قضايا التنوع التطرف والوسطية الوسطية والاعتدال

قضايا التنوع التطرف والوسطية الوسطية والاعتدال
السبت، 12 يونيو 2010 يوسف القرضاوي

"بعض الإسلاميين قد انحصرت عنده الألوان الكثيرة في لونين اثنين لا ثالث لهما، هما الأپيض والأسود، وليس بينهما ألوان أخرى، مما يعرفه الناس من الألوان الأصلية والفرعية، التي لكل منها درجات لا تكاد تحصر.

وبعض هؤلاء يكاد يحصر الألوان كلها في واحد، ويجعل الأصل في الألوان كلها وفي الحياة كلها هو: (السواد) تبعا للمنظار الذي يرى فيه الناس الأشياء."
الإسلام منهج وسط للأمة الوسط، وهو يمثل (الصراط المستقيم)، في كل مجال من المجالات، ويجسد التوازن والاعتدال في كل شيء: في العقيدة، وفي العبادة، وفي الأخلاق، وفي المعاملات والتشريعات كلها، بعيدا عن الغلو والتفريط.
وقد تحدثنا عن هذه (الوسطية) بشيء من التفصيل في كتابنا: (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) ورسالتنا: (ظاهرة الغلو في التكفير).
وتحدثنا عن (الفكر الوسطي) أو (التيار الوسطي) ومعالمه وملامحه: في عدة كتب منها: (أولويات الحركة الإسلامية) و(في فقه الأولويات) و(الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي) و(مستقبل الأصولية الإسلامية) وغيره.
حتى لاحظ بعض الدارسين: أن عددا من عناوين كتبي يتضمن كلمة (بين) التي كثيرا ما تدل على وسط بين طرفين، مثل (الفقه الإسلامي: بين الأصالة والتجديد) (الفتوى : بين الانضباط والتسيب) (الاجتهاد: بين الانضباط والانفراط) (الثقافة الإسلامية: بين الأصالة والمعاصرة) (ثقافتنا: بين الانغلاق والانفتاح).. الخ.
وأنا الآن أسعى إلى تكوين جمعية ثقافية، أسميتها (جمعية الأمة الوسط في الفكر والثقافة) مهمتها: أن تورث (الفكر الوسطي) للأجيال الصاعدة عن طريق الدعوة والتثقيف والتعليم والتربية، بطريقة مؤسسية عصرية. وأدعو الله أن يرى هذا المشروع النور قريباً.
وإنما عنيت بهذا الأمر كل هذه العناية، لأني أرى هذا الفكر أو هذا الاتجاه: هو طوق النجاة للدعوة الإسلامية، بل للأمة الإسلامية كلها. وهو الجدير أن يمضي بها في الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى الغاية المنشودة، وهي الرقي بالأمة ماديا وروحيا، والعودة بها إلى دفة القيادة للبشرية، بما لديها من رسالة ربانية إنسانية أخلاقية عالمية، متكاملة متوازنة.
كما أني أرى الإعراض عن هذه الوسطية هو الهلاك بعينه، والضياع في الدين والدنيا معا. سواء كان هذا الإعراض جنوحا إلى جانب التسيب والانفلات، وهو جانب التفريط والتقصير، بـإضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والسير في ركاب شياطين الإنس والجن، وباعة الفجور، ومروجي الإلحاد والانحلال، ودعاة المادية المجحفة، والإباحية المسرفة: فهلاك هؤلاء محتم وفق سنن الله تعالى، (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) (1).
أم كان الإعراض عن الوسطية جنوحا إلى جانب الغلو والتنطع والتشدد، وهو جانب الإفراط أو التطرف، كما يسمونه اليوم. وهو الشائع - للأسف - بين عدد من الفصائل المنسوبة إلى الصحوة الإسلامية. وقد صرح الحديث النبوي بأنه سبب الهلاك للأمة، كما قال (ص): "إياكم والغلو في الدنيا، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"(2) . وقال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً(3) . وهو لا يكرر الكلمة إلا لعظم خطر مضمونها. والمتنطعون: هم المتشددون المتعمقون المبالغون في التزامهم بالدين بما يخرجهم عن الحد الوسط.
والخير كل الخير في التوسط والتوازن بين الغلو والتقصير، أو بين الإفراط والتفريط، أو بين (الطغيان والإخسار) على حد تعبير القرآن: (والسماء رفعها ووضع الميزان: إلا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (4) .
والطغيان: تجاوز حد الوسط، إلى جانب الغلو والإفراط، والإخسار: هو تجاوزه إلى جانب التقصير والتفريط.
والمنهج المطلوب هو (الهدي القاصد) كما عبر عنه في حديث شريف.
عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: خرجت ذات يوم لحاجة، وإذا أنا بالنبي(ص) يمشي بين يديّ، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعا، فإذا نحن بين أيدينا رجل يصلي، يكثر الركوع والسجود، فقال النبي (ص): أتراه يراني؟ فقلت: الله ورسوله أعلم! فترك يده من يدي، ثم جمع يديه، فجعل يصوبهما يرفعهما، ويقول: "عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا! فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه"(5) .
ولا تنتقل الصحوة الإسلامية المعاصرة من المراهقة إلى الرشد، إلا بتبني هذا الهدي القاصد أو هذا المنهج الوسطي، الذي لا طغيان فيه ولا إخسار.
وتتجلى هذه الوسطية في مواقف شتى، أساسها: رفض الغلو والتفريط. وهو ماوقع فيه كثير من الناس.
* انحسار الوسطية في بعض الفترات:
إن بعض الإسلاميين قد انحصرت عنده الألوان الكثيرة في لونين اثنين لا ثالث لهما، هما الأپيض والأسود، وليس بينهما ألوان أخرى، مما يعرفه الناس من الألوان الأصلية والفرعية، التي لكل منها درجات لا تكاد تحصر.
وبعض هؤلاء يكاد يحصر الألوان كلها في واحد، ويجعل الأصل في الألوان كلها وفي الحياة كلها هو: (السواد) تبعا للمنظار الذي يرى فيه الناس الأشياء.
وبهذه النظرة السوداء المتشائمة: حدد أجوبة جاهزة لكل شيء، يطلقها كالقنبلة، ولا يبالي ما أصابت من الحياة والأحياء.
فالمجتمع جاهلي كله..
والحياة إثم كلها..
والناس كلهم كفار، أو منافقون.
والعالم كله وحوش.
وكل ما يمارسه الناس في حياتهم المعاصرة من لهو وفنون: حرام في حرام .
هذا مع أن سلف الأمة كانوا يتحرجون أشد الحرج، من إطلاق كلمة (الحرام) إلا على ماعلم تحريمه جزما، ولهذا نزل في ذم الخمر آيتان إحداهما في سورة البقرة (قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (6) . والثانية في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) (7) . ومع هذا ظل بعض الصحابة يشربها، وظل بعضهم يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، حتى نزلت آية المائدة الحاسمة: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (8) ..
يجب أن نعترف أن الفترة الماضية - وخصوصا في الخمسينيات والستينيات - كانت مجالا خصبا لانتشار نوع من الأفكار السوداء في الساحة الإسلامية.
فقد غلب الفكر الذي ينزع إلى الرفض والتشاؤم والاتهام، وسوء الظن بالآخرين، على اختلاف نزعاتهم واتجهاتهم، حتى المسلمين منهم.
أجل، راجت فكرة التفسيق والتبديع(9)، بل التكفير.. وساعد على ذلك: الجو الخانق الذي كانت تعيشه الحركة الإسلامية ورجالها ودعاتها، الذين نصبت لهم المشانق جهرة، أو قتلوا بأدوات التعذيب خفية، أو صبت عليهم ألوان التنكيل والتشريد من كل جهة، في حين: فتحت الأبواب أمام الشيوعيين والعلمانيين وكل خصوم الإسلام.
في هذه المرحلة: ظهرت كتب الشهيد سيد قطب، التي تمثل المرحلة الأخيرة من تفكيره، والتي تنضح بتكفير المجتمع واتهامه بالجاهلية، وتأجيل الدعوة إلى النظام الإسلامي، والسخرية بفكرة تجديد الفقه وتطويره، وإحياء الاجتهاد وتدعو إلى العزلة الشعورية عن المجتمع، وقطع العلاقة بالآخرين، وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة، والاستخفاف بدعاة التسامح والمرونة، ورميهم بالسذاجة والهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية.
يتجلى ذلك أوضح مايكون في تفسير الشهيد (في ظلال القرآن) في طبعته الثانية، وفي (معالم في الطريق) ومعظمه مقتبس من (الظلال) وفي (الإسلام ومشكلات الحضارة) وغيرها. وهذه الكتب كان لها فضلها وتأثيرها الإيجابي الكبير، كما كان لها تأثيرها السلبي.
كما ظهرت كتب المدعو له بالرحمة والمغفرة: الشيخ سعيد حوّى، وهي تتبنى نفس الفكرة، وتسير في هذا الخط ذاته.
وفي نفس الوقت: راج فقه من سميتهم: (الظاهرية الجدد)، الذين ينسبون أنفسهم أو ينسبهم الناس إلى: (السلفيّة) أو بعبارة أخرى: مدرسة ابن تيمية وتلامذته، وهم كانوا أبعد الناس عن (الحرفية) والجمود على (الصورية والشكلية)، التي يستقتل هؤلاء في التمسك بها. حتى كاد الإسلام يحصر في لحية طويلة، وثوب قصير، بالنسبة للرجل، ونقاب على وجه المرأة.
ونرى هؤلاء الإخوة الأفاضل يشعلون معركة في أواخر كل رمضان: ضد الذين يخرجون صدقة الفطر نقدا ويصرون على إخراجها من الحبوب والأطعمة. وإن لم ينتفع بها الفقير، لأنه لم يعد يطحن أو يعجن أو يخبز. وقد أجاز إخراج القيمة: عدد من سلف الأمة. ولهم فتاوي ومواقف كثيرة من هذا النوع.
وبهذا غلب على الفكر الإسلامي : الإعنات والتصلب، وتقهقرت روح الوسطية السمحة الميسرة إلى حين. وأعتقد أن الحركة لابد لها من التغلب على فكر المحنة، أو فكر الأزمة، لتنتقل إلى فكر العافية، ومن فكر (مدرسة الظواهر) إلى فكر (مدرسة المقاصد) ومن فكر الجنوح إلى الغلو إلى التسيب، إلى: الفكر الوسطي المعتدل، المعبر عن وسطية الأمة المسلمة، ووسطية المنهج الإسلامي: الذي أراد الله به اليسر، ولم يرد به العسر(10) .
* اهتمامي بمقاومة الغلو:
لقد شغلتني قضية: (الغلو الديني) - أو التطرف الديني ، كما أطلق عليها في بعض الفترات - باعتبارها جزءا من (ترشيد الصحوة) وتسديد مسيرتها، حتى لا تتآكل من الداخل، أو تضرب من الخارج.
وقد ألفت كتابا خاصا، في دراسة ظاهرة الغلو والتطرف الديني، نشرته مجلة: (الأمة) ضمن كتبها الدورية، وهو الكتاب الثاني في سلسلتها، وأعنى به كتاب: (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) وفيه حددت مفهوم التطرف وعلاماته المميزة، كما ألقيت الضوء على: أسباب التطرف الفكرية والاجتماعية والسياسية.
ثم عرضنا لسبل العلاج كما نراها، وختمنا بوصايا ونصائح أبوية للشباب الذين يتهمهم من يتهمهم بالتطرف.
ويهمني في هذا الكتاب: أن أنقل فقط ملاحظتين مهمتين حول مفهوم التطرف أو الغلو، الذي يفسره كل اتجاه بما يحلو له، وما يخدم فكرته، حتى إن بعض البلاد تعتبر من يحرص على الصلاة في المسجد: متطرفا، ومن ترتدي الحجاب - أي تغطي رأسها بالخمار - متطرفة.
الملاحظة الأولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على الآخرين: بالتطرف، أو التوسط، أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لاحظ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات الأبرار، سيئات المقربين".
ويحضرني هنا ماقاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في اعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله (ص) من الموبقات!
وكانت عائشة (رض) ؛ تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلْف كجلد الأجرب!
وتقول: رحم الله لبيدا، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وقد عاشت إلى عهد بني أمية، وماتت في زمن معاوية وكان ابن أختها عروة بن الزبير، وقد عاش بعدها زمناً: ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيدا ورحم الله عائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟!
وفي مقابل هذا: نجد الشخص الذي قلّ زاده من التدين علماً وعملاً، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، ويعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين: ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين: زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفا دينيا!
وكثير ممن غزته الأفكار والتقاليد الأجنبية: يعتبر الذين يتمسكون بآداب الإسلام: في المأكل، والمشرب، والملبس، والزينة ونحوها: غاية في التطرف والتعصب!
لقد رأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام: تطرفا في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضُيع، والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفا في الدين، وتدخلا في الحرية الشخصية للآخرين!
ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفاراً: تعصب وتطرف، مع أن أساس الإيمان الديني يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفيه على باطل، ولا مجاملة في هذه الحقيقة.
بل رأينا من يعتبر الحرص على الصلاة في المسجد: تطرفا وغلوا في الدين! ومن يرى لبس المسلمة الخمار على رأسها: غاية في التطرف، بل جريمة تعاقب عليها بالحرمان من دخول المدرسة والجامعة والتوظيف في مؤسسات الدولة، ودخول مستشفيات الحكومة، ولو للولادة!!
والملاحظة الثانية:
أنه ليس من الإنصاف، أن نتهم إنسانا بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأيا من الآراء الفقهية المتشددة، مادام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعا، لأنه ليس مسؤولا إلا عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأروع، وإن لم يكن فرضا ولا واجبا، إذا كانت همته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ومن حقائق الحياة: أن الناس يتفاوتون في هذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عباس، والمتشدد كابن عمر(رض).
ويكفي المسلم في هذا المقام: أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم؛ فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول: بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه، لأنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمرو من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقّنا؟ أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وبخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، لا بحياة غيره؟!
إن جمعاً غفيرا من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ماعدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: (لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (11)، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك: كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم(12) .
ولكنّ عددا آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث والآثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر، وخصوصا في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر: أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.
فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءا من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار، إرضاء لخاطرنا، وفرارا من تهمة التطرف؟
ومثل ذلك يقال فيمن يتبني الآراء المتشددة في الغناء أو الموسيقى أو الرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصيا في هذه الأمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع آخرين من علماء المسلمين: متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.
والواقع أن كثيرا مما ينكر على من نسميهم (المتطرفين)، مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء رحمة الله تعالى وخوفا من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى مافوق الكعبين، والامتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.
ومن هنا: لا نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط لآخرته.
وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه، ونطالبه بسلوك يخالف ما يعتقده ويدين الله به، كل ما نملكه: أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيلا، وأقوم قيلا(13) .
* مظاهر الغلو ودلائله:
فما التطرف أو الغلوّ إذن، وما دلائله ومظاهره؟
أستطيع أن أذكر هنا عدة دلائل ومظاهر أساسية تنبئ عن: الغلو أو التطرف:
1- عدم الاعتراف بالرأي الآخر:
إن أولى دلائل الغلو أو التطرف: هي التعصب للرأي تعصبا، لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جمودا لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، لا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهانا، وأرجح ميزانا.
ونحن هنا: ننكر على صاحب هذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إننا ننكر عليه حقا، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضلال، واتهم من خالفه في الرأي: بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك: بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبيا معصوما، ومن قوله وحيا يوحى!
2- إلزام جمهور الناس بالعزائم والتشديد:
ومن دلائل الغلو: الغفلة عن تفاوت الناس، وأن فيهم الضعيف والقوي، وأخذهم جميعا بالعزائم والشدائد، مع عدم رعاية ظروفهم في هذا العصر، الذي لا يعين أهله على حسن الالتزام.
وقد قبل الرسول من بعض الناس: الالتزام بالفرائض وحدها، لايزيد عنها ولا ينقص، وقال: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق.
بل جعل الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
بل القرآن يدل على أن مجرد اجتناب الكبائر يُكفر الصغائر (إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (14) ..
ولهذا قلت: إن بحسبنا في هذا الزمن من المسلم: أن يؤدي الفرائض، ويبتعد عن الكبائر، لنعتبره في صف الإسلام وأنصاره.
3- التشديد في غير محله:
ومن مظاهر الغلو: استصحاب التشديد في غير مكانه وزمانه، كأن يكون في غير دار الإسلام، وبلاده الأصلية، أو مع قوم حديثي عهد بالإسلام ، أو حديثي عهد بتوبة.
فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية، والأمور الخلافية، والتركيز معهم على الأصول قبل الفروع، والكليات قبل الجزئيات، وأخذهم بالتدرج الحكيم، كما تدرج الإسلام مع أهل الجاهلية في فرض الفرائض، وفي تحريم المحرمات.
ولقد رأيت الإخوة الذين ذهبوا إلى البوسنة والهرسك، وغيرها من البلاد التي رزحت تحت الحكم الشيوعي طويلا، يطالبونهم أول ما يطالبونهم: أن يلتحي الرجال، وتتنقب النساء!
ورأيت آخرين: يقيمون معارك في أمريكا وأوروبا، من أجل قضايا خلافية لا تستحق مثل هذه الضجة، لو كانوا يعلمون.
4- الغلظة والخشونة:
ومن دلائل الغلو: الخشونة في الدعوة، والغلظة في الأسلوب، والفظاظة في التعامل، على خلاف مادعا إليه القرآن والسنة، من انتهاج الرفق واللين والرحمة في دعوة الناس ومعاملتهم، وقد خاطب الله تعالى رسوله فقال: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) (15) ..ذلك لأن الناس لا يطيقون الفظ والغليظ، ولو كان هو رسول الله المؤيد بالوحي، فكيف بغيره من الناس؟
إن آفة كثير من أپناء الصحوة: أنهم يتعاملون مع أقاربهم وجيرانهم، بل مع آبائهم وأمهاتهم بخشونة وعنف، وأنهم يجادلون مخالفيهم بالتي هي أخشن، لا بالتي هي أحسن، كما أمر الله، ولذلك ينفّرون ولا يبشّرون.
5- سوء الظن بالناس:
ومن دلائل الغلو كذلك: سوء الظن بالناس، وقد حذّر الله ورسوله منه، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) (16) . وفي الصحيح: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" متفق عليه عن أپي هريرة.
وأصل هذا كله: هو الغرور والإعجاب بالذات، والازدراء للغير، وهذه أول معصية ظهرت في الأرض، وهي معصية إبليس، حين تمرّد على السجود لآدم، ورفض أمر ربه، وقال: أنا خير منه.
وفي الحديث: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"(17) .
وفيه : "إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم"(18) .
روي بفتح الكاف على أنه فعل ماض، أي هو أهلكهم، أي تسبب في هلاكهم بعجبه بنفسه، وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى.
كما روي بضم الكاف، أي فهو أشدهم هلاكا بغروره بنفسه، وسوء ظنه بالناس، واتهامه لهم واستعلائه عليهم.
6- السقوط في هاوية التكفير:
ويبلغ هذا الغلو غايته، حين يسقط في هاوية (التكفير) ، ويري نفسه ومن على شاكلته: هو المسلم، وسائر المسلمين من حوله: كفارا، إما لأنهم مرقوا من الإسلام وارتدوا عنه بسوء أعمالهم ومعاصيهم، التي تخرجهم من الملة في رأيه، وإما لأنهم لم يدخلوا في الإسلام أصلا، كما يقول بعضهم، لأنهم لم يفهموا مدلول (لا إله إلا الله).

وهذا ما سقط فيه الخوارج قديما، وما وقعت فيه جماعات التكفير حديثا، فهم يكفرون الحكام، ويكفرون العلماء، لأنهم موظفون في دولة الحكام، ويكفرون الجماهير، لأنهم سكتوا على كفر الحكام، فالتكفير عندهم بالجملة، وهو أمر خطير لأنه يترتب عليه استحلال الدماء والأموال(19) ، وهو ما سنعالجه في محور مستقل:من العنف والنقمة، إلى الرفق والرحمة، في هذا الموضوع.
وقد أصدرت من قديم رسالتي: (ظاهرة الغلو في التكفير) لمقاومة هذه الموجة الطاغية المدمرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* مقاومة التفريط والتسيب أيضاً:
وكما يجب علينا مقاومة تيار الغلو والتطرف، والتحذير منه، فإن علينا أن نقاوم تيار التفريط والتقصير والتسيب، والتحذير منه أيضاً، وكما قال السلف: يضيع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
ولهذا ألفت كتابي: (الفتوى بين الانضباط والتسيب) محذرا من الذين يفتون بغير علم، ويقولون على الله مالا يعلمون، أو الذين يصدرون فتواهم، اتباعا لهوى النفس، أو أهواء الغير، سواء كان هؤلاء الغير حكاماً وأمراء يُرجون ويخشون، أم كانوا من الجماهير: الذين يلتمس كثير من الناس رضاهم وكسب ثنائهم، وفي رأيي: السعي لإرضاء الجمهور أشد خطرا من العمل لإرضاء الحكام.
كما أصدرت كتابي: (الاجتهاد بين الانضباط والانفراط) محذرا من الاجتهاد غير المنضبط بضوابط الشرع، وهو الذي لا يصدر من أهله في محله، وأهله هم الذين استكملوا شروط الاجتهاد وأدواته، التي أصلها وفصلها الأصوليون في كتبهم، وبينتها في كتابنا: (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) وهي: المعرفة الناضجة بالقرآن وعلومه، والسنة وعلومها، والرسوخ في اللغة العربية وتذوقها ومعرفة دلالاتها الإفرادية والتركيبية، ومعرفة المجمع عليه والمختلف فيه، ومعرفة أصول الفقه ولاسيما القياس وعلته وشروطه، وممارسة الفقه والغوص فيه حتى تكون له ملكة الفقيه، ومعرفة الناس والحياة والعصر، والإلمام بثقافته، حتى يتمكن من معرفة الواقع، ويمكنه أن يحكم له أو عليه.
وقد حذرت من مزالق الاجتهاد، وضربت له أمثلة شتى، كما وضعت المعالم اللازمة لاجتهاد معاصر قويم.
إننا نحذر هنا: من تيارات الانفراط والتسيب، التي تريد أن تذيب الأمة المسلمة في غيرها، وأن تتخلى عن هويتها ومقوماتها وخصائصها، وتسير وراء الأمم القوية في الأرض، وتتبنى حضارتها بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، كما قيل، وأن تتبع سننها شبرا بشبر، وذراعا بذراع.
ونحن نريد: أن نبقي على الأمة ذاتيتها وتميزها، مقتبسين من غيرنا أفضل ما عنده: من الآليات والتقنيات ونحوها من المباحات، مما لا يؤثر على عقائدنا ولا على قيمنا، ولا على محكمات شرائعنا، وأساسيات سلوكنا.
وإن كنا لا نركز هنا كثيرا على قضية التفريط أو التسيب، لأنها ليست من أمراض الصحوة، لكن من أمراضها وآفاتها: ركوب متن الغلو والتطرف، الذي افترس بعض فصائلها التي ركبت الشطط، وارتكبت الغلط، والخير كل الخير في الوسط.
* معالم تيار الوسطية:
ولقد سألني عدد من الإخوة عن: (المعالم المميزة) لتيار الوسطية، الذي عرفت به، ودعوت إليه، ولازلت أدعو إليه، وأؤمن بأنه: المخلص والملاذ للأمة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وقد ذكرت هذه المعالم مجملة مركزة في بعض الأحيان، ومبينة مفصلة في أحيان أخرى، ولا بأس أن أجمع بين النهجين هنا، فأوجز هذه المعالم، ثم أبينها بما يتسع له المقام.
معالم الفكر الوسطي بـإيجاز:
تتميز وسطية هذا الفكر : في موقفه المعتدل من قضايا كبيرة مهمة:
فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المنفرطة.
وسط بين أتباع التصوف وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف، وإن التزم واتبع.
وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر.
وسط بين المحكّمين للعقل: وإن خالف النص القاطع، والمغيبين للعقل: ولو في فهم النص.
وسط بين المقدسين للتراث، وإن بدا فيه قصور البشر، والملغين للتراث، وإن تجلت فيه روائع الهداية.
وسط بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية. والمهملين للسياسة كلية بدعوى التربية.
وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم بعد نضجها.
وسط بين المستغرقين في الحاضر الغائبين عن المستقبل، والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرؤونه.
وسط بين المقدّسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تعبد، والمتحللين من أي عمل منظم كأنهم حبات عقد منفرط .
وسط بين الغلاة في طاعة الفرد: للشيخ والقائد كأنه الميت بين يدي الغاسل، والمسرفين في تحرره كأنه ليس عضوا في جماعة.
وسط بين الدعاة إلى العالمية دون رعاية للظروف والملابسات المحلية، والدعاة إلى الإقليمية الضيقة دون أدنى ارتباط بالحركة العالمية.
وسط بين المسرفين في التفاؤل متجاهلين العوائق والمخاطر، والمسرفين في التشاؤم فلا يرون إلا الظلام، ولا يرقبون للظلام فجرا.
وسط بين المغالين في التحريم كأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال، والمبالغين في التحليل كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام.
وسط بين الذين ينكرون الإلهام مطلقا، فلا يعترفون بوجوده، ولا بأثره.. والذين يبالغون في الاعتداد به، حتى جعلوه مصدراً للأحكام الشرعية.
وسط بين دعاة التشدد ولو في الفروع والجزئيات.. ودعاة التساهل ولو في الأصول والكليات.
وسط بين فلسفة المثاليين الذين لا يكادون يهتمون بالواقع.. وفلسفة الواقعيين الذين لا يؤمنون بالمثل العليا.
وسط بين دعاة الفلسفة "الليبرالية" التي تعطي الفرد وتضخمه على حساب المجتمع.. ودعا الفلسفة الجماعية "الماركسية" التي تعطي المجتمع وتضخمه على حساب الفرد.
وسط بين دعاة الثبات ولو في الوسائل والآلات.. ودعاة التطور ولو في المبادئ والغايات.
وسط بين دعاة الثبات ولو في الوسائل والآلات.. ودعاة التطور ولو في المبادئ والغايات.
وسط بين دعاة التجديد والاجتهاد وإن كان في أصول الدين وقطعياته.. ودعاة التقليد وخصوم الاجتهاد وإن كان في قضايا العصر التي لم تخطر ببال السابقين.
وسط بين الذين يهملون النصوص الثابتة بدعوى مراعاة مقاصد الشريعة.. والذين يغفلون المقاصد الكلية باسم مراعاة النصوص.
وسط بين دعاة الغلو في التكفير حتى كفّروا كل المسلمين المتدينين.. والمتساهلين فيه ولو مع صرحاء المرتدين.
هذه هي الوسطية التي تبناها هذا الفكر، وإن كان الغالب على مجتمعاتنا اليوم: السقوط بين طرفي الإفراط والتفريط، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم.
المعالم الأساسية لتيار الوسطية
لتيار الوسطية معالم أساسية: يحسن بنا أن نذكرها هنا، حتى يستبين هذا التيار لأصحابه أولا، ولمن يريد أن يعرفه ثانياً، ليتميز من تيار الغلو، وتيار التسيب.
وقد قال تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) (20).
فإذا كانت استبانة سبيل المجرمين مطلوبة، فكذلك استبانة سبيل أهل الحق، حتى يتبين الرشد من الغي.
وسبيل أهل الحق يتمثل فيما سماه القرآن: (الصراط المستقيم)، وقال علي ابن أپي طالب(ع): عليكم بالنمط الأوسط، الذي يلحق به التالي، ويرد إليه الغالي.
وأهم هذه المعالم هي:
1- تبني التيسير والتبشير:
من معالم "الفكر الوسطي" البارزة: أنه يتبنى التيسير والتبشير، التيسير في الفقه والفتوى، والتبشير في الدعوة والتوجيه، كما شرحناه من قبل، في محور سابق.
في حين يتبنى تيار الغلو: التعسير والتنفير أبدا، منهجه التشديد والتعسير في الفتوى والأحكام، في العبادات أو في المعاملات، للأفراد أو للجماعات، وكذلك التخويف والتهريب في الدعوة، فهو يسوق الناس إلى الله، بسياط الخوف والرهبة، أكثر مما يقودهم إليه: بزمام الرحمة والمحبة.
والتيسير الذي نركز عليه هنا هو: التيسير في الفروع، على حين يتشدد تيار الوسطية في الأصول (أي الثوابت)، ولا يتهاون فيها، وبهذا نرى أن الوسطية أبدا ملازمة للتيسير والتبشير، وكل من يتبنى المنهج الوسط: تبنى معه - لا محالة - منهج التيسير والتبشير.
وهو ما وفقني الله تعالى إلى اتباعه، عملا بالمنهج النبوي، الذي دعا إليه الرسول الكريم قولا، وطبّقه عملا، فكان أكثر الناس تيسيراً في فتاويه، وأعظم الناس تبشيراً في دعوته.
وينكر النبي (ص) على من أفتى بعض أصحابه بوجوب الاغتسال من الجنابة وبه جراحة، فتفاقم عليه الجرح حتى مات، فقال عليه الصلاة والسلام "قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ: السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم"(21) .
وكان من أوصافه عليه الصلاة والسلام: أنه ماخيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، مالم يكن إثما(22) .
والناس في عصرنا: أشد حاجة إلى التيسير من أي عصر مضى، لغربة الدين، وقلة اليقين، وكثرة المغريات بالشر، والعوائق عن الخير. فيلزم الفقيه والداعية أن يقود الناس إلى طاعة الله، وأداء فرائضه بالتيسير عليهم.
وليس معنى التيسير: أن نقسر النصوص قسراً على التيسير، فهذا مالا نقصده قطعاً، ولكن المقصود: أن نتبنى من الآراء والأقوال ماهو أرفق بالناس، وما يخفف عنهم. فلو كان هناك قولان متكافئان أو: أحدهما أحوط والآخر أيسر: أفتينا عموم الناس بالأيسر.
وأما التبشير، فإني أرى كثيرا من الدعاة في عصرنا يغلـّبون جانب الترهيب على الترغيب، والتخويف، على الترجية، ويسوقون الناس إلى الله بعصا الخوف، بدل أن يحركوهم بزمام الرجاء.
وقد شكا إليّ بعض الآباء المثقفين: أن ابنته أمست - منذ مدة - تقوم من النوم فزعة، من رؤى مخيفة تراها في نومها. وذلك بعد أن سمعت شريطا عن (عذاب القبر) لبعض الوعاظ، يشتمل على كثير من (التخويفات) التي نراها في الغالب تعتمد على أحاديث ضعيفة، وربما كانت شديدة الضعف أو موضوعة.
ومن يقرأ القرآن الكريم لا يجد فيه هذه المبالغات، بل يجده يمزج الخوف بالرجاء، والرهب بالرغب، والوعيد بالوعد، والبطش بالرحمة، مزجاً رائعا متوازناً.
اقرأ قوله تعالى: (اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم) (23).
(وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب) (24) .
(غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول) (25) .
(إن بطش ربك لشديد. إنه هو يبدئ ويعيد. وهو الغفور الودود) (26) .
(وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله ورضوان) (27) .
(نبئ عبادي: إني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأًليم) (28) .
وفي هذه الآية نجد أنه تعالى جعل المغفرة والرحمة من أسمائه، والعذاب من أفعاله لا من أسمائه.
ولهذا: كانت بدايات الفاتحة، وسور القرآن: (بسم الله الرحمن الرحيم) لإشاعة جو الرحمة لا جو البطش والقهر(29) .
2- الجمع بين السلفية والتجديد:
وثاني خصائص تيار الوسطية: أنه يجمع بين السلفية والتجديد أو بين الأصالة والمعاصرة كما يقال اليوم.
فالسلفية تعني: العودة إلى الأصول، إلى الجذور، إلى المنابع، وهي تتمثل في العودة: إلى القرآن والسنة.
والتجديد يعني: المعايشة للعصر، والمواكبة للتطور، والتحرر من إسار الجمود والتقليد.
ولابد من إلقاء شيء من الضوء على هذين المفهومين: السلفية والتجديد.
فكثيرا ما نفهم خطأ، حيث يحسب أنها العودة إلى الماضي بـإطلاق، ولو كان ماضي عصور التخلّف والانحراف والجمود.
ولكن المصطلح الإسلامي لا يجعل (السلف) مطلق الماضين، بل السلف هم أهل القرون الأولى، خير قرون هذه الأمة، وأقربها إلى تمثيل الإسلام: فهما وإيمانا وسلوكا والتزاما، ومن عدا هؤلاء يسمون (الخلف).
وليس معنى العودة الى ما كان عليه السلف: أن نكون نسخاً (كربونية) لهم. بل المهم أن نتمثل منهجهم وروحهم في فهمهم وسلوكهم، وتعاملهم مع الدين والحياة.
ومن الخطأ الذي يجب تصحيحه هنا: اعتبار الرسول المؤيد بوحي الله من جملة (السلف)، واعتبار القرآن والسنة: من جملة (التراث)، واعتبار الإسلام كله من جملة (الماضي)!!
وهذا خلط شائن بين المفاهيم، أو تحريف للكلم عن مواضعه عمدا.
إن الإسلام ليس ماضياً انقضى وانتهى زمنه، نحاول أن نستعيده. إن الإسلام هو الماضي، وهو الحاضر، وهو المستقبل، والقرآن هو كلمات الله الهادية الباقية على طول الزمان وامتداد المكان.
وربما يستبعد كثير من الناس أن يرحب الدين بالتجديد، فالدين عندهم يمثل القديم الذي لا يتجدد ولا يتطور.
وأؤكد هنا بكل صراحة: أن نبي الإسلام نفسه هو الذي علمنا أن الدين يتجدد، وأن الله يهيء له مجددين بين حين وآخر، وذلك في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وغيرهما، أنه (ص) قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(30) .

وإذا صرح الرسول الكريم بتجديد الدين، فلا يحق لزيد أو عمرو من الناس اليوم أن يقول: إن الدين لا يقبل التجديد، فليس هو أعرف بالدين ممن بعثه الله به.لكن المهم هو تحديد مفهوم التجديد ومجاله وحدوده.

وقد يحسب بعض الناس أن هناك تعارضاً حتمياً بين السلفية والتجديد. فالسلفية الرجوع إلى الماضي، والتجديد انطلاق إُلى المستقبل.

ورأيي عكس ذلك تماماً، أي أن هناك تلازما بين السلفية الحقيقية والتجديد الحقيقي. فروح السلفية هو التجديد. وكلما رجعنا إلى العهود الأولى: عهود الصحابة والتابعين وأتباعهم، وجدنا المرونة واليسر والتسامح، وسعة الأفق في فهم نصوص الدين ومصالح الدنيا، وفي التوفيق بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية.

وكلما تدرجنا - تنازليا - من عصر إلى عصر، بعدنا عن المرونة والتيسير والتجديد، ودخلنا في دائرة (الأحوط) بدل دائرة (الأيسر) ، وجنحنا إلى الظواهر أكثر من ميلنا إلى المقاصد، حتى إذا انتهينا إلى العصور المتأخرة، وجدنا الجمود والتقليد، والوقوف عند أقوال المتقدمين، الذين نهوا عن تقليدهم، واتخاذ أقوالهم واجتهاداتهم شرعاً يتبع، ودينا يطاع.

بل أكثر من ذلك: أنهم اتبعوا أقوال المتأخرين، الذين يمثلون عصور التخلف والتراجع الحضاري عند المسلمين، فأصبحت كتبهم هي المراجع المعتمدة، وآراؤهم هي التي تحسم الخلاف.

مفهوم التجديد:

أما التجديد: فهو لا ينافي السلفية، والتجديد الحقيقي لأمر ما لا يعني إلغاءه، واستحداث شيء جديد مكانه، بل يعني العودة به إلى ما كان عليه يوم إنشائه وظهوره لأول مرة. كما نعمل في تجديد أي مبنى أثري عريق.

وكذلك (تجديد الدين): أن نحافظ على جوهره ومعالمه، وخصائصه، ومقوماته، ونعود به إلى ماكان عليه يوم ظهوره، وبزوغ فجره على عهد رسول الله(ص)، وخلفائه الراشدين.

التجديد الحق يعني العودة إلى (الإسلام الأول)، قبل أن تشوبه بدع المبتدعين، وتضييقات المتشددين، وتحريفات الغالين، وانتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، وعدوى التشويه التي أصابت الملل والنحل من قبل.

و(الإسلام الأول): هو إسلام النقاء والسهولة في العقيدة، وإسلام الإخلاص واليسر في العبادة وإسلام الطهارة والاستقامة في الأخلاق، وإسلام الوضوح والتجديد في الفكر، وإسلام الاجتهاد والمرونة في التشريع، وإسلام العمل والإنتاج للحياة، وإسلام التوازن بين الدنيا والآخرة، وإسلام الاعتدال بين العقل والقلب، وإسلام الوسطية بين الفرد والمجتمع.

المهم هنا: ألا نجمد وننغلق، فتجمد الحياة معنا، ونظلم ديننا وأنفسنا، وألا ننفرط ونتسيب، فنضيع هويتنا وخصائصنا، ونذوب في غيرنا، فالاجتهاد اليوم فريضة وضرورة: فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.

على أن من اللازم: أن يكون الاجتهاد من أهله في محله، لا أن يفتح بابه لكل دعي يقول على الله مالا يعلم، ولا أن يدعي الاجتهاد في (المنطقة المنغلقة) منطقة (الثوابت) التي لا تقبل الاجتهاد، والتي تحفظ الأمة من التفكك والذوبان.

الخلاصة: أن التجديد الحق لا يكون إلا سلفيا، والسلفيّة الحقة لا تكون إلا مجددة.

نحو فقه جديد:

ومن أهم عناصر التجديد لديننا وأمتنا، هو: ما دعوت إليه في كتبي(31) . ومحاضراتي في شتى المحافل، فقد دعوت وألححت في الدعوة إلى "فقه جديد" يتبناه الدعاة الصادقون، والعلماء المصلحون، وتتبناه الحركة الإسلامية العالمية، المعبرة عن آمال الأمة الإسلامية.

ولم أقصد بكلمة "الفقه" المعنى الاصطلاحي المعروف عند المسلمين، والذي ألفت فيه الكتب، وتأسست عليه المذاهب، وأنشئت له كليات، وأقيمت له مجامع، وهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فهذا الفقه موجود، وإن كان يحتاج إلى تجديد وإحياء وتطوير، حتى يكون "فقهاً ميسرا معاصراً" يفي بحاجات الأمة، ومطالب حياتها المتجددة.

ولكن الفقه الذي عنيته: يشمل تجديد هذا الفقه، كما يشمل الفقه بالمفهوم القرآني، الذي نفاه القرآن عن المشركين وعن المنافقين، فوصفهم بأنهم قوم (لا يفقهون)، وجاء ذلك في القرآن المكي قبل أن نشرع الأحكام العملية، التي هي موضوع الفقه الاصطلاحي.

ويشمل هذا الفقه فيما يشمل: فقه السنن، أعني قوانين الله في الكون والمجتمع، وهي قوانين ثابتة، لا تجامل أحدا، ولا تلين لأحد، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

وكذلك "فقه الموازنات" بين المصالح بعضها وبعض، وبين المضار والمفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد إذا تعارضتا، ماهي الموازين التي يجب الرجوع إليها في التقدير والترجيح؟

وكذلك "فقه الأولويات" وأعني به: وضع كل عمل في مرتبته، فلا نصغر الكبير، ولا نكبر الصغير، ولا نقدم ماحقه التأخير، ولا نؤخر ما حقه التقديم، وقد وقع المسلمون في خلل خطير إزاء هذا الفقه، ترتب عليه مفاسد كثيرة، وضاعت من أجل ذلك مصالح كبيرة، وقد نشرت في هذا كتاباً بهذا العنوان "في فقه الأولويات".

ومثل ذلك "فقه المقاصد"، فلا ينبغي أن نتمسك بالظواهر، ونغفل المقاصد والأسرار التي يقصد إليها الشرع من وراء هذه النصوص والأحكام، وهذا هو ما جاء فيه الحديث الصحيح: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"(32) .

وليس معنى ذلك: إهمال النصوص الجزئية، كما يزعم بعض دعاة التجديد، بل المقصود الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، بحيث تفهم النصوص في ضوء المقاصد، والجزئيات في ضوء الكليات.

ومن ذلك: "فقه الاختلاف" فقد خلق الله الناس مختلفين، حين منحهم العقل والإرادة وابتلاهم بالتكليف: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) (33) .

قال المفسرون: أي، للاختلاف خلقهم، فلابد أن نتعلم كيف تختلف آراؤنا، ولا تختلف قلوبنا، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في كتابي: "كيف نتعامل مع التراث والتمذهب؟".

وقبل ذلك كله: لابد من (فقه الواقع) الذي نعيشه، ونعاني مشكلاته، ونحاول أن نعالجها من صيدلية الإسلام لا من خارجه.

3- المصالحة بين السلفيّة والتصوف:

من معالم الوسطية التي ندعو إليها: أن نعقد صلحا بين السلفيّة والصوفية، فنأخذ من كل من المدرستين: خير ما عندها، ونخرج من بينهما مزيجا نافعاً، كما تفعل النحلة، حين تأكل من كل الثمرات، سالكة سبل ربها ذللا. ليخرج من هذا وذاك شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.

وهذا ما نعبر عنه أحيانا بالعمل على (تصويف) السلفيّة، و(تسليف) الصوفية، فنحن في حاجة إلى سلفيّة متصوفة، أو صوفية متسلفة.

فإن بعض السلفيين الأقحاح، تنقصهم دفقة روحانية، وشحنة ربانية، ترطب قلوبهم من الجفاف، وترقق مشاعرهم وعواطفهم، وتحيي وجدانات الإيمان في أنفسهم، من الرجاء والخوف والحياء والحب والشوق، والأنس، والرضا، وهو ما يسميه الصوفية (الأحوال) أو (المنازل) أو (المقامات) وكتب فيه شيخ الإسلام "ابن تيمية" رسالته "التحفة العراقية في الأعمال القلبية"، وكتب فيه "ابن القيم" وأطال النفس في عدد من كتبه.

والصوفية هم فرسان الميدان في هذا الجانب، فليؤخذ عنهم. عن طريق كتب المعتدلين منهم، والمصاحبة للصادقين من رجالهم، فإن التربية بالأسوة والحال: أپلغ من التربية بالخطبة والمقال.

كما أن بعض الصوفيين: تنقصهم دقة الانضباط، بما كان عليه سلف الأمة، من تحرّ للوقوف عند نصوص الشرع وحدوده، في العبادات والمعاملات والأدب، فلا غرو أن يتسرب إليهم بعض الشركيات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، والتجاوزات في الأفكار، والسلبيات في التربية والأخلاق.

4- الاعتدال بين الظاهرية والمؤولة:

ومن معالم الوسطيّة: الاعتدال والتوازن بين الجمود على ظاهر النص من ناحية، والتوسع في التأويل من ناحية أخرى، بلا مسوغ، ولا ضابط.

ومقتضى هذا: فقدان التفقه بدلالات الألفاظ، ووظيفة اللغة.

وقد تحدثنا عن (سوء التأويل) باعتباره أحد المزالق الخطيرة في تفسير القرآن في كتابنا (كيف نتعامل مع القرآن؟) ونحن نريد الموقف الوسط.

فنحن نجد من يرفض أي فهم جديد لآية من كتاب الله تعالى، أو لحديث من أحاديث رسول الله(ص)، ولو كان هذا الفهم مما تؤيده اللغة، ويقتضيه السياق، ويتفق مع روح الإسلام، ولا يخالف نصا ثابتاً، ولا قاعدة شرعية.

كل عيبه: أنه جديد: لم ينص عليه واحد من المفسرين للقرآن أو الشُراح للحديث، أو المستنبطين من علماء الفقه.

ونجد في مقابل هؤلاء: من يفتح الباب لتأويلات بعيدة، وتفسيرات متعسفة، أشبه بتأويلات "الباطنية" الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وبدلوا كلام الله، وأخرجوه عما أريد به إلى معان وضعوها ما أنزله الله بها من سلطان.

فنجد من يقول في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) (34) النفس الواحدة هي الإلكترون، وزوجها هو البروتون، ومنهما كانت الذرة التي هي أساس الكون، ولو قرأ تكملة الآية لوجدها ترد عليه اعتسافه، وذلك قوله تعالى: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) أو في قوله تعالى: (وإذا أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) (35) إن هذه الدابة: هي الصواريخ التي تحمل الأقمار الصناعية وسفن الفضاء إلى الكواكب!

وآخر يقول في آيات الحدود؛ مثل قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) (36) .

إن الأمر بالقطع هنا للإباحة لا للوجوب، هذا مع أن الأصل في الأمر القرآني أنه للوجوب إلا إذا صرفته عن ذلك قرينة مانعة. وهنا كل القرائن تدل على الوجوب المؤكد. ويكفي في ذلك تمام الآية نفسها: (جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم).

ويؤيد ذلك ما صح واستفاض من الأحاديث النبوية المؤكدة لهذا المعنى مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف: تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه.

ولقد بلغت التأويلات بل التحريفات الباطنية مداها في كتاب المهندس السوري محمد شحرور، الذي ادعى على القرآن - من المعاني - مالا يوافقه نقل ولا عقل، وما يناقض ما أجمعت عليه الأمة طوال عصورها، فهو يأتي بدين جديد غير دين الأمة المسلمة، التي عرفته بطريق التواتر اليقيني جيلا بعد جيل. كأن الرسول لم يبين للناس ما نزل إليهم، وكأن الصحابة الذين شاهدوا تنزيل القرآن، لم يفهموه ولم يطبقوه في حياتهم، وكأن القرون الأولى - وهي خير قرون الأمة - لم يقولوا شيئاً في القرآن، حتى يأتي رجل غير متخصص يلغي تراث الأمة كله، ويبدأ من الصفر، ليقرأ القرآن من جديد قراءة معاصرة، تبعا لهواه (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) (37) .

وفي أحاديث المسيخ الأعور الدجال، نزول المسيح عيسى بن مريم آخر الزمان، نجد من يركب متن التكلف ويؤول الدجال: بأنه كناية عن سيادة "الحضارة المادية" التي لا تنظر إلى الحياة إلا بعين واحدة: هي العين المادية، مغفلة العين الأخرى: المتعلقة بالجانب الروحي والإيماني من الحياة.

وآخر يقول: المسيخ الدجّال: كل من يمسخ جمال الحق ويشوهه، فمسيخ بمعنى "ماسخ" لا بمعنى ممسوخ. فليس هو شخصا معينا، وإنما هو مخلوق أو صفة توجد في أناس كثرين.

وكل هذا تعسّف وبعد ما صرّحت به الأحاديث التي بلغت حد التواتر، كما بين ذلك المختصون من علماء الأمة.

5- الموازنة بين الثوابت والمتغيرات:

ومن خصائص تيار الوسطية الإسلامية: الموازنة العادلة بين الثوابت والمتغيرات في الإسلام، وتحديد ذلك بوضوح: حتى لا تختلط الأمور، وتذوب الحواجز، وحتى لا نجور على أحد الطرفين لحساب الآخر. وحتى لا نجمد مامن شأنه الحركة والمرونة، ولا نغير ما من شأنه الثبات والدوام.

ومن ثم كان لزاما علينا أن نحدد (ما الثوابت، وما المتغيرات في رسالة الإسلام؟).

الثوابت والمتغيرات:

أما الثوابت فتتمثل أولا في: (العقائد) التي تمثل نظرة الإسلام الكلية: عن الألوهية والعبودية، وبعبارة أخرى عن الله والإنسان وعن الكون بشقيه: المنظور وغير المنظور. وموقف الإسلام هنا: موقف الواصف المخبر عن حقيقة هذه الأشياء الموجب للإيمان بها كما هي، بلا تهوين ولا تهويل.

وتتمثل الثوابت كذلك في : (العبادات) التي فرضها الله على عباده، قياما بواجب شكره، وحق ربوبيته لهم، مثل الشعائر الركنية الأربع، التي تمثل أركان الإسلام العملية ومبانيه العظام: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وما يكملها من نوافل المرء من ربه، وتزيد من رصيده عنده، وما يلحق بها من عبادات أخرى مثل الذكر والدعاء وتلاوة القرآن.

ومن الثوابت كذلك: (القيم الأخلاقية العليا)، وأمهات الأخلاق العملية التي تحدد علاقة الإنسان بربه كالإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عقابه.. وتحدد علاقته بنفسه مثل: النظافة، والعفة، والحياء، والصبر، والشجاعة، والعزة ومحاسبة النفس… وتحدد علاقته بأسرته مثل: الرعاية لحقوق الزوجة، وحقوق البنوة وبر الوالدين، وصلة الرحم، وتحدد علاقته بالمجتمع مثل: قول الصدق، وإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد، ورعاية الأمانة، ورحمة الصغير، وتوقير الكبير، والعدل مع الصديق والعدو، والبر بالناس، وفعل الخير للجميع وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي بعث النبي(ص) ليتممها.

وفي الجانب السلبي: أمهات الرذائل التي حذر الإسلام منها أشد التحذير، مثل: القتل، والسرقة، والزنى، والشذوذ الجنسي، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، والكذب والغيبة، والنميمة، والخيانة، وسوء الظن، والغدر، والشح، والظلم، فكل هذه حرام، بل من أكبر المحرمات عند الله.

ومن الثوابت أيضاً: (الأحكام القطعية) في شؤون الفرد والأسرة والمجتمع، والحكم والعلاقات الدولية، التي ثبتت بالنصوص المحكمة القطعية في ثوابتها ودلالتها. وأجمعت عليها الأمة، واستقر عليها الفقه والعمل.

فهذا النوع من الأحكام: هو الذي يمثل (الوحدة الفكرية والشعورية والسلوكية) للأمة، ويجسد (ثوابتها) على اختلاف البيئات والأقطار، وتغير الأعراف والأعصار.

وفيما عدا هذه الثوابت الراسيات: نجد جل أحكام الشريعة قابلة للاجتهاد وتعدد الأفهام.

وهناك بعد ذلك شؤون الحياة المتغيرة: من زراعة وصناعة، وطب وهندسة، وما إلى ذلك مما يتعلق بالعلوم التجريبية وتطبيقاتها في الحياة اليومية، فهذه ونحوها: متروكة لعقول البشر وتجاربهم وممارساتهم - ليس عليهم إلا أن يحكموا فيها منطق العقل والعلم والتجربة، وهي التي ورد في مثلها الحديث الصحيح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"(38) .

والإسلام بهذا التوازن: يجمع بين الثبات والتطور، أو الثبات والمرونة في تناسق بديع.

إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.. الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.

والإسلام بهذا: يتسق مع طبيعة الحياة الإنسانية خاصة، ومع طبيعة الكون الكبير عامة، فقد جاء هذا الدين مسايراً لفطرة الإنسان، وفطرة الوجود.

أما طبيعة الحياة الإنسانية نفسها. ففيها عناصر ثابتة باقية مابقي الإنسان، وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور. وكذلك طبيعة الكون من حولنا .

والخطر كل الخطر على الحياة الإسلامية: أن نثبِّت ما من شأنه المرونة والتطور، أو نطوّر ما من شأنه الثبات والخلود، فتضطرب الحياة، وتختل الموازين(39) .

6- مراعاة الواقع:

ومن معالم هذا التيار: أنه يراعي الواقع المعاش ولا يغفل عنه: سواء في عرض الدعوة الإسلامية والخطاب الديني للمسلمين وغير المسلمين، بحيث يهتم بما ينفع عقولهم، وينير قلوبهم، ويحل مشاكلهم، ولا يسبح بهم في الماضي بعيدا عن الحاضر، ولا في المثاليات الحالمة بعيدا عن الواقع.

وكذلك في تقديم الشريعة الإسلامية بدلا من الأنظمة والقوانين الوضعية، أو في تقديم الحل الإسلامي بديلا عن الحلول المستوردة من اليمين أو اليسار، فالفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع فلا يعيش فيما يجب أن يكون، مغفلا ما هو كائن.

وقد نبهت هنا على بعض أشياء، قد تغيب عن بعض الناس، إذا أردنا أن نطبق أحكام الشريعة في واقعنا المعاصر:

أولها: أن كثيراً من المشكلات التي نعانيها اليوم، ونشكو منها، ونختلف في وصف علاج إسلامي لها: قد لا تبرز أصلا في ظل المجتمع الإسلامي الصحيح، لأن بروزها الآن ثمرة لأوضاع غير إسلامية، ونتيجة لمجتمع غير ملتزم بمنهج الإسلام كله، ونظام الإسلام كله. فإذا تغيرت صفة المجتمع، وتغيرت أوضاعه بظهور المجتمع المسلم المتوازن المتكامل - بمقوماته وخصائصه وأوضاعه - تلاشت تلك المشكلات أو انكمشت، ولم تعد تكوّن مشكلة حقيقية.

ثانيها: أن من الناس من يتصور أن كل مافي مجتمعنا الحالي مخالف للإسلام، وأن كل الأنظمة والقوانين والمؤسسات ستهدم وتبنى من جديد. وهذا ليس بتصور سليم. فأكثر الأنظمة والقوانين والمؤسسات القائمة ستبقى، ولكن بعد أن تنقى من العناصر الغريبة المنافية للإسلام، وتطعم بالعناصر الإسلامية الخالصة، وبهذا: تكتسب الشرعية، وتستحق البقاء باسم الإسلام.

ثالثها: أن قيام نظام إسلامي في مجتمع، لا يعني تغيير كل مايراد تغييره فيه مابين عشية وضحاها، فمن الناس من يتصور في المجال الاقتصادي مثلاً: أنه - بمجرد انتصار الاتجاه الإسلامي، والعودة إلى تطبيق شريعة الله - لا يطلع صباح اليوم التالي، إلا وقد صدرت الأوامر بـإغلاق المصارف (البنوك) الربوية السائدة وشركات التأمين وتسريح موظفيها، وفرض الحراسة على ممتلكاتها،… الخ تبعا لهذا التصور يتوقعون زلزلة الاقتصاد، وتعطيل المصالح، واختفاء رؤوس الأموال، وغير ذلك من النتائج والآثار.

وهذا التصور: إنما جاء نتيجة القصور في فهم المنهج الإسلامي في علاج الواقع الفاسد، وتغيير المنكر القائم، وبناء المجتمع الصالح.

مبادئ ثلاثة تراعى في تغيير الواقع:

فهناك مبادئ ثلاثة، لابد أن توضع في الاعتبار عند الاتجاه إلى تطبيق النظام الإسلامي، وإقامة المجتمع المسلم المتكامل المنشود.

أ- رعاية الضرورات:

هناك مبدأ (الضرورات) التي اعترف بها الشرع، وجعل لها أحكامها، وتقرر ذلك في قواعد فقهية عامة، أصّلها علماؤنا في كتب (القواعد الفقهية) وفي كتب (الأشباه والنظائر) هي: (الضرورات تبيح المحظورات - الضرورة تقدر بقدرها - الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة).

ولهذا المبدأ أدلته الكثيرة من الشرع في باب الأطعمة وغيره. وهو مبدأ مسلّم به مجمع عليه. والضرورات الشرعية ليست كلها فردية، كما قد يتوهم. فللمجتمع ضروراته، كما للفرد ضروراته، فهناك ضرورات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، واجتماعية، لها أحكامها الاستثنائية، التي توجبها الشريعة، مراعاة لمصالح البشر، التي هي أساس التشريع الإسلامي كله.

ب - ارتكاب أخفّ الضررين:

مبدأ السكوت على المنكر: إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه، دفعا لأعظم المفسدتين، وارتكابا لأخف الضررين. وبناء على هذا المبدأ يقرر الفقهاء طاعة الإمام الفاسق إذا لم يمكن خلعه إلا بفتنة وفساد أكبر من فسقه. ومما يستدل به لهذا المبدأ: حديث النبي (ص) لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم"(40) . ومن ذلك إبقاؤه (ص) على المنافقين، وترك التعرض لهم، مع علمه بنفاق بعضهم على التعيين، وتعليله ذلك بقوله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"(41) .

جـ - مراعاة سنة التدرّج:

المبدأ الثالث: هو مبدأ (التدرج) الحكيم، الذي نهجه الإسلام عند إنشاء مجتمعه الأول، فقد تدرج بهم في فرض الفرائض كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرج بهم في تحريم المحرمات: كالخمر ونحوها.

وعند تجدد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول أو قريبة منها: نستطيع الأخذ بهذه السنة الإلهية، سنة (التدرج) إلى أن يأتي الأوان المناسب للحسم والقطع، وهو تدرج في (التنفيذ)، وليس تدرجا في (التشريع) فإن التشريع قد تم واكتمل باكتمال الدين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (42) .

ومن الشواهد التي تذكر هنا: ما رواه المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، الذي عده كثير من أئمة الإسلام خامس الراشدين، أن ابنه عبد الملك قال له يوما: يا أبت مالك لا تنفذ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!

يريد الشاب المتحمسّ من أبيه أن يقضي على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة، دون تريث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون. فماذا كان جواب الأب ؟

قال عمر: "لا تعجل يا بني! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أَحمل الحق على الناس جملة: فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"(43).

وهذا هو اليسر، وتلك هي الواقعية في منهج الإسلام العظيم(44) .

7- الدعوة إلى التسامح والتعايش مع الآخرين:

ومن معالم هذا التيار: أنه يرفض العنف، ويدعو إلى التعايش، والتسامح مع الآخرين، ممن يخالفونه في العقيدة أو في المنهج، كما وضحت ذلك في كتابي: (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).

كما يدعو إلى إقامة جسور للحوار معهم، على اختلاف طوائفهم واتجاهاتهم. وقد شاركت في بعض هذا الحوار في العام الماضي (2001)، في روما في القمة الإسلامية المسيحية التي دعت إليها جمعية (سانت جديو) في أكتوبر 2001م، وفي مؤتمر القاهرة: الذي دعا إليه منتدى الحوار الإسلامي المنبثق عن المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة.

فهو يدعو للحوار مع الإسلاميين: بعضهم مع بعض، ويميز بين الاختلاف المشروع والتفرق الممنوع، ويرى أن الاختلاف في مسائل الفروع ضرورة، ورحمة وسعة، ضرورة اقتضتها طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة. وقد بينت ذلك في كتاب: (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم).

كما دعوت في كتابي : (أولويات الحركة الإسلامية) إلى الحوار مع غير الإسلاميين… مع المنصفين من القوميين والعلمانيين، وقد شاركت في المؤتمر القومي الإسلامي، وكنت عضوا في اللجنة التحضيرية التي أعدت الورقة التي قدمها الجانب الإسلامي، وحضرت أكثر من دورة من دورات هذا المؤتمر الذي جمع المعتدلين من الإسلاميين ومن القوميين: على قضايا أساسية تهم الفريقين، ولاسيما قضية فلسطين، وأحسب أنه كانت له ثمار طيبة. كما حضرت مؤتمرا في بيروت تحت عنوان: (مسلمون ومسيحيون معا من أجل القدس) التقى فيه مشايخ الإسلام مع آپاء المسيحية من العرب: جنبا إلى جنب، من أجل القضية المقدسة: قضية القدس.

كما ناديت بالحوار: مع العقلاء من الحكام، لإزالة الفجوة أو الجفوة التي بين العلماء والدعاة العاملين للإسلام، والحكام الذين يخافون من التيار الإسلامي، ويتوجسون شراً من الدعاة إليه. وأعتقد أن الحوار البنّاء هنا: يوضح كثيراً من المواقف، ويقرب كثيراً من المسافات، ويعالج كثيراً من المخاوف والهواجس.

كما ناديت بالحوار مع الغربيين أنفسهم، على المستوى الديني: (مع رجال الدين الكبار) وعلى المستوى. الفكري: (مع المستشرقين وكبار الكتاب) وعلى المستوى السياسي: (مع الذين يصنعون القرار أو يؤثرون في صنعه من السياسيين).

8- تبنى الشورى والحرية للشعوب:

ومن معالم هذا التيار: أنه يدعو إلى التعددية السياسية، ويرى تعدد الأحزاب السياسية أشبه بتعدد المذاهب في الفقه، وقد قلت: إن الأحزاب مذاهب في السياسة، كما أن المذاهب إنما هي أحزاب في الفقه! ويقاوم الاستبداد السياسي أيا كان نوعه. ولا سيما ما قام باسم الدين، ويرفض اتباع كل جبار عنيد، يستخف قومه فيطيعونه، فإن الإسلام ينكر من أم قوما في الصلاة، وهم له كارهون، فإذا كان هذا في الإمامة الصغرى، فكيف بالإمامة الكبرى؟

كان يحارب كل نمرود أو فرعون: يدعي الالوهية - قولا أو فعلا - ، ويدعو الناس جميعا إلى كلمة سواء: (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله) (45) .

ويرى أن الشورى واجبة، وأن رأي الأكثرية ملزم للأقلية، وأن من الواجب اتخاذ ضمانات الديمقراطية وأساليبها لتقليم أظفار الطغاة والمتسلطين.

وهذا ما وضحته في أكثر من فتوى لي في الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة) وخصوصا فتوى: (الإسلام والديمقراطية) وفتوى: (تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية) وفي كتبي الأخرى، ولاسيما كتاب: (من فقه الدولة في الإسلام) وكتاب: (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها).

9- إنصاف المرأة باعتبارها شقيقة الرجل:

ويتجلى ذلك في: وقوفه بجانب المرأة، ضد تيارين مرفوضين: التيار المتشدد، الذي ينظر بريبة إلى المرأة، ويجسد تعنت الرجال، وظلمهم لها، وجورهم على حقوقها المشروعة، في التجمل وفي التعليم، وفي العمل، وفي التصويت، وفي الترشيح للمجالس النيابية، وفي ممارسة الأنشطة المختلفة في المجالات الثقافية، والمجالات الاجتماعية، والمجالات السياسية.

والتيار الآخر: تيار التبعية للحضارة الغربية المعاصرة، التي تنظر إلى المرأة وكأنها مجرد جسد، وتعاملها كأنها رجل، ناسية أنها إنسان له روح وجسد، وأنها ليست رجلا، وإنما هي شقيقة الرجل، ولهذا ظهر عند الغربيين ما سمي: (الجنس الثالث) الذي لم يعد امرأة، ولم يصبح رجلا. وجنت الإباحية على الأسرة، وعلى الأخلاق.

والواجب على المجتمع المسلم حماية المرأة من تقاليد الشرق الموروثة من عهود التراجع الإسلامي، ومن تقاليد الغرب الوافدة، التي تريد أن تسلخ المرأة من ذاتيتها.

ويتخذ تيار الوسطية موقفه انطلاقا من قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (46) .

وقد ألقيت ضوءا على هذه القضايا وأمثالها، في أكثر من كتاب لي، وخصوصا الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة) وفي كتابي: (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده): وفي رسالة: (مركز المرأة في الحياة الإسلامية) من رسائل ترشيد الصحوة.

10- إحياء الاجتهاد:

تيار الوسطية يرى أن : الاجتهاد فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الشرع، وضرورة يحتمها الواقع، ويحترم نتائج الاجتهاد، وإن خالفت رأيه، مادام صادرا من أهله في محله، ويتبنى ماقاله أمير المؤمنين في الحديث، وإمام الفقه والورع: سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد"(47) . كما يتبني قاعدة المنار الذهبي: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"(48) .

وإني لموقن يقينا لاريب فيه: أن الفقه الإسلامي المعبّر عن شريعة الإسلام - بمصادره الغنية، وأصوله المحكمة، وقواعده الضابطة، ومدارسه الاجتهادية، وثورته الفكرية - لجدير أن يمد الأمة بكل ما تحتاج إليه: من فتاوى وأقضية وتشريعات: تحقق المصلحة، وتدرأ المفسدة وتلائم الفطرة، وتقيم الموازين القسط بين الناس.

———————

1 - التوبة / 69.

2 - رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن ابن عباس (صحيح الجامع الصغير: 268).

3 - رواه مسلم عن ابن مسعود.

4 - الرحمن: 7 - 9 .

5 - قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله موثقون . (مجمع الزوائد: 1/62).

6 - البقرة / 219.

7 - النساء / 43.

8 - المائدة / 90 .

9 - يراد بالتفسيق والتبديع: وصف الآخرين بالفسق والبدعة.

10 - انظر: أولويات الحركة الإسلامية ص 115 - 117.

11 - النور / 31 .

12 - انظر: رسالتنا (النقاب: بين القول ببدعيته والقول بوجوبه) من رسائل ترشيد الصحوة.

13 - انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) ص 38 - 43 .

14 - النساء / 31.

15 - آل عمران / 159.

16 - الحجرات / 12.

17 - رواه مسلم عن أبي هريرة في حديث طويل.

18 - رواه مسلم.

19 - انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف) مظاهر التطرف: 43 - 60.

20 - الانعام / 55.

21 - رواه أبو داود عن جابر، صحيح الجامع الصغير (4362).

22 - متفق عليه عن عاشئة: اللؤلؤ والمرجان (1502).

23 - المائدة / 98.

24 - الرعد/ 6 .

25 - غافر/ 3.

26 - البروج/ 12 - 14 .

27 - الحديد/ 20.

28 - الحجر/ 49 ، 50.

29 - تناولت هذا المبحث بالتفصيل في محور (من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير) في هذا الكتاب.

30 - رواه أبو داود في أول كتاب الملاحم من سنن (4191) والحاكم (4/522) وصححه العراقي وغيره. انظر: تجديد الدين في ضوء السنة - مقالنا في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة - العدد الثالث. وكتابنا (من أجل صحوة راشدة: تجدد الدين وتنهض بالدنيا).

31 - وخصوصا كتابي (أولويات الحركة الإسلامية).

32 - متفق عليه عن معاوية.

33 - هود/ 118 - 119.

34 - النساء / 1.

35 - النمل/ 82 .

36 - المائدة/ 38.

37 - القصص/ 50.

38 - رواه مسلم في صحيحه عن أنس وعائشة.

39 - انظر: كتاب (الصحة الإسلامية وهموم الوطن العربي) الصادر عن منتدى الفكر العربي ، ومجمع بحوث الحضارة الإسلامية بالأردن -الصفحات 24 - 56.

40 - متفق عليه عن عائشة، انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان. الأحاديث: 841 - 843.

41 - رواه أحمد والشيخان عن جابر. انظر: صحيح الجامع الصغير (5878).

42 - المائدة/ 3.

43 - انظر: الموافقات للشاطبي (2/14).

44 - انظر: كتابنا (بينات الحل الإسلامي) ص 208 - 213 . ط وهبة.

45 - آل عمران/ 64.

46 - التوبة/ 71.

47 - ذكره أبو نعيم في (الحلبة) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) والنووي في مقدمات (المجموع) وفي شرح المهذب (42).

48 - راجع تدليلنا على صحة هذه القاعدة في كتابنا (فتاوى معاصرة) (2/130 - 139) طبعة دار الوفاء - القاهرة.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك