الحوار...مبدأ

الحوار...مبدأ

عبد الرحمن الجرعي

الحوار مظهر من مظاهر رقي المجتمعات، فالعقلاء يتحاورون ويتناظرون، وعما اتفقوا عليه يصدرون، ويديرون الحوار تحت مظلة ثوابت معروفة للجميع يتفق عليها قبل البدء، ويحتكم عند الاختلاف إلى مرجعيات مسلم بها . وهذه الأجواء أجواء صحية متجددة الهواء ، تناقش الآراء علناً ، وليس في الظلام؛ فتسدد الآراء ، وتصحح المواقف، وتتقارب الخطى، وتزيف الشبه ، ويعلو الحق ، ويسفل الباطل ، وينقشع الضباب ، ويتبدد سوء الظن المبني على مسلمات غير مسلمة ، ويخف التلاوم ، وتتضح مفاصل كثير من القضايا . وسنرى بعد طول الحوار والنقاش أن هناك مساحات هائلة غير مستغلة يمكن استثمارها ، وهناك قضايا أساسية ربما غفل عنها بعض المتحاورين، أو أراد إغفالها، فلا بد من وضوح الرؤى .

 

أما الانكفاء على الذات والتمحور حولها ، وإغلاق الأبواب والنوافذ أمام كل حوار ولقاء ، ورفض التجديد والتغيير الواعييْن؛ فذلك ضعف واستكانة ، وإن كان صاحبه يظن أنه صاحب الرأي الأشد، والقول الأسدّ.

 

والمتأمل لكتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ يجد أن كلمة الحوار وردت ثلاث مرات، ووردت قصص الحوار أكثر من 500 مرة ، وهذا يدل على مكانة الحوار ، وكونه وسيلة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وقد حفلت سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحوارات كثيرة مع الكفار- بكافة أصنافهم- بغية إيضاح الحق لهم واجتذابهم إلى معسكر الإيمان، أو تحييدهم في بعض الأحيان، حتى يكف بأسهم عن المسلمين ، ألم تر إليه صلى الله عليه وسلم حين أمهل عقبة بن ربيعة- وهو المشرك الكافر- حتى انتهى ، ثم خاطبه بألطف عبارة، فقال" أفرغت ياأبا الوليد".؟.

 

وحاور الصحابة والتابعون أهلَ البدع والمخالفين حوارات بناءة، عادت بالنفع الكثير.

 

إننا في حاجة إلى أن تشيع بيننا لغة الحوار ، بدلاً من لغة القطيعة ، طالما كان هناك عنها مندوحة . والمحاور شخص واثق من نفسه ، يحتكم إلى ثوابت ومسلمات دليلها أضوأ من الشمس ، لايخشى المغالطات ؛ لأنه يأوي إلى ركن ركين من علم راسخ وعقل راجح .

 

إن الحوار ثقافة ووعي يجب أن نحرص عليه ، وأن نشيعه في مناهجنا التعليمية، وفي برامجنا التربوية والإعلامية، حتى يكون خُلقاً وسُلوكاً ، وأن نضع من البرامج العملية مايكفل تحقق ذلك . فلم لا يعوّد الأستاذ طلابه على التحاور والنقاش في المسائل التي تحتمل الاجتهاد والاختلاف ، ويجري بينهم مناظرات ومناقشات تحت عينيه؟! حتى يعتادوا سماع الرأي الآخر، وكل يدافع عن وجهة نظره، ثم يكون من الأستاذ التسديد والتصويب والثناء على المحسن، ورد المخطىء، والتنبيه على آداب الحوار وأخلاقه . وقد حُكي عن أبي حنيفة أنه كان يُجرِي المناظرات بين طلابه، وهو يستمع ويستمتع بصناعة فقهاء المستقبل.

 

والشافعي حُكي عنه كذلك أنه كان يقول لبعض تلاميذه: ماذا تقول في مسألة كذا؟ فيجيبه ، ويدلل على قوله، فينقض الشافعي أدلة تلميذه، ويختار قولاً آخر، ثم يقول الشافعي لتلميذه: تقلّد قولي -أي: انصره- وأنا أتقلّد قولك ، ثم يدافع عن الرأي الذي كان ينقضه، وينقض ماكان يتبناه . . .، أليست هذه أجواء راقية نتمنى أن نراها بين مشايخنا وطلابنا؟!

 

ومما أرى التنبيه عليه أخيراً أن الحوار يجب أن يكون حاضراً في جميع الأوقات، وليس استدعاءً لحالة طارئة أو مرحلة حرجة دفعنا إليها دفعاً ، فالحوار مبدأ شرعي، يدل على عدل هذا الدين وسماحته ، وصلاحيته لكل زمان ومكان . والله الموفق

 

* د. عبد الرحمن الجرعي : أستاذ بجامعة الملك خالد

 

المصدر: موقع الإسلام اليوم

المصدر: http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/2010-04-26-1530.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك