التباعد والتقارب بين المسرح وجمالياته

التباعد والتقارب بين المسرح وجمالياته

د.عبد الرحمن بن زيدان

 

فرقة (أورنينا)تحتفل بشعرية التسامح الديني و تحرير القدس في ملحمة (الإلياذة الكنعانية)

مساء يوم الاثنين 25 يناير(كانون الثاني) 2010،وبمناسبة افتتاح مهرجان دمشق المسرحي الخامس عشر ،قدمت فرقة «أورنينا»(ORNINA) للرقص المسرحي من سوريا،الملحمة التاريخية الغنائية (الإلياذة الكنعانية)، وذلك على (مسرح الأوبرا) في دار الأسد للثقافة والفنون،وهي من تأليف محمود عبد الكريم،أما الرؤية الإخراجية فكانت للفنان ناصر إبراهيم،أما توزيع النصوص الموسيقية فكانت للفنان وليد الهشيم.
لقد برزت خاصية هذه الإلياذة الكنعانية واضحة جلية في تركيب معادلات جمالية، وفنية، وتاريخية تدور كلها حول فلسطين،وحول مدينة القدس،فيها يتقاطع الإبداع بالتاريخ بجملة من الرموز،والدلالات التي أنتجتها الفرقة زمن العرض وهي تقدم صورا مليئة بالأحداث التاريخية،والصراعات،فأنتجت بشعرية هذا التركيب شعرية العنف،وشعرية التسامح الديني،وشعرية الدعوة إلى تحرير مدينة القدس.
هذه الملحمة التي صاغت فرقة «أورنينا» قيمها الإنسانية بالمادة التاريخية وهي تعرض بالرقص التعبيري،والموسيقى كل ما يقرب المتلقي من جمالية الخطابات الملونة بألوان الحلم،والواقع،والمأساة.وقد جاء في قولها تعريفا بمرامي هذه الملحمة،مبرزة أن هذا العمل الفني يعدّ في منظورها الفني:(مسرحية غنائية شعرية ملحمية درامية،لأن الملحمة الفلسطينية تقتضي الدراما،التمثيل،والحركة الجماعية الغنائية الاستعراضية، فهي الأقرب إلى روحها، وقيمها،ورمزيتها).
في هذه الملحمة يتجلى البعد الغنائي الشعري في الفضاء النغمي للعرض في معادلة توليف المتناقضات المستمدة من مرجعيات مختلفة حيث أوجدت لها الفرقة وجودا مبررا بالخيط التاريخي الرابط بجوهر القضية الفلسطينية،وهو خيط ينسج دلالاته في معادلات تاريخية صعبة لا يمكن حل إشكالاتها،وتقريب عناصرها المتباعدة،وإدماج دلالاتها المتفرقة في الدلالة الواحدة،أو الرؤية الواحدة،إلا بالجمع بين جمالية الجمال في العرض المسرحي،والموضوع الفلسطيني الذي يريد لهذا الجمال أن يكون صلة وصل دلالي يربط ما بين بناء التيمة،وبين التعبير عنها فنيا.
هذه المعادلات ـ طبعا ـ لا تخلو بعد اكتمال كينونتها الفنية من الغرابة المستحبّة فنيا، ولا تخلو من متعة جمالية بعد تحقيق هذا التزاوج،وهذا راجع ـ بكل تأكيد ـ إلى كفاية الاختصاصات المختلفة ،منها تصميم الإضاءة و السينوغرافيا لماهر الهربش،وتصميم الديكور والأكسسورات لمحمد كامل.وهي اختصاصات اشتغلت على هذا الجمال وهو يعيد تركيب المتناقضات المستمدة من التاريخ الفلسطيني،ويعيد استكشاف بلاغة الجسد الصامت بإيقاع الحركة الفنية سواء أكانت حركة تتحرك في سياق فردي يقنع بالقوة الدلالية للرمز التاريخي،أو كانت تعبيرات جسدية تنخرط في صيرورة جماعية تولد محتملها الدلالي من جماعية التعبير،وتبني رؤيتها وإيحاءاتها الظاهرة والخفية في هذا الجسد على الرمزية التاريخية والواقعية لأحداث موصولة إلى الأحداث المعروفة تاريخيا،وبناء المعادلات المدهشة برمزيتها القادرة على استولاد لحظة المتعة والأمل،والحلم أثناء تجاوز لحظات السكون والصمت المطبقين على الرموز التاريخية العربية الإسلامية.
وعندما تغادر هذه الإلياذة الصمت الجريح المبعثر في الزمن الحقيقي، فإنها تكتب تاريخ فلسطين من أجل إعادة الاعتبار الفني والجمالي والتاريخي لهذه المعادلات وهي تؤثث المبنى الفني للدلالة بالزمن الفلسطيني،وتقرب ببلاغة الإيحاء موضوعها الفلسطيني الذي تريد فرقة (أورنينا) تحقيقه بكتابة عرض مسرحي غنائي راقص فيه تجتمع بعد توليف المشاهد خطابات النص الملحمي من التاريخ الفلسطيني.
لقد راهنت هذه الفرقة على تكوين حياة نص غنائي، شعري، ملحمي،و درامي قوامه اللغة المنطوقة الناطقة ببلاغة الصورة،والمتكلمة بشاعرية جسد إشكالي بدلالاته بعد أن أصبح جامعا لكل العناصر التي تنجز الوحدة الموضوعية والبنائية لكل الأنساق والمشاهد الفرجوية بعد أن عادت كل أنساقها الفنية تنتمي بفضل تكوين حيوية المشاهد الدرامية إلى تجربة فنية وجمالية تؤرخ بالعرض المسرحي لكل بلاغات الواقع العنيد المستمد من أرض كنعان، ومن الزمن الفلسطيني،والمستمد من المعيش،والمستوحى من الماضي والحاضر ،والمتنبئ بغموض المستقبل،ووضوحه.
وبما أن هذه الملحمة فعل إنساني،و العرض المسرحي إنجاز لهذا الفعل، فقد عاشت ملحمة (الإلياذة الكنعانية) ميلادها الأول مع الأسطورة الكنعانية،و بعد اكتمالها بعد هذا الميلاد بالانسجام الفني والجمالي بين عناصر ومقومات الدلالات الفلسطينية،أعادت الفرقة ـ بالقراءة المتفحصة للتاريخ،وللوثائق،وللشعر ـ النظر في المسلمات التاريخية لتكوّن تواريخ رمزيتها الجديدة، المتجددة،وتعمّق فيها النظر،وتبني بها المغاير،وتتخطى المألوف،و تنسج موضوع الرسائل التي سترسل إلى المتلقي زمن العرض وقد أينعت من عشقها لموضوعها الفلسطيني،فكتبه من نبض ولهها وبالحياة، وفهمها لكل المعادلات الصعبة،كما كتبته من عشقها للأزمنة المتخيلة المطلقة وهي تستنطق الجسد بعشق ما تقوله الذاكرة الفردية والجمعية الفلسطينية.
بهذه الكتابة صارت ملحمة (الإلياذة الكنعانية) بموضوعها الفلسطيني،وبموضوع تحرير القدس، أكثر قدرة،وأكثر كفاية على إعطاء المعنى الإنساني للمعنى التراجيدي الفلسطيني المحدد بخطابات موحية بعمق القضية ـ تارة ـ والناطق بعنف اللحظات ـ تارة أخرى ـ ،فكان موضوع شعب هو الشعب الفلسطيني،وكانت قضية علامة هي قضية مدينة القدس،يساعدان الإبداع الإنساني على إنتاج هذه الملحمة،ويشدّان أزره كإبداع كي يمتلك القدرة على تفعيل التاريخ،وتفعيل المتخيل،وتحريك التراث المعروف،والإفصاح عن الواقع المجهول،والاقتراب من الحال المتداول والمنسي،والتدرج بالمعنى للوصول إلى المحال الذي يزعزع أركان الغموض في الواضح،ويهدم الواضح في الملتبس وصولا إلى كتابة حيوية اللحظة الفلسطينية بحيوية ما تبنيه هذا الملحمة،وما تؤثثه من دلالات لا يمكن أن تكون بريئة،ولا يمكن أن تكون دون خلفيات،وبلا مرجعيات،ودون أهداف،ذلك أن إستراتيجية الإبداع الملحمي العربي بهذه الملحمة ظل مشروطا بفعالية إعادة فهم هذه المعادلات التاريخية الفلسطينية لإدماجها في سياق المماحكة الأبدية بين الجمال،والفنون،واللغة أثناء تجريب ما تريد فرقة (أورنينا) تجريبه بهذه المماحكة بغرض الوصول إلى الشكل المقترح لهيئة وبنية هذه الملحمة الكنعانية.
وفي هذا السياق تتأكد إبداعية الإبداع الملحمي في هذه الملحمة وهي تتكلم بالتاريخ الفلسطيني،وتتكلم بالقضايا الكبرى،وتعود إلى المغزى من إعادة تمثّل الأحداث،وتقوم بتبئير موضوعها على موضوع فلسطين،ومدينة القدس،وتسعى إلى الاقتراب ـ أكثر ـ من الأحداث التي كتبها التاريخ العربي،وكتبتها الحكاية،وكتبها الشعر،وكتبها السرد،ووثقت لها الوثيقة، وحرّكتها الصراعات حول ميلاد فلسطين،وميلاد القدس،وكيف بدأ المشروع الصهيوني المدروس،و المُمنهج يخطّط لمحو وجود هذا المقدس من القدس،وإزالته من روح القدس،ومن الزمن، ومن التاريخ،ومن إيمان الناس،ومن المدينة،ومن الحياة.
ومن التاريخ القديم كما روته الأساطير،وكما حبّرت مقدسه الكتب المقدسة، ونظمه الشعر،و،ومن مستجدات التاريخ الحديث،وسّعت هذه الملحمة من معنى النص،و تتبعت فرقة (أورنينا) في هذه الملحمة الكنعانية نشوء الحضارة في أرض كنعان،وتتبعت كيف صار الصراع على أشدّه بين الوجود الفلسطيني ونقيضه في الزمن المعاصر،كما كان في الزمن الفائت.
ملحمة تحتفل بنشوء الحضارة في أرض كنعان
في هذه الملحمة الغنائية التاريخية الموسومة بـ:(الإلياذة الكنعانية)، ينطرح حول آليات اشتغال عناصر العرض،ومكوناته السؤال التالي:هل تأتي شعرية تكوين الملحمة كعرض استعراضي راقص للاحتفال بنشوء الحضارة في أرض كنعان من صيغة النص ذاته، ومن القدرة على إنطاق المسكوت عنه في التاريخ الفلسطيني،أم جاء من خطابات محايثة لمرجعيات أخرى ساهمت في تأثيث زمن العرض بمعلومات تولّدت معانيها مما هو غير متداول حول القضية الفلسطينية،وغير متداول حول مدينة القدس ؟
إن السؤال حول الكيفية التي تقول بها هذه الملحمة تاريخ نشوء الحضارة على أرض كنعان،لتكون القضية الفلسطينية مركزها جماليا،وتكون القدس محورها دلاليا،وتكون مأساة شعب فلسطين حقيقتها تاريخيا، تقدم الجواب عنه ثمانية عشر مشهدا كلها قائمة على تركيبات مختزلة،ومركّزة،لكل مشهد خاصيته التي يختص بها دلاليا،لكن الناظم بينها جميعا هو التركيز،و تكثيف الزمن والمكان في الدلالة المضغوطة بكل معاني إبلاغ الخطاب بعلامات تشتغل في نفس اللحظة التي تشتغل فيها جمالية إبلاغ كل المشهد،وهذه الكيفية تمثّل المهمة الأساس في تفعيل زمن تلقي هذه الملحمة بعلامات نشوء هذه الحضارة،وتطورها،وتناميها كعمران تمّ تركيبه بمنطق التناقض،والصراع،وفرز أصوات المؤيدين للقضية الفلسطينية من طبيعة النص ذاته،ليكون مرمى هذه الملحمة تقديم ما جرى على أرض كنعان بدء من تاريخ البدايات، ووصولا إلى تاريخ النهايات،وما بينها حيث تتشخصن الأحداث،وتتحدث الأساطير، وتتشابك الأحداث أثناء الصراع،في برنامج سردي يتحقّق وجوده بهذه المشاهد التي اكتفت بقضيتها الصغرى التي هي مكون أساس وفاعل في تكوين القضية الكبرى للملحمة الفلسطينية حسب الوظائف التالية :
* أن كل مشاهد العرض الملحمي تقوم على إعادة بلورة قضية فلسطين،و تقديم تاريخ القدس، وتشخيص العذاب الفلسطيني، وإظهار المقاومة العربية في كل الأزمنة.
* في النصوص الواردة في كل مشهد من مشاهد هذه الملحمة هناك رهان قوي على أن تظل فضاءات كل مشهد مفتوحة على كل التناغمات الممكنة بين الحوار، والصور المتتالية،والرقص التعبيري.
* في كل المشاهد يتم استولاد التوترات الرائعة في المعارك،وترتيبها بما يناسب شعرية العنف،ويناسب توكيد التسامح الديني الذي دعت إليه الديانات السماوية،وتحرير القدس،وهي التيمات المركزية في الملحمة التي أنتجتها عن وعي التزم بهذه القضية حتى لا تفقد هذه المشاهد بلاغتها الموسومة بجمالية الدلالة،والمتصفة ببلاغة الإيماء،والمتميزة بتكثيف إشارات الإيحاء.
* في جامع مشاهد هذه الملحمة يتعلم المتلقي كيفية النظر إلى تاريخ فلسطين،و القدس،و العالم بشكل مختلف،لأن النص المقروء يمثل المعنى الفلسطيني في توليفاته البصرية،بينما الرقصات التعبيرية تبوح بمعنى الرموز الفلسطينية.
هذه المشاهد التي تمّ توليفها وهي تحكي عن تاريخ أرض كنعان تمّ تركبها بتركيب القضية الفلسطينية نفسها،وتمّ تطعيمها بمعطيات تاريخية أرادت بها الفرقة أن ترقى ببلاغة حكايات النص إلى مستوى الحدث الواقعي المستمد من التاريخ الفلسطيني، حيث يصير كل مشهد مكتف بذاته،ويغدو كل حدث تاريخي داخل المشهد يشتغل بعلاماته،لكن هذا الاكتفاء بالموضوع الواحد عند تجميع عناصره،ومعادلاته لا يبقى يحيل إلا على إيقاعه السريع ضمن البناء الزمني للزمن الكلي للملحمة،فيدخل ضمن التغيير المتسارع لدلالات المكان في زمان (أريحاـ أرض كنعان ـ فلسطين ـ القدس)،وتغيير دلالات الشخصيات،وتغيير الدلالات الجماعية للجماعات حفاظا على معاني ورموز الشخصيات التاريخية وكلامها،وكلام الوثيقة التي تنطق في كل مشهد من مشاهد هذه الإلياذة الكنعانية.بتاريخية أحداث يعاد ترتيبها ترتيبا كرونولوجيا حتى لا تخرج عن سياقها وهي تحيل على تاريخ فلسطين.
هذا ما تبرره البطاقة التقنية لفرقة «أورنينا»وهي ترسم الغاية من هذه الملحمة الكنعانية،وتبرر بمسوّغات فنية وتاريخية إستراتيجية إنتاج هذه الإلياذة الكنعانية فتقول إن هذه الملحمة موقف قومي فني ينهض على:(تقديم عمل ملحمي يبقى في الذاكرة الشعبية برؤية معاصرة تعرّف بالقضية الفلسطينية، فقد سميّ العمل (الإلياذة الكنعانية)لأن لكل شعب (إلياذته) التي تمجّد وتروي صمود هذا الشعب الذي وقف منذ حوالي ثلاثة آلاف عام في حمى صراع لا يتوقف من أجل الأرض،والحياة والسلام، والحرية، وهي (ملحمة) لم يخضها شعب في التاريخ بهذه الديمومة،والصبر،والإصرار والبطولة، وفوق ذلك يملأ قلب خصومه بالغيظ المميت)
إن معنى التاريخ الفلسطيني في هذه الملحمة هو العمل على تتبع بداية نشوء الحضارة في أرض كنعان،وتقديم كل أشكال الصراع من أجل البقاء ضمانا للعيش بكرامة،وتقديم صور هذا الصراع، وحدّته بمصوغات جمالية كانت تقدم فوق الركح وكأنها تحدث على هذه الأرض الكريمة،وكان كنعان الذي قام بتشخيصه المغني شادي علي، يواجه برمزه،وصوته،وحضوره عبر العصور كل المواجع، والآلام، ويتصدى لكل من يمثل القوى الخارجية الغازية،بدء من الصليبيين،وصولاً إلى الزمن المعاصر حيث يواجه الاحتلال الإسرائيلي،ويقف ضد السياسية الصهيونية التي تحاول تزوير الحقائق،وتعمل جادّة على انتحال التاريخ،وتزييف العمران، وتغيير دلالة أماكن العبادة سواء أكانت مسيحية،أو إسلامية.
بهذا المعنى التاريخي تسلط هذه الملحمة الضوء على نضال الشعب العربي الفلسطيني ضد الاحتلال.وتهدف بهذا التركيب التاريخي إلى إعطاء المعنى الإنساني، والسياسي، والتراثي، والنضالي لفضاء اللعب الفني،ليصير هو الأرض الفلسطينية الواقعية التي تجري فوقها كل أنواع الصراعات من أجل بقاء الشعب الفلسطيني وديمومته،كما يهدف ـ أيضا ـ إلى إعطاء الدلالة الواضحة للزيّ المسرحي للإيحاء بدلالته التاريخية ،وهو الزي الذي صممه ناصر إبراهيم، ومحمد رحال،ونفذه ماهر الصفدي،وفراس مراد،،منه اللباس الكنعاني،ومنه اللباس المقدس للمسيح،وللسيدة مريم،ومنه الزي الفلسطيني،ومنه اللباس العسكري الصليبي،ومنه اللباس الروماني العسكري،ومنه اللباس العربي بكل دلالاته المدينية،والمقاوماتية،ومنه لباس الحاخامات،ومنه لباس العرس الفلسطيني، ومنه لباس الفرح لرقصة الدبكة.
وفي هذا التركيب ـ أيضا ـ برنامج سردي لحضور الجسد يبرر كيفية تطويع لغة هذا الجسد ليصير علامات ناطقة بتيمة القضية الفلسطينية،وتمكين علاماتها المسموعة والمنظورة من إبلاغ جمالية المعنى،وجمالية الدلالة إلى البنية الكلية للملحمة وفق معادلات الرؤية الإخراجية التي تربط عنف اللحظات،وغنائيتها،ومعاركها،وفرحها،وحزنها بكل مشهد من مشاهد الملحمة،جاعلة النصوص الموسيقية التي نسّق وظيفتها التصويرية الفنية وليد الهاشم جزء مفصليا،وعضويا، يسهم في التصوير المشهدي للمشاهد،و يثري العرض المسموع بجمالية تلقي الموسيقى،ويدرج تراث الأخوين الرحباني كنصوص :(وقوفا أيها المشردون ـ لمعت أبواق الثورة ـ طلعنا على الضو) توسيعا لدائرة فهم ما يقوله النص المنطوق،أو ما يقوله نص الجسد بالرقص التعبيري الذي وقف وراء الإعداد البدني للراقصين فيه الخبير( Alexander Donets)،والخبيرة (Nataia( Donets) ،من أكاديمية كييف للباليه.
إن ما ينشده النص الشعري لمحمود درويش،أو ما يسرده النص التاريخي الذي يعتمد على المرجعيات التاريخية،أو العلامات التي تحيل على الهوية الفلسطينية، الزيّ،والرقص الجماعي بالدبكة،والتعبير الجسدي،كان من بين المعادلات الفنية والجمالية الوظيفية التي وضعت دلالتها في صيرورة إبداعية كتبت الزمن الملحمي بالزمن الفلسطيني نفسه .
معادلة التاريخ صيرورة فنية حول الزمن الفلسطيني
لقد حددت فرقة (أورنينا) تيمة كل مشهد يجري تقديمه مشخصا بالرقص،والغناء، والمسرح،والتوتر،وكان كل مشهد في الملحمة يتحرك بالعناصر التي تكوّنه،وتفعّل وجوده جماليا بوظيفته الدلالية،دون الإخلال بالمنظومة التاريخية التي تحكم صيرورة الزمن الفلسطيني،وكانت معادلة التاريخ في عرض (الإلياذة الكنعانية) يعني إعادة قراءة التاريخ الفلسطيني ملحميا، والرهان على تحقيق التواصل مع جمالية المشاهد وفق كل تيمة حددتها هذه الفرقة كالتالي:
* تقديم رمزية شخصية كنعان،وأرض كنعان ودورهما في تقديم حالات المعاناة الإنسانية الني يعانيها الشعب الفلسطيني.
* تصوير أحداث الملحمة يعني أنها رحلة طويلة ومضنية أرادت أن تقف على أهم مراحل ومحطات التوتر والصراع في التاريخ الفلسطيني.
* الاحتفالية الدينية بميلاد المسيح.
* الفتح الإسلامي لفلسطين ونهاية الحكم الصليبي على أرض فلسطين بعد تحريرها على صلاح الدين الأيوبي،وتحريره لمدينة القدس.
* بداية حياكة المؤامرات على فلسطين من طرف الإنجليز ودخول حاخامات اليهود لأرض فلسطين.
* بداية الثورة الفلسطينية وبداية الحياة بالمقاومة على أرض فلسطين.
* رفع شعار أن الحرية لا تستجدى بل تنتزع انتزاعا.
لقد صارت علامات الملحمة الكنعانية تتكلم بكلام التاريخ الفلسطيني،كما صار التاريخ بها صيرورة فنية في معادلات تاريخية بنت علاماته الملحمية كل المشاهد كي يتكلم بكلام مرجعياتها،وهو يؤطر حضورها زمن العرض بزمانها،وبأحداثها، وبما يريد أن تقوله هذه الملحمة في عرض بصري متدفق بعلاماته الفلسطينية،فوصفت فرقة (أورنينا) ما يجري من أحداث على أرض الواقع أنه يجري على في الحقيقة على (أرض كنعان أرضَ الملحمة المستمرة منذ آلاف السنين، ومعبراً من آسيا إلى إفريقيا وبالعكس، منها مرت الأقوام،والتجار، والمحاربون،والحجّاج، والبحارة،والمغامرون،ولكن الفلسطيني عاش فوق هذه الأرض،انغرس فيها،زرع،وحصد،وأحب،وحلم،وقاتل،واستشهد.لقد مر الهكسوس، الحثيّون، الفراعنة، الفرس،الروم،والبيزنطيون كلهم على هذه الأرض. لكن الكنعاني بقي في أرضه يفلح بيد ويقاتل بأخرى، بالحجر، بالسيف، بالسكين،والقبضات،وهو رغم الهول يعشق ويغني ويبدع ويهب الحياة ألقها وجدارتها،وحينما تظمأ الأرض يهبها دمه.إن للفلسطيني الكنعاني العربي قدرة نادرة، لقد كسر منذ زمن طويل رهاب العدو واستنفر روحه وجسده وقيمه في معركته الدائمة للحفاظ على هذا المكان (الأرض المقدسة). وهو لا يتعب ولا يتراجع وقد ضرب عبر التاريخ أمثولات نادرة في عشق الحياة والأرض.وهو ما يفتأ يطلق ناياته في جبال الجليل،ومرج ابن عامر وجبال النار.تحت أسوار عكا تكسرت رايات ريتشارد الإنجليزي وملوك الفرنجة، وعلى أسوار القدس سال العبير الأحمر غزيراً،دهراً وراء دهر،دفاعاً عن أمثولة (الناصري) عليه السلام من أجل الإخاء،والحب،والسلام،والإنصاف).
لقد كان الغزو،ومقاومة هذا الغزو،وكان الاستبداد ومقاومة هذا الاستبداد،وكانت الهيمنة و الإلحاح على كسر قيود الظلم والعسف أساس الصراع في كل مشاهد الملحمة،وكانت الدعوة إلى الحرية، والصمود، والتحريض على كسر شوكة العدو على أرض فلسطين أفعالا تحرّك الفعل التحرري عند الفلسطينيين،وهو ما وضعت له الفرقة اختياراتها على محك التجريب الفني فقالت عن هذه الإلياذة:
(منذ دهور والإلياذة الفلسطينية، في لجة الصراع الملحمي، في قلبه وعينيه. والأجيال جيلاً وراء جيل،تدافع عن الهواء والموج والجبال والزيتون،والحبق،والزعتر البري،وقطعان الأغنام، وعن الحق والحرية.في أرض فلسطين نشوء الرقص الأول، الزراعة، الموسيقى، الحب، تاريخ فلسطين،ومراحل أطماع اليهود في أرض كنعان بدءاً من ما فعلت أيديهم السوداء في صلب السيد المسيح،وانتهاء ببناء الجدار العنصري وهدم البنى التحتية للأقصى بحجة البحث عن حائط المبكى (هيكل سليمان)، وما بين الفترتين تتعاقب الأجيال.قد تكثر المخيمات والقتل والدمار ولكن يبقى الحلم واحداً، وتبقى الأرض عربية مهما كلف الأمر).
هكذا يمتد زمن الملحمة من بداية نشوء الحضارة في أرض كنعان،وينتهي بجدار البراق،وما يجري في القدس الشريف من عمليات تهويد هدفها أسرلة معالم المدينة،وهو زمن تحول من أزمنة كانت موزعة على مشاهد تتمسرح فيها الأحداث بالتعبيرات الجسدية وكان التعامل مع تاريخ فلسطين أساس مسرحة كل الشخصيات المستمدة من التاريخ الفلسطيني،لتقديمها محملة بدلالاتها المعاصرة،ومواصفاتها،ودورها في الأحداث،مثل كنعان،أوشع بن نون ،وهيريدوس، سالومي، صلاح الدين الأيوبي،الجنرال الإنجليزي «اللنبي»، الحاخامات، ومحمد وفاطمة،وتزيد إيحاءات هذه الشخصيات ظهورا أثناء ربطها بالمدن،والأماكن التي تجري فيها الأحداث مثل أرض كنعان، أريحا،إيليا ،أرض فلسطين.
إن اللعب المسرحي بالرقص التعبيري كان أداة تعبيرية تمثيلية فيها تنوب الحركات عن الكلام لتصير هي كلام اللعب المسرحي،وأحيانا أخرى يحتل الكلام المنطوق موقعه الدلالي في سياق الكتابة الركحية ليكمل معنى الحركات الإيقاعية وهي تكتب زمن الملحمة بالتراث الفلكلوري والشعري وبالأناشيد القديمة للكنعانيين،وعلاقتها بالبحر، وعلاقتها بأرض كنعان الذي هو صلة وصل بين مشاهد الملحمة ،لأنه يمثّل الذاكرة التي تبدأ بالأسطورة، وتستمر في وجودها بتاريخ الصراع،وما صاحبه من عنف، لتصل إلى صياغة المأساة الفلسطينية داخل هذه الملحمة الغنائية التاريخية،لتقدم التيمات التي وضعت الفرقة برنامجها السردي كالتالي:
* مذابح أريحا وجرائم أوشع بن نون في مدينة أريحا.
* أفول الحلم أمام واقع العنف الدموي,
* ميلاد المسيح وآلامه.الذي هو ميلاد السلام ،وميلاد الأمل.
* التآمر على المسيح لقتله في حوار اليهود والرومان.
* الفتح الإسلامي حامل راية السلام والمحبة والتعايش السلمي بين الأديان.
* الحرب الصليبية ودخول صلاح الدين للقدس وتحريرها لتبقى فضاء مقدسا يضمن حرية العبادة لجميع المؤمنين.
* مؤامرة الإنجليز وحاخامات اليهود على فلسطين ودخولهم لها
* النكبة سنة 1948 وبداية التهجير والترحيل.
* آلام الفلسطينيين وإرهاب الصهيونية.
* بداية الثورة الفلسطينية.
* جدار البراق وهو من بين أهم الآثار الإسلامية ذات العلاقة الوطيدة بالحرم القدسي الشريف الذي يشكل الجزء الجنوبي الغربي من جدار الحرم،وله علاقة متينة برحلة الإسراء والمعراج،وهو الذي يطلق عليه اليهود حائط المبكى.
* الفرح الذي يعبر عن أمل تحرير الوطن.
كل هذه التيمات التاريخية التي وضعتها فرقة (أورنينا) لإتمام رؤية الملحمة الفلسطينية ،تقوم على إبراز تصادم عنيف بين قوتين متعارضتين سارتا بالفعل الدرامي نحو التأزم المتجدد الذي ولدته طبيعة الصراع بين البقاء والفناء،بين الحياة والعدم،بين التسامح والعنصرية،وهو ما شخصته المعارك،والمواجهة بين النقيضين المتصارعين، تمثل القوة الأولى رمزية الحضارة الكنعانية بكل قيمها التسامحية،والإنمائية،والإنسانية،وتمثل القوة الثانية المعيق الحقيقي الذي يحول دون استتباب السلام،ويحول دون تحقيق الأمن والاستقرار الدائمين في المنطقة،لأنه معيق ينسف التعايش بين الأديان،و الإثنيات ،والحضارات،ويسعى كي تصبح هباء، ويبابا، ودما.
إن الصراع وفي هذه الملحمة هو صراع العلامات وما تنتجه من توليدات للمعنى العميق،والإيحاءات البليغة للواقع،ولوقائع لها بداياتها ولها نهاياتها،البداية هي حضور نظام مرجعي ثقافي وإنساني ثابت في الزمن وفي المكان هو القضية الفلسطينية،والقدس،والنهاية هي الإعلان الجديد عن ميلاد جديد لبنية سردية تتكلم في المشهد التراجيدي على الحياة والفعل الذي يمنع الفعل من بقائه،أو دوامه،وتظهر شعرية التعبير عن العنف بالرايات الحمراء كدلالة على القتل،والذبح،والتحريض على قتل المقدس،واتخاذ الغدر سلوكا يوميا لعنصرية لا إنسانية أداتها ومحركها الآلة الصهيونية،وهي تريد نفي وجود إنساني تم توكيد كينونته مع إيليا،المسيح، فلسطين، المدينة المقدسة القدس،كنقيض للعنف الذي تفرخه الآلة الصهيونية.
لقد قام النص على استنطاق الرموز التي وقفت ضد كل من يزدري القيم الإنسانية، ووقف ضد كل من يرفض الدعوة إلى التعايش بين الأديان في فلسطين،أويرفض الدعوة إلى التعايش السلمي بين الديانات في مدينة القدس مدينة السلام ،وهو ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب حين دعا إلى حرية العبادة بين المؤمنين دون انتقاص، وجعل باب القدس مفتوحا أمام المؤمنين على اختلاف مرجعياتهم الدينية والعقدية لممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية السمحة دون تمييز،ودون فرق بين رسالة سماوية وأخرى إلا بالتقوى.
وإذا كانت هناك في هذه الملحمة استغاثة،و صرخة،ونداء من أجل إنقاذ القدس، وإنقاذ المسجد الأقصى،والكنائس،والتراث الإنساني،فإن صورة وعلامات ذلك ظهرت ملتهبة بشرارات الأمل والنصر العربي بكلام الوثيقة وهي تنطق بسؤال( من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح؟من ينقذ الإنسان ممن صلبوا كل نبي؟).
وفي ترتيب أحداث هذه الملحمة بصريا يظهر النصر العربي مع عمر بن الخطاب، ومع صلاح الدين الأيوبي، ومع تحرير القدس التي ستظل أبوابها مفتوحة في مدينة ستظل مجللة بالمقدس، وبالروحانيات، وبالنبض الإنساني.وتظهر شارات النصر في مشاهد الملحمة في :
-الأعلام البيضاء دلالة على السلم والسلام الذي رفرف على سماء القدس.
-الإعلان عن نهاية الحكم الصليبي لأرض فلسطين ولمدينة القدس بالأساس.
-السلام للنصارى في القدس.
-الحق في العيش الكريم.
-المزج بين الأذان ورنين أجراس الكنائس في بنية صوتية واحدة تدلّ على التمازج الصوتي بين مُقدّسين نابعين من رسالتين سماويتين هما المسيحية والإسلام اللتين ستبقيان تحملان عمق الدلالة الروحية النابعة من مدينة القدس مهبط الرسالات السماوية.
لقد تميزت شعرية كتابة الملحمة الكنعانية بعنف المشاهد،ومقابلة شاعرية الفرح، والبهجة،بعملية رش بلسم الأمل على جراحات اللحظات،وآلامها،كما تميزت بأسلوبها الإخباري حين جعلت التاريخ يتكلم بلغة الوثيقة،والحجة،والبيان،والوقائع، مقابل شاعرية الصورة التي كانت علاماتها انسيابا لدلالاتها بالمعنى الإبداعي الذي يهمس،ويتكلم بصوت جهير هو رؤية هذه الملحمة وهي تغوص في أعماق القضية الفلسطينية،و تغوص في الواقع الإنساني الذي أوصل الرؤية الملحمية للعالم إلى مأساة التهجير،و رقصة الحقائب السوداء أمام حائط البراق كنذير شؤم يعلن عما سيلحق فلسطين من مآس وويلات.
بداية هذا الشؤم سيعلن عنه المحتلون حين يقول الكلام(بعد ألف عام ها قد عدنا)،بعده سترصد المشاهد عنف الأحداث على الواقع متمثلة في النكبات،وفي الحروب،وفي احتلال فلسطين،وفي التخطيط المنهجي للتهجير القسري للفلسطينيين،واقتلاعهم من جذورهم، إيذانا ببداية غدر جديد،لزمن مأساوي جديد يتجدد معه فعل الصمود، والثورة،والمقاومة، والانتفاضة الطالعة من الحجر الغائر في الذات،فيبدأ التمرد على الإرهاب الصهيوني ضد تهويد القدس،وتبدأ الانتفاضة تبوح بأسرارها وهي تحتفل بعرس فاطمة...ويبدأ تماهي الحب الفلسطيني الفردي بالحب الجماعي للوطن لتبقى مدينة القدس عاصمة أبدية للمرجعية الإنسانية ولكل الديانات.
لقد بدأ عرض الملحمة الكنعانية بالفرح في سديم السحاب المنبعث بين أرجاء الركح ،في زمن حالم متخيّل،وبدأ بالبناء،وأعلن عن ميلاد الحياة على أرض كنعان،أما خاتمته فتمّت بمحاصرة التاريخ،ومحاصرة الذاكرة،وتطويق المحتفلين بالزمن الفلسطيني داخل الأسلاك الشائكة التي هي علامة عنصرية على حصار عنصري بجدار عنصري جديد،جعلت الشاعر محمود درويش يهز بصوته الفلسطيني أركان الصمت المريب،ليعلن بصوته العروبي عن الدعوة إلى تحرير الإنسان،والمكان،والمقدس،والزمن الفلسطيني،متحديا كل لحظات العنف الصهيوني قائلا:
(أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة)
هكذا قدمت فرقة (أورنينا)ملحمة تاريخية احتفلت فيها بشعرية التسامح الديني،وأعلت راية تحرير القدس،وكأنها تستنهض من جديد الهمم والسواعد والعقول والنخوة العربية من أجل فلسطين،ومن أجل القدس،ومن أجل الحياة بكرامة على أرض الكرامة،وما إنهاء هذه الملحمة بصورة الحرم القدسي والمسجد الأقصى المعروضة في خلفية الركح سوى التوكيد على القيمة الرمزية والروحية،والتاريخية لهذا الفضاء المقدس الذي يدل على أنه عرف حادثة الإسراء والمعراج،وأنه رمز ديني سيبقى تراثا إنسانيا خالدا.

هامش:

-المُخرج ناصر إبراهيم :الإلياذة الكنعانية .أورنينا للرقص المسرحي.(بطاقة تقنية).
-كما قدمت هذه الملحمة من قبل احتفالا بالقدس عاصمة الثقافة العربية 2009 .وزارة الثقافة ـ الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك