدلالات والتحليلات. حين نقول لاقتصاديّ – مثلاً- ماذا تفهم من قولنا: إنّ دخل الفرد في أفغانستان لا يتجاوز خمسمائة دولار في السنة؟ وذلك الاقتصادي يعرف أنّ دخل الفرد في سويسرا يتجاوز (37) ألف دولار، وفي فرنسا (22) ألف دولار، وفي إسرائيل (18) ألف دولار . إنّه يستطيع أنْ يستشفّ وجود إدارة سيئة للموارد، ووجود جهل وأميّة وكسل وفوضى لدى الناس هناك. كما يستطيع أنْ يستشفّ وجود سرقات، ومتاجرة بالممنوعات، وأمورًا سيئة أخرى؛ لأن كل هذا وذاك يكون عادة من ضمن أسباب الفقر أو لوازمه أو نتائجه.

 

في حديث في صحيح مسلم ورد قوله – صلى الله عليه وسلم- : " أحصوا لي من يلفظ الإسلام" أي اعرفوا عدد من يلفظ بكلمة الإسلام وهي الشهادة. وكان جواب بعض الصحابة: "أتخاف علينا ونحن ما بين الستمئة إلى السبعمئة". إنّ هذا الطلب منه صلى الله عليه وسلم ينطوي على إشارة هامّة علينا أن نلتقطها بذكاء ووعي.

 

أمريكا أول دولة في العالم على مستوى توفر الأرقام والإحصاءات. وهذه الوضعية أدت إلى حضورها المتميز في كل الدراسات العالمية، حيث إن الباحثين يحتاجون إلى أرقام تساعدهم في عملهم، وهم كثيراً ما يجدون بُغيتهم لدى الأمريكيين. في العالم المتخلف ليس هناك أرقام كافية، حيث يكون الغموضُ والإبهام وسيلةً جيدة لستر الفضائح! والأرقام المتوفرة كثيراً ما تفتقر إلى الدقة والمصداقية. وفي تصوري أن على كل مؤسسة إسلامية مهما كان حجمها ومهما كان شأنها أن تحاول القيام بمسح دقيق لأوضاعها وأنشطتها وحاجاتها وميادين عملها حتى تستطيع أن توفر شرطاً هامّا لتفوقها واطّراد تقدمها.

 

ولا بدّ لي من الإشارة هنا إلى أن الأرقام – ربما بسبب أهمتها وحساسيتها- كثيراً ما تتعرض للتزوير والتزييف والمتاجرة. وعلينا أنْ نكون على وعي من ذلك.

 

لدينا ملايين الشباب المسلم العاطل عن العمل، وملايين بل مئات الملايين من الناس الذين لا يجدون عملاً نافعاً يملؤون به أوقات فراغهم. لماذا لا يقوم هؤلاء بتشكيل دوائر تطوّعيّة بسيطة لإجراء مسوحات واستطلاعات للواقع المسلم في بيئتهم الخاصّة من أجل توفير الأرقام الضروريّة لفهم أوضاعنا وإصلاحها؟!

 

إني لآمل أنْ ندرك -قبل فوات الأوان - أنّ هناك ضرورات منهجيّة وبحثيّة تجب مراعاتها بكل شفافية إذا ما أردنا - فعلاً - أنْ نعيش عصرنا بكرامة وكفاءة. وإنّ عمل شيء ما في الاتجاه الصحيح أنفع لنا وللأمة من التّفرغ للتّشكي وتوزيع الاتهامات ولَطْم الخدود وإطلاق الأُمنيات. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه ا لله- : إنّ بعض المسلمين يشكو وينوح كما تنوح الثّكلى إذا رأَوْا تغيّر أحوال المسلمين وما هم فيه من كَرْب. وذلك مَنْهِيٌّ عنه. وإنّ الواجب على المسلم أنْ يصبر ويحتسب ويعمل ويتّكل على الله تعالى.

 

(4)

 

الفِكر الإسلاميّ فكر في حالة من التشكّل الدائم والصّيرورة المستمرّة، وهو في تشكّله يتأثّر بالواقع ومتطلباته، ويتأثر كذلك ببعض ما لدى التّيارات والوضعيّات الأخرى. وهذا يجعل حركة تطوّره أسرع من حركة تطوّر الفقه وحركة تطوّر الفتوى أيضاً. وهذا الفكر حتى يحافظ على مناعته وصلابته وتميّزه واستمرار نموه- مطالب إلى جانب فهم الواقع- كما ذكرت في المقالين السابقين – بفهم متطلبات الحركة الاجتماعيّة، والتي كثيرًا ما تنبعث من عمق الطبيعة البشريّة، ومن عمق الثّقافة السائدة اليوم، فهم متطلبات هذه الحركة يقتضي الانفتاح عليها. وهذا الانفتاح هو نفسه الذي يطور رُؤانا و طروحاتنا الإصلاحيّة؛ إذْ طالما كان الانفتاح على الواقع وتلمس تداعياته وإحالاته مصدرًا لكل تطور وتطوير. وإذا عَجَزنا عن فهم متطلبات تلك الحركة، وعَجَزنا عن الاستجابة لها في صورة مبادرات تنمويّة وخدميّة، فإننا سنجد أنفسنا نُدفَع نحو الهامش شيئًا فشيئًا مهما ملكنا من الأصوات الجهوريّة المدوّية، ومهما ملكنا من مواقع الهيمنة الثقافيّة ومن أدوات التأثير والإقناع.

 

فما الذي علينا أنْ ندركه على هذا الصعيد؟ وما الذي علينا أنْ نعمله أو نساعد على عمله؟

 

إنّ ما علينا في هذا الشأن كثير وكثير جدًا، لكن لعلّي أُلقي ضوْءًا خاطفًا على شيء منه عبر المفردات الثلاث الآتية:

 

1- طبائع الناس ثابتة، فأشواقهم وطموحاتهم وما يرتاحون إليه، وما يُشعرهم بالأذى، وما يرجونه، ويخشونه ... كل ذلك ثابت ومستمر، لأنّه متصل بالفِطرة التي فطرهم الخالق –جل وعلا- عليها؛ لكنَّ وعي الناس ليس ثابتاً، إنّه متحرّك ومتقلّب، وهو كثيراً ما يكون صدًى لمصالحهم ورَغَباتهم، إلى جانب حاجاتهم الروحيّة والجسديّة والمعيشيّة.

 

وإحساس الناس بالثوابت أو بالحدود -والتي يجب أنْ تتوقف عندها طموحاتهم وسلوكاتهم - ضعيف وأحيانًا معدوم. ومن الواضح أنّنا كلما مضيْنا خُطوة إضافية إلى الأمام في ميادين الحضارة، ازداد وعينا تفتّحًا على مصالحنا، وصار حرصنا عليها أشد. وفي ظل الافتقار الروحيّ والأدبيّ الذي تمارسه العلومة صار الناس يشعرون -كما لم يحدث لهم في أي وقت مضى- أنّ مصالحهم تتجسّد في المزيد من فرص العمل والتملّك، والرفاهية، وراحة الأبدان، والصّعود الاجتماعيّ والبحبوحة الماليّة... وحين تترسّخ هذه الوضعيّة، وتقوى جذورها فإنّ الفوارق بين أهل التدين والالتزام وبين غيرهم في هذه الأمور لا تزداد مع الأيام إلا تضاؤلاً وانكماشًا.

 

ما الذي يعنيه كل هذا للمناعة الفكريّة؟

 

إنّ من شأن المفكر والمصلح أنْ يحتفظ بمسافة فاصلة بينه وبين الناس الذين يوجههم، ويسعى إلى مساعدتهم. وفي تلك المسافة تتبدّى صلابة المنهج الذي نؤمن به، فنسعى جاهدين إلى ردّ الناس إليه وإلى الجادّة الصّحيحة. ويتجلى فيها أيضاً الفهم الدّقيق لِعِلَل المجتمع، فيتصرف كما يتصرف الطبيب الخبير الناصح، والرحيم في تقديم الدّواء الناجع بأرفق أسلوب ممكن.

 

في تلك المساحة تظهر لباقتنا وحسن سياستنا وقيادتنا وحسن مجادلتنا ومداراتنا. إنّنا نخطو نحو الناس خُطُوات حتى نجذبهم إلينا خُطوة.

 

في تلك المسافة تظهر المرونة الذهنيّة لدينا، ويظهر ترتيبنا للأولويّات، وفهمنا العميق لطبيعة المطالب والحاجات التي لا تستقيم الحياة العامة من غيرها، ويأتي على رأس تلك المطالب صيانة حقوق الناس وكرامتهم إلى جانب مناصرة الضعيف والوقوف إلى جانبه حتى يسترد حقه. كلّنا يذكر الاختراقات التي حقّقها المذهب الاشتراكي وفرح كثير من الجماهير به أملاً في أنْ يحسَّن أحوالهم الاقتصاديّة، وأوضاعهم القانونيّة والسياسيّة، وحين وجدوا أنّ الدّعاوى أكبر من الحقيقة بل ضدّ الحقيقة المتحصّلة في كثير من الأحيان انفضّوا عنه، وثاروا عليه.

 

2- يحتاج الناس حاجة ماسَّة إلى من يساعدهم على تحقيق التوازن في حياتهم الشخصيّة. إنه يُهيَّأ لي في بعض الأحيان أنّ التطرّف والميل عن القصد والاعتدال، إنما هو شيء متوضع في التراث الجيني للبشريّة.

 

إنّنا نرى فعلاً الكثير من أنشطتنا ومواقفنا وتوجهاتنا قائمًا على ردود الأفعال أكثر من قيامه على رُؤية شاملة ومتوازنة. إنّ مسايرة الناس في كل ما يتجهون إليه، يُعَدُّ خطأ فادحًا، ولا يليق أبدًا بقادة الفكر والإصلاح أنْ يتحركوا وفق رمزيّة (ما يطلبه المستمعون أو المشاهدون). إنّ المنهج الربانّي الذي أكرمنا الله – تعالى – به قد ملّكنا الدّليل الذي يرشدنا إلى الوضعيّة الصّحيحة والآمنة. وإنّ الذين يجهرون اليوم بتحقيق رغبات الجماهير – دون تمييز- يخونون أمانة الرّيادة العلميّة والاجتماعيّة ويجرّون الجماهير الغافلة إلى حتفها!

 

في الناس اليوم سعي حثيث للحصول على المكاسب الماديّة، وهذا شيء لا يُسبّب مشكلة في الأصل، لكنه حين يتمّ على حساب الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والإنسانيّة، فإنّه يرمز إلى خَلَل في حياة الأمّة. وألمس في كثير من المثفقين اليوم حرصًا منقطعَ النظير على التقدّم العقلي وعلى النجاح في الأعمال الدنيويّة، وهذا شيء جيّد لولا أنّه يصاحب إهمالاً للفلاح والطّيبة والصّفاء والتألّق الخُلُقي.

 

وفي الناس اليوم اهتمام واسع النطاق بالعاجل والمباشر وإهمال للآجل مما جعل قِصَرَ النظر أحدَ أهمّ الأدْواء التي نُعاني منها. وصرنا عبارة عن مجتمعات لا تعرف ما تريد، ولا تمدّ قرون الاستشعار في جوف المستقبل على نحو ما هو مطلوب، وعلى نحو ما هو موجود لدى الآخرين!

 

وهناك أمور أخرى من هذا القبيل. وإنّ من واجبنا أنْ نطلق من الأفكار والمفاهيم والأدبيّات وصيحات التحذير ما يساعد الناس على استعادة التوازن والاعتدال في هذه المسائل وغيرها؛ بوصف ذلك خطًّا متّصلاً يجب التزامه والمحافظة عليه في كل الأحوال.

 

3- إنّ زماننا هذا هو زمان البغْي وتجاوُز الحدود. وهذا مفهوم، فألصقُ شيء بالقوّة هو الطُّغيان. ونحن نعيش اليوم في عصر القوّة.

 

يقول الله – جل وعلا- : ( كلا إنّ الإنسانَ ليطغى أنْ رآه استغنى) [العلق: 7.6]، ويقول- سبحانه- : ( ولو بسطَ اللهُ الرّزقَ لعباده لبغَوْا في الأرض)[ الشورى:27] .

 

إنّ الناس بما فطرهم الله عليه من حب البقاء يسعَوْن دائمًا إلى التمدّد، ويميلون إلى التغوّل. وكثيراً ما تُهزم المبادئ الواضحة والراسخة أمام هذه الغريزة؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحبّ أنْ يكون له ثالث". ومن هنا فإنّ مستلزمات المناعة الفكريّة أنْ ننتج المفاهيم والأفكار والنظم التي تمنع تمدّد ذوي القوة: قوّة المال، وقوّة الجاه، والسلطة، وقوّة العلم، والجسم... إنّنا لا نسيء الظّن بالناس، ولكنّ أمور الأمم- أيضًا- لا تُبنى عل حسن الظنّ، وإنما تُبنى على مُعْطَيات ملموسة ومنظّمة، ويمكن الاحتكام إليها. ونحن في العالم النّامي نُعاني أكثر من غيرنا من القهر والإذلال وغَمْط الحقوق. وذلك لا يعود إلى أنّ التربية السائدة لدى الأمم المتقدمة أفضل من التربية السائدة لدينا، وإنما يعود على نحو جوهري إلى أنّ من تدعوه نفسه إلى البَغْي هناك يواجَه بحواجز وسدود منيعة من النظم والقوانين والأعراف والمؤسّسات التي توقفه عند حده، وتُوقع به العقوبة إذا تجاوز ذلك أو احتال عليه.

 

إنّ التّنمية الجيدة مشروطة دائماً بسيادة الأمن، والاستقرار، واحترام النظم، ووقوف كل واحد من الناس عند الحدّ الذي يجب أن يقف عنده.

 

ولن يستطيع أيُّ فكر مهما كان لونه، وعمقه، ورسوخه أنْ يصمد لعاديات الزمان وتقلّبات الأحوال، إذا لم يأخذ هذه الأمور التي أشرت إليها، وما يشبهها بعين الاعتبار.

 

والله ولي التوفيق د. عبد الكريم بكار

 

المصدر: موقع الإسلام اليوم

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك