حق الإختلاف وواجب وحدة الصف

حق الإختلاف وواجب وحدة الصف

راشد الغنوشي

تلف عالم الإسلام غيوم قاتمة حاكتها أيادي الانحطاط وتجارب التجديد الفاشلة المرتبكة أورثت المسلمين مسلسلات من المصائب والنكبات وضروبا من الاستبداد والفساد والتمزق والتفرق والمحن المتكررة تكاد النفوس الخيرة تركن معها إلى اليأس من إمكانية تجنب الواقع البائس والمصير المهلك بعد أن أحاط بها أعداؤها. إلا أنه في خضم هذه الظلمات الكالحة انبثق قبس من النور اشرأبت إليه النفوس الخيرة يحدوها الأمل أن لا يكون ذلك فجر كاذبا بل فجرا صادقا... تلك هي أنبل ظاهرة في عالم المسلمين الظاهرة الإسلامية التي ولدت وانتعشت على أنقاض الهزائم المتكررة التي منيت بها أيديولوجيات اليمين واليسار على المستوى العسكري حيث قادت الهزائم إلى الاستسلام المتكرر للإمبريالية الصهيونية وحلفائها.

 

 

وعلى المستوى السياسي "غدا الاستبداد والقمع كأنه قدر هذه الأمة" وعلى المستوى الاقتصادي "الارتباط المذل بالاقتصاد الرأسمالي، وتفقير الشعوب رغم الثروات الطائلة” وعلى المستوى الأخلاقي والثقافي “انتشار التحلل والتخدير والتجهيل والانتقائية".. فكان انتعاش العمل الإسلامي واندلاع ثورات الإسلام في إيران وأفغانستان وسوريا وفي المغرب العربي: أنبل ظاهرة انبثقت من ليالي اليأس الطويلة. إلا أن هذه الظاهرة بقدر الآمال التي عقدتها الجماهير عليها فسارعت إلى الالتفاف حولها وبقدر الأخطار المحدقة بها من كل مكان بقدر ما يشقها من أزمات حادة من خصام وتوتر وعطالة وعنف وارتباك وتآكل. وهي ظواهر لئن اختلفت حدتها من جماعة إلى أخرى إلا أنها تمثل قاسما مشتركا بين الجميع مما شكل المعوق الأساسي لنموها وفعاليتها وقدرتها على مواجهة تحدياتها والتصدي لخصومها، مما بدت معه للبعض خشية إجهاض ذلك الأمل أمرا واردا جدا إذا لم يقع الوقوف على حقيقة الأزمة الداخلية التي تعيشها الحركة الإسلامية وإيفاؤها حقها من التحليل والدرس من أجل التشخيص الجاد وتحديد العلاج النافع.

 

ونلتقي ضمن الإطار المحدود بظروفنا هنا ـ في دار الغربة ـ بإلقاء اقباس من الضوء على أهم أسباب ظواهر الاختلاف والتمزق والعطالة ـ داخل الحركة الإسلامية وتقديم وصفة علاجية جاعلين واقعنا القطري نصب أعيننا. إن للأزمة أسباباً مباشرة وأخرى غير مباشرة ـ وتتلخص الأسباب المباشرة في:

 

المحنة

 

إن المحنة في حد ذاتها تعد مرحلة مهمة في تاريخ حركة ما ـ لأنها تمثل مرحلة متقدمة من مراحل نموها إذ تمر حركات المقاومة والمعارضة مع عدوها عبر خمس مراحل:

 

1- مرحلة اللامبالاة بها.

 

2- مرحلة السخرية بها وتحقيرها.

 

3- مرحلة السب والتشويه.

 

4- مرحلة الاضطهاد.

 

5- مرحلة النصر.

 

فالاضطهاد ـ كما أكد غاندي وآخرون ـ مرحلة تسبق النصر مباشرة، إلا أنها مرحلة خطيرة إذ يضع الحركة في مفترق طريقين ـ بحسب أسلوب مواجهته ـ يقود أحدهما إلى التشتت والانقسام والتلاشي بفعل غياب قياداتها التاريخية وتأثير الدعاية المضادة التي يقوم بها النظام والأطراف السياسية المنافسة وعمليات الاستقطاب الداخلية والخارجية التي تقوم بها حتى الحركات التي تشترك معها في نفس الأيديولوجية “الحركات الإسلامية الأخرى في صورة الحال". وترتكز محلات التشكيك على القيادات والمناهج توصلا للنتيجة التالي: إن الاضطهاد ما كان ليحصل لولا أخطاء القيادة وعدم جدوى الأيديولوجية الفكرية القائمة عليها والخط الاستراتيجي. غاضة الطرف عن أنه حتى مع افتراض صحة ذلك فإن العدو بحكم خوفه على مصالحه واستماتته في الدفاع عنها لا يمكن أن يترك المجال فسيحا لحركة نموها مطرد في اكتساح مواقعه. دون أن يحرك ساكنا. ويقود الطريق الآخر إلى النصر عندما تنجح الحركة في توظيف ذلك الاضطهاد في تعرية معايب النظام وفضح ممارساته وارتباطاته ومظالمه حتى تلجئه إلى وضع الدفاع عن نفسه لتبرير القمع الذي يقوم به. ومن ثم تجعل حركات المعارضة السياسية الاضطهاد جزء من استراتيجيتها فتعمد إلى دفع النظام دفعا إلى ارتكاب هذا الخطأ "الاضطهاد" فتورطه بذلك شعبيا ولا سبيل إلى تعريته وعزله جماهيريا دون توريطه في العنف ـ دون أن تتورط فيه ـ فيغدو الاضطهاد أقرب طريق للدعاية لفائدة الحركة وإيقاع النظام في التناقض بين مظاهر الديمقراطية التي يحرص على الاتصاف بها في الداخل والخارج وبين تورطه في العنف ضد حركة سلمية، مما يجعله في وضع محرج ويحرص معه على توريط الحركة ولو في حادثة واحدة للعنف كما أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "Gandi contre mecheavel" إن الاضطهاد فرصة الحركة لإيجاد ميزان جديد للقوى، يقول "شافاز" "إن السجن جزء فعال في استراتيجية اللاعنف". ولا عجب أن نرى أبواب السجون في كثير من وقائع التاريخ القديم والحديث تفتح على أبواب الحكم، شرط أن تنجح الحركة في مواجهة تحدي الاضطهاد فتحافظ بإصرار واع وعنيد على وحدتها وعلى تصاعد نضالها باستمرار وممارسة الشورى في داخلها على أوسع نطاق مهما كانت الظروف ـ ولقد ذكر لي أكثر من واحد من رجال الحركة الوطنية أنهم كانوا يستفزون فرنسا بمختلف وسائل الاستفزاز لتوريطها في ممارسة العنف.

 

أما بالنسبة لحركتنا فرغم الظواهر العريضة التي سوف نتناولها ـ فقد أحدثت تجربة الاضطهاد تحولات إيجابية لصالح الحركة على صعيد الرأي العام والقوى السياسية ـ ظاهرا أو حقيقة ـ والمنظمات الإنسانية المحلية والدولية حتى غدت قضية الاتجاه في مركز اهتمام الرأي العام ولم تجد القوى السياسية المنافسة لنا بدا من إعلان مساندتها اللا مشروطة لنا وإدانتها المطلقة للنظام بينما كانت بيانات تلك الحركات قبل المحنة وحتى في بدايتها تعلن مساندة متحفظة مشككة في أهداف ووسائل الحركة مما يؤكد أنه في إمكان حركة مضطهدة أن تحمل تكاليف كل يوم سجن وتشريد ضرره على خصمها أضعافا مضاعفة بالقياس إلى ضررها هي. ولئن دفع ضغط الرأي العام وحركات المعارضة إلى إعلان تأييد ظاهري فقد بذلت أقصى الجهد في استغلال وضعنا للحصول على مكاسب من النظام بتخويفه المستمر من الشبح الإسلامي وبالتحالف معه “الانتخابات التشريعية التي تمت خلال محاكمتنا، تألب الشرائح الطلابية ـ الماركسية خاصة ـ في الجامعة في محاولة لاستئصاله معنويا وجسديا في غياب قياداته التاريخية بين سجن وتشريد”. ولقد استهدفت حملة التشكيك التي تعاونت فيها قوى النظام مع قوى المعارضة سرا ـ وحتى في العلن “تصريح المستيري لمجلة المغرب وتصريح عاشور لنفس المجلة” ـ فضلا عن محاولات الاستقطاب والتشكيك التي يقوم بها إسلاميون منافسون تحت سحابة ممزقة من التأييد. بهدف استغلال الموقف وإحداث التمزق والتشرذم داخل الاتجاه . ولا يستبعد ـ إذا لم تقع مواجهة الوضع الداخلي بكثير من الحزم والحكمة ـ أن تنال تلك المحاولات التي يقوم بها خصوم ومنافسون إسلاميون وغيرهم في الداخل والخارج بغاية الاستقطاب بعض النجاح في إحداث الخلل والتمزق.

 

والخلاصة أن المحنة ليست هي بذاتها سببا في إحداث ما حصل من خلل واختلاف واضطراب ـ رغم المكاسب التي حصلت من ورائها ـ بل أن الأسباب السابقة عنها. وهي أسباب عميقة ربما كان يحد من تفجرها بساطة المشاكل التي كانت مطروحة على الحركة قبل مرحلة التسيب وعدم الحاجة عندئذ إلى مواجهة الواقع ببدائل واضحة، ووجود القيادات المؤسسة للحركة عاملة في الساحة، ورغم ذلك فقد حدث الانشقاق مما يوجب مواجهة المشاكل الحقيقية بجد أكبر من أجل التحديات. ولا تجدي في ذلك المعالجات الجزئية المستعجلة وتهدئة الأوضاع آنيا عن طريق استعمال النفوذ المعنوي الشخصي لبعض القيادات للقيام بمصالحات مفتعلة، فقد حصل ذلك وما كان له غير مفعول وقتي وجزئي. ولا يجدي كذلك إحلال قيادة محل قيادة أخرى لأن أسباب الداء عميقة وهيكلية وقد برزت في أوقات مختلفة لدى جماعات إسلامية كثيرة في أقطار متباينة مما يقطع أن البنيان الفكري والتربوي والتنظيمي هو السبب العميق الذي لم يعدم مفعوله وجود زعامات كبرى على رأس تلك الحركات، وهو بنيان لئن حصلت فيه بعض التعديلات الجزئية أو السطحية أحيانا بتأثير حركات الإصلاح فجذوره مترسخة في أعماق التراث.

 

تأثير التراث

 

التراث الإسلامي هو مجموعة التفاعلات التي حدثت بين الإسلام والواقع وما أثمرته من طرائق للتفكير وأساليب وأنظمة للحياة ومسالك وأذواق وآداب للأفراد والجماعات ـ وهي آثار لا تزال تمارس تأثيراتها الإيجابية حينا أو السلبية أحيانا، تمارسها حتى على اشد إنكارا لها وعداء، ولها قدرة هائلة على الحكم بالنجاح والفشل على تجربة لتغيير الواقع بحسب الموقف المتخذ منها. ونكتفي في إبراز أثر التراث على واقعنا بالتركيز على بعض الأحداث والقضايا المهمة في ذلك التراث.

 

أ ـ قضاية الاستبداد

 

إن الإجهاض المبكر لتجربة الحكم الشوري في الإسلام وبروز المطلق القبلي “قريش دون الأوس والخزرج من الانصار ـ وبنو أمية دون سائر قريش وبقية المسلمين ـ وبنو هاشم ـ العباسيون دون سائر العرب والمسلمين الخ الصراعات القبلية في ظل الإسلام" كان له أبلغ الأثر ولا يزال على جميع شعب الحياة الإسلامية على تعددها، فقد غدا الاستبداد طابعا مميزا لها جميعا، بل غدا مؤسسة تعيد إنتاجه في مستويات مختلفة. على المستوى السياسي: أبعدت الجماهير عن السلطة ولا يؤتي بها إلا لأداء مراسم بيعة شكلية طوعا أو قهرا.. وانحصر الخلاف الفقهي في ذلك الصدد الذي يمكن أن تنعقد به البيعة حتى وصل الأمر إلى اعتبار الحكم شرعيا إذا بايعه شخص واحد قياسا على عقود البيع والتجارة .. ولم تطرح قضية مدى شرعية الحكم الوراثي حتى من طرف كبار الفقهاء.. وعلى المستوى الثقافي العقائدي سيطرت البحوث الكلامية التي ركزت عقلية الجير وسلب الإنسان كل إرادة واختيار لصالح الألوهية بزعمهم فسادت الأشعرية وهي جبرية مغلفة بأقنعة غامضة.. وعلى المستوى التربوي ساد التصوف الذي عزف طويلا أنشودة الفناء كهدف أعلى للتدين فسحر الناس وطوح بهم في عالم الأوهام.. وعلى المستوى الأسرى تركزت عقلية الاستبداد وإفناء شخصية الزوجة والأولاد حتى غدت الأسرة افضل مؤسسة في مجتمع الاستبداد تمثيلا وإنتاجا له. وعلى المستوى الاقتصادي عبثت أيدي أمراء الجور بالقطاع العام وهو كل ارض الفتوحات "ارض السواد أو العنوة" واقطعوها لعملائهم وأقاربهم وقادة جندهم فظهر أسلوب الخماسة والرباعة...

 

ب ـ الإغراق في القضايا اللاهوتية الغيبية التي شغلت الأمة ببحوث ما ورائية لا طائل من ورائها "علاقة الذات بالصفات، خلق القرآن، مكان وجود الله في جهة أم في غير جهة؟ الله يرى أم لا يرى؟ كيف اسري بالنبي بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ الخ” وهي بحوث كان طبيعيا أن تنشأ في ظل الاستبداد وتشجيع منه لصرف الجماهير والمفكرين عن واقعهم البائس. وكان من الطبيعي أن يضل العقل المسلم في متاهة تلك البحوث وأن لا يصل فيها إلى وفاق لتجاوزها لمجال العقل. فكان ذلك سببا آخر إلى جانب التمزق والانشقاق على المستوى السياسي أن يقع التمزق على المستوى العقائدي وتظهر عشرات من الفرق كل منها يزعم أنه يمثل الحقيقة المطلقة وينفيها عن الآخر. وكان ذلك النفي الفكري مرحلة للنفي الجسدي للآخر "الصراع الدموي بين السنة والمعتزلة، وبين السنة والشيعة وبين السنة والخوارج وبين المذاهب السنية نفسها" فكان ذلك كله أسبابا عميقة لتجذير التشرذم في البيئة الإسلامية حتى عصرنا هذا.

 

ج - سيادة التقليد وغياب الاجتهاد وهو ثمرة لتضخم الماضي على حساب الحاضر ـ وهو ثمرة من ثمار مجتمع الاستبداد حيث تتحول الجماهير إلى قطعان تساق من طرف السياسي وشيخ الطريقة وفقيه المذهب، تساق بدون وعي، مشدودة إلى الماضي ـ فهناك الانتصارات العسكرية الرائعة والازدهار الفقهي والعلمي حيث تكونت المدارس الفقهية والكلامية الكبرى. فماذا للحاضر أن يضيف أو يعدل وقد اكتملت الحقيقة في الماضي، غير بذل أقصى الجهد في فهم تلك الآثار ومحاولة إيجاد مشبهة، كلما عرضت حادثة جديدة، بينها وبين حادثة مرت في الماضي وتناولها فقيه لنقل أحكامه وتطبيقها على الواقعة الحاضرة. فلا عجب أن تواجه بعد ذلك كل فترة جديدة بحملات من التشويه "حرق كتابات ابن حزم والغزالي وابن تيمية الخ..." لإجهاضها بالانصراف عن مناقشتها بجد ومهاجمة صاحبها لرميه بالجهل بالدين وسوء القصد والجرأة على السادة العلماء وحتى بالعمالة للأعداء، بدل التوجه إلى الفكرة وتمحيصها والعمل على تطويرها وإثرائها. وأنى للقوى المحافظة أو المستفيدة من استقرار الأوضاع أن تدرك جديدا في تلك الفكرة وهي مشدودة بقوة إلى الماضي مستلبة لحسابه أبسط أساليب مقاومتها للمجددين: سخريتها بهم بأنهم "علماء آخر الزمان". أنها تشيد بالماضي لقمع الحاضر وترفع أعلام الماضي لتقزيم أعلام الحاضر، ولعجزها عن مصادمة الفكر تصادم الشخص وإذا تناولت الفكرة أثارت حولها زوابع من الانفعالات وحملات تشويه عاطفية.

 

ومن الطبيعي مع سيادة التقليد أن يختفي الفكر وأن يختفي الإبداع وأن يستعاض بالمشاكل الحقيقية الواقعية بمشكلات وهمية "الصراع بين السنة والشيعة. المذهبية واللامذهبية. الخلف أم السلف؟ علي أم معاوية؟" وباختفاء الفكر تختفي إمكانية الحوار الجاد.

 

فشل المسلمين في إدارة الحوار بينهم

 

إن الإسلام اعتبر الخلاف أمرا طبيعيا بين البشر أراده الله ليؤدي وظيفة معينة في حياتهم هي تمتعهم بالحرة وتحمل مسؤولية وجودهم وإثراء الحياة بمواقفهم المختلفة، فالله إذ جعل الإنسان خليفة فما يمكن أن تتحقق تلك الخلافة بدون حرية وإردة وعقل أناط بها مسؤولية الإنسان، فكان الاختلاف والتميز بذلك حقا شرعيا للإنسان، ومنعه بأي ضرب من ضروب الإكراه اعتداء فاحشا على الكيان الإنساني ومصادمة لغرض أساسي من أغراض الخلف "ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة" ولكنه لم يشأ أن يجعلهم رأيا واحدا وعقيدة واحدة وقالبا واحدا ونسخا متطابقة بل أراد أن يتميز كلهم بشخصية متفردة بخصائصها تساهم من موقعها في إثراء الحياة "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. ولذلك خلقهم" ـ كما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور ـ للتعليل، لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة كان الاختلاف علة غائية "ولذلك خلقهم"، ولكن الله سبحانه وتعالى ـ كما يعلق الشهيد سيد قطب ـ يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعا هو التصور الإيماني الصحيح الذي ينفسح حتى تضم جوانحه شتى الاستعدادات والمواهب والطاقات فلا يقتلها ولا يحجبها ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.. ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان يفيئون إليه "فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب والحكمة ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" وبغير هذا الحق الواحد وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض، بغير هذا كله لا تستقيم الحياة ولا يقوم في الأرض السلام "الظلال ص 215 إلى 216. فالاختلاف في طبيعة البشر أصيل وهو مراد من الله في استخلاف الإنسان ولكنه يغدو مهددا لوحدة البشرية وسلامها بالتمزق والدمار إذا لم يلتزم بالإطار العام للإسلام وهو يتألف من أصول الدين ـ مما لا يجوز الاختلاف فيه ـ وهي جملة عقائده وتشريعاته وقيمه مما هو صريح معلوم من الدين بالضرورة، صرحت به نصوص الكتاب صريحا واضحا، تستوي في إدراكه العقول السليمة. أما المتشابه وهو ما التبس معناه فيرد إلى الراسخين في العلم "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" ـ فالاختلاف إذن حق يعد كل انتقاص منه من أجل حمل الإنسان على رأي واحد أو مذهب واحد اعتداء على الطبيعة الإنسانية وإفقارا للحياة وتشتيتا للطاقات.

 

ولكن إذا كان الاختلاف حقا ثابتا فوحدة الصف واجب بأمر مباشر من الله سبحانه "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" فالنجاح في مواجهة التحديات لا يتحقق إلا بصف موحد وإن اختلفت اجتهاداتهم في فروع الدين وأساليب التطبيق، فهم ملتقون على أصول الدين مما هو صريح الكتاب "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" والاختلاف إذا تحقق الالتزام بما هو صريح واضح في الدين لا يشكل أبدا عقبة في طريق وحدة الصف الإسلامي بل هو ثراء له.

 

إنها وحدة في تنوع وتنوع في وحدة مما يجعل مثل هذا الاختلاف رحمة إذ تجتمع ـ بقبوله ـ شتى الطاقات وتساهم كلها بإتلاف مواهبها في إثراء الحياة وتقدمها، فيغدو المختلفون وكأنهم يتنافسون في لعبة متفقين على قواعدها بعيدا عن كل تمذهب صلب وتعصب أعمى وفرض ألوهية مذهبية أو حزبية أو قومية.

 

"ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" فليس كل اختلاف مذموم، فهناك مختلفون مطرودون من رحمة الله أولئك الذين قادهم اختلافهم إلى أن أصبحوا شيعا متعادية متنابذة، وهناك مختلفون مرحومون أولئك الذين لم يحل اختلافهم دون توحدهم واجتماع كلمتهم ضمن إطار الحرية: إطار أصول الإسلام وتعاليمه الثابتة، وما أوسعه من إطار، لو التزموا في ذلك الإطار بآداب الحوار الإسلامي.

 

إنه ليس غريبا أن نختلف بل من الغريب والخسار أن لا نختلف وقد تنوعت وتعقدت مشكلاتنا وحاجاتنا ـ والناس كانوا أمة واحدة لا اختلاف بين أفرادها في العهد البدائي عندما كانت حاجاتهم بسيطة ـ فلما تعقدت مشكلاتهم بتطور علومهم وحاجاتهم لم تعد الفطرة كافية في هدايتهم لحل تلك المشكلات فبعث الله النبيين لهدايتهم إن المشكل هو أن يهدد اختلافنا وحدتنا ويمنع اتفاقنا ويشل قدرتنا على التقرير في أمهات قضايانا وأن يتعكر حتى صفو علاقاتنا الشخصية، علاقات الاخوة الإسلامية.

 

اختلف المسلمون وكان في خلافهم من جهة ثراء كبير لحضارتهم، ولكن من جهة أخرى ولأسباب كثيرة منها ـ سرعة إجهاض تجربة الحكم الشوري وقيام الملك العضوض، وتكون الثقافة الإسلامية في ظل الحكم الاستبدادي ـ فشلوا إلى حد كبير في إدارة الحوار بينهم .. نجحوا في السقيفة في إدارة حوار رائد أرسي على أساسه نظام الخلافة الشوري، ولكن مبدأ الشورى لم يؤطر ولم يقنن فظل يمارس على نحو تغلب عليه العفوية ويعتمد إلى حد كبير على نوعية الحاكم لا على تنظيمات ومؤسسات ولذلك ما أن تغيرت نوعية الحاكم ـ على عهد سيدنا عثمان ـ بسبب ضعف الرجل وتعقد المشاكل خلال الفترة الثانية من حكمه حتى عجزت العفوية عن مواجهة الأمر وسهل في فترة لاحقة على المستبدين أن يفرغوا الشورى من محتوياتها ويبعدوا الجماهير عن الحكم. ومنذ عهد مبكر استبدلت الشورى، أي حكم الشعب كأساس، بالقوة كأساس للحكم، وغدا السيف هو أسلوب الحوار واضطرت المعارضات إلى أسلوب السرية والعنف، وقامت المذاهب الكلامية تبرر في كثير من الأحيان نمط الحكم القائم وتكفر معارضيه، وتفعل المعارضة نفس الفعل. وكان لمواريث القبائل من عصبية وعنف كما للمواريث الإمبراطورية السائدة في العالم أثر بالغ في إجهاض النموذج النبوي الراشد للحكم الشوري.

 

وكان من أسباب فشل الحوار عدم تفريق المتحاورين في كثير من الأحيان بين الحق الواحد المتمثل في الإسلام وبين الفكر الإسلامي وهو مجموعة الفهوم التي يستنبطها البشر من خلال الدولة يعتبر دولته تجسيدا للحق فمعارضوها مارقون كفرة، وصاحب المذهب الكلامي يعتبر مذهبه هو الحق فيميل إلى تفسيق أو تكفير الآخرين. ولقد أورثت تلك الصراعات بين الدول والمذاهب وتنافيها المتبادل صراعات مختلفة داخل المجتمع الإسلامي بين القبائل والطرقيات، صراعا هو باستمرار تناف مشترك تمارس فيه كل الأساليب اللاأخلاقية والعدوانية وكل ضروب الدهاء والتآمر والعنف، واستقرت في ظل مجتمع الاستبداد ثقافة للاستبداد خلاصتها: أنت نسخة مني أو طوع أمري وإلا فأنت عدوي، ولا وسط بين قرني التنافي .. فلا عجب وقد نجحت الحركة الإسلامية المعاصرة في استقطاب جماهير غفيرة وأن تغدو أملها في العزة والحرية، أن تفشل في إجراء الحوار داخلها لأنها إلى حد كبير استمرار لمجتمع الاستبداد حيث غدا الحوار شحنات انفعالية تتهيأ لتصفية بعضها على الجبهة وأن يأخذ مسار تطورها اتجاها واحدا من الوحدة إلى التشتت ـ خلافا لمسار التطور الغربي من التشتت إلى مزيد من التوحد ـ فالقبائل في أوروبا تطورت نحو الوجود القومي وتطورت هذه نحو الوحدة الأوروبية ووجدت المجتمعات الليبرالية ووحدة الغرب قاطبة بالمعنى الحضاري ضد الشعوب الأخرى... وذلك هو مسار العقل وأسلوب عمله: سير متواصل من الكثرة إلى الوحدة، إلى وحدات أرقى "قانون نيوتن في الميكانيك الحرارية ـ نسبية انشتاين كقانون القوانين". ذلك هو شأن التطور عندما يحكمه العقل حول مضامين فكرية، أما عندما يحل الانفعال محل العقل بسبب غياب الفكر والاكتفاء بترديد الماضي أو رفع شعارات، فإن الانفعال هو أسلوب الحوار، والسباب والشتائم والتراشق بالشعارات والانتصار للزعيم الفلاني أو الفلاني أو لحزب أو ثورة ضد حزب أو ثورة أخرى هو مضمون الحوار، عندئذ كيف يمكن للحوار أن يثمر غير مضمون الحوار، عندئذ كيف يمكن للحوار أن يثمر غير وجع الرأس والتنفيس عن الأحقاد والكبت والمزيد من تمزيق الصف والتنافر المتواصل والإسراع إلى الحلول السهلة القاتلة: حملات التشهير والافتراء والطرد والتجميد ورفع أعلام جديدة والتنويه بشيوخ جدد للقبائل الجديدة وتهيؤ الجميع لساعة الحسم. غاب الحوار ـ كما يقول حسن حنفي ـ وأصبح الخلاف في الرأي انشقاقا وأصبح التصلب سمة في الممارسة وجرت العادة على تصنيف الآخرين في قوالب جامدة يستحيل معها الحوار بالرغم مما كان لهذه الجماعات المغلقة من شعبية .. وغاب الحوار الديمقراطي الحر فسهل الانشقاق عليها من أجنحتها المختلفة فتذهب الطاقات في الدفاع عن الشعارات أو الأشخاص أو النماذج ولو كانت علاقتها بالواقع المراد تغييره بعيدة الشبه، ويغدو الفكر مجرد عواطف وجدانية تتطاير فوق الواقع وتحجبه، وعادة ما يكون الحوار دفاعا عن النفس أو المذهب ورغبة في الشهرة ومزايدة وإعلانا عن الذات، والدفاع يرتبط بالجدل والمهاترة والانفعال. الجل لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة بل يهدف إلى الانتصار على الخصم، وبدل أن تتوحد جهود الجميع في عمل مشترك تتعارض وتتنافر ويلغي بعضها بعضا. المجادل لا يفكر بل يريد هزيمة الآخر ولو كان على حساب موضوعه ومنطقه. المجادل لا يفكر بل يعارك ويحارب فيضيع العقل وتسود العاطفة بسبب غياب الفكر. "حنفي 115ـ 116 التراث والتجديد" وصاحب الفكر ـ كما يقول أحمد أمين ـ في فيض الخاطر هادئ مطمئن يدلي برأيه يعرضه عرضا منطقيا مستندا إلى العقل والبرهان، ويستمع إلى المعارضة بانتباه شديد ورغبة أكيدة في أن يجد لديه تصحيحا لرأيه وتمحيصا له، ليقينه بمحدودية علمه وعقله ونسبية رأيه، بينما صاحب العقيدة متحمس منفعل لا يرى الحق في غير عقيدته فمن يجادله فيها هو عدوه الألد وخصمه المبطل. وما انفعالاتنا إلا تعبيرا عن خطأ كبير هو تحول "آرائنا" ـ إن لم تكن شعاراتنا ـ في نفوسنا إلى عقائد هي عندنا الصورة الوحيدة للحق، وتحول محاورنا أو مخالفنا إلى عدو وخصم لا إلى رفيق في الطريق. كثيرا ما يتحول ذلك المخالف لنا ـ في مجرد وجهة نظر لا عقيدة تتعلق بكفر أو إيمان ـ يتحول في أعيننا إلى صفحة سوداء كالحة لا نور ولا خير فيها، فنصب عليها جام غضبنا وحقدنا وكبتنا وكل ما في جعبة تخلفنا من اتهامات في الدين والخلق: إنه مائع أو عميل أو متطرف أو فاسق أو خائن وحتى سارق، وننسى في سكرة الانفعال وحضرة الجدل أخلاقيات الإسلام في التعامل التي تمنع اعتماد الظن وإن يكن غالبا في الحكم على الأشخاص والتشهير بهم أو اغتيابهم وإن كانوا مخالفين، وبغضهم بدل الرفق بهم وإعانتهم على الشيطان والتوجه الخالص في صلواتنا إلى أن يهدينا وإياهم إلى الحق وأن يبارك في اخوتنا وأن يقضي ما نعلم وما لا نعلم من حوائجهم وأن نسعى عمليا في ذلك، كما ننسى في غمرة الشيطان الجدلية المتخلفة أن اليأس من الإنسان يصادم منهج الإسلام ودعوته كما يصادم كل منهج ثوري، فأخص ما يميز الثوريين على الطغاة الثقة في الإنسان، في الشعب، وقدرته باستمرار مهما بلغ فساده على التحول "اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون" إن اليأس من الإنسان والمراهنة على تحطيمه من منهج يتعارض مع كل فلسفة للدين أو للثورة، وإنما هو ثمرة غياب الفكر وارث من مواريث مجتمعات الاستبداد إذ اليأس من الإنسان هو الخطوة المباشرة لإعدامه وتصفيته جسديا والحسم معه، واليأس من الإنسان هو سلاح القوى الرجعية والمحافظة والمستبدة تقمع الجماهير وتمارس العنف المادي والمعنوي وتراهن على الأساليب العسكرية والبوليسية لقهر الجماهير وفرض حجة القوة على المخالفين لتقيم حكم القوة على أنقاض حكم العقل والشرع. واليأس من الناس هو يأس من رحمة الله وشك في قدرته "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" "خصلتان حبيبتان للرحمن: حسن الظن في الله والثقة في الناس" كما ورد في الحديث، وكيف يراودنا الأمل في هداية نصراني أو يهودي أو شيوعي واللقاء معه في صف الإيمان والنضال ويستبد بنا اليأس حتى أن مجرد إمكانية الحوار فضلا عن اللقاء مع إخوان لنا تجمعنا وإياهم محبة الإيمان؟ هل من يقظة أيها الناس؟

 

الانفصال عن الواقع

 

وإن من أسباب فشل الإسلاميين في إدارة الحوار بينهم اغترابهم عن الواقعية يهيمون مرة وراء مثاليات تاريخية ونماذج تراثية يحلمون ببعث رفاتهما وقد مضت وتخلت في رميم، ويذوبون مرة حد الفناء في تجارب ونماذج كان أهم سبب لنجاحها قدرتها على فهم واقعها وحسن التفاعل مع معطياته، ولكن نجاحها يغري المتحمسين لمحاكاتها شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لم نتردد في دخوله. وينجذب آخرون انجذابا صوفيا نحو عالمية مجنحة لا تعدو أن تكون طموحا أو حنينا إلى خلافة منقرضة وليس لها من الأسس الموضوعية ما يؤهلها للتطور والفعالية.. وتحاول تلك العالميات أو التجارب الجذابة بل يحاول أصحابها جهدهم إسقاطها على واقع مختلف دون دراسة علمية لذلك الواقع الذي نالهم وينال الكثير بسبب طموحهم إلى تغييره، فكان حريا بهم أن يجعلوا ذلك الواقع منطلقهم، تحدد أوضاعه ومصالحه نمط علاقتهم مع كل التجارب والنماذج والعالميات. لقد هامت قبلنا وراء العالميات حركات معارضة كثيرة فما تقدمت خطوة نحو الواقع وفهمه والتفاعل به وتغييره، وما زادها هيامها وراء النماذج العالمية غير مزيد من التمزق والتشتت والصراع الداخلي وتهميش كيانها، والواقع من حولها يتطور وحركات أخرى تبرز وهي مشغولة بالدفاع عن تلك العالميات ومحاولة إسقاطها على الواقع، يغني كل منهم على ليلاه. ولكنهم تنبهوا أخيرا إلى أن تغيير ظاهرة لا يتم إلا بمعرفة قانونها وذلك لا يتم إلا بتحليلها وفهمها بعيدا عن كل أفكار مسبقة، فكثفت دراستها للواقع التحامها به فكان ذلك عاملا فعالا في إعادة الاعتبار لها واتجاهها نحو توحيد صفوفها واعتبار العالميات كلها مجرد تجارب للاستفادة وليست نماذج للإقتداء.

 

إن الفكر الفعال لا يولد إلا من خلال تفاعله مع الواقع، وإنه لا وحدة إلا على صعيد الواقع، إعطاء حاجاته ومقتضياته الأولوية لا ينازعها أولويتها إلا صريح الوحي، ولا أمل في بناء أيديولوجي استراتيجي إسلامي إلا من خلال استيعاب كامل لمعطيات ذلك الواقع.

 

المصدر: موقع النهضة.نت

الأكثر مشاركة في الفيس بوك