منهج الفكر العقدي بين القديم والحديث

منهج الفكر العقدي بين القديم والحديث

عبد المجيد عمر النجار

 

تمهيد :

لعل أي علم من العلوم الإسلامية لم يحدث حوله من اللجاجة و الخصام قديماً و حديثاً بين طاعن منتقد ، و بين منتصر مؤيد ، مثلما حدث بالنسبة‌ لعلم الكلام . وما ذلك إلا لأن هذا العلم يتعلق بالعقيدة‌ التي هي رأس الدين وأسه ، فالاهتمام به إنما هو إهتمام بما هو باحث فيه .

 

ولما كان علم الكلام هو علم الدفاع عن العقيدة كما يبين منشؤه وسيرته طيلة مسيرته ، فإن خلاف المسلمين فيه ليس في جوهره إلا خلافاً في تقييم مدى ما استطاع أن يحققه من غاية الدفاع عن العقيدة و حفظها ، فالبعض رأي من المنافع التي تأتت للعقيدة بسببه إثباتاً لحقائقها ورداً لما يوجه إليها من الشبه و الطعنات ما يمتدح لأجله هذا العلم و ينصره ويؤازره ، و البعض رأي فيه من السقطات و الانحرافات التي ربما أضرت بالعقيدة ما جعله يرفضه و يطعن فيه .

 

و الحق أن أي علم باعتباره وجهاً من وجوه التفكير البشري ، عرضة لأن يمر في حياته بربى‌ يعلو فيها يتألق و يزدهر . وبوهاد يخبو فيها و يبهت ، وقد يسترخي و يتجمد ،‌ و ذلك لظروف وملابسات تاريخية و اجتماعية‌ و حضارية . إلا أن سقطات أي علم وضعفه و انحرافه لا ينبغي أن تكون إلا مثيرات للنظر في العلل و الأسباب ، و دوافع إلى الإحياء‌ و التجديد ليتفادى العلم أخطاءه ويتجاوز سقطاته وتعود إليه الحياة ليحقق الغرض المرسوم له . وعلم الكلام علم ذو مهمة‌ مستديمة ، حيث إن غايته الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، ومواجهة التحديات الفكرية التي تسعى‌ إلى‌ النيل منها ، إلا أنه قد سرى عليه قانون القوة‌ و الضعف و السداد و العثار ،‌وإذا كان قد أصابه في القرون الأخيرة من الانطواء و الضعف ما قعد به عن تحقيق الغرض المنشود ، فليس للمخلصين لهذا الدين أن يستبد بهم الغيظ حتى‌ يعلنوا الرفض المطلق لهذا العلم ، ويدعوا إلى نفض اليد منه ، و الابتعاد عنه باعتبار أنه أصبح عديم الفائدة ولا خير فيه ،‌بل إن الواجب يدعو إلى النظر في الأسباب التي أدت الى‌ تلك الحال . وتحليلها تحليلاً‌ علمياً ، ثم العودة إلى‌ مرحلة نشوء هذا العلم و مراحل اكتماله وازدهاره ، لتحقيق ما إذا كان قد قدم خيراً في تلك العهود ، وذلك بتحليل الغاية الأساسية التي من أجلها نشأ ، و بالنظر في المواضيع التي عالجها مقارنة‌ بالشبه التي وردت على‌ العقيدة‌، وبمقابلة الأساليب التي توخاها بالأساليب التي وردت بها تلك الشبه ، ثم بمقارنة العقيدة كما هي متصورة عند المسلمين و قد قام علم الكلام لنصرتها ،‌بصورة‌ متخيلة لهذه العقيدة لو لم يكن عل الكلام قد أحدث .

 

كل هذا تمهيداً لبعث هذا العلم من جديد ليستأنف سالف عهده في مواجهة التحديات الفكرية العاتية ‌التي تهاجم الاعتقاد في مواجهة التحديات الفكرية العاتية التي تهاجم الاعتقاد في هذا العصر ، و ذلك ببنائه على‌ أسس من تحليل الواقع الفكري في العصر الحديث ، لتبين مشاغل الفكر المعارض للدين ، و الشبه المستجدة‌ التي يتحدى بها التدين عموماً و دين الإسلام خصوصاً ، والأساليب التي تصلح لا قناع هذا الفكر بحقيقة‌ هذا الدين . وإن هذا العمل ليخدم العقيدة الإسلامية خدمة‌ جلى لو وجد النوايا الخالصة ‌و العزائم الصادقة‌، و الكفاءات الجادة‌ .

 

و في هذا البحث حاولت أن أبين الدور الذي قام به علم الكلام في الدفاع عن العقيدة الإسلامية طيلة قرون سبعة بتحليل التحديات التي وردت على‌ هذه العقيدة مضموناً و أسلوباً ، و المواجهة التي قام بها علم الكلام مضموناً و أسلوباً أيضاً ، ثم حاولت أن أبين حال الجمود التي آل إليها هذا العلم بعد ذلك ، مظاهر و أسباباً ، ثم حاولت أن أرسم خطاً عاماً‌ لما ينبغي أن يكون عليه علم الكلام الحديث في مواضيع البحث و في أساليب العرض ، وهي محاولة تثير الانتباه إلى النظر فيه أكثر مما تسهم في حله ، فإن هذه مهمة مناطة بعهدة جيل كامل ينبغي أن يتسلح بالإيمان ، و يحذق العلم و الفلسفة ، و أن تتضافر جهوده و تتكامل لتجديد علم الكلام حتى يقوم بمهمة الدفاع عن العقيدة‌ خير دفاع .

 

I - التحديات الواردة على العقيدة الإسلامية‌ :

 

ينبئنا تاريخ الفكر و الأديان أن كل عقيدة ‌سواء كانت سماوية ‌أو أرضية ، لا بد أن تواجه في حياتها تيارات فكرية معارضة لمضمونها أو لبعض مضمونها ، تسعى‌ إلى أن تقوض ذل المضمون أو تحرفه ، أو تجره إلى مضمون آخر معين ليصبح مشابهاً له أو مطابقاً ، وكثيراً‌ ما ينتهي هذا المسعى بالتقويض أو التحريف .

 

و لعل العقيدة‌ الإسلامية‌ قد واجهت من هذه التحديات الفكرية ما لم تواجهه أي عقيدة‌ أخرى ، وذلك سواء من حيث حدة‌ الاعتراضات وشمولها ،أو من حيث تنوع و تعدد الأطراف و الجهات المتحدية ، ولهذا أسباب متعددة منها :

 

سبب تاريخي : فقد ظهر الإسلام بعد كل الأديان السماوية ،‌ و بعد الكثير من مذاهب الهند و فارس ، و هذا جعل أصحاب هذه المذاهب و الأديان يروه فيه الخصم الفتي الذي تتوفر له حظوظ الغلبة‌ ، بما يفسد من معتقداتهم ببث معتقده السهل البسيط ،‌ومن طبيعة‌ الناس أن كل جديد تكون منه خشية ، وخاصة إذا ما تعلق بالعقائد و العادات ، و لهذا فقد هب الجميع إلباً واحداً يقاومون هذه العقيدة الجديدة‌، ويوردون عليها الشبه و الاعتراضات .

 

سبب ذاتي : فإن من أصول العقدية‌ الإسلامية أن هذا الدين يلغي كل مذهب و كل دين ، هو شامل بالخطاب لكل البشر ، فهو يدعي أنه هو الحق وكل ما سواه ينبغي أن يزول . وهذا المعني زاد الخصوم حدة في الطعن على هذه العقيدة ، وشراسة في استنباط التقويض ، ووفر من جهة أخرى فرصة الحوار مع كل الأديان والمذاهب باعتبارها تمثل طرفا واحدا ، وفي هذا الحوار ظهرت واضحة مضامين وأساليب ذلك الطعن في مختلف مسائله .

 

سبب سياسي : فمن مبادئ الإسلام أنه دين ودولة ، ولهذا فإن المسلمين قد حرصوا كأشد ما يكون الحرص على بسط نفوذ الدولة الإسلامية المتأسسة بالمدينة على كل الأرض التي تفتح ، وهذا أدى إلي غلبة المسلمين على الكثير من أهل تلك النظم والحضارات ، ولما أدركوا أن غلبة المسلمين إنما تمت بقوة في ذات عقيدتهم ،‌قصدوا إلي محاولة التشويه والنقض لهذه العقيدة بمختلف الأساليب .

 

سبب اجتماعي ثقافي : إن الذين دعوا إلي الإسلام واستجابوا له كانوا ينتمون إلي نحل وملل مختلفة ، والكثير منهم مع حسن نيتهم لم يستطيعوا التخلص من معتقداتهم القديمة ، فأصبحوا بذلك يفسرون الإسلام على ضوء رواسب مللهم ونحلهم ، وهذا مظهر من مظاهر المعارضة للعقيدة الإسلامية وإن تكن معارضة غير مقصودة من أصحابها .

 

نتيجة لهذه الأسباب تكاثرت الشبه والاعتراضات الموجهة للعقيدة الإسلامية ، حتى إنه لم تسلم منها مسألة‌ من مسائلها ، وتنوعت أساليبها وطرق هجومها .

 

وليس من هدفنا هنا أن نبين هذه التحديات ونتائجها ، وما عسى أن يكون وقع من إنحراف عقائدي عند بعض المسلمين نتيجة لهذه الشبهة أو تلك، ‌وإنما هدفنا أن نورد من هذه التحديات أهمها باعتبار خطورتها في ذاتها أو باعتبار ما أثرت في المسلمين ، وأن نحلل الطريق والأساليب التي وجهت بها ، وذلك حتى نتبين مقدار هذه الظاهرة وأهميتها من جهة ، ونوازن عند عرض جهود المتكلمين في الدفاع والمقاومة بين طرفي الهجوم والدفاع مضمونا وطرائق ، من جهة أخرى .

 

1- مضمون التحدي :

 

لقد وجهت التحديات بأشد ما يمكن إلي القضايا الأساسية في العقيدة الإسلامية‌، تلك التي لو سقطت منها واحدة لسقطت العقيدة بأكملها ،‌ومنها ما هو راجع إلي الألوهية ، كالقول بالتعدد ، والتشبيه والتجسيم ،‌والاتحاد والحلول ،‌ومنها ما هو راجع إلي النبوة ، كإنكار النبوة عموما ونبوة‌ محمد ( صلي الله عليه وسلم ) خصوصا ، والقول بتواصل الوحي متمثلا في مسائل الرجعة والمهدية والعصمة ، ومنها ما هو راجع إلي المعاد كنكران البعث ،‌ ونفي الجزاء .

 

( أ ) تعدد الاله : لقد واجه المسلمون فكرة تعدد الاله من جهات مختلفة أهمها المسيحية‌ وأديان الفرس .

 

فالمسيحيون كانوا يعتقدون التثليت « إذ أنهم أثبتوا لله تعالي أقانيم ثلاثة … ويعنون بالأقانيم الصفات كالوجود والحياة والعلم [1] » ، والأول هو الأب ، والثاني هو الروح القدس ، والثالث هو الابن ، وكانوا يبثون هذه المقالة في الناس – والمجتمع الإسلامي حافل بهم – ويدعمونها بالأدلة في مناقشاتهم ومناظراتهم للمسلمين متدرعين بالأساليب المنطقية الفلسفية لإثبات تجسد الكلمة في المسيح ، وشرح كيفية ذلك التجسد وغير ذلك .

 

ولم يكتف المسيحيون بذلك الإثبات إلههم بل امتدت أيديهم إلي العقيدة الإسلامية لتغييرها لتصير مشابهة لعقيدتهم ، فقد كانت لهم مشاركة في مسألة كلام الله التي ثارت بين المسلمين ،‌ وكانوا يشجعون القول بقدم القرآن قاصدين بذلك الانتهاء بالعقيدة الإسلامية الموحدة إلي إثبات قديمين وبالتالي إلي إثبات إلهين : ذات الله ، وكلامه ، على غرار ذات الله عندهم وكلمته المتجسدة في المسيح ، ويثبت هذا المعني ما ذكره ابن النديم من أن عبد الله بن محمد بن كلاب القطان ( 420هـ ) كان يقول إن كلام الله هو الله ، وكان عياد بن سليمان يقول إنه نصراني بهذا القول ، وأن العباس البغوي قال : « دخلنا على قثيون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي فجرى الحديث إلي أن سألته عن ابن كلاب فقال رحم الله عبد الله كان يجيئني فيجلس إلي تلك الزاوية‌ وأشار إلي ناحية من البيعة وعني أخذ هذا القول ولو عاش لنصرنا المسلمين » [2] ، ورغم أن هذه الرواية يظهر فيها التحامل على ابن كلاب السني الذي لم يؤثر عنه هذا الرأي ، إلا أنها تدل على ما كان المسيحيون يبثون في المسلمين من القول بالتعدد على هذه الطريقة .

 

وربما كان أخطر من المسيحيين في بث هذه المقالة ، وإفساد فكرة التوحيد ، أهل أديان فارس الثنوية من مانوية ومزذكية وديصانية وغيرها ، فكل هذه الأديان تتفق في عقيدة « أن العالم مركب من شيئين :‌نور وظلمة . هما قديمان لم يزالا ولا يزالان ، وقالوا :لم نر إلا حساسين قويين داركين سميعين بصيرين ، وهما مختلفان في النفس والصورة ، ومتضادان في العقل والتدبير ، فجوهر النور فاضل حسن مختص بالصفاء والنقاء ‌وطيب الريح وحسن المنظر … وجوهر الظلمة على ضد ذلك من النقص والكدورة ، ونتن الريح ، وقبح المنظر … » [3] .

 

وقد حارب هؤلاء التوحيد الإسلامي سرا وعلانية وبالأخص منهم المانوية‌ والمزدكية ، ووجهوا لنقضه شبها كثيرة دعموها بأدلة عقلية من مثل قولهم :« إن الخير والشر يستحيل مع تضادها وقوعهما من فاعل واحد كما يستحيل أن يحصل التبريد والتسخين بالشيء الواحد والتبييض والتسويد بالشيء الواحد … فإذا وجب إثبات فاعلين لهما لم يصح إثبات محدث للعالم سواه فيجب إثبات أصلين قديمين » [4] . وكان لهذا الرأي كثير من الدعاة المتكلمين في الأوساط الإسلامية مثل ابن طالوت ، وابن الاعدى الحريزي ، وعبد الكريم بن أبي العوجاء وصالح بن عبد القدوس ، وكان « لهؤلاء كتب مصنفة في نصرة الاثنين ومذاهب أهلها ، وقد نقضوا كتبا كثيرة صنفها المتكلمون في ذلك » [5] ، كما كان له دعاة من الشعراء والكتاب من مثل بشار بن برد ، وإسحاق بن خلف ، وأبي عيسى الوراق وأبي العباس الناشئ [6] ، وكذلك أبي العتاهية وعبد الله بن المقفع ،‌فقد ألبس هؤلاء الاثنينية ثوب الفن شعرا ونثرا ،‌وقدموها للناس لتمر إليهم في نشوة الطرب ، وتصبح بالمعاودة والتكرار عقيدة لهم ، ومثال هذا ما ورد عن أبي العتاهية في قوله :

 

لكل إنسان طبيعتان == خير وشر وهما ضدان

وفي قوله :

 

استغفر الله من ذنبي ومن سرفي == إني وإن كنت مستورا لخطاء

لم تقتحم بي دواعي النفس معصية == إلا بيني وبين النور ظلماء

 

(ب) التجسيم والتشبيه : ومعناهما الاعتقاد بأن الله تعالي جسم أو في هيئة الأجسام ، فيلحقه من الأحكام ما يلحقها ،‌وأنه يماثل في أوصافه وأفعاله واهتماماته المخلوقات . وقد كان موجودا في المجتمع الإسلامي من يعتقد هذا الاعتقاد ويروجه بين الناس ، وعلى الأخص اليهود وبعض الثنوية ، المتأثرون ببعض آراء الفلسفة اليونانية .

 

فاليهود كانوا على شيء كثير من التجسيم والتشبيه كما تنطق بذلك توراتهم ، فالله عندهم يشبه الإنسان تماما ، فهو « قد اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه » [7] ، والنبي يعقوب عليه السلام « صارع ربه ليلة بتمامها وهو لا يعرف من هو ، فلما انسلخ الصباح عرف أنه الله … فلما عرفه أمسكه فقال له ربه : أطلقني . فقال له يعقوب :‌لا أطلقك حتى تبارك علي » [8] . وقد كانوا سواء منهم الباقون على دينهم ، أو الذين أظهروا الإسلام ، أو الذين أسلموا حقا من ذوي العقول الضعيفة كانوا يفشون هذه التجسيمات والتشبيهات في أوساط المسلمين ، وذلك إما بإثباتها صريحة من قبل من بقوا على يهوديتهم خلال مناقشاتهم للمسلمين ،‌وإما بصوغها في شكل أحاديث ونسبتها كذبا إلي الرسول (‌صلي الله عليه وسلم ) من قبل الذين أظهروا الإسلام ، وإما بإدخالها أخبارا في شروح العقيدة وخاصة عن طريق التفسير من قبل الذين أسلموا من ضعفة العقول ، يقول الشهرستاني متحدثا عن هذا المعني : « وزادوا { أي المجسمة } في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلي النبي عليه الصلاة والسلام وأكثرها مقتبسة من اليهود فإن التشبيه فيهم طباع » [9] .

 

والثنوية كانوا على شيء من التجسيم في عقيدة النور والظلمة . فالنور أحد الإلهين يصفونه بالمحدودية من الجهة التي يلاصق فيها الظلام ، وبالتالي فالظلام هو محدود أيضا ، يقول البغدادي في معرض حديثه عن الكرامية : « وهذا شبيه بقول الثنوية إن معبودهم الذي سموه نورا يتناهي من الجهة التي يلاقي فيها الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات » [10] . والمزدكية كان من عقيدتهم أن الله جالس على كرسيه في العالم الآخر على هيئة جلوس الملك ( خسرو ) في العالم الأسفل [11] . كما كان بعض الثنوية‌ يعتقدون بتغير الإله وقيام الحوادث به فعندهم أن الاله ( يزدان ) فكر في نفسه « أنه يجوز أن يظهر له منازع ينازعه في مملكته فاهتم لذلك ، فحدثت في ذاته عفونه بسبب هذه الفكرة فخلق منها الشيطان » [12] .

 

والمتأثرون بالفلسفة اليونانية تأثرا مباشرا أو عن طريق مذاهب أخرى متأثرة بها كانوا يعتقدون بوجود مادة قديمة مطلقة تحدث فيها الحوادث ، وقد اعتقد البعض أنها أصل الوجود ، وصبغتها صفة الأزلية بصبغة الألوهية ، وكان هذا الرأي معروفا لدى المسلمين رائجا بينهم حتى إن البغدادي يحاول أن يرجع قول الكرامية بقيام الحوادث بذات الله إلي التأثر به فيقول : « وهذا نظير قول أصحاب الهيولي كانت في الأزل جوهرا خاليا من الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها ، وهي لا تخلو منها في المستقبل » [13] .

 

(جـ) الإتحاد والحلول : وكلاهما يعني اختلاط ذات الله أو جزء منها بذات الإنسان جزئيا أو كليا . إلا أن الاتحاد يكون بصعود الإنسان إلي الله والحلول بنزول الله إلي الإنسان .

 

وقد كان لهذا المعتقد منتصرون يعيشون في الأمة الإسلامية ويدعون إلي معتقدهم طعنا على التزيه الإسلامي المطلق ، يقول البغدادي : « الحلولية في الجملة عشر فرق كلها كانت في دولة الإسلام ، وغرض جميعها القصد إلي إفساد القول بتوحيد الصانع » [14] .

 

وعلى الرغم من أن اليهودية ليس من عقائدها الواضحة هذا المعتقد فإننا نجد أول من روج الحلول بين المسلمين ودعا إلي إعتقاده رجل يهودي أظهر الإسلام هو عبد الله بن سبأ الذي « كان يزعم أن عليا هو الله تعالي » [15] بحلول جزء إلهي فيه ، فهو لذلك يجب أن يعبد .

 

ويذهب البعض إلي أن مبدأ الحلول يمتد إلي العقيدة الثنوية ، وأن « الذين ألهوا عليا محيون عقائد قديمة‌ لها صلة بعقيدة النور القديمة على صورها المختلفة التي عاشت في أرض العراق في عصور عريقة في القدم التي هي الأساس لمذاهبهم المختلفة » [16] .

 

وقد كان أتباع الأديان الهندية كالبرهمية والبوذية ، والمتأثرون بهم يعتقدون بالاتحاد والحلول ، وكانوا يروجون هذه العقيدة وعلى الأخص في شكل التصوف الغالي .

 

على أن أكثر من أوغل في عقيدة الحلول ، وأشد من فلسفها ونصرها بالأدلة ، ودعا إليها لتقويض عقيدة الإسلام هم المسيحيون ، فأكثرهم على أن المسيح يجمع بين طبيعة إلهية و طبيعة إنسانية ، لأنه كلمة الله التي حل في مريم فولدت إليها قديما ، وقد قصد هؤلاء إلي أن يفعلوا بقرآن المسلمين وهو كلام الله مثلما فعلوا بالمسيح كلمة الله كما تقدم .

 

( د ) إنكار النبوة : لقد كانت بعض النحل المتواجدة بالمجتمع الإسلامي تنكر مبدأ النبوة أساسا ، وقد اشتهر بهذا من أديان الهند البرهمية ، فقد أنكرت الامكان العقلي للنبوة فضلا عن الوقوع الفعلي ، وقد أورد البراهمة والمتأثرون بهم شبها كثيرة في هذا المعني صاغوها في أدلة عقلية وهاجموا بها أهل النبوات عموما والمسلمين خصوصا ،‌وقد ذكر منها القاضي عبد الجبار كبيرة ورد عليها في كتابه « المغني » [17] .

 

ولئن كان اليهود والنصارى يؤمنون بالنبوة إلا أنهم كانوا ينكروان نبوة محمد ( صلي الله عليه وسلم ) ، معتمدين على إنكار جواز النسخ تارة وعلى ما زعموا من تناقض ما جاء به النبي عليه السلام أخرى ، ولهم في ذلك وخاصة اليهود جولات كبيرة مع المسلمين نجد بعضا منها في كتاب « الرد على ابن النغريلة اليهودي » لابن حزم الظاهري .

 

(هـ ) الرجعة والمهدية : ومعناها أن النبي أو الإمام يتغيب عن الناس والعالم أحقابا من الزمن ،‌لكنه لا بد أن تكون يوما رجعة يقيم فيها العدل ويكون مؤزرا فيما يأتي به بوحي إلهي .

 

وقد كان هذا المبدأ مما يقول به اليهود فهم يعتقدون أن نبيهم عزيرا « أماته مائة عام ثم بعثه » [18] ، كما كان بعضهم أن هارون قد تغيب وسيرجع إليهم . وربما كان أول من دعا إلي هذه العقيدة بين المسلمين هو عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل ، فقد زعم أن عليا رضي الله عنه لم يمت وإنما تغيب وسيرجع يوما مؤيدا بالوحي يهدي الناس إلي الحق ،‌بل كان أتباعه السبئية « يزعمون أن عليا شريك النبي ( صلي الله عليه وسلم ) في النبوة وأن النبي مقدم عليه إذ كان حيا ، فلما مات ورث النبوة فكان نبيا يوحي إليه » [19] .

 

ويقول بهذا المبدأ أيضا المانوية والمزدكية ، فعندهم أن أنبياءهم لم يموتوا ، ولكنهم تغيبوا لمدة معينة ثم يرجعون ليقيموا الحق ويظهروه على الناس .

 

وربما كان أخطر ما تؤدي إليه هذه المعتقدات هو فكرة استمرارية الوحي بعد محمد عليه السلام ، وهو ما يعارض مبدأ إسلاميا أساسيا هو مبدأ تعطيل النبوة ، وتظهر خطورة‌ هذه الفكرة فيما آل إليه الأمر من ظهور الكثير من التنبؤات في التاريخ الإسلامي .

 

( و ) نكران البعث : لقد أنكر البعث وما يتبعه من الجزاء على المفهوم الإسلامي كليا أو جزئيا كثير ممن ينتسبون إلي أديان الهند وخاصة البراهمة ، وكذلك السمنية [20] ، والمانوية ،‌والمتأثرون بالفلسفة اليونانية .

 

ويظهر هذا الانكار عند أديان الهند وفارس فيما ذهبوا إليه من عقيدة التناسخ ،‌وهو عندهم « رد الروح إلي بدن غير البدن الأول » [21] وقد ذهب هؤلاء كما حكى الأشعري عن أهل الغلو المتأثرين بهم إلي أن قالوا : « ليس قيامة ولا آخرة ، وإنما هي أرواح تتناسخ في الصور ، فمن كان محسنا جوزي بأن ينقل روحه إلي جسد لا يلحقه ضرر ولا ألم ، ومن كان مسيئا جوزي بأن ينقل روحه إلي أجساد يلحق الروح في كونه فيها الضرر والألم ، وليس شيء غير ذلك – وأن الدنيا لا تزال أبدا هكذا » [22] وفي هذا المبدأ تعطيل مطلق لعقيدة البعث الإسلامية . كما أنه تحريف لعقيدة الجزاء في مفهومها الإسلامي حيث قد « ذهب هؤلاء إلي أن التناسخ إنما هو على سبيل الثواب والعقاب » [23] وهو في الإسلام حساب يعقبه ثواب وعقاب روحيان وبدنيان . وقد تأثر بهذه العقيدة وأخذ يدعو إليها بعض ممن ينتسبون إلي الإسلام مثل أحمد بن حابط وأحمد بن نانوس تلميذه وأبي مسلم الخراساني (تـ 137 هـ ) ومحمد بن زكريا الطبيب ( 251 – 311 هـ ) [24] .

 

ونجد بعض الفلاسفة الإسلاميين مثل ابن سينا [25] قد وقعوا في اضطراب في عقيدة البعث من حيث كيفيتها ، وذلك بسبب ما كان عليه الفلاسفة اليونانيون الذين يتبعونهم في هذا الشأن ، من اعتبار أن البعث يكون بعثا روحيا فقط ، وهو ما تخالفه ظواهر النصوص القرآنية ، ومن اعتبار أن الثواب والعقاب يكونان تبعا لذلك روحيين فقط ، وهو ما تخالفه أيضا ظواهر النصوص .

 

2- أساليب التحدي :

 

إن أصحاب المبادئ والمعتقدات السابقة والمروجين لها في الأوساط الإسلامية قد سلكوا في سبيل تسربيها إلي العقيدة الإسلامية ، أو جر هذه العقيدة إليها أساليب وطرقا مختلفة ، حسب اختلافات عقليات معتقديها ، وحسب اختلاف طبيعتها ذاتها . ويمكن أن نرجع هذه الأساليب إلي ثلاثة أنواع هامة : أسلوب إخباري ، وأسلوب فلسفي ، وأسلوب ذوقي .

 

( أ ) الأسلوب الاخباري : وهو أن يعمد المخالفون إلي اصطناع أخبار تخص مسائل العقيدة ، وتتضمن ما يوافق معتقدهم ويخالف المعتقد الإسلامي ، ‌أو نقلها من مصادر مذاهبهم وأديانهم ، ثم يقحمونها ضمن المصادر التي يتجه إليها لتصور عقيدتهم ، وخاصة الحديث الشريف ، وبذلك تصبح مضامين تلك الأخبار – على قصدهم – ضمن المعتقد الإسلامي .

 

ولعل أكثر ما يتمثل هذا فيما عرف في الثقافة الإسلامية بالإسرائليات ، وهي تلك الأخبار والأحداث والقصص التي كانت رائجة بين اليهود في التوراة والكباري ، وقذف بها جماعة ممن أسلموا منهم أو أظهروا الإسلام إلي الحديث الشريف على أنها من أقوال الرسول عليه السلام ، أو إلي تفسير القرآن على أنها من مدلولات آيات العقيدة وقصص الأنبياء على الأخص . ومن أشهر من قام بهذا الصنيع عبد الله بن سلام ( ت 43هـ)، ووهب بن منبه ( ت 114 هـ) وكعب الأحبار ( ت 32 هـ ) . ولعل هذا الأخير كان أمعن في إدخال هذه الأخبار الإسرائلية . فإنه كان واسع العلم بالكتب القديمة ، وكان منذ عهد عمر رضي الله عنه يعقد المجالس لقص القصص التي تصف مشاهد الجنة والنار على الأخص . وما كان يستطيع حينذاك أن يوغل في أخباره لتيقظ عمر ومراقبته ، ولكنه في عهد عثمان اهتبل فرصة الاضطراب السياسي والاجتماعي وبدأ هو كما بدأ غيره في تسريب الإسرائيليات إلي دائرة الحديث ، فظهرت الأحاديث التي تصف الله تعالي في ذاته وأفعاله بما يدل على التجسيم والتشبيه ، والأحاديث التي تثبت قضايا الوصية والمهدية والغيبة والرجعة وغيرها مما تزخر به التوراة والتلمود . ومهما يكن من أن بعض هؤلاء قد فعل ما فعل بحسن نية وبقصد الترغيب والترهيب ، فإن هذا العمل عموما يعد أسلوبا في محاولة تحريف العقيدة الإسلامية .

 

ولم يكن هذا الأسلوب مقتصرا على اليهود فقط ، بل كان يستعمله كثير غيرهم ، ومنهم بعض ممن كان ينتمي إلي الزندقة‌ [26] فقد كانوا لأسباب عقائدية أو سياسة يلفقون الأخبار والأحداث مما يتعلق بالعقيدة وغيرها ويدسونها في الحديث ، والقصد من ذلك إفساد الدين بافساد عقيدته ، يقول ابن الأثير : « فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم … فكان أول من فعل ذلك أبا خطاب محمد بن أبي زينب مولي بني أسد ، وأبا شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة » [27] . وممن شهر بهذا الصنيع شهرة واسعة عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قال لما قبض عليه من قبل المنصور : « لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة » [28] .

 

وربما تكون أهم الأسباب التي دعت هؤلاء المجتمعين على هدم العقيدة الإسلامية إلي اتخاذ هذا الأسلوب القائم على الوضع والدس السببين التاليين.

 

الأول : إن هذا الأسلوب أبلغ في تحريف العقيدة عند العامة ، أي عند أكبر عدد من المسلمين ، لأن هؤلاء يستطيعون فهم الأخبار والحكايات التي تلقي إليهم لخلوها من التعقيدات الفلسفية والعمق الفكري ، ثم إنهم مولعون بكل ما فيه مبالغة وتهويل مما يخص موضوعات وأشخاصا تحظى لديهم بقداسة ، فإذا ما ألقيت إليهم أحاديث من هذا النوع أرضت فضولهم فآمنوا بها واعتقدوها على حساب معتقدهم الإسلامي الصحيح .

 

الثاني : إن اليهود وهم أهم المستعملين لهذا الأسلوب والسابقون إليه ، لم يكونوا في العهد الإسلامي الأول قد فلسفوا عقيدتهم ولا أنشأوا لهم فيها علما عقليا كعلم اللاهوت المسيحي أو علم الكلام الإسلامي ، بل كانوا يحافظون على عقيدتهم على وجهها الخبري يساعدهم على ذلك مسلكهم الانعزالي ، ولم ينشأ عندهم البحث العقلي في العقيدة إلا بعد نشوء علم الكلام الإسلامي تأثرا بهذا العلم في أساليبه وحججه كما يثبت ذلك الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون [29] ؛ ولذلك فلم يكن اليهود في أول العقد يستطيعون أن يقحموا عقائدهم في العقيدة الإسلامية بأسلوب عقلي فلسفي يناقش قضايا العقيدة الإسلامية ويثبت العقيدة اليهودية ، فلجأوا إلي ذلك الأسلوب الاخباري .

 

(ب ) الأسلوب الفلسفي : وهو أن يعمد المخالفون إلي محاولة هدم المعتقد الإسلامي ، وإثبات معتقدهم بأسلوب فلسفي يقوم على الأدلة العقلية والبرهان الفلسفي .

 

وقد سلك هذا المسلك المسيحيون ، فإنهم كانوا قد أقاموا لهم قبل ظهور الإسلام علم لاهوت يشرح قضايا العقائدية ويبرهن عليها . ويقوم على قواعد المنطق الأرسطي ، ويستمد من نتاج الفلسفة اليونانية . فالفكر اللاهوتي المسيحي كان منذ القرون الأولي لظهور المسيحية ‌قد اتخذ لنفسه عبارة يونانية ، ثم إنه نشأ وتطور في بيئة يونانية بثقافتها وحضارتها ، ولقد كان معظم الآباء في الكنيسة الشرقية متشبعين بالفلسفة اليونانية ، وكان عدد منهم مثل يوستينوس في القرن الثاني ، وغريغوريوس النيسي في القرن الرابع كانوا فلاسفة قبل أن يصبحوا لاهوتيين [30] . يقول أوليري في هذا المعني : « إن الفلسفة الاغريقية السائدة قد سيطرت تماما على لاهوت الكنيسة ، فكان من الضروري أن يعبر عن قضايا اللاهوت بعبارات ملائمة تماما للفلسفة » [31] وقد استعمل هذا الأسلوب بوضوح أكثر في قضية المسيحيين الأولي ، وهي قضية الأقانيم بما تشمل من مسائل الجوهرية والحلول ، وطبيعة المسيح ، فإن المسيحيين قد درسوا في الفلسفة اليونانية مسألة الجوهر ، والفيض ، والنفس وأحكامها ، والعقل وأنواعه ، وجعلوا من بعض الآراء فيها مقدمات انطلقوا منها لتأييد عقيدتهم . فكلمة الله التي هي المسيح قد جعلها اريوس بمعني عقل الله ،‌وعلاقة الأبوة بين المسيح والله قد فسرها بعضهم بالفيض ، و جعلوه فيضاً أزلياً لاثبات اً زلية المسيح ، و هو علي غرار الفيض الافلوطينى ، و تفسيرات طبيعة ا لمسيح من كونه لا هوتاً صرفاً اًو مزيجاً منهما قد استفاد من دراسة النفس في الفلسفة اليونانية‌ .

 

وقد استعمل الأسلوب الفلسفي أيضا المجوس في شروحهم لمبدأ الاثنينية وفي الاستدلالات التي ساقوها لاثبات الالهين القديمين ،‌وقد بدا في ذلك تأثره واضحا بالفلسفة اليونانية ومنطقها ، فمزدك نجده يرجع الأصلين القديمين للعالم عند سابقيه النور والظلمة إلي أصول ثلاثة : الماء والنار والأرض ، اختلطت فحدث من اختلالها على نسب متساوية مدبر الخير ومدبر الشر ، وهذه الأصول مما قال به فلاسفة اليونان الطبيعيون [32] . وإن الأدلة التي ساقها أصحاب الاثنين لاثبات الاثنينية ليظهر فيها واضحا التأثر بالمنطق اليوناني ، ويبدو هذا في قولهم مثلا : « قد ثبت أن يكون الفاعل الواحد خيرا شريرا يتنافى كتنافي كونه عالما بالشيء جاهلا به فيجب أن يكون الفاعل للخير غير فاعل للشر » [33] ، وقولهم : « لو صح كون الفاعل الواحد خيرا شريرا ، لصح كونه ممدوحا مذموما مستحقا للتعظيم والتبجيل والاستخفاف والاهانة ، فإذا تضاد ذلك ، وجب استحالة‌ كونه خيرا شريرا ، فيجب لذلك إثبات فاعلين وأصلين أحدهما يكون منه الخير ، والآخر يكون منه الشر » [34] .

 

ونجد أتباع أديان الهند وخاصة البراهمة قد اتخذوا في إثبات معتقدهم أسلوبا فلسفيا منطقيا ، وعلى الأخص في إنكار النبوة ، ومن ذلك قولهم مثلا: « لو صح النبوات لوجب أن يجوز أن يوجبوا ما ليس في العقل وجوبه بل ما يقتضي العقل قبحه كنحو الصلاة والصيام إلي ما شاكل ذلك ، وأن يحرموا ما تقرر في العقل حسنة ، كالمنافع واللذات ، وأن يبيحوا ما يحظره العقل كذبح البهائم إلي ما شاكله ، وذلك مخالف لما في العقول . وإنما يجوز من الحكيم أن يبعث رسوله بما لا يخالف ما يجري مجري الشاهد ؛ لأن الرسول ، وما يعلم من قبله مع العقل المرتب الذي لا يزايله بمنزلة لأجل عقله المرتب القائم ، فكيف يجوز أن يرد بخلاف ما يتضمنه ويقتضيه ؟ فهذا سبيل فساد القول بالبعثة » [35] .

 

وإذا كانت العقيدة الإسلامية قد واجهت المطاعن بالأسلوب الفلسفي في الفكر الديني وعلى الأخص المسيحي ، فإنها قد واجهت هذا الأسلوب في صورة ‌أعتى وأشد في تحديات الأفكار اليونانية التي تتلاقى معها في الموضوع ، وذلك لأن الأسلوب الفلسفي المنطقي إنما قد أساسا لاخراج النتاج العقلي اليوناني فاكتسب من ذلك القوة والاستحكام ، في حين أنه استعمل في إخراج العقائد المسيحية وغيرها على وجه الاقتباس .

 

لقد كانت الفلسفة اليونانية مناقضة في عموم مواضيعها الميتافيزيقية للعقيدة الإسلامية ، ونذكر من ذلك على سبيل المثال صورة الله عند أرسطو الذي كانت آراؤه أكثر رواجا في العالم الإسلامي ، فهو عنده المحرك الذي لا يتحرك ، والذي يترك العالم وشأنه بعد تحريكه الأول دون العلم بما يجري فيه من الجزئيات ، وعنده أيضا أن هذا العالم أزلي قديم ، والبعث لا يكون إلا بالأرواح ، والثواب والعقاب لا تنالهما إلا الأرواح دون الابدان بحسب ما حصلت من العلم والتقوى والبعد عن شهوات البدن ، وكل هذه المبادئ كانت مصاغة في أسلوب منطقي .

 

وقد قابلت عقيدة الإسلام اليونانية منذ بدء غزوات المسلمين في مختلف البلاد ، وكانت تقاوم العقيدة الإسلامية بأسلوبها العقلي المنطقي ،‌سواء عن كيد وبغية وتحطيم كما كان يفعل مناطقة النصارى لما اعتقدوا أن هذه الفلسفة إذا نقلت إلي المسلمين ستكون إحدى الوسائل لتقويض العقائد الإسلامية ، أو عن حسن نية كما في محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين مثلما فعل الفلاسفة الإسلاميون من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد.

 

(جـ ) الأسلوب الذوقي : لعل هذا الأسلوب هو أخطر ما واجه العقيدة الإسلامية من أساليب الطعن ، وأكثر ما كان له تأثير فيها بين المسلمين ، وهو ما يظهر عموما في محاولة هدم مسائل العقيدة وتمرير المفاهيم المناقضة لها على طريقة ذوقية روحية يحصل بها التصديق بالمفاهيم بنوع من الكشف المباشر الذي تلقي فيه الأفكار في النفس إلقاء في غيبة المقاييس العقلية .

 

وقد تمثل هذا الأسلوب في مظهرين متقاربين إلي حد التداخل في كثير من الأحيان هما التصوف والغنوص .

 

أما التصوف فيقوم على فكرة تطهير النفس وتصفيتها من مشاغل المادة للاقتراب شيئا فشيئا من الحق ( الله ) ثم الوصول إليه فتحصل حينذاك السعادة بنيل الحقيقة العظمى ، وتتعطل كل المفاهيم والاعتبارات العادية والعقلية والشرعية ، ولهذا التصوف جانب عملي يقوم على أعمال وتراتيب صارمة .

 

وأما الغنوص فهو لفظة يونانية الأصل معناها المعرفة ثم أخذت اصطلاحا معني المعرفة الكشفية . ويقوم الغنوص على فكرة الصراع العارم في الإنسان بين قوي الخير فيه وقوي الشر ،‌والنفس الإنسانية تروم من هذا الصراع الخلوص من دواعي الشرور والرجوع إلي أصل خلقتها الخيرة . إلا أن هذه الفكرة قد تلونت حسب الأديان والمذاهب التي تبنتها وإن حافظت على مبدئها الأساسي .

 

وقد تضافرت جهود التصوف الغالي وجهود الغنوصية في نقض العقيدة الإسلامية المحددة المضبوطة القائمة على الاقتناع العقلي ، وكان هذا مدخلا عريضا لكثير من الكائدين للإسلام ليقذفوا بمبادئ تناقض مناقضة مبادئه ، بل وتهدم كيانه النظري والعملي ، وذلك مثل أفكار الاتحاد والحلول ، ووحدة الوجود ووحدة الأديان ، وتعطيل ظاهر الشريعة وتأليه بعض الأشخاص ، ونكران البعث وكل ذلك بسلوك مسلك التزهد والخلوة وقهر الجانب المادي الذي هو شر ، وإحياء الجانب الروحي للوصول إلي السعادة وإلي اليقين .

 

وربما كان من المساعد على استعمال هذا الأسلوب الذوقي لتحريف العقيدة ، ما كان من دخول كثير من أهل الديانات وعلى الأخص ديانات الفرص والهند إلي الإسلام ، فإن هؤلاء كانت عندهم القابلية لتقبل هذه الطريقة وذلك للرواسب التي ورثوها عن الآباء والأجداد في هذا الباب ، فاستغلت فيهم هذه القابلية وأزلقت إليهم التحريفات التي نراها عند الحلاج والصهروردي وعند ابن المقفع وبشار وأبي العتاهية وبابك الخرمي .

 

ومن أبرز عناصر الخطورة في هذا الأسلوب أنه يبدأ بظاهر سليم لا يلفت الانتباه ، ولا يثير التحرز ، ولكنه ينتهي إلي أوخم العواقب ، وقد وصف هذا الخليفة المهدي لابنه موسى الهادي في وصايته له بمكافحة أهل هذا الأسلوب قائلا : « إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة – يعني أصحاب ماني – فإنها فرقة تدعو الناس إلي ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة ، ثم تخرجها إلي تحريم اللحم ومس الماء الطهور قتل الهوام تحرجا وتحوبا ، ثم تخرجها من هذه إلي عبادة إثنين : أحدهما النور والآخر الظلمة » [36] .

 

I- علم الكلام في طور المواجهة :

 

إن التحديات السالفة الذكر لهي من الحدة والتركيز بحيث تشكل خطرا حقيقيا على العقيدة الإسلامية ، وقد ظهر تأثيرها في غير ما موضع . وإن أي عقيدة لهي عرضة لأن تعمل فيها عوامل الزمن وملابسات الاجتماع البشري فتغير من أصلها الذي كانت عليه في أذهان معتنقيها ، وليس ببعيد أمر اليهودية التي آلت عقيدتها إلي التجسيم الغليظ في حق الله تعالي ، ولا أمر المسيحية لاتي آلت عقيدتها إلي التثليت والحلو ، كل ذلك بعد صفاء التنزيه والوحدانية .

 

ومع أن الله تعالي قد وعد المسلمين بأنه سيحفظ لهم دينهم ( أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر : 9) ، فإنهم لما أحسوا بأن خطرا امتد إلي مفاهيم العقيدة نهضوا للقيام بعمل عقلي ، يهدف إلي رد هذا الخطر محافظة على تلك المفاهيم كما جاء بها الوحي ، وقد تمثل عملهم ذلك في علم أصبح واحدا من أهم العلوم الإسلامية هو « علم الكلام » ، وقد مر هذا العلم بمراحل قوة‌ كما مر بمراحل ضعف شأن الحضارة الإسلامية‌ بأكملها ، مع اتصافه دوما بصفة الدفاع والمواجهة .

 

1- الصبغة الدفاعية لعلم الكلام :

 

يعتبر علم الكلام استجابة لظروف التحدي التي أحدقت بالعقيدة الإسلامية ، ووجها للمواجهة‌ الفكرية التي واجه بها المسلمون التحديات الفكرية ‌الواردة على القعيدة ، فهو علم غايته دفاعية ، فجاء دفاعيا في بنيته وأساليبه ، وكانت روح الدفاع هي التي تسيطر عليه وتسير دفته وتضبط طرائقه وترسم مناهجه عند كل من اشتغل به على مختلف الفرق .

 

إلا أننا نجد بعض الباحثين قد جافوا الحقيقة عندما نظروا من علم الكلام إلي سطحه المتمثل فيما جد فيه من الخلافات والخصومات بين الفرق الإسلامية ، فوصفوه بسبب ذلك بأنه رب من اللجاجة والترف الفكري ، وذلك لأنهم لم يدركوا ما تحت ذلك السطح – مهما أصابه من الاضطراب – من الروح التي عليها قام وبها سرا ، وهو ما عبر عنه أبو حامد الغزالي أحسن تعبير حينما قال في مجال الرد على الفلاسفة : « أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت ، فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعا بإلزامات مختلفة ،فألزمهم تارة مذهب المعتزلة ، وأخرى مذهب الكرامية ، وطورا مذهب الواقفية ، ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص ،‌بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم ، فإن سائر الفرق ربما خلفونا في التفصيل ، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين ، فلنتظاهر عليهم ، فعند الشدائد تذهب الإحن » [37] . ومع هذا فإنه ربما يكون علم الكلام قد وقع أحيانا في بعض المغالاة في الجدل الجانبي الذي لا طائل تحته ، أو قد بحث في مواضيع لا تحتاج إلي بحث ، إلا أنه بقي في روحه طيلة القرون الأولي علما دفاعيا .

 

ويمكن استجلاء هذا المعني بتتبع الظهور التاريخي لمسائله مقارنة بظهور الشبه المناسبة لها ، وبالموازنة بين تلك المسائل في أسبقية ظهورها وفي الأهمية التي أعطيت للبحث فيها ، وهذا ما سيتضح عند البحث في مظاهر المواجهة .

 

وسنحاول قبل ذلك استجلاء هذا المعني بتتبع التعاريف التي عرف بها هذا العلم في مختلف العصور .

 

لعل أسبق التعاريف التي وصلتنا عن علم الكلام هو تعريف الفارابي الذي أورده في كتابه « إحصاء العلوم » والذي يقول فيه : « صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضح الملة‌، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل » [38] .

 

أما تعريف عضد الدين الايجي مع شرح السيد الشريف الجرجاني فهو : « الكلام علم بأمور يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية‌ على الغير و إلزامه إياها بإيراد الحجج عليها و دفع الشبه عنها » [39] .

 

وقد عرفه ابن خلدون بأنه « علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة » [40] .

 

كما عرفه طاش كبرى زاده بأنه « علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها » [41] .

 

فبالنظر في هذه التعاريف نظرة مقارنة نجد أنها في جملتها قد حددت لعلم الكلام وظيفتين : الأولي : إثبات العقائد الدينية بالأدلة العقلية ، والثانية: رد الشبهات التي يوردها المبتدعة على العقائد بالأدلة العقلية أيضا . والوظيفتان معا تنتهيان إلي غاية واحدة تصبحان بإزائها وظيفة واحدة هي الدفاع عن العقائد الدينية التي أتي بها الشرع . وإنما كانت هناك وظيفتان تنتهيان إلي غاية واحدة لأن الدفاع في مثل هذا المجال يتطلب عملين متوازيين : عمل يتجه إلي تناول الشبه الواردة نفسها بالنقض والتزييف ، وهو ما عبرت عنه هذه التعاريف بـ « دفع الشبه » ، وعمل يتجه إلي بيان صحة المعتقد في ذاته ؛ وذلك بقصد تحصينه تجاه ما قد يورد عليه من المطاعن ، وهذا هو ما عنته التعاريف بـ « إيراد الحجج» ، وهو ما بينه بوضوح الجرجاني بقوله : « إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامه إياها » .

 

إن هذا الطابع الدفاعي لعلم الكلام لئن كان وليد الضرورة المتمثلة في الشبهات الواردة على العقيدة إلا أن طبيعة العقيدة الإسلامية ذاتها كان لها دور في وجود هذا الطابع دون غيره ، وهو ما يفسر عدم انزلاق هذا العلم إلي متاهات الشروح والتفسيرات . كما آل إليه علم اللاهوت المسيحي وهو المشترك مع علم الكلام في الموضوع ، وهذه ظاهرة تحتاج إلي مزيد من التوضيح .

 

إن التعاليم الإسلامية المتعلقة بالعقيدة تتسم بالوضوح والبساطة ، فالإله واحد مطلق الوحدانية ، متفرد بالخلق مطلق التفرد ، متصف بصفات الكمال المطلق ، وهو يرسل إلي الناس ليبينوا لهم طريق الحل ، فيكون هؤلاء مسؤولين يترتب على مسؤوليتهم الثواب والعقاب في الدار الآخرة .

 

ولهذه البساطة وهذا الوضوح فإن العقول إزاء هذه العقيدة سيكون موقفها موقف القبول أو الرد ، وليس موقف طلب الشرح والتوضيح ، ولذلك فإن المتكلمين لم ينتجوا علما شارحا ، ولكن اتجهوا إلي الإثبات والردود : الإثبات العقيدة ، والرد على من طعن فيها بعيدا عن الخوض في كيفيات المسائل ، إلا أن تكون كيفية الثبوت ككيفية ثبوت العدل لله تعالي هل يكون بإثبات خلق العبد لأفعاله كما ذهب إليه المعتزلة ، أو يكون مع التسليم بأن هذه الأفعال مخلوقة لله كما ذهب إليه أهل السنة .

 

ثم إن حقائق العقيدة الإسلامية هي حقائق لا تتجاوز نطاق العقل ، وإنما هي في حدوده وإمكاناته ،‌بل إن التصديق بها لا يكون تصديقا معتدا به من الوجهة الإسلامية إلا إذا كان ناشئا عن اقتناع عقلي ، ولذلك فقد كان القرآن الكريم شديد الإلحاح على استعمال العقل للإيمان بالعقيدة . وهو ما جعل همة العقول في علم الكلام لا تتجه إلي تفسير المسائل في ذاتها وتحليلها وشرحها ، باعتبار أن ذلك لا يستعصي على العقول فهمه ، إذ هي معقولة ‌خاضعة لسلطان العقل ، وإنما اتجهت لإثبات وجودها إما بالأدلة ‌عليها أو برد الاعتراضات .

 

ولعل هذا المعني يكون أكثر وضوحا بالمقارنة بالعقيدة المسيحية ، فهذه في كثير من مسائلها تتسم من جهة بالمغموض والتعقيد ، وتقوم من جهة أخرى على « المسلمات » التي لا تدخل تحت طائل العقل ، بل ينبغي التصديق بها دون اعمال عقل في أمر ثبوتها ، ولذلك فإن همة عقول اللاهوتيين المسيحيين قد اتجهت إلي البيان والشرح لا إلي الإثبات ، إذ إن الإثبات مشكلة غير واردة في نظرهم على مسائل العقيدة ، وغير واقعة تحت طائلة العقل في كثير من الأحيان ، ولمفروض أن تحصل تسليما لا اقتناعا عقليا . ويتضح هذا بجلاء في مسألة التثليث . فالبحوث اللاهوتية فيها لم تتجه في معظمها إلي البراهين والأدلة لإثبات التثليث للاقتناع بوجوده عقليا بقدر ما اتجه إلي الشروح والبيانات للأقانيم من حيث طبيعتها وعلاقتها ببعضها ، وهل المسيح لاهوت كله أو ناسوت كله ، أو هو مزيح منهما ، وهل الذي صلب اللاهوت أو الناسوت أو هما معا إلي غير ذلك من البحوث التي لها طابع شرحي ، وقد عبر عن هذا المعني أحسن تعبير أحد اللاهوتيين المسيحيين بقوله : « ليس على الإيمان أن يجد مسوغات لذاته تجاه الالحاد ، بل تجاه ذاته » [42] ومؤداه أن قضية اللاهوت ليست قضية إثبات ليقتنع الملحدون، ولكن قضية شرح ليفهم المؤمنون الذين قد اقتنعوا مسبقا ، فكأن قضية الدفاع إذا قضية غائبة ، والمسألة مسألة شرح .

 

وليس معني ما تقدم أن علم الكلام ليس فيه شرح قط ، وأن علم اللاهوت ليس فيه دفاع قط ، وإنما المقصود أن الروح العامة لكليهما كانت كما وصفنا ، وإلا فإننا نجد في علم الكلام مثلا بعض مظاهر الشرح وخاصة في مسألة الذات والصفات ، ومسألة كلام الله . وقد عد ذلك من قبل كثير من المسلمين من سقطات هذا العلم لما فيه من مخالفة لروحه العامة التي هي الدفاع ، وانزلاق إلي شرح الكيفيات .

 

2- روح المواجهة في علم الكلام :

 

إن الغاية الدفاعية التي تغيى بها علم الكلام وطبعته بطابع دفاعي ، قد نتج عنها أن سرت في هذا العم روح المواجهة‌ والتصدي بحيث يحس الدارس لمسائله أن كل مسألة من تلك المسائل إنما استحدثت الآراء‌ فيها الأدلة وهيئت بحيث تواجه اعتراضا معينا . فكذلك كان العم بأكمله نشأن بروح المواجهة وعليها تطور .

 

ويمكن أن نستجلي هذا المعني في كل من الجانب التاريخي لنشوء علم الكلام وتكامل مسائله ، وفي نوعية تلك المسائل وتفاوتها في الأهمية .

 

( أ ) الجانب التاريخي : لم ينشأ علم الكلام زمن الرسول ( صلي الله عليه وسلم ) ، ولا زمن الصحابة ، وإنما ظهرت نواته أواخر القرن الأول ، وبدأ يتسع ويشتد إبتداء من أوائل القرن الثاني . وتعليل ذلك أن تلك الفترة الأولي لم تدع فيها حاجة إلي المواجهة لأنه لم يرد فيها تحد فكري على العقيدة . فلما كان أواخر القرن الأول بدأت بعض العقول في بحث مسائل عقدية كمسألة الإيمان ومسألة القدر انطلاقاً من أحداث تجري بالمجتمع الإسلامي كأحداث القتل المتعلل فيها بالقدر من قبل الأمويين ، وربما كان تلك البحوث تسفر عما هو مخالف للعقيدة الصحيحة أو يوهم بأنه مخالف لها ، وذلك إما تطرفا ذاتيا أو تأثرا ببعض الآراء الخارجية ، فظهرت آراء مخالفة لها تدعي تزييفها والكشف عن العقيدة الصحيحة في مواضيعها . ثم تطور الأمر بعد ذلك إلي طعن حقيقي في عقيدة الإسلام وفي أكثر من مسألة من مسائله ، وذلك من قبل أقوام أصحاب ملل ونحل منهم من هو على دينه صراحة ، ومنهم من التحف بالإسلام ولم يستبطنه ، وجمعهم الكيد للإسلام بالطعن في أسه العقدي « فأخذوا ينفقون من أفكارهم ويشيرون بحالهم ومقالهم إلي من يرى مثل آرائهم أن يقتدوا بهم ،‌فظهر الالحاد وتطلعت رؤوس الزندقة » [43] .

 

وبإزاء هذا الوضع الجديد وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلي أن يدخلوا في حوار عميق مع هذه الأقوام من يهود ونصارى ووثنيين ، ولما كان الكثير من هؤلاء قد تفلسفت عقولهم فإنه لم يكفهم في الاقناع أن تذكر لهم الآيات والأحاديث بل يريدون الرجوع إلي قضايا تستند على القدر المشترك من العقل ،‌واضطر ذلك المتصدين لهم من المسلمين أن يدخلوا في منهجهم ويسلكوا سبيلهم ويؤلفوا الأدلة العقلية على حقائق العقيدة الإسلامية [44] ، وبهذا كله نشأ على الكلم في مسائله وأساليبه مواجهة للتيارات الفكرية الواردة على العقيدة الإسلامية .

 

ولم يكن علم الكلام قد حدته روح المواجهة في نشوئه كعلم فحسب بل أيضا في مسائله وقضاياه بالنظر إليها منفردة ، فنشوء كل مسألة وكل قضية إنما كانت تحدوه روح المواجهة في ظرف يشبه ظرف العلم ككل ؛ ولذلك فإن علم لم ينشأ علما متكامل المسائل كما ظهرت الفلسفة الإسلامية المشائية ، وإنما ظهرت مسائله شيئا فشيئا وبالتدرج ، وهو لذلك لم ينفك يتزايد بها ويتكامل بنشوئها إلي كان العهد تجمد فيه وتوقف عن النمو وهو عهد الانحطاط ، ونشوء المسألة المعينة في الزمن المعين ليس بوليد صدفة ، ولا تبعا لمنطق ذهني مجرد ، ولكنه وليد لروح المواجهة والتصدي للشبه التي ترد على العقيدة في أزمان مختلفة تبعا للظروف التاريخية والاجتماعية والجغرافية المتحكمة في ورودها .

 

وإذا أردنا نتبين هذا المعني من استعراض المسائل الكلامية الهامة في نشوئها فإننا نجد أولي تلك المسائل نشوءا هي المسائل التي كان لها ارتباط بالجانب العملي من حياة المسلمين كمسألة الإيمان ومسألة القدر ، وذلك في أواخر القرن الأول ، وإن يكن التنظير العلمي لهما لم يقع إلا في أوائل القرن الثاني ، وهذا السبق للقضيتين سببه كما أشرنا سابقا أن أول ما ظهر من الشبه كان واردا على قضية الإيمان ترديدا بين التشدد فيه إلي درجة أن أصغر الصغائر تنقضه وتؤول به إلي الكفر كما ذهب إلي ذلك الخوارج ، وبين التساهل إلي درجة جعله معرفة الله فقط كما ذهب إلي ذلك الغلاة من المرجئة . وتلا ذلك شبهة القدر ، فإن « أول من تكلم في القدر معبد الجهني ( ت 80 هـ ) وغيلان الدمشقي ( ت 105 هـ ) بعده » [45] ، سواء استقى هذان الشخصان القول بنفي القدر من مصادر أجنبية كما يحاول المخالفون للقدرية أن يثبتوا ، أو أنه قد أثاره فيهما الواقع الإسلامي الذي أصبح فيه كثير من الناس يتعللون في إتيان المعاصي بالقدر ، فإن بحث المتكلمين في هذه القضية قد نشأ كرد على هذه الشبهة عند ظهورها في هذا الزمن .

 

أما قضية ذات الله وصفاته ، ومسألة خلق القرآن التي هي فرع منها ،‌فإننا نجدها تأخرت في الظهور ، إذ يروى أن أول من حفظ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم ( ت 120 هـ ) وأخذها عنه الجهم بن صفوان ( ت 128 هـ ) [46] . وكذلك فإن الجعد هو « أول من تكلم بخلق القرآن من أمة محمد بدمشق » [47] . ولئن كانت بداية هذه القضية في هذا الزمن إلا أن ذروة البحث فيها لم تكن إلا في أواخر القرن الثاني والشطر الأول من الثالث ، وذلك لأن المتكلمين في هذه الفترة ووجهوا ببحوث النصارى في الاقانيم الثلاثة باعتبارها صفات لجوهر الله ، وفي تجسد الكلمة في الابن الذي أصبح إلها قديما ، وسعيهم إلي جر العقيدة الإسلامية إلي مثل هذه العقيدة كما يظهر فيما تقدم لنا من رواية ابن النديم لما كان بين قثيون النصراني كما يظهر فيما تقدم لنا من رواية ابن النديم لما كان بين قثيون النصراني وعبد الله بن كلاب ، وكما يظهر فيما رواه ابن النديم أيضا في خصوص قثيون نفسه من أنه « سأله محمد بن اسحاق الطالقاني فقال ما تقول في المسيح قال ما يقوله أهل السنة من المسلمين في القرآن » [48] .

 

ونجد قضية النبوة تأخر البحث فيها عند المتكلمين إلي ما بعد القرن الثاني ، وذلك لأن الطعن في النبوة بصفة واضحة وبقصد هجومي مبيت لم يحدث إلا في هذا الزمن ،‌فإنكار النبوة هو نبتة بذرتها أديان الهند وعلى الأخص السمنية والبراهمية ، ودخول هذه إلي المجتمع الإسلامي بشكل واضح إنما كان في أواخر القرن الثاني على عهد يحيى بن خالد البرمكي ( ت 190 هـ ) فإن « يحيى بن خالد البرمكي بعث برجل إلي الهند ليأتيه بعقاقير موجودة ببلادهم وأن يكتب له أديانهم في كتاب فكتب له هذا الكتاب » [49]،‌ومن ذلك العهد نشأ القول بتعطيل الاديان وإنكار النبوة وتبناه أشخاص من عتاة المناظرين وحذاقهم أمثال أحمد بن يحيى بن الراوندي ( ت 298 هـ ) الذي ألف كتاب « الزمردة » في إنكار الرسل وإبطال رسالتهم ، وكتاب « الفرند » في الطعن على نبوة محمد ( صلي الله عليه وسلم ) ، وأبي بكر الرازي الطبيب ( ت 311 هـ ) الذي ألف كتاب « مخاريق الأنبياء » وكتاب « نقض الأديان » .وعند هذه الهجومات تصدي المتكلمون لمواجهة الشبه الواردة على النبوة . فكانت قضية النبوة تحمل روح المواجهة . أما المسائل التي أثارتها الفلسفة اليونانية وعارضت فيها العقيدة الإسلامية ، فإنها لم تظهر في علم الكلام إلا بعد ظهور الفلاسفة الإسلاميين ابتداء من الفارابي ( ت 339 هـ ) على الأخص ، فإن البوادر الأولي لمعارضة آراء‌ الفلاسفة نجدها عند أبي الهذيل العلاف المعتزلي ( ت 235 هـ ) ، ثم اشتدت المعارضة بعد ذلك عند الأشعري وأتباعه ، وبلغت ذروة شدتها عند أبي حامد الغزالي . ومن هذه القضايا التي حدثت في علم الكلام قضية خلق العالم ، وقضية الجوهر الفرد ،إثباتا للخالقية المطلقة لله تعالي ولاستمرار هذه الخالقية على الدوام ، وذلك ردا على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وبفكرة الفيض . كما نشط وتعمق البحث في اعلم الإلهي معارضة لقول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات . وتكون مبحث البعث الجسماني وأقيمت عليه الأدلة وخاصة عند الأشاعرة وذلك معارضة لما ذهب إليه الفلاسفة من إثبات المعاد الروحاني فقط .

 

( ب ) جانب النوع والأهمية : تبين لنا من الجانب التاريخي أن القضية المعينة التي تحمل معينة ، ينشأ في علم الكلام قضية من نوعها لمقاومتها وتزييفها ولا ثبات رأي الإسلام فيها ، فشبهة التعدد المسيحي واجهتها مسألة الوحدانية ، ومسألة إنكار النبوة واجهتها مسألة إثبات النبوة ، ومسألة قدم العالم واجهتها فكرة الجوهر الفرد وحدوث المادة ، وهكذا نلاحظ روح المواجهة في هذا التزاوج النوعي بين الشبه والردود .

 

ومن جهة أخرى فإن الشبه الواردة على العقيدة لم تكن في خطرها على هذه العقيدة متساوية ، بل إن منها الطاعن في صميم الأصول العقائدية ، ومنها الذي يمسها مسا خفيفا ، كما أن منها ما هو أكثر قابلية للتأثير لذاته أو للظروف المحيطة ، ومنها ما هو أقل من ذلك ، ولذلك فإن الردود على هذه الشبه لم تكن متماثلة لا في نوعها ولا في حجمها ، بل هي مختلفة باختلاف الخطورة .

 

والجهد الأكبر الذي بذله المتكلمون نجده يتعلق بالتوحيد ، باعتبار أن التوحيد رأس الحقائق في العقيدة الإسلامية ، ولذلك فإن مبحث الوحدانية ، ومبحث الذات والصفات ،‌ومبحث كلام الله ، قد ظفرت بشطر كبير من علم الكلام وخاصة عند المعتزلة ، وذلك لأنهم رأوا أن جهود المعارضين للعقيدة الإسلامية قد ركزت تركيزا شديدا على أن يجروا التوحيد الإسلامي المطلق إلي التعدد أو ما يشبه التعدد داخلين في ذلك من أبواب مختلفة .

 

ومما استأثر باهتمام كبير من المتكلمين قضية تنزيه الله تعالي عن الجسمية ومشابهة الحوادث والاتحاد والحلول ، ونجد في علم الكلام عديد المسائل المتصلة بهذا المعني من قريب أو من بعيد ، وليس الاهتمام المتزايد بهذه القضية لأن أقوال المخالفين تخالف العقيدة الإسلامية خلافا جوهريا فقط ، ولكن لأن هذه الأقوال مع ذلك سهلة التسرب إلي عامة المسلمين ، إذ إن العامة بطبعهم ميالون إلي التصورات الحسية والخرافات التي تحمل التجسيم والتشبيه والحلول .

 

كما أن قضية النبوة قد احتلت مكانا مرموقا في علم الكلام الإسلامي وذلك باعتبار أن الإيمان بها مفتاح للإيمان بحقائق الدين كلها ، فإذا ما فازت الدعوة المتصدية لانكارها فإن الضرر بالعقيدة سيكون بالغا ،وما هذا التناسب بين خطورة الشبهة وبين الأهمية التي تعطى للرد عليها نوعا وحجما إلا تعبير عن روح المواجهة التي تبدو في علم الكلام بأكمله .

 

_ يتبع _ طالع الجزء الثاني .

 

 

 

* عبد المجيد النجار : كاتب تونسي

** فصل من كتاب : مباحث في منهجية الفكر الإسلامي

 

الهوامش :

 

[1] الشهرستاني – الملل والنحل : 3/30-31 .

[2] ابن النديم – الفهرست : 180 .

[3] القاضي عبد الجبار – المغني : 5/10 .

[4] نفس المصدر – المغني : 5/45 .

[5] ابن النديم – الفهرست : 338 .

[6] نفس المصدر والصفحة .

[7] الشهرستاني – الملل والنحل : 2/8 .

[8] ابن حزم – الرد على ابن النغريله اليهودي : 62 .

[9] الشهرستاني – الملل والنحل : 2/7-8 .

[10] البغدادي – الفرق بين الفرق : 203 .

[11] النشار – نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام :1/393 .

[12] الاستفراييني – التبصير في الدين :101 ( ط . الخانجي والمثني 1955 ) .

[13] البغدادي – الفرق بين الفرق : 205 .

[14] نفس المصدر : 241 .

[15] فخر الدين الرازي – اعتقادات فرق المسلمين والمشتركين : 57 .

[16] عبد الله السامرائي : الغلو والفرق الغالية : 126 (‌نقله من كتاب « حركات الشيعة المتطرفين » لمحمد جابر عبد العال : 41 ) .

[17] القاضي عبد الجبار – المغني في أبواب التوحيد والعدل ( النبوات والمعجزات ) : 15/109 وما بعدها .

[18] الشهرستاني – الملل والنحل : 3/15 .

[19] الملطي – التنبيه والرد على أهل الأهواء‌ والبدع : 158 .

[20] دين قديم نسبة إلي مؤسسه « سمني » ويقوم على محاربة الشيطان ، وطريقته الكرم والسخاء .

[21] السامرائي – الغلو والفرق الغالية : 129 ( مأخوذ عن ابن سينا – رسالة أضحوية في أمر المعاد ) .

[22] الأشعري – مقالات الاسلاميين : 1/119 .

[23] ابن حزم – الفصل … 1/72 .

[24] نفس المصدر : 1/71 .

[25] مكرر أنظر رأي ابن سينا في المعاد في كتابه « النجاة » : 477 ( ط . السعادة / 1331 هـ ) .

[26] في أصلها نسبة إلي كتاب « الزندافستا » كتاب الزرادشتين ، ثم أطلقت على الانحراف عن عقيدة الإسلام مع الكيد لها .

[27] ابن الأثير – الكامل :8/21 ( ط . ليدن 1962 ) .

[28] الشريف المرتضي – الأمالي: 1/128 .

[29] النشار – نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : 1/75 .

[30] لويس غردي ،‌ج . فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية : 1/79 ( تر : صبحي الصالح وآخرين ) .

[31] ديلاسي أوليري – الفكر العربي ومكانه في التاريخ : 46 ( تر : تمام حسان ) .

[32] النشار – نشأة الفكر … : 1/251 .

[33] القاضي عبد الجبار – المغني … 5/46 .

[34] نفس المصدر : 47/5 .

[35] نفس المصدر : 15/115-116 .

[36] الطبري – تاريخ الطبري : 8/220 .

[37] الغزالي – تهافت الفلاسفة : 82-83 .

[38] الفارابي إحصاء العلوم : 131 .

[39] الإيجي و الجرجاني – المواقف وشرحه :1/14 .

[40] ابن خلدون – المقدمة : 423 .

[41] طاش كبرى زاده – مفتاح السعادة : 2/150 .

[42] لويس غردي . ج . قنواتي الفكر الديني : 3/39 ( القول لـ ؛ رابوا – مجلد علم اللاهوت البروتستنتي جانفي 1937 . 146 ) .

[43] محمد عبده – رسالة التوحيد : 28 .

[44] أحمد أمين – ضحى الإسلام 2/17 .

[45] طاش كبري زاده – مفتاح السعادة : 2/165 .

[46] ابن تيمية – الرسالة الحموية : 98 ضمن مجموع رسائل بعنوان « نفائس » ط 2 مطبعة السنة المحمدية تحـ : محمد حامد الفقى .

[47] ابن نباتة – سرح العيون : 203 .

[48] ابن النديم – الفهرست : 180 .

[49] نفس المصدر :345 .

 

- طرق المواجهة في علم الكلام وأساليبها :

 

لقد كان المتكلمون يتصدون للهجومات وأصحابها بإحدى طريقتين حسبما تقتضي الظروف : المناظرة ، والتأليف .

 

فقد كانت المناظرة المباشرة وعلى الأخص في القرون الأولي طريقة محبذة لدى المتكلمين لما فيها من الحيوية والطرافة من جهة ، ولما تؤدي إليه من الهزيمة العقلية والنفسية معا عند قطع الخصوم ،‌مما يكون له أثر في نفوس الناس يصحبه استصغار للآراء المقطوعة ، وهو ما يكون دافعا للابتعاد عنها . وقد عرف بالتبريز في المناظرات متكلمون من المعتزلة والامامية والأشاعرة والماتريدية . فكانوا يعقدون المجالس لمناظرة أهل الديانات من النصارى والزنادقة وغيرهم ويناقشونهم في مدعياتهم من المسائل التي تخالف مسائل العقيدة الإسلامية . ولم يكونوا يكتفون بما ينشأ من تلك المجالس بالصدقة ، بل كانو يشدون الرحال إلي الآفاق لمناظرة زنديق مشهور أو دهري بارز ، ومن ذلك أن واصلا بن عطاء المعتزلي قد « أنفذ إلي المغرب عبد الله بن الحارث … وأنفذ إلي اليمن القاسم بن الصعدي ، وإلي الجزيرة أيوب بن الأوثر وإلي خراسان حفص بن سالم وأمره بلقاء جهم ومناظرته ، وإلي الكوفة الحسن بن ذكوان [50]» ، وقد كان أبو منصور الماتريدي يرد إلي البصرة من سمرقند ليناظر أهل البدع والأهواء فيها حتى زادت زياراته إليها على العشرين ، وقد حفظت لنا كتب الفرق والتاريخ شيئا كثيرا من المناظرات بين المتكلمين وبين أهل الديانات والبدع ، وكثيرا ما كانت هذه المناظرات تنتهي باقتناع الخصوم ودخولهم إلي الإسلام ، ومن ذلك ما يروى من أن مجوسيا اسمه ( ميلاس ) « جمع بين أبي الهذيل العلاف وجماعة من الثنوية فقطعهم أبو الهذيل فأسلم ميلاس عند ذلك » [51] .

 

وإذا لم يتوفر الظرف للمناظرة ، أو كانت الحاجة تدعو إلي ترتيب دقيق للأدلة وتعمق في دراسة الشبه لنقضها ، فإن المواجهة تتخذ طريق الردود المكتوبة بتأليف كتب منفردة ، أو عقد فصول خاصة في غضون الكتب ذات الأغراض الأخرى ، ويكاد يكون ما ألف في هذا الغرض لا يحصر كثرة وتنوعا ، ومن هذه التآليف كتاب « الألف مسألة للرد على المانوية » لواصل بن عطاء ، و « كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع » للقاسم بن إبراهيم ( ت 246 هـ ) . ورسالة « في الرد على النصاري » . للجاحظ ، وكتاب « التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع » لأبي الحسين الملطي ، وكتاب « الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد » للخياط المعتزلي ، وكتاب « فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة » للغزالي .

 

وساء في المناظرات أو في التآليف فإن المتكلمين كانوا يتخذون من الأساليب ما يناسب المقام ، فإنه قد تقدم لنا أن أصحاب التحديات قد اتخذوا أساليب مختلفة في محاولاتهم إفساد العقيدة ، وقد كان المتكلمون واعين لهذه الأساليب ، بل إنها كانت تشكل عنصرا مهما من عناصر خطيهم في الردود ، ولذلك فقد كانوا يكيفون أساليبهم في تناول المسائل الكلامية بحسب الأساليب التي توجه بها الطعون إليها ، وترجع تلك الأساليب إلي نوعين أساسيين : أسلوب نقلي ، وأسلوب عقلي .

 

( أ ) الأسلوب النقلي : لقد كان القرآن والسنة هما المصدر الأساسي الذي استمد منه المسلمون تصوراتهم العقدية ، كما كان الملاذ الذي يلوذون به كلما ورد عليهم من الآراء ما فيه دغل فيتمعنون الآيات والأحاديث ليقايسوا بها الأفكار الواردة ، وليدركوا بالتالي وجه مخالفة تلك الآراء للعقيدة الصحيحة ، ويقيموا الدليل على بطلانها . ومن هذا الموقف تكون أحد أساليب المتكلمين في رد الشبه ، وهو الأسلوب الذي يعتمد في الرد والاثبات على الاستدلال بالنصوص الصحيحة ونقض النصوص المشبوهة من اسرائيليات ، وأحاديث ضعيفة ومكذوبة ، ولذلك فقد كان لهذا الأسلوب وجهان :

 

الوجه الأول : هو أن يناقش الرأي الوارد على مسألة من مسائل العقيدة بعرضه على الآيات القرآنية والأحاديث الموثوق بها ، المتناولة لموضوع تلك المسألة فتظهر مخالفته لها فيقع رده باعتبار أنه ناقض الأصل الأساسي الذي تستقي منه العقيدة . يقول أبو سعيد عثمان الدارمي (ت260هـ) « ما ظننا أن نضطر إلي الاحتجاج على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا … وقد حقق الله العرش في آي كثيرة من القرآن فقال تعالي : ( خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) ( هود / 7 ) [52] . وفي معرض الرد على الثنوية في قولهم بوجود إلهين يقول أبو الحسين الملطي : « زعموا أن الله تعالي خلق الروح الجاري في الجسد ، فقالوا : ألا ترى الروح إذا فارق الجسد أنتن ، وأن الخالق الآخر عندهم خلق الجسد والله لا يخلق نتنا ولا قذرا . فجعلوا للخلق كلهم خالقين تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا ، وقد قال الله عز وجل في كتابه : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ) ( المؤمنون / 91) [53] .

 

الوجه الثاني : هو أن يطعن في صحة الأخبار التي يسر بها الذين يقصدون إلي تحريف العقيدة الإسلامية وخاصة من اليهود والزنادقة ، فيقع تبيين أن تلك النصوص ليست صحيحة النسبة إلي من نسبت إليه فتسقط حجيتها ، وبالتالي يسقط ما احتج بها عليه ، ومثال ذلك ما قاله إليه فتسقط حجيتها ، وبالتالي يسقط ما احتج بها عليه ، ومثال ذلك ما قاله الدارمي في مناقشته لبشر المريسي ( ت 218 هـ ) المتهم بالزندقة « وأما ما رويت عن ابن الثلجي من غير سماع منه من حيث السدى عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله « الرحمان على العرش استوى » قال « ارتفع ذكره وثناؤه على خلقه » وعن ابن عباس انه قال « استوى له أمره وقدرته فوق بريته » فيقال لك : أيها المعارض لو قد سمعت هذا من ابن الثلجي لما قامت لك به حجة في قيس بعزة ، وهذه الروايات كلها لا تساوي تمرة وما يحتج بها في تكذيب العرش إلا الفجرة . وأول ما فيه من الريب أنه ترويه عن ابن الثلجي المأبون المتهم في دين الله ، والثاني عن الكلبي هو ابن عم الثلجي وعن جويبر ولو صح ذلك عن الكلبيوجويبر من رواية سفيان وشعبة وحماد بن زيد لم تكترث بها لأنهما مغموزان في الرواية لا تقوم بهما الحجة في أدنى فريضة فكيف في إبطال العرش والتوحيد » [54] .

 

وقد يقع الطعن فيما ذهب إليه المخالفون من تأويل لبعض الآيات أو الأحاديث الموثوق بها ، فيكون فساد التأويل مؤديا إلي فساد الرأي الذي لأجله وقع التأويل ، يقول محمد بن إسماعيل البخاري ( ت 256 هـ ) : « احتج هؤلاء ( القائلون بخلق القرآن ) بآيات وليس فيما احتجوا به أشد إلتباسا من ثلاث آيات ، قوله ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( الفرقان / 2 ) فقالوا : إن قلتم إن القرآن لا شيء كفرتم ، وإن قلتم إن القرآن شيء فهو داخل في الآية … قال أبو عبيدة : أما قوله ( وخلق كل شيء ) فهو كما قال ، وقال في آية أخرى ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ( النحل / 40 ) فأخبر أن أول خلق خلقه بقوله ، وأول خلق هو من الشيء الذي قال : ( وخلق كل شيء ) فأخبر كلامه قبل الخلق» [55] .

 

وقد كان هذا الأسلوب النقلي أسبق الأساليب الكلامية ظهورا لأنه أنشئ لمواجهة حركة الإسرائيليات ووضع الحديث التي ظهرت في وقت مبكر ، وأكثر استعماله كان في قضايا التشبيه والتجسيم ،‌وفي الوصية والرجعة والعصمة ، وذلك لأن هذه القضايا هي التي كانت أكثر عرضة للوضع والتأويل ،‌واستعمل هذا الأسلوب على الأخص أهل السلف من الأئمة والفقهاء والمحدثين الذين يتمسكون بالنصوص في إثبات العقيدة . وعليه ألف أبو حنيفة كتابه « الفقه الأكبر» ،‌وألف مالك بن أنس رسالة « الرد على القدرية » وأحمد بن حنبل كتاب « الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من القرآن » وألف البخاري « كتاب خلق أفعال العباد » ، وألف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة « كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة » وألف أبو سعيد الدارمي « كتاب الرد على الجهمية » و « كتاب الرد على المريسي » . ولم يفقد هذا الأسلوب قيمته رغم ظهوره المبكر بل بقي مستعملا في علم الكلام إلي جانب ما استجد من أساليب حتى إنه يكاد لا يخلو منه مؤلف في هذا العلم .

 

( ب ) الأسلوب العقلي : لقد أصبح المسلمون إبتداء من منتصف القرن الثاني يواجهون في عقيدتهم هجومات تجاوزت الاستدلالات النصية إلي استدلالات عقلية قائمة على قواعد فكرية عامة وقوالب منطقية معينة ، مستغلة لبعض ما توصل إليه الفكر الفلسفي في البحوث الطبيعية والماورائية تستعمل منها مقدمات لاثبات الدعاوي الميتافيزيقية . وقد وردت هذه الأساليب في هجومات المسيحيين الذين كانوا قد أسسوا لهم علما لاهوتيا متكونا على الاستدلال العقلي مستمدا من الفلسفة اليونانية ، كما قد ودرت بصفة أشد في الفلسفة اليونانية التي تبناها بعض الإسلامين مستعملين المقدمات الفلسفية ، والأسلوب المنطقي اليوناني ، مع قدرة على الجدل والمناظرة . وبإزاء هذا الوضع فإن الأدلة النقلية التي استعملها المتكلمون في فترة سابقة لم تعد كافية لاقناع الخصوم وإلزامهم الحجة ، فدعت الحاجة إلي إنشاء أسلوب في الدفاع يناسب أسلوب الهجوم ، وأن تجدد الأدلة بتجدد الوجه الذي يطرح عليه أولئك الخصوم الشبه .

 

وكان المعتزلة ذوو النزعة العقلية من لاسابقين لتجديد أسلوب الدفاع . وإدخال العنصر العقلي فيه ، وعضدهم بعد ذلك أهل السنة ابتداء من أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي اللذين استحدث كل منهما طريقة في الاستدلال تقوم على العنصر العقلي المعضد للعنصر النقلي أدت به إلي أن أصبح رأس اتجاه متميز .

 

ومن المهم أن نلاحظ أن هذا الأسلوب العقلي كان في بادئ الأمر يقو على قواعد مستمدة في عمومها من خصوصيات الفكر الإسلامي مستفيدة من القواعد التي وضعها الإمام الشافعي لعلم أصول الفقه ، وهي قواعد كثيرة أهمها ما يلي :

 

أولا : قياس الغائب على الشاهد : وهو أن تقاس قضية تخص أمرا ماورائيا على قضية تخص أمرا مرئيا ، ثم تعطى الأولي حكم الثانية لجامع بينهما يعتقد لا يتغير مع تغايرهما كالعلة والحقيقة والشرط ، ومثال ذلك ما استدل به الأشاعرة على ثبوت صفة العلم لله تعالي زائدة عن ذاته في قولهم : « لا شك أن علة كون الشيء عالما في الشاهد هو العلم فكذا في الغائب ، وحد العالم هنا من قام به العلم فكذا حده هناك ، وشرط صدق المشتق على واحد منا ثبوت أصله فكذا شرطه فيمن غاب عنا » [56].

 

ثانيا : إنتاج المقدمات النتائج : وهو أن توضع مقدمة واحدة ، ثم تستخرج منها النتيجة ، وهذا كاستدلال إمام الحرمين على حدوث العالم بقوله : « إن أجرام العالم وأجسامه لا تخلو عن الأعراض الحادثة ، وما لا يخلو عن الحادث حادث » [57] .

 

ثالثا : الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه : مثل الاستدلال على أن أي جوهر لا يخلو من لون ، إنطلاقا مما هو متفق عليه من أنه لا يخلو من عرض .

 

رابعا : السبر والتقسيم : وهو أن تورد في القضية المبحوثة كافه الاحتمالات العقلية . ثم تناقش تلك الاحتمالات واحدا وتبطل بالأدلة ، ويبقى احتمال واحد لا يرد عليه الإبطال فذلك هو الذي يكون حقا ، أو تبطل جميعها فتكون القضية باطلة ، يقول إمام الحرمين : « وأما المرقيونية‌ ( فرقة من الثنوية ) ، القائلون باثبات المعدل ، فوجه الرد عليهم في إثبات حدث الأجاسم كما سبق ، ونخصهم بكلام فنقول : هذا المعدل لا يخلو إما أن يكون مواقفا للنور أو يكون موافقا للظلمة ، أو يكون مخالفا لهما ، فإن كان مواقفا للنور من النور ، ومن حكمه مناظرة الظلام ، وإن كان مماثلا للظلام فهو منه ، ومن طبعه منافرة النور ، وإن كان منافرا لهما فلا بد من تقدير معدل بينه وبينهما ، كما لا بد من تقدير معدل بين النور والظلام ، ويتسلسل القول إلي ما لا نهاية » [58] .

 

خامسا : الالزام : وهو استدراج الخصم إلي نتيجة مخالفة لمدعاة بتسليمه بمقدمات تلزم عنها تلك النتيجة ، ومثال ذلك ما استعمله النظام لابطال القول بالاثنينية في مجادلته للمانوية كما روي ذلك الخياط قال : « قال لهم : حدثونا عن إنسان قال قولاً كذب فيه ، من الكاذب ؟ قالوا : الظلمة‌ ، قال فإن ندم بعد ذلك على ما فعل من الكذب ، وقال : قد كذبت وقد أسأت ، من القائل : قد كذبت ؟ فاختلطوا عند ذلك ولم يدروا ما يقولون ، فقال لهم إبراهيم : إن عمتهم أن النور هو القائل قد كذبت وأسأت فقد كذب لأنه لم يكن الكذب منه ولا قاله ، والكذب شر ، فقد كان من النور شر وهذا هدم قولكم ، وإن قلتم إن الظلمة قالت قد كذبت وأسأت فقد صدقت والصدق خير فقد كان من الظلمة صدق وكذب وهما عندكم مختلفان فقد كان من الشيء الواحد شيئان مختلفان خير وشر على حكمكم ، وهذا هدم قولكم بقدم الاثنين » [59] .

 

إن هذه القواعد [60] مهما يكن من أمر النقد الذاتي والخارجي الذي وجه إلي بعض منها ، ومهما يكن من التعديلات التي أدخلت عليها من جراء ذلك النقد ، فقد سادت علم الكلام كأسلوب عقلي في الانتصار والرد إلي القرن الخامس ،‌وبقيت لها آثار فيه فيما بعد ذلك .

 

ولما اشتدت المواجهة بين المتكلمين وبين الفلاسفة إبتداء من القرن الرابع ، أخذ علم الكلام يضم إليه عناصر من الفلسفة من قسمي الطبيعيات والمنطقيات رآها صالحة لصياغة الأدلة التي تهدم شبه الفلسفة باستعمال سلاحها ذاته .

 

وكما كان المعتزلة سابقين إلي استعمال الأسلوب العقلي فإنهم قد سبقوا أيضا في وضع بذرة الأسلوب الفلسفي ، فإن الكثير منهم وعلى الأخص إبراهيم النظام ( ت 231 هـ ) « قد اطلع على كثير من كتب الفلاسفة » [61] ،‌واستفادوا من دقائق معانيها وأساليب جدلها وقواعد منطقها ، قاصدين بذلك إلي أن يقوموا « بأشد ما احتاج إليه الإسلام في ذلك العصر ، وهو الاستعانة بما استعانت به الأديان المحيطة به كلها من أسلوب متين وطريق فلسفي لابراز ما كمن في الدين من القوي والفضائل … وليظهر الإسلام في مظهر التحدي ويفوز ما أراد فوزه [62]» وذلك بنصرة عقائده التي هي أساسه .

 

ويبدو أن أول عمل كان في هذا المجال هو وضع المصطلحات الفلسفية التي هي أدوات الجدل ، وهو ما أشار إليه الجاحظ بقوله : « فاصطلحوا على تسمية ‌ما لم يكن له في لغة العرب إسم فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف ، وقدوة لكل تابع ، ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس ، وفرقوا بين البطلان والتلاشي ، وذكروا الهذية‌ والماهية وأشباه ذلك » [63] . ثم بحثوا في قضايا طبيعية ‌كانت تبث فيها الفلسفة ‌من مثل الجوهر الفرد و الخلاء ، و كونوا لهم فيها آراء ، وهم في هذا لا يقصدون البحث فيها لذاتها ، وإنما يقصدون الوصول إلي نتائجها يجعلونها مقدمات ينتهون منها إلي إثبات حقائق العقيدة ، على غرار الفلاسفة الذين جعلوا نتائج بحوثهم الطبيعية مقدمات ينتهون منها إلي إثبات آرائهم في الغيبيات .

 

إلا أن أهم حدث في مجال الأسلوب العقلي عند المتكلمين هو إدخال المنطق الأرسطي في الاستدلال الكلامي ، وذلك ابتداء من القرن الخامس .

 

إن المتكلمين بعد استعمالهم لتلك القواعد العقلية الآنفة الذكر أكثر من ثلاثة قرون رأوا أن هذه القواعد لم تعد كافية لمجابهة الخصوم وإقناعهم ، وذلك لأن هؤلاء تكون الكثير منهم على عقلية تربت على المنطق الأرسطي ، وهي مستعدة لأن تقتنع به هو وحده ، فلقد كان المنطق اليوناني هو الغالب على الفكر في ذلك الزمن ، ولم يكن أسلوب المتبنين للفلسفة اليونانية فحسب ،‌بل كان يستعمله المسيحيون وكثير من المجوس لما سبق أن اقتبسوه من الفلسفة اليونانية‌ عند احتكاكهم بها ، ولحق بهم بعد ذلك اليهود . ولمجابهة هذا الوضع بدأ المتكلمون يستعملون المنطق الأرسطي بشكل واسع إبتداء من القرن الخامس حينما قام الامام الغزالي بدعوته الملحة الى‌ استخدام المنطق في العلوم الإسلامية و بالأخص في علم الكلام ، وأصدر فتواه الشهيرة بأن « من لا يحيط بها ( أي المقدمات المنطقية ) فلا ثقة له بعلومه أصلاً [64] » ، و بعد الغزالي سرى هذا لأسلوب في مناظرات و كتابات المتكلمين حتى أصبح هو المسيطر كما نرى ذلك عند فخر الدين الرازي ( ت 606 هـ ) في كتبه الكلامية‌و عند عضد الدين الايجي ( ت 756 هـ ) في كتابه « المواقف » و شارحه السيد الشريف الجرجاني ( ت 816 هـ ) ، و عند التفتازاني ( ت 791 هـ ) في شرحه لعقائد عمر بن محمد النسفي ( ت 537 هـ ) . وقد توسع بعض هؤلاء في الاقتباس من الفلسفة و منهجها حتى اختلطت في كتبهم الفلسفة و علم الكلام ، وكما قال ابن خلدون « التبس عليهم شأن الموضوع في البعلمين فحسبوه فيهما واحداً من اشتباه المسائل » [65] .

 

4 – تقويم علم الكلام في هذا الدور :

 

من خلال ما تقدم يتبين أن علم الكلام كان من ابتداء نشوئه وعلى فترة تمتد الى‌ القرن السابع علماً يؤدي وظيفته في الحفاظ على‌ العقيدة الإسلامية و الدفاع عنها بشكل جيد في أكثر الأحيان ، و إنما كان كذلك لتوفر الصفات التالية فيه :

 

( أ ) الواقعية : حيث إن هذا العلم كان يواجه اعتراضات و شبهاً واقعة فعلاً وموجهة لتحريف العقيدة ، ولم ينجر إلى‌ البحث النظري المجرد المقصود لذاته ، أو الذي يعالج قضايا وهمية .

 

( ب ) الحيوية : حيث إن القضايا التي كان يعالجها كانت قضايا حية‌ في النفوس و تمثل مشاكل حقيقية‌ يحياها المسلمون في واقع تصورهم العقدي ، ولذلك فإنه كان في ذلك العصر يؤدي إلى نتائج ذات بال لما يبديه من الاهتمام بالتحديات الواردة‌ بالفعل .

 

( جـ ) الحركية و الوعي : ‌حيث إننا نجد المتكلمين يغيرون من مواضيع البحث و من محور الاهتمام و من أسلوب المواجهة بما يتفق مع طبيعة الموقف بمراعاة‌ ما يرد من الاعتراضات في موضوعها و أساليبها ، فيكون لكل مقام مقال ، ولكل طريقة في الهجوم طريقة في الرد تناسبها ، ولكل شبهة مهما كانت خفية‌ الخطر ما يكشف عن خطرها ويرد كيدها .

 

III - علم الكلام في طور الانحطاط :

 

بعد الازدهار و النجاعة و الحيوية ‌التي شهدها علم الكلام في الطور السابق يبدأ في القرن السابع في الهبوط شيئاً‌ فشيئاً إلى حالة من الجمود و الجدب .

 

فإننا إبتداء من مؤلفات محمد بن يوسف السنوسي ( ت 895 هـ ) : العقيدة الكبرى وأم البراهين و العقيدة الوسطى ، نصادف شروحاً‌ لما في كتب الأقدمين من القضايا خالية من الجدة ومن روح المواجهة الحقيقة ، و متصفة بالاجترار ،‌و بالتالي فإن الصبغة الدراسية التي قوامها الرد و الاثبات . بل إن هذه الصبغة التاريخية‌ آلت هي بدورها إلى أن « لم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ و تناظر في الأساليب على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف و فضلها القصور » [66] .

 

إن سائر كتب التوحيد المؤلفة‌ بعد القرن الثامن نلمح فيها هذا الانحدار إلى‌ الحرفية ، و التلاهي بالشرح و التهميش و التحشية عن القضية الحقيقة التي هي مواجهة منا يجد من الشبه الموجهة للعقيدة الإسلامية ، أو على أضعف الايمان تجديد أساليب و طرق الردود على الشبه القديمة ذات العناصر المستديمة بما يناسب الصور التي تطهر بها تلك الشبه من جديد ، وبما يناسب أوجه الاقتناع للعقليات المتجددة التكون . وقد عم هذا الجمود الذي أصبح عليه علم الكلام كلا من المضمون والأسلوب . فالمواضيع بقيت هي ذاتها تلك التي بحثت من قبل ،‌ولم تظهر قضايا جديدة بحيث إن هذا العلم قد توقف عن النمو ، و كذلك الأسلوب فإن الأسلوب النقلي ، و الأسلوب العقلي على طريقة ‌المنطق اليوناني بقيا مسيطرين على عقول المتكلمين رغم ما حدث من تغير في عقلية المخالفين لعقيدة‌ الإسلام . ويمكن أن نقول إن علم الكلام أصبح في هذا الدور هو في واد و التحديات الفكرية الموجهة للعقيدة في واد آخر .

 

إن هذا المصير المظلم الذي آل إليه أمر علم الكلام ليدفعنا إلى البحث عن العوامل و الأسباب التي سقطت به من قمة إزدهاره ونموه إلى هذا الدرك من الانحطاط و الجمود ، فهل يكون هذا العلم قد استنفد مهمته فلم يعد له دور فأصبح تاريخياً يجتر ذاته ، أم أن عقول المتكلمين قصرت عن إدراك المهام الحقيقية ‌المستجدة التي على هذا العلم أن يقوم بها ؟

 

إن الفرض الثاني هو الصحيح ، و الأسباب في ذلك أسباب متنوعة‌ ومتشابكة منها المباشر ومنها غير المباشر ،‌ولعل أهمها ما يلي :

 

1 – الانحدار العام الذي آل إليه الفكر الإسلامي و الحضارة الإسلامية ‌عموماً بعد هجومات التخريب المغولية ‌و التتارية على المجتمع الإسلامي وعواصمه الثقافية ، فقد أصبح المسلمون في حالة من الضعف المادي و النفسي عاقهم عن الابتكار و دفع بهم إلى العيش على الماضي ، و بالتالي إلى‌ المحافظة‌ على ما انتجه الماضي و تحويله إلى قوالب تحتذى . وقد ظهر هذا في سائر العلوم الإسلامية ‌من أدب ولغة‌ و فقه و غيرها ، ولم يكن علم الكلام ليشذ عن هذه الظاهرة فأصابه الجمود فيما أصاب .

 

2 – لقد ذكرنا إن علم الكلام أخذ فيما بعد القرن الخامس يستقي من مواضيع الفلسفة ‌شيئاً فشيئاً ،‌وهذا أدى إلى اختلاط مواضيعه بمواضيعها بل وطغيانها عليه ،‌ حتى إننا نجد كتاباً كالمواقف تخصص فيه المواقف الأربعة‌ الأولى لمواضيع فلسفية ،‌ويخصص الموقفان الأخيران فقط للالهيات و السمعيات مع التعرض لآراء الفلاسفة فيهما . وقد أدى هذا بالتدرج إلى غلبة أسلوب الفلسفة‌ التقريري الشرحي على‌ أسلوب الكلام الجدلي الدفاعي ففقد خاصية الحركة و الحيوية و الوعي و أصبح جامد عقيماً . وقد أشار إلى هذا المعنى ابن خلدون في قوله : « ولقد اختطلت الطريقتان ( طريقة الكلام و طريقة الفلسفة ) عند هؤلاء المتأخرين ( من المتكلمين ) و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر ولا يحصل عليه طالبه ن كتبهم كما فعله البيضاوي في الطالع ومن جاء بعده ن علماء العجم في جميع تآليفهم ، إلا أن هذه الطريقة يعني بها طلبة‌ العلم للاطلاع على المذاهب و الاغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها » [67] . وهذه الملاحظة الأخيرة تشير إلى أن علم الكلام باختلاطه بالفلسفة أصبح ذا غاية‌ تعليمية ، وليسم ذا وظيفة دفاعية حية‌. وهذا المعنى يقرره بوضوح محمد عبده في قوله : « …. هذا هو السبب في خلط مسائل الكلام بمذاهب الفلسفة في كتب المتأخرين كما نراه في كتب البيضاوي و العضد و غيرهم ، وجمع علوم نظرية شتى وجعلها جميعاً علماً واحداً و الذهاب بمقدماته و مباحثه إلى ما هو أقرب إلى‌ التقليد من النظر فوقف العلم عن التقدم » [68] .

 

3 – ربما تكون في القرون المتأخرة خفت غلوا ء الشبه و التحديات المواجهة للعقيدة الإسلامية عما كانت عليه في القرون الأولى‌ ،‌فإن العقائد و المذاهب و الفلسفات قد هاجمت عقيدة المسلمين حين ظهورها هجمة عنيفة تذكيها ن جهة حداثة‌ أمر الإسلام حيث يكون الأمل في احتوائه كبيراً ،وتدفعها من جهة أخرى‌ فتوه تلك العقائد و المذاهب كما تظهر في اللاهوت المسيحي في عزة تسلحه بالمنطق اليوناني ، ‌و في المجوسية‌ التي يؤججها الحقد على الإسلام وأهله ، وفي الفلسفة اليونانية المتجددة‌ في ثوب المشائين المسلمين .

 

ولما طال الأمد وظهر الإسلام بعقيدته على‌ الدين كله ، وأدركت تلك المذاهب و الفلسفات الكهولة أو الشيخوخة ، مع أنه لم يحدث في العالم الفكري و الديني مذهب فتي يعاود الهجمة العنيفة على العقيدة الإسلامية ‌كما نراه حدث في العصر الحديث من المذاهب و التيارات الفكرية ، آل علم الكلام إلى الاسترخاء الذي طال به الأمد فأصبح جموداً ، وقد عبر عن هذا المعنى ابن خلدون بشيء من المبالغة إذ يقول : « وعلى‌ الجملة ينبغي أن يعلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا ، والايمة من أهل لاسنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا ، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليا حين دافعوا ونصروا وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير من ايهاماته وإطلاقه » [69] . ومن الغريب أن ينتهي ابن خلدون الى هذا الحكم القاطع و أن لا يتنبه – وهو الثاقب النظر – ا إلى‌ أن أعداء العقيدة الإسلامية لا ينقطعون ،‌بل إنهم وإن ضعفوا في زمن معين ولظروف معينة ، فإنهم سرعان ما يتجددون في أثواب أخرى قد تكو أقسى وأشد ، وليس ما نراه اليوم إلا دليلاً‌ على‌ ذلك .

 

_ I V نحو علم كلام حديث :

 

إن ما آل إليه علم الكلام بعد القرن الثامن وإلى عهد غير بعيد من الحرفية و الجمود ، أدى إلى نقمة‌ الكثير ن المسلمين على هذا العلم مطلقاً ، وإلى‌ شجبه ومعاداته باعتبار أنه علم لا يؤدي دوراً‌ في خدمة العقيدة بل لعله يسيء إليها بما انتهى إليه من التعقيدات وهي السهلة البسيطة .

 

إلا أن هذا الموقف بالنسبة لعلم كلام ما قبل ذلك . ولا بالنسبة لعلم الكلام مطلقا ، فالانحطاط الذي يطرأ على علم من العلوم في فترة معينة لا ينبغي أن يؤدي إلي تخطئة ذلك العلم مطلقا ، وكذلك بالنسبة لعلم الكلام ، فهذا العلم هو علم الدفاع عن العقيدة ، والعقيدة تحتاج إلي دفاع في كل زمن كان فيه عليها هجوم ، وإذا ما وقع التخلي عن الدفاع في زمن معين ولظروف معينة ، أو لم هذا الدفاع سديدا ، فإن التخلي عن الدفاع مطلقا بسبب ذلك يكون لا من ألوان الحمق .

 

ولهذا فإن الباحثين اليوم في هذا الميدان من المسلمين ليس لهم أن يشجبوا علم الكلام أو يعادوه باعتبار ما لحق به في القرون الأخيرة من العيوب التي قعد به عن أداء مهمته ، بل إن عليهم أن يجعلوا من تلك العيوب منطلقا للنقد الذاتي يدفع بهم نحو بناء علم كلام حديث ينقض عن نفسه غبار الماضي ، وينهض قوي الأسس للدفاع عن العقيدة ، ورد ما يوجه إليها من الطعنات ، بلغة العصر وفكره وأسلوبه وإن الضرورة اليوم لقيام علم كلام حديث لتعادل الضرورة التي أدت بالأمس إلي نشوء علم الكلام .

 

ففي العصر الحديث نشأت مذاهب فكرية فلسفية فتية ، وقد اتجهت إلي الاعتقاد الديني عموما ، والعقيدة الإسلامية خصوصا بأقسى هجوم عرفته العقيدة على مدى تاريخها ، وقد اتخذت في سبيل ذلك من الوسائل والأساليب خلاصة ما توصل إليه الفكر الإنساني في جميع المجالات ، ولئن كانت هذه المذاهب مختلفة المظاهر من وجودية وشيوعية ووضعية وتطورية فإنها راجعة إلي أصل مشترك هو المبدأ المادي الذي ملأ هذا العصر ، وقائمة على معني واحد هو إنكار الوجود الغيبي المتجاوز للمادة .

 

وقد استخدمت هذه الحملات على مستوى الفكر ما استجد من نتائج العلم وأساليب بحوثه ، مستغلة ما أدي إليه انقلاب العلمي من انبهار العقول بعجائب هذا الانقلاب ، وما عاد به على الإنسانية من الخير والرفاه . كما استخدمت على مستوى العوائف والغرائز ما تهفو إليه نفس الإنسان بطبيعتها من الملذات المادية بمختلف أنواعها ، فشكلت بذلك تغريرا فكريا وعاطفيا لم يعرف له مثيل من قبل ، فكان خطرها على العقيدة لم يعرف له مثيل أيضا .

 

وحملات الإنكار للدين هذه لئن كانت متجهة إلي التدين عموما بل لكل ما هو ما ورائي ، إلا أنها كانت مركزة بوجه مخصوص ضد الدين الإسلامي ، وذلك لأن الدين اليهودي بطبيعته الانطوائية ، والدين المسيحي بفصله بين الدين والدولة ، لم يعودا يشكلان الأهمية التي يشكلها الإسلام الذي يجعل الجانب العملي متمثلا في كل السلوك الفردي والاجتماعي وجها للجانب العقائدي لا يقبل الانفصام عنه ، فهو بهذا يمثل خصما ذا بال للتيارات التي تبشر بمفاهيم فكرية صورية والتي تبشر بمفاهيم إجتماعية و سياسية معا .

 

وبإزاء هذه المعطيات كلها ، فإن الضرورة ملحة أشد الإلحاح إلي أن تقوم لهذه الأخطار التي تتهدد الإسلام كعقيدة تؤدي إلي نظام حياة ، وهذه المواجهة لن تكون إلا علم كلام حديث يناقش إدعاءات المذاهب والفلسفات ويبين خطلها فيما اتجهت به إلي الاعتقاد ، ويستعمل في كل ذلك ما يناسب العقل الحديث من المشاغل ومن أساليب الإقناع .

 

وإن علم الكلام في عهد حيويته وازدهاره ، لئن لم يبق صالحا اليوم لمواجهة التحديات الجديدة باستعمال قضاياه وأساليبه ذاتها على تمام صورتها القديمة‌، إلا أنه يبقي مع ذلك تجربة مواجهة فكرية خاضها المسلمون ذات ثروة كبيرة ، ولذلك فإن هذه التجربة الغنية صالحة لأن تبقى مصدر إلهام حقيقي للفكر الإسلامي عند كل مواجهة ، فإن العقيدة التي وقع عنها الدفاع بالأمس هي نفسها تماما التي تتطلب دفاعا اليوم وغدا ، والكثير من الشبه الواردة بالأمس هي عينها التي ترد اليوم وإن غيرت من أثوابها ، ولهذا فإن المجال واسع للاستفادة في بناء علم كلام اليوم من علم كلام الأمس ، وذلك خاصة في الأسس العامة للمواجهة ، وطرقها وأساليبها .

 

وقد رأينا مما تقدم أن من أهم الأسس التي قام عليها علم الكلام المعرفة بالواقع الفكري للخصماء من حيث الأفكار ومن حيث أسلوب التفكير والعرض ، وعلى هذا الأساس يقع تحديد المواضيع ويقع رسم المناهج والأساليب ، فكذلك علم الكلام الحديث ينبغي أن يتأسس وينبني على هذا المبدأ بالنظر إلي طبيعة الفكر الحديث وأساليبه .

 

1- الواقع الفكري للتحديات الجديدة :

 

يمكن أن يبحث هذا الواقع من وجهين : المضمون الذي ينقض العقيدة . والأسلوب الذي يتم به ذلك النقض .

 

( أ ) المضمون الفكري المعارض للعقيدة : لقد تعددت في العصر الأخير المذاهب والتيارات التي تحارب العقيدة ، وتسعى إلي هدمها . وهذه المذاهب وإن تعددت ألوانها كالشيوعية والوجودية والوضعية إلا أنه تتحد في جوهرها الذي هو الفكرة المادية‌ التي تقوم على إنكار كل ما ليس ماديا ، واعتبار المادة هي الفاعل الوحيد في الكون والحياة .

 

وقد تولدت الفكرة المادية في القرون الأخيرة وشاعت بين الناس لسببين رئيسيين هما : سياسة الكنيسة ، والكشوفات العلمية .

 

أولا : لقد كانت الكنيسة في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث تسلك سياسة تناقض الأخلاق كما تناقض العقل . تناقض الأخلاق بما آل إليه أمرها من استغلال العباد والسيطرة على رقابهم ، ونهب أموالهم بشتى الطرق مستعملة شعائر سماوية . وتناقض العقل لاعتماد على ترهات كمسألة الغفران ومسألة استحالة الخبز والخمر إلي جسم المسيح ودمه من جهة ، ومعاداتها لكل جديد يتوصل إليه الفكر الإنساني وإن يكن في ميدان الطبيعة كحقيقة دوران الأرض وكرويتها من جهة أخرى . إن هذه السياسة قد جعلت الكثير من أهل الفكر ينقمون على الكنيسة ويكفرون بها ، بل إن كفرهم بها تعدي إلي الكفر بما تدعو إليه من مسائل الغيب ، باعتبار أن من فقدت الثقة به في شيء فقدت الثقة به في كل شيء ، فاعتبر لذلك هذا الدين الذي تدعو إليه الكنيسة إنما هو من باب الترهات والزيف .

 

ثانيا : لما حدثت النهضة العلمية بما تحمل من الكشوفات الهائلة في الفضاء الواسع ، وفي الأجسام الدقيقة ، وما نتج عنها من الثورة الصناعية الثرية الانتاج ، لما كان ذلك ، داخل العقول يقين بأن الحق والخير إنما يأتيان من هذا الطريق الجديد متمثلين في دقيق القوانين العلمية ، وفي وفير الانتاج المتأتي منها ، وإن فكل ما سوى العلم إنما هو وهم لا حق فيه ولا خير ، ومن ذلك الدين ، هذا الذي لم يقدم للإنسانية طيلة قرون ما قدمه العلم في فترة قصيرة ؟

 

اختمرت هذه المعاين في العقول ، وتضافرت فيها النقمة على الكنيسة وما تدعو إليه مع الانبهار بالعلم ونتائجه لتبرز في شك لفلسفي . مؤداه أن المادة هي الحقيقة الكبرى في الكون ، وكل ما وراءها من الغيب إنما هو زيف ، وكل ما يقع في الطبيعة ،‌وكل ما يقع في المجتمع ،‌وكل ما يقع في النفس إنما هو راجع إلي سبب مادي ، وكل ما يقوله رجال الدين عن القوي الغيبية إنما هو « شيك لا رصيد له في المصرف » . ثم تزيت هذه الفكرة الأساسية بأزياء مختلفة بحسب إختلاف الجهة التي يقع منها النظر إلي هذه « الحقيقة » .

 

فـ « الوضعية » التي وضع فكرتها الأساسية أو قيست كونت ( 1798- 1857 ) تعتبر الدين مرحلة بدائية من مراحل التفكير الإنساني ، لم يوفق فيها إلي اكتشاف سبيل الحقيقة ، والمرحلة التي توصل فيها إلي هذا السبيل إنما هي المرحلة الوضعية التي اكتشف فيها الإنسان الطريقة التجريبية ، وتبعا لذلك فإنه « كلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلي العلم ، واعتبر حلها نهائيا أما المسائل التي لم تقع تحت الملاحظة فهي خارجة عن دائرة العلم ، ويدل تاريخها على أنه لم تتقدم خطوة واحدة منذ أن وضعت » [70] ويقتضي هذا أن يكون الدين من حيث إنه أفكار تصورا لا أساس له من الصحة إذ أنه لا يقابله واقع ،‌وأن يكون من حيث إنه طريقة معرفة طريقة فاشلة لا تؤدي إلي الحقيقة .

 

والماركسية التي وضعها كارل ماركس ( 1818-1883 ) ، جعل لها في وجهيها الفكري والاجتماعي أساسا من المادية التاريخية المبنية على أن المادة هي كل الموجود ، وأن مظاهر الوجود على اختلافها ما هي إلا تطور متصل للقوي المادية ، وهذا يؤدي إلي اعتبار التفسيرات الدينية اعتبارات زائفة ، وقد عبر عن هذا المعني لينين الذي اعتنق هذا المذهب وحوله إلي واقع اجتماعي في قوله : « إننا لا نؤمن بالإله ، ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والاقطاعيين والبرجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا ومحافظة على مصالحهم ، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة غير الإنسان » [71] .

 

ونظرية التطور التي وضعها تشارلس دروين ( 1809-1882 ) وتحمس لها فيما بعدكثيرون وطورا أبعادها الفلسفية ، مبنية على أن الحياة في أصل وجودها ليست من خلق خالق ولكنها من فعل الطبيعة ، كما أنها في مظاهرها المختلفة بها عناية أحد وإنما هي متطورة بعضها من بعض عبر الزمن وبحسب ما تقتضيه البيئة المحيطة .

 

والوجودية‌ التي من أشهر أعلامها في هذا العصر (‌سارتر ) هي فلسفة مادية ملحدة تقوم على إنكار أن يكون هناك موجود أعلى وضع الماهية الإنسانية أولا ثم حقق أفراد الماهية بالخلق ، وإنما الإنسان في وجوده العيني يسبق وجود الماهية المشتركة التي هي الانسانية ، ولذلك فإن الإنسان له أن يفعل كل ما يحقق به وجوده ولو كان من أرذل السلوك المادي . وليس لأحد أن يقيده بأي قانون ينبني على المعني المشترك بين الناس ،‌لأن هذا المعني هو معني متأخر في تحققه عن أصل الوجود [72] .

 

( ب ) أساليب المعارضين للعقيدة : منذ الهجمات على المنطق الصوري التي وقعت منذ القرن السابع عشر وعلى الأخص من قبل ديكارت ، لم يعد هذا المنطق يشكل في الفكر الحديث منهجا مقنعا للاستدلال ؛ فقد أصبح كل شيء موضع شك ، وبذلك سقطت القضايا القديمة القائمة على المسلمات المنطقية ، وأصبح في العقل الحديث لا شيء بمسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقي يمكن أن يحتمله العقل [73] . وقد حل محل الاستدلال المنطقي نمط آخر من الاستدلال هو الاستدلال العلمي الذي يرفض كل مقدمة لم يثبتها العلم . ويستمد مادته من منتجاته ،‌ولهذا الاستدلال جانبان : جانب فكري وجانب تجريبي .

 

أولا – الجانب الفكري : هو الطريقة التي سلكها أشخاص لم يكونوا من العلماء ولكنهم لا يؤمنون إلا بالعلم ، فاستندوا على نتائجه ، وصاغوا على أساسها نوعا من القضايا تعرض بأسلوب فلسفي من مثل قضايا حتمية‌ المادة ، ووجود المادة العقلية والمادة الواقعية ، والعلاقة بين المادة والحركة ، وحتمية التطور ، والاحتمالات الرياضية ، ودور الصدفة في نشأة الكون . ويقوم الاستدلال على معارضة العقيدة في هذا الجانب على ثلاثة أسس : الطبيعة والنفس والتاريخ .

 

أما الطبيعة فباعتبار ما وقع التوصل إليه من القوانين والسنن الدقيقة التي يسير بمقتضاها الكون ، فاكتشاف هذه القوانين دفع إلي أن تقام بها الأدلة على نكران موجود وراء‌ المادة يسير الكون ، باعتبار أن هذه السنن هي السر الحقيقي للظواهر والأشياء الحادثة منها ، « فإذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين فلا ينبغي أن ننسبها إلي أسباب فوق الطبيعة » [74] .

 

وأما النفس فباعتبار ما وقع التوصل إليه من اكتشاف اللاشعور في الإنسان فقد صار اللاشعور هو مصدر كل الأفكار الدينية التي لا تكشف واقعا خارجيا ، فالاله ،‌ليس سوى انعكاس للشخصية الانسانية ‌على شاشة الكون ،‌والآخرة ما هي إلا صورة مثالية للأماني الانسانية والوحي ما هو إلا اظهار لأساطير الأطفال المكبوتة‌ [75] .

 

وأما التاريخ فباعتبار ما توصلت إليه دراسات الإنسان منذ أقدم عصوره من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، فقد أسفرت هذه الدراسات على أن التصورات الدينية التي عرفها الإنسان إنما هي انعكاس لخوفه وضعفه وعجزه أمام قوى الطبيعية ، أو هي حيل ابتكرها الأقوياء ليسيطروا بها على الضعفاء ويستغلوهم ويبتزوا جهدهم وأموالهم ،‌وعلى هذا الأساس ، قامت المادية التاريخية‌ ، والمذاهب الشيوعية .

 

ثانيا – الجانب التجريبي : وهو الطريقة التي سلكها أشخاص من العلماء التجريبيين الحسيين ، فهؤلاء‌ بطريقة التجريب حتى ظنوا أنها هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الحقيقة « فكل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب بحيث يمكن فحصها وإثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة » [76] . وعلى هذا الأساس فإن كل ما لا يخضع للتجربة فهو باطل ، وبالتالي فإن الدين باطل .

 

وقد كانت استدلالات هؤلاء مصاغة من طبيعة التجريبي ، فهم يطبقون التجربة على كل ما يلقى إليهم من الأفكار ، وعندما لا تثبت تلك الأفكار تحت طائلة ‌تلك القوانين فإنها تعد باطلة ، ثم إنهم يحاولون أن يجعلوا نتائج تجاربهم مقدمات يبرهنون بها على بطلان كل ما هو غيبي ، ومثل ذلك ما انتهي إليه عالم الحيوان المادي ( أرنست هكل ) ( 1834-1919 ) من أن الموجود الضروري الوحيد هو المادة ولا شيء ينشئ الحياة سواها ، وذلك نتيجة لما توصل إليه من أن أصل الحياة كلها هو « المونيرا » التي تركبت اتفاقا من الأزوت والأكسيجين والهدروجين والكربون ، ثم تطورت على التوالي حتى تكونت جميع الكائنات الحية [77] .

 

2- موضوع علم الكلام الحديث :

 

نرى مما تقدم أن الشواغل الفكرية للعقل الحديث المناوئ للعقيدة الإسلامية لم تبق هي نفسها تلك الشواغل التي كانت للمعارضين قديما . لا من حيث الموضوعات نفسها ، ولا من حيث ترتيبها حسب الأهمية ، وهذا الوضع الجديد الذي طرأ على المعارضة في مادتها يتطلب تغيرا في مادة علم الكلام بما يناسب مادة التحدي .

 

وأول ما نلاحظ أن التحديات القديمة كانت في معظمها ذات صبغة تحريفية – ولو في الظاهر – فكل من اليهود والنصارى والمجوس يقصدون إلي تحريف العقيدة الإسلامية بحيث تؤول إلي ما يشبه عقيدتهم من تجسيم وتثليت وتثنية ، ويعززون ذلك بانكار نبوة محمد ( صلي الله عليه وسلم ) ليتم القصد ، ولذلك فقد كانت مواضيع علم الكلام دائرة حول التنزيه والوحدانية وإثبات نبوة محمد عليه السلام ، إلي جانب إثبات الوجود الالهي والنبوة عموما ردا على من ينكرهما . أما تحديات اليوم فإنها تحديات هدمية ،‌شغلها الشاغل هدم الدين جملة بانكار الوجود الالهي والنبوة وما يترتب عليهما ، وارجاع كل خلق إلي المادة وقوانينها ، وكل معرفة إلي المصدر الإنساني .

 

ولذلك فإن الموضوع الأساسي في علم الكلام اليوم ينبغي أن يكون إثبات حقيقة الدين عموما بقضاياها الرئيسية : الوجود الالهي والنبوة والمعاد والجزاء‌، ولا يهمل جانب آخر مهم هو موضوع أحقية القواعد الشرعية كالحدود والميراث ومنع الربا وغيرها مما يتخذ لانكار حقيقة الدين الإسلامي لا من قبل الدين عموما فحسب ، ولكن من قبل المقرين به أيضا .

 

وهذه الموضوعات ينبغي أن تترتب في الاهتمام بحسب قوة الاعتراضات الموجهة إليها ، وذلك سواء بالنسبة‌ للموضوعات فيما بينها ، أو بالنسبة لجهات البحث في الموضوع الواحد ، ولا ينبغي أن يساير هذا الترتيب ما كان عليه الترتيب القديم ، ففي هذا الأخير نلاحظ أن الأهمية أعطيت للتوحيد والتنزيه أكثر من الوجود الالهي لأن الضغط عليها والطعن فيها كان أشد ، كما أن قضية وقوع النبوة عموما ونبوة محمد ( صلي الله عليه وسلم ) كانت أهم من قضية‌ إمكان النبوة مطلقا ، وقضية وقوع الجزاء ‌الأخروي وتفصيلاته كانت أهم من قضية إمكان الخلود وإمكان البعث وإثبات الجزاء ،‌وذلك كله تناسبا مع الجهات تسلط منها الاعتراضات .

 

أما متكلمو اليوم فإن همهم ينبغي أن يتجه إلي قضية الوجود الالهي ، وقضية خلق العالم وما يستلزم ذلك من نقض لدعاوي الصدفة وحتمية المادة ، كما ينبغي أن يتجه الاهتمام إلي إثبات إمكان النبوة عموما ، وإمكان خلود النفس ، وإمكان البعث ، وثبوت الجزاء ،‌أكثر من أن يتجه إلي إثبات وقوع النبوة ووقوع البعث وأحواله ، لأن المعترضين اليوم لا يركزون على إنكار نبوة بعض الأنبياء ، ولكن ينكرون ظاهرة‌ النبوة عموما وكذلك البعث والخلود ، باعتبار أن هذه كلها لا تستقيم مع المنطق المادي .

 

أما تلك المقدمات من القضايا الطبيعية والعقلية كالجوهر والعرض والجوهر الفرد والماهية والهوية وغيرها مما أفاض في بحثه القدامى باعتبار أن قضايا العقيدة الأساسية متوقفة في إثباتها عليه ، فلم يبق لها في علم كلام اليوم مكان مهم ،‌وذلك لأن بعضها قد قال فيه العلم كلمته الفاصلة فأصبح موضوعا علميا ، وبعضها لم تعد متوقفة‌ عليه الأدلة لأن العقل الحديث لم يبق يستسيغه ، ويمكن أن تعوض بمقدمات تؤخذ من حقائق العلم الثابتة مما يتعلق بالكون أو بالنفس على ما سنرى بعد حين .

 

3- منهج علم الكلام الحديث :

 

كما أن مواضيع علم الكلام الحديث ينبغي أن تناسب التحديات الواردة على العقيدة ، فإن الأسلوب الاستدلالي الذي يسلكه هذا العلم ينبغي أن يتناسب أيضا مع الأساليب التي يرد بها التحدي والتي يقتنع بها الخصوم ويدركون بها الحق . ومن هنا يتبين أن الأسلوب النقلي الذي استعمله القدامى لم يعد صالحا اليوم إلا أن يكون لإقناع مسلم وقع في شبهه أو ساورته بعض الشكوك . وكذلك الأسلوب المعتمد على المنطق الصوري ،‌ فإن عقلية‌ اليوم لم تعد تحتمل هذا المنطق ولا تراه مؤدياً‌ إلى الحقيقة ، وبالتالي لم يعد صالحاً‌ لا قناعها .

 

ومن الأساليب الصالحة لأن يستعملها علم كلام اليوم ما يلي :

 

( أ‌ ) الأسلوب الفلسفي : ويكون لمجابهة الاستدلالات الفلسفية التي استعملها بعض منكري الدين ، وذلك باستحكام طرق تعتمد على المبادئ العقلية العامة‌ ، وعلى المقدار المشترك بين الناس في المشاعر الفطرية المتعلقة بالغرائز أو بالحس الاجتماعي أو بالتوق الأخلاقي ، فتتخذ هذه المعطيات كمقدمات تبنى عليها الأدلة لاثبات القضايا الماورائية وتفنيد ما يعترض به عليها المعترضون ،‌ ومثال ذلك أن يستدل على ثبومت حقيقة البعث وعلى تهافت الرأي الذي يفسرها بأنها من اختراع عقلية الإنسان الباحثة عن عالم حر و المصورة‌ له أنه سيظفر به بعد الموت ، أن سيتدل على ذلك « بأن هذا المطلب الانساني في حد ذاته دليل نفسي قوي على وجود عالم آخر ، كالظمإ فهو يدل على الماء وعلى علاقة خاصة ‌باطنة ‌بين الماء وبين الإنسان ، وهكذا فإن تطلع الإنسان نفسياً إلى عالم آخر دليل في ذاته على أن شيئاً مثل ذلك موجود في الحقيقة أو أنه على الأقل خليق أن يوجد » [78] .

 

ومن أهم الدعائم التي يرتكز عليها هذا الأسلوب الاستدلال بأن الدين ليس مادياً بل هو فوق المادة – كما يدعي هو لنفسه ذلك – وبناء على هذا فلا سبيل لانكاره باستعمال أقيسة العلوم المادية ، وبذلك تسقط أدلة منكري الدين على هذا الأساس ، باعتبار أنها طبقت مقياساً مستحدثاً لأجل مادة معينة على مادة‌ أخرى مخالفة لها في الطبيعة مخالفة مطلقة .

 

( ب ) الأسلوب العلمي : لعل هذا الأسلوب هو أكثر ما يحتاج إليه علم الكلام اليوم من الأساليب لتأدية رسالته ، وذلك لأنه أنجع الأساليب لاقناع العقلية الحديثة ، لما عليه هذه العقلية من الاعتداد بالعلم التجريبي ونتائجه .

 

ويعتمد هذا الأسلوب على إقتناء نتائج العلم التي توصل إليها بالتجارب ، واستعمالها مقدمات لبناء أدلة تثبت الحقائق الدينية ، ومثال ذلك استعمال ما توصل إليه علم الفلك من القوانين الدقيقة الغربية لسير الاجرام السماوية للدلالة على‌أن ذلك من تدبير صانع ، واستعمال القوانين الرياضية‌ لابعاد احتمالات الصدفة في خلق الحياة‌ ، واستعمال قوانين الفيزيا في الطاقة و الحرارة للاستدلال على أن الكون ليس بأزلي وإنما هو مخلوق حادث .

 

ولا يضعف من شأن هذا الأسلوب في الاستدلال ما قد يكون من نسبية القوانين و النتائج العلمية وأن منا يعتقد يوماً أنه حقيقة علمية ‌قد يكشف يوماً آخر عن أنه ليس حقيقة ، وذلك لأن حقائق العلم منها ما هو قطعي لا يمكن أن يتغير أو تخالفه كشوفات وتجارب الغد مثل دوران الأرض أو تركب الماء من الأكسجين والهدرجين بنسبة واحد إلى‌ إثنين ، وحتى إذا ما استعملت في الاستدلال نتائج علمية نسبية‌ فإنه لا ضرر لأن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول ،‌ بل تلتمس أدلة أخرى لاثباته . وإنما الذي ينبغي الاحتياط فيه في هذا المجال محاولة‌ الاستدلال على ثبوت الدين بإثبات أن ما جاءت به التعليمات و الأخبار مما يخص مواضيع علمية‌ مطابقة لما توصل إليه العلم من النتائج إظهاراً للاعجاز العلمي ،‌وذلك لأنه إذا ما ظهر بطلان النتائج المدعى أن الدين قد سبق إليها وقررها ظهر الدين بمظهر المخطىء فتنتزع منه الثقة ويكفر به الناس ، فيؤدي هذا الاستدلال إلى الضرر من حيث أريد به النفع .

 

إن هذين الأسلوبين يستلزم استعمالهما إطلاعاً كافياً على نتائج الفكر الفلسفي والفكر العلمي المتجددة ، وعلى ما يحدث من أساليب البحث و طرق التفكير في مختلف نواحي الفكر الإنساني ، ولعل هذا هو ما يفتقر إليه الكثير ن المهتمين بشأن العقيدة الإسلامية ‌بسبب أن العلم من مكاسب غير المسلمين من جهة ، وأن قوانينه ونتائجه تحتاج إلى تبسيط كي تصبح في متناول الجميع – وهو الذي لم يقع بعد بشكل كاف – من جهة أخرى .

 

ولهذا فإن مهمة انشاء علم كلام حديث لا يمكن أن يقوم بها متكلمون بالمفهوم القديم ولكن تحتاج إلى تضافر جهود مختلفة ‌يحدوها الايمان العميق بهذا الدين تصوراً وتطبيقاً ، ويتساند فيها المختصون في العلم التجريبي بفروعه و المختصون في الفلسفة قديمها وحديثها ، والمختصون في علوم الدين ليحضر كل من هؤلاء مادة من مواد بناء هذا العلم . ولعل لعض ما كتبه الامام محمد عبده في « رسالة التوحيد» ، ومحمد اقبال في « تجديد التفكير الديني » ومالك بن نبي في ٍ« الظاهرة القرآنية » ووحيد الدين خان في « كبرى اليقيانيات الكونية » ، لعله يشكل البذرة الصالحة لعلم كلام حديث لو وجدت المتعهدين من ذوي الاخلاص والعزم .

 

طالع الجزء الأول .

 

* عبد المجيد النجار : كاتب تونسي

** فصل من كتاب : مباحث في منهجية الفكر الإسلامي بعض المصادر والمراجع:

 

ـ أحمد أمين .

1- ضحى الإسلام – ط 7 . النهضة المصرية ، القاهرة .

ـ الأشعري ( علي بن إسماعيل أبو الحسن ت 324 هـ ) .

2- مقالات الإسلاميين – ط 2 ،‌النهضة المصرية ، القاهرة 1969-تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد .

ـ البغدادي ( أبو منصور عبد القاهر بن طاهر ت 429 هـ ) .

3- الفرق بين الفرق – ط 1 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت 1973 .

ـ البلخي ( عبد الله بن أحمد بن محمود ، أبو القاسم ت 319 هـ ) .

4- مقالات الإسلاميين – ط 1 ، الدار التونسية للنشر ، تونس 1974 تحقيق فؤاد سيد ( ضمن « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » ) .

ـ البخاري ( محمد بن إسماعيل ت 256 هـ ) .

5- كتاب خلق أفعال العباد – منشأة‌ المعارف بالإسكندرية ، 1971-تحقيق : د . النشار وعمار طالبي ( ضمن « عقائد السلف » ) .

ـ الجرجاني (‌السيد الشريف ت 816 هـ ) .

6- شرح المواقف – ط بولاق 1913 .

ـ الجويني ( عبد الملك بن عبد الله ، أبو المعالي ،‌إمام الحرمين ت 478 هـ ) .

7- لمع الأدلة – الدار المصرية للتأليف والنشر ، القاهرة 1965 – تحقيق :‌فوقيه حسين .

ـ ابن حزم ( أبو محمد علي بن أحمد ت 456 هـ ) .

8- الفصل في املل والاهواء والنحل – مكتبة علي صبيح – القاهرة 1964 .

ـ ابن خلدون ( عبد الرحمان بن خلدون ت 808 هـ ) .

9- المقدمة – دار الشعب – تحقيق : علي عبد الواحد وافي .

¬ـ ابن خلكان ( شمس الدين أحمد بن إبراهيم ت 681 هـ ).

10- وفيات الأعيان – دار صادر ،‌بيروت – تحقيق إحسان عباس .

ـ الخياط ( أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد ت 300 هـ ) .

11-الانتصار والرد على ابن الراوندي – مطبعة دار الكتب المصرية ؛ القاهرة 1925 ( تحقيق : نيبرج ) .

ـ ديلاسي أوليري .

12-الفكر العربي ومكانته في التاريخ – المؤسسة المصرية العامة ،‌1961 ( ترحمة :تمام حسان ) .

ـ الدرامي ) عثمان بن سعيد ، الإمام ت 280 هـ ) .

13-كتاب الرد على المريس – منشأه المعارف بالإسكندرية 1971 – تحقيق : النشار والطالبي ( ضمن « عقائد السلف » ) .

ـ الرازي ( فخر الدين ت 606 هـ ) .

14- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين – النهضة المصرية ، القاهرة 1938 – تحقيق : د . النشار .

ـ السامرائي ( د . عبد الله سلوم ) .

15- الغلو والفرق الغالية‌ في الحضارة الإسلامية – دار الحرية للطباعة ، بغداد 1972 .

ـ الشريف المرتضي ( ت 436 هـ ) .

16-الأمالي – ط 1 ، دار إحياء الكتب العربية‌1954 – تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم .

ـ الشهرستاني ( أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم ت 548 هـ ) .

17-الملل والنحل – مكتبة صبيح القاهرة‌1964 .

ـ طاش كبرى زاده ( أحمد بن مصطفي ت 988 هـ ) .

18- مفتاح السعادة – دار الكتب الحديثة ، القاهرة – تحقيق : كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور .

ـ الطبري ( محمد بن جرير ت 310 هـ ) .

19-تاريخ الرسل والملوك – ط 2 ، دار المعارف 1969 – تحقيق :‌محمد أبو الفضل إبراهيم .

ـ القاضي عبد الجبار ( ت 415 هـ ) .

20- المغني في أبواب التوحيد والعدل – الدار المصرية للتأليف والترجمة .

ـ الغزالي ( أبو حامد محمد بن محمد ت 505 هـ ) .

21- تهافت الفلاسفة – ط 5 ، دار المعارف 1972 – تحقيق :‌سليمان دنيا .

22-المستصفى ط 1 ، بولاق 1322 هـ .

ـ( الفارابي ( أبو نصر ت 339 هـ ) .

23-إحصاء العلوم – الانجلو المصرية ، 1968 .

ـلويس غزدي وجورج قنواتي .

24- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية – دار العلم للملايين ، بيروت 1969 – ترجمة : صبحي الصالح وفريد جبر .

ـ محمد عبده ( ت 1905 م ) .

25- رسالة التوحيد – ط 3 ، دار المعارف – تحقيق : محمد أبو رية .

ـ الملطي ( أبو الحسين محمد بن أحمد ت 377 هـ ) .

26-التنبيه والرد على أهل الاهواء والبدع – مكتبة المثني 1968 – تحقيق : محمد زاهد الكوثري .

ـ ابن نباتة المصري ( محمد بن محمد ت 668 هـ ) .

27- سرح العيون – ط 4 ، مطبعة الموسوعات ، 1321 هـ .

ـ ابن النديم ( أبو الفرج محمد بن اسحاق ،‌ ت 438 هـ ) .

28- الفهرست – نشر : جوهاسن رودجر 1871 .

ـ النشار ( د.علي سامي ) .

29- الفهرست – نشر : جوهانس رودجر 1871 .

29مكرر – مناهج البحث عند مفكري الإسلام – ط دار المعارف 1976 .

ـ نيبرج .

30- مقدمة كتاب الانصار – دار الكتب المصرية 1925 .

ـ وحيد الدين خان .

31- الإسلام يتحدى – ط 3 ، المختار الإسلامي ، القاهرة 1973 – ترجمة : عبد الصبور شاهين .

ـ يوسف كرم .

32 – تاريخ الفلسفة الحديثة – ط 6 ، دار المعارف 1969 . الهوامش :

[50] أبو القاسم البلخي – مقالات المسلمين ، باب ذكر المعتزلة : 66-67 .

[51] ابن خلكان – وفيات الأعيان : 4/266 ، أنظر في هذه المناظرات تراجم المعتزلة وبالأخص أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام ( طبقات للقاضي عبد الجبار ، والمنية والأمل لإبن المرتضي ) ، وانظر أيضا كتاب « عيون المناظرات » للسكوني » .

[52] الدارمي – الرد على الجهمية ( ضمن كتاب السلف ) د : النشار وعمار طالبي : 263 .

[53] الملطي – التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع : 92 .

[54] الدارمي – كتاب الرد على المريسي ( ضمن عقائد السلف … ) : 441 .

[55] البخاري – كتاب خلق أفعال العباد ( ضمن كتاب عقائد السلف ) 135 .

[56] الجرجاني – شرح المواقف : 2/345 .

[57] الجويني – لمع الأدلة : 77 .

[58] الجويني – الشامل : 243-44 .

[59] الخياط – الانتصار : 30-31 .

[60] أنظر تفصيلا لهذه الطرق في كتاب النشار - « مناهج البحث عند مفكري الإسلام » : 129 وما بعدها .

[61] ابن نباتة – سرح العيون : 153 .

[62] نيبرج : مقدمة الانتصار للخياط : 58 .

[63] الجاحظ – البيان و التبيين : 10 / 106 ( عن ضحى الإسلام : 1 / 381 ) .

[64] الغزالي – المستصغى : 1 / 10 .

[65] ابن خلدون – المقدمة : 430 .

[66] محمد عبده – رسالة التوحيد : 33 .

[67] ابن خلدون – المقدمة : 430 – 431 .

[68] محمد عبده – رسالة التوحيد : 33 .

[69] ابن خلدون – المقدمة‌ : 431 .

[70] يوسف كرم – تاريخ الفلسفة الحديثة . 319 .

[71] عن وحيد الدين خان – الإسلام يتحدى : 30 .

[72] مكرر أنظر عرضا لهذه الفكرة ونقدا لها في كتاب : يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الحديثة : 457-458 .

[73] عبد الصبور شاهين – مقدمة كتاب الإسلام يتحدى لـ : وحيد الدين خان : 11 .

[74] هكسلي – عن الدين يتحدى لوحيد الدين خان : 12 .

[75] وحيد الدين خان – الإسلام يتحدى : 28 .

[76] نفس المصدر : 26 .

[77] يوسف كرم – تاريخ الفلسفة الحديثة : 400 .

[78] وحيد الدين خان – الإسلام يتحدى 91.

المصدر: كتاب : مباحث في منهجية الفكر الإسلامي (عبد المجيد النجار)

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك