مفهوم الفرقة عند العلماء المسلمين

مفهوم الفرقة
عند العلماء المسلمين

بقلم
د. مجيد الخليفة
www.dr-majeed.net

المبحث الأول
الفرقة في الكتاب والسنة
تعريف الفرقة :
كلمة ( الفرقة ) من حيث مدلوها اللغوي غالباً ما تدل على الاختلاف والافتراق ، قال ابن منظور : (( مصدر الافتراق ... وفارق الشيء مفارقة وفراقاً : باينه ، والاسم الفرقة وتفارق القوم : فارق بعضهم بعضاً ، وفارق فلان امرأته مفارقة باينها ، والفرق والفرقة والفريق الطائفة من الشيء المتفرق والفرقة طائفة من الناس ، والفريق أكثر منه )) ( ) . فمن حيث اللغة فإن ( الفرقة ) تعني طائفة من الناس ، ولا بد أن يكون هناك شيئاً يجب أن يميز هذه الطائفة حتى دعيت به ، كأن تكون مقالة أو مذهب أو رأي .
أما من حيث الاصطلاح فالفرقة تعني كل طائفة من الناس دعيت إلى معتقد معين( ) ، بحيث عرفت به وتميزت عن غيرها ، ويمكن القول إن هذا المصطلح من حيث مدلوله الاصطلاحي ألصق بأصول العقيدة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تفرق الناس فيه ، ولا يدل في معظم الأحيان على الافتراق في فروع الدين ، ولذلك نقول : فرقة الخوارج أو فرقة المعتزلة ؛ لأن خلاف أهل السنة مع هذه الفرق كان بالمعتقد ، في حين أننا نطلق مصطلح ( مذهب ) على الشافعية أو الحنفية ، ولا يصح أن نقول ( فرقة الشافعية ) أو ( فرقة الحنفية ) ؛ لأن الخلاف بين المذاهب كان في فروع الدين لا في أصوله .
من هنا يمكن القول إن تعريف العلماء لمصطلح ( الفرقة ) له علاقة بالمغزى الاعتقادي لهذه للطائفة المتعينة ، وقد كان ابن حزم أكثر دقة من غيره عندما فرّق بين مصطلح ( الفرقة ) الذي يشمل المسلمين وغيرهم ، وبين مصطلح ( النحلة ) إذ أنه استعمل المصطلح الأخير للدلالة على فرق المسلمين – أو بتعبيره – نحلهم ، في أكثر دقة وموضوعية ؛ لأن فيها دلالة على الانتحال : وهو نسبة القول إلى غير قائله ، ومنه انتحل فلان شعر فلان ، وكأن هذا الشيء يعني اعتقاد الشيء والتمسك به وهو على غير هدى( ) ، وقد تبع الشهرستاني ابن حزم في استعمال هذا المصطلح للتفريق أيضاً بين المسلمين وغيرهم، فسمى كتابه ( الملل والنحل )
أما عبد القاهر البغدادي فقد تمسك بمصطلح الفرقة وإليه يشير كتابه ( الفَرْق بين الفِرق ) لتعميمه على فرق المسلمين ، وقد يكون عذر البغدادي في ذلك هو أنه لم يضمن كتابه مقالات لغير المسلمين ، فاكتفى بإطلاق هذه التسمية على كتابه ، وفي فعل البغدادي موضوعية يحمد عليها ، وجمع محمد بن عمر الرازي ( ت 544هـ ) بين فرق المسلمين والمشركين ، فسمى كتابه ( اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ) .
ويمكن القول أخيراً إن مؤلفات المسلمين في حقل الفرق والملل يعطينا تصوراً متبايناً عند هؤلاء العلماء في تحديد الإطار الدقيق لهذه الكلمة ، لكن يمكن القول إنها من حيث المضمون لها معنى مشترك متفق عليه ، يعتمد على البعد العقائدي للكلمة من جهة ، وعلى الغلو في تعميمها من جهة أخرى .

الفرقة في القرآن الكريم :
لقد أشرنا في تعريفنا لكلمة ( الفرقة ) إلى أنها تعني الافتراق ، وقد جاءت في هذا المعنى في قوله تعالى : ﴿ ﴾ [ البقرة ] قال القرطبي في تفسير هذه الآية : (( فرقنا : فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم : أي الجبل العظيم، وأصل الفرق : الفصل )) ( ) ، فجاءت الفرقة هنا بمعنى الفصل بين الشيئين ، وقد سمي القرآن فرقاناً لأنه يفصل بين الحق والباطل ، قال تعالى : ﴿ ﴾ [ الفرقان ] ، وسمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأنه اليوم الذي فرّق الله فيه بين الحق والباطل ، قال تعالى : ﴿ ﴾ [ الأنفال : 41 ] ، وأطلقت هذه التسمية على الملائكة أيضاً في قوله تعالى : ﴿ ﴾ [ المرسلات ] والسبب في إطلاق هذه التسمية لأنها بنزولها تفرق بين الحق والباطل( ) .
وقد يأتي الفرق بمعنى الفصل بين الشيئين ، وعليه يدل قوله تعالى : ﴿ ﴾ [ الإسراء ] ، فقد روي عن ابن عباس أن الله تعالى فصل القرآن من اللوح المحفظ إلى بيت العزة ، ثم نزل مفرقاً منجماً ( ).
لكن المعنى الذي يهمنا هنا إلى أن القرآن الكريم أشار إلى الافتراق الحاصل سواء كان ذلك في الأمم السابقة أو في هذه الأمة ، كما في قوله تعالى : ﴿ ﴾ [ الأنعام ] ، وقد ذكر المفسرون أخباراً كثيرة في نسبة هذه الآية إلى طائفة معينة ، فقيل إن هذه الآية نزلت في حق اليهود والنصارى ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في أهل البدع من هذه الأمة ، وعن ابن عمر أنها في حق الخوارج ، وكل هذا غير ثابت من حيث الإسناد( ) .
قال ابن كثير – بعد أن أورد هذه الأخبار - : (( والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله ، وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق ، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات )) ( ) . وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير ( رحمه الله ) هو الأقرب إلى معنى الآية ؛ لأن الخطاب عام ولم يأتِ تخصيص فيه ، علماً أن الله تعالى ذكر الافتراق الحاصل في الأمم السابقة في أكثر من آية ، منها قوله تعالى على لسان هارون ( عليه السلام ) : ( قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) [ الأعراف : 94 ] فقد عبد بنو إسرائيل العجل عند غياب موسى ( عليه السلام ) في الطور ، رغم نصح هارون ( عليه السلام ) لهم وتفانيه في منعهم ، وبعد أن يأس من توبتهم رأى أن يختار أخف الضررين ، وهو أن يجمع بين الطائفتين الموحدة وعبدة العجل حتى يرجع موسى ، بدلاً أن يتركهم ويذهب فتهلك الفرقة التي عبدت العجل( ) .

الفرقة في السنة النبوية :
إن الأحاديث الواردة في التحذير من الاختلاف والافتراق الحاصل في هذه الأمة أحاديث كثيرة لا يمكن أن نحيط بها ، وإنما تحتاج إلى بحث مستقل ، ولكننا سنتناول في بحثنا هذا ما له علاقة مباشرة بالموضوع الذي نحن بصدده .
وعمده ما يورده مصنفو الملل والنحل في هذا الباب ما اصطلح على تسميته بـ ( حديث الافتراق ) الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حال الأمم السابقة وحال هذه الأمة ، وقد روي بألفاظ عديدة ، منها ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال ك ما أنا عليه وأصحابي )) ( ) ، وفي رواية أخرجها ابن ماجة عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية قال : (( الجماعة )) ( ) .
ورغم أن البعض حاول أن ينتقد هذا الحديث من حيث الإسناد ، نظراً لوروده بأكثر من لفظ – منهم ابن حزم الظاهري( ) – إلا أن هذا القول مردود نظراً لكثرة طرق الحديث التي يعضد بعضها بعضاً ، وقد أخرجه عدد من الأئمة ، وصححه عدد آخر ، ونظراً لأهمية هذا الحديث في بحثنا هذا ، فنحن نرى أن نورده باختلاف ألفاظه :
1. حديث أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن بني إسرائيل تفرقت على إحدى وسبعين فرقة ، فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، فتهلك إحدى وسبعين وتخلص فرقة ، قالوا : يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال : الجماعة الجماعة )) ( ) .
2. حديث عوف بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، فواحدة في الجنة وسبعون في النار ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة ، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ، قيل : يا رسول الله من هم ؟ قال : الجماعة )) ( ) .
3. حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( تفترق هذه الأمة ثلاثة وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قالوا : وما تلك الفرقة ؟ قال : من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ( ) .
وقد ورد الحديث بألفاظ مختلفة ، وقد استعرض العجلوني طرق هذا الحديث ، ومن رواه من الصحابة ، إذ أحصى ستة عشر صحابياً ، ومن طرق مختلفة ( ) ، والأمر المهم هنا أن الحديث يدل دلالة قاطعة على أن الاختلاف واقع في هذه الأمة لا محالة ، والنجاة منه هو التزام السنة والجماعة ، والراجح أن معناهما واحد في الحديث ، إذ قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الفرقة الناجية قال في الأولى ( الجماعة ) وفي الثانية : ( ما كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، ومعناهما متقارب إن لم يكن مترادف ، فمن لازم الجماعة لا بد أن يكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، والعكس صحيح أيضاً ، والله تعالى أعلم .
بقي أن نشير إلى أن العلماء – خاصة كتاب الملل والنحل – عدوا العدد الوارد في هذا الحديث نطاقاً لمؤلفاتهم ، وربما تعسف بعضهم في تحديد عدد فرق المسلمين بثلاث والسبعين ، دون أن يراعي تتابع الزمان ، وظهور هذه الفرق وتنوعها بتنوع الأزمان والأمكنة ، لذلك فإن العدد الوارد في الحديث ليس قطعي الدلالة بأي حال من الأحوال، ذلك أننا يمكن أن نفسر تحديد العدد المذكور في الحديث بالتكثير ؛ لأن مفهوم العدد لا يعتد به عند أهل الأصول أولاً ، وثانياً أننا نلحظ ظهور الفرق من المسلمين ومن غيرهم عبر تتالي العصور ، وقد تعدى العدد السبعين ، ويمكن أن يتأول العدد المذكور بأن أصول هذه الفرق لا تخرج عن إطار السبعين ، ثم تفرعت عنها وتعدد بمرور الوقت .
وهناك أحاديث أخرى وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يمكن الإشارة إلى بعضها ؛ لأن غرضنا هنا ليس استعراض هذه الأحاديث ، وإنما غرضنا دلالة السنة على حدوث الافتراق ، وظهور بعض الفرق :
1. حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يا رسول الله صفهم لنا ، فقال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ، قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) ( ) .
2. عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية ، أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا أدري ما الحرورية ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه ، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء ؟ )) ( ). وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن هذا الحديث يشير إلى ظهور الخوارج بعد وفاته صلى الله عليه وسلم( ) .
3. حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : (( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ووجلت منها ، القلوب فقال رجل إن هذه موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي ، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً ، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة ، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )) ( ) .
4. حديث علي رضي الله عنه قال : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ... )) ( ) .
فمجمع هذه الأحاديث يشير إلى أن الافتراق حاصل في هذه الأمة بتقدير الله تعالى ، وقد وردت بعض الأحاديث فيها تحديد لمسميات الفرق الإسلامية ، منها :
1. ظهور الخوارج ، وقد تقدم الدليل عليه في حديث أبي سعيد الخدري .
2. ظهور القدرية ، في قوله صلى الله عليه وسلم : (( القدرية مجوس هذه الأمة )) ( ) .
3. ظهور المرجئة : فعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية )) ( ) .
ومن خلال هذه الطائفة من الأحاديث النبوية يمكن القول إنها بعمومها تنبه الأمة على ضرورة الاعتصام بحبل الله تعالى ، ونبذ الفرقة والاختلاف التي تؤدي إلى التناحر والتدابر بين المسلمين ، إلا أن هذا لا يفرغ بعضها من دلالتها على المعجزة النبوية ، ولذا فإن فهم هذه الأحاديث بمجموعها يجب أن يتسم بالموضوعية للتوفيق بينها ؛ لأن ذلك يؤدي إلى حصول سوء فهم فيها ، قال عبد القادر البغدادي في هذا الخصوص : (( قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام ، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في اصول التوحيد وفي تقدير الخير والشر ، وفي شروط النبوة والرسالة وفي موالاة الصحابة ، وما جرى مجرى هذه الأبواب ؛ لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم بعضاً ، بخلاف النوع الأول فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه ، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف )) ( ) ، وهذا الرأي يعضد ما قدمناه بأن مفهوم ( الفرقة ) المعني هنا الاختلاف العقائدي وليس الاختلاف في باب الفروع ، وبهذا ينتهي الإشكال الحاصل في تحميل هذه الكلمة أكثر من مضمونها الحقيقي الذي استعملت فيه الأدلة الشرعية .

المبحث الثاني
الفرقة عند كتاب الملل والنحل
لقد بدأت المؤلفات حول موضوع الفرق والمقالات منذ وقت مبكر في تاريخ المسلمين ؛ نظراً لأهمية الموضوع ، وكثرة هذه الفرق والمقالات ، كما أن احتكاك المسلمين بعقائد الأديان الأخرى قد جعلتهم يدرسون هذه الأديان ، ومن ثم وضع الملفات في بيانها ، سواء كانت هذه الأديان كتابية مثل اليهودية والنصرانية أم وثنية مثل البوذية والهندوسية وغيرها ، إلا أن الاهتمام الأكبر كان منصباً حول مقالات الفرق الإسلامية على اختلاف منابعها ، وسنحاول في خلال هذا المبحث التعرف على الفرقة الإسلامية عند ثلاث من أشهر علماء هذا الفن ، وهم : أبو الحسن الأشعري ، وعبد القاهر البغدادي ، وابن حزم الظاهري ؛ لأن المقال لا يتسع لتناول كل من كتب عن هذا الموضوع .

أبو الحسن الأشعري ( ت 324هـ ) :
يعد كتابه من أوائل الكتب التي وصلتنا ، فكتابه ( مقالات الإسلاميين ) يعد المرجع الرئيس لكل باحث وكاتب في موضوع ( الفرق الإسلامية ) ، وقد بيّن الأشعري في مقدمة كتابه غرضه من تأليفه فقال : (( ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ، ويصنفون في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه ، ومن بين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه ، ومن بين تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين ، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به ، وليس هذا سبيل الربانيين ولا سبيل الفطناء المميزين ، فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمست شرحه من أمر المقالات ، واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار ، وأنا مبتدئ شرح ذلك بعون الله وقوته )) ( ) .
ومن خلال مقدمة الأشعري هذه يتضح أن هناك مؤلفات كثيرة في هذا الموضوع ، إلا أن الأمر المهم في هذه المؤلفات – حسب رأي الأشعري – أنها تفتقد إلى الموضوعية ، وهو – بما عرف عنه من شهرة علمية – سيحاول أن يصنف كتاباً في هذا الباب ، وقد جاء كتابه حافلاً يستحق منا كل ثناء .
والأمر المهم في تقسيم الأشعري للفرق الإسلامية أنه يقسم هذه الفرق إلى عشرة أصناف ، وتعبير الصنف هنا يستعمله الأشعري للدلالة على مجموعة من الفرق التي تنتمي إلى أصل مشترك ، ولا يمكن أن نفهم ذلك إلا بالرجوع إلى هذه الأصناف وهي :
1. الشيعة : وهم عند الأشعري ثلاثة أصناف ، الصنف الأول هم الغلاة ، وتشكل مجموع فرق هذا الصنف : ثلاث عشرة فرقة ، والصنف الثاني هم الرافضة ، وتنقسم إلى قسمين الأول الكيسانية ، ومجموع فرقها خمس فرق ، والإمامية ومجموع فرقها اثنتا عشرة فرقة ، أما الصنف الثالث فهم الزيدية ، ومجموع فرقها ست فرق( ) .
2. الخوارج : ويستفتح الأشعري كلامه حول فرق الخوارج بالكلام حول مسألة التكفير التي اشتهرت بها هذه الفرقة ، ثم يعرج على ظروف ظهورها بوجه عام ، وافتراق الأزارقة عنها بشكل خاص ، وكأن الأشعري أراد أن يبرز الأزارقة عن باقي فرق الخوارج نظراً لنشاطها السياسي والعسكري( ) ، في حين يجعل العجاردة على خمس عشرة فرقة ، وبعد أن يذكر الأشعري فرق العجاردة ، ينتقل إلى أصل التفرق عند الخوارج : (( وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والإباضية والصفرية والنجدية وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية )) ( ) ، وبذلك يتبين لنا الأصول التي اعتمد هنا في تقسيم فرق الخوارج .
3. المرجئة : تتخذ أصناف هذه الفرقة عند الأشعري تقسيماً آخراً يعتمد على مفهوم الإيمان عند أصحاب مقالاتها ، فالتقسيم هنا على مسمى الإيمان ، وهم وفق هذا الاعتبار اثنتا عشرة فرقة ، ويتخذ قولها في الإيمان أساساً لذكرها في كتابه ، وربما يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت الأشعري لتسمية كتابه بـ ( مقالات الإسلاميين ) فالتقسيم هنا هو تقسيم مقالة لا تقسيم فرقة( ) .
4. المعتزلة : من المعروف أن مدار كلام المعتزلة على التوحيد ، والأشعري عند ذكره لمقالات المعتزلة يسلك المسلك نفسه الذي اتبعه في تعداد مقالات المرجئة ، فالتقسيم يأتي وفق أساس المقالات مثل : (( القول في المكان ، القول في رؤية الله عز وجل ، القول في علم الله عز وجل ... )) ( ) ، فمـثلاً عند بحثه لمسألة رؤية الله عز وجل عند المعتزلة يقول الأشـعري : (( أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه لا يرى بالأبصار ، واختلف هل يرى بالقلوب ؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة تقول نرى بقلوبنا ، بمعنى إنا نعلمه بقلوبنا ، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان ذلك القول )) ( ) ، ويسير الأشعري في استعراضه لمقالات المعتزلة وفق هذا المنهج ، حتى ينتهي من بحثها .
5. الجهمية : وهي فرقة مشهورة تنسب إلى جهم بن صفوان ، واشتهرت هذه الفرقة بقولها إن الجنة والنار تفنيان ، وإن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، والكفر هو الجهل به فقط ، ويعرفها الأشعري وفق هذا الاعتبار بمقالاتها متبعاً للمنهج نفسه الذي اتبعه مع الجهمية والمعتزلة .
6. الضرارية : تنسب إلى ضرار بن عمرو ، وهو من أهل الاعتزال ، لكن الأشعري يجعله مستقلاً عنهم ؛ لأنه فارق المعتزلة عندما قال : إن أعمال العباد مخلوقة ، وأشتهر عنه قوله إن معنى أن الله عالم : أنه ليس بجاهل ، وكذلك كان يقول في سائر الصفات قوله بصفة العلم( ) .
7. الحسينية : تنسب إلى حسين بن محمد النجار( ) ، ويسلك الأشعري في استعراض مقالات النجار المسلك نفسه الذي سلكه في استعراض الضرارية( ) .
8. البكرية : وتنسب هذه الفرقة إلى بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد ، وكان يقول : إن الكبائر من أهل القبلة نفاق( ) ، وهذه الفرقة عدت من فرق الاعتزال أيضاً .
9. العامة : وهم أصحاب الغلو من النساك – على تعبير الأشعري – الذين قالوا بالحلول والاتحاد ، حيث قالوا : إن الله جائز أن يحل في الأجساد ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ( ).
10. أصحاب الحديث وأهل السنة : هكذا يحدد الأشعري الفرقة الأخيرة في كتابه ، ثم يستعرض عقائد أهل السنة والجماعة ، ويورد أقوال أئمتهم في ذلك ، وما قاله هو عبارة عن تقرير لهذه العقيدة ، ثم قال : (( هذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله )) ( ) . ويبدو أن ما قاله في آخر كتابه هذا هو ما كان يعتقده في أواخر حياته بعد أن ترك الاعتزال ، ومال إلى اعتقاد أصحاب الحديث.
من خلال هذا الاستعراض يمكن القول إن الأشعري في تناوله لمفهوم الفرقة كان قد حدد الإطار العام لها وفق ما اشتهرت به ، أما فيما يخص فرق الشيعة فإنها قد أخذت تقسيماً آخر يعتمد على اسم الفرقة ، ويبدو أن السبب في استثنائه فرق الشيعة كان شيوع مسميات هذه الفرق في عصره ، علماً أنه لم يذكر بعضها ونسب اعتقادها إلى مقالاتها ، وقد ذكر مسميات هذه الفرقة فيما بعد البغدادي والشهرستاني .

عبد القاهر البغدادي :
إن مفهوم الفرقة عند عبد القاهر البغدادي يتخذ طابعاً أخراً من حيث مغزى التسمية ، إذ أن عنوان الكتاب الذي ألفه عبد القاهر البغدادي في هذا الخصوص يحمل عنوان ( الفَرق بين الفِرق وبيان الفرقة الناجية منهم ) ، ونفهم من التسمية أن الكتاب بواقع الحال هو للتمييز بين فرق الإسلام المختلفة ، ومع ذلك فإن الأساس الذي يعتمده البغدادي في تقسيمه للفرق هو حديث الافتراق ، وقد أدى هذا التحديد العددي للفرق الذي جعله في بداية كتابه إلى تقييد البغدادي به ، مما جعله ينعكس سلباً على منهجه في كتابه .
وعلى وجه العموم فإن الفرق عند البغدادي تصنف إلى صنفين ، الأولى التي تدخل تحت مسمى الإسلام ولم تخرج عن إطاره ، والثانية فرق الغلاة على اختلاف مشاربهم ، فهم قد خرجوا عن مسمى الإسلام ، ويمكن استعرض هذا تقسيم الفرق عند البغدادي وفق الآتي :
1. الخوارج : ويجعلها البغدادي عشرين فرقة ، وفرقها الرئيسية : المحكمة الأولى والأزرقة والنجدات والصفرية والعجاردة ، وقد افترقت هذه الأخيرة فرقاً كما أن الأباضية قد افترقت فرقاً أيضاً ، إلا أن البغدادي يجعل اليزيدية من الإباضية والميميونية من العجاردة خارج نطاق فرق الإسلام ، فيذكرها في الغلاة( ) .
2. الشيعة : وتنقسم عند البغدادي إلى أربعة أصناف هي : الزيدية والكيسانية والإمامية والغلاة ، وكل فرقة من هذه الفرق تنقسم إلى فرق عديدة( ) .
3. المعتزلة : وقد افترقت على تقسيم البغدادي فيما بينها إلى عشرين فرقة ، وكل فرقة تكفر سائرها ، يضاف إليها فرقتين عدت من ضمن فرق الغلاة ، وهما الحائطية والحمارية( ) .
4. المرجئة : وهم عند البغدادي ثلاثة أصناف ، صنف منهم قال بالإرجاء في الإيمان وبالقدر ، والصنف الثاني القائلون بالإرجاء وبالخبر في الأعمال وهم في قولهم هذا قريبون من أصحاب الجهم بن صفوان ، والصنف الثالث هم القدرية ، وهم خمس فرق ، ولا توجد فرق من الغلاة ضمن فرق المرجئة( ) .
5. الجهمية : وهم أتباع الجهم بن صفوان ، الذي قال بالجبر ، وقال بحدوث كلام الله تعالى وغيرها من المقالات ، ويذكر البغدادي مع فرق الجهمية دون أن يصرح كل من الضرارية والبكرية( ) .
6. النجارية : وهم أتباع محمد النجار ، وقولهم قريب من قول القدرية والمعتزلة( ) .
7. الكرامية : وينسبون لمحمد بن كرام السجستاني ، وهم ثلاث فرق إلا أن البغدادي عد الكرامية فرقة واحدة ؛ لأن هذه الفرق لا يكفر بعضها بعضاً .
8. المشبهة : وهم عند البغدادي صنفان : (( صنف شبهوا ذات البارى بذات غيره ، وصنف آخرون شبهوا صفاته بصفات غيره ، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى )) ( ) .
9. الغلاة : وهؤلاء فرق شتى ذكرها البغدادي في آخر باب الفرق مثل الخرمية والباطنية وأصحاب التناسخ وغيرها( ) .
10. الفرقة الناجية : وهم أهل السنة .
مما مر يبدو جلياً أن تحديد البغدادي للفرق جعل لها إطاراً محدداً في كتابه حاول أن يتمه بذكره للفرق المختلفة ، فدمج بعضه ببعض عند الحاجة ، مثل ما فعل في فرق الكرامية ، وحاول أن يقسمها تقسيماً آخر لتقسيم الأشعري ، وربما يكون تأخر البغدادي عن الأشعري مائة عام قد كان سبباً في وضوح رؤياه ، كما أن مفهوم الفرقة عند الشهرستاني سيكون أكثر وضوحاً منه عند البغدادي نفسه( ).

ابن حزم :
لقد ذكرنا أن ابن حزم الظاهري قد ذهب إلى ضعف حديث الافتراق ، ولذلك لا يعتمد عليه في نظرته للفرق الإسلامية ، وإنما تأخذ هذه الفرق مفهومها من خلال مقالاتها ومعتقداتها ، فهي عنده خمس فرق رئيسية : (( أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج ، ثم افترقت كل هذه على فرق )) ( ) ، ثم يبين بعرض سريع للمسائل الكلامية التي جعلت كُلاً من هذه الفرق تتشعب وتتفرق إلى فرق عديدة فمعظم اختلاف أهل السنة – وهي الفرقة الرئيسية الناجية عنده – كان في الفُتيا وشيء يسير من الاعتقادات ، أما الفرق الباقية ، فإنه يُقَوِّمها على أساس قربها من أهل السنة ، ويفصل في الأمر على النحو الآتي( ) :
1. المرجئة : يرى ابن حزم أن أقرب فرقها إلى أهل السنة هم أصحاب أبي حنيفة( ) ، وأبعدهم أصحاب الجهم بن صفوان ومحمد بن كرام السجستاني .
2. المعتزلة : وأقرب فرقها إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف .
3. الشيعة : أقربها – في نظر ابن حزم – إلى أهل السنة هم أصحاب صالح بن حي الهمداني الفقيه( ) ، القائلون بأن الإمامة في ولد علي رضي الله عنه ، والثابت عن الحسين بن صالح – كما حقق ذلك ابن حزم – أنه كان يعتقد بأن الإمامة في قريش ، ويتولى جميع الصحابة ، إلا أنه يفضل علياً رضي الله عنه على جميعهم ، أما أبعد هذه الفرق عن أهل السنة عند ابن حزم فهم الإمامية .
4. الخوارج : ويرى أن أقرب فرقها لأهل السنة هم أصحاب عبد الله بن يزيد الأباضي ، وأبعدهم الأزارقة .
إنَّ المطلع على كتاب ابن حزم ( الفصل ) يرى أن مفهوم الفرقة عند ابن حزم يعتمد على الاعتقاد أكثر من اعتماده على التسمية ، ولذا فإن معظم مباحث كتابه تتناول هذه الجوانب ، بعبارة أخرى ، أنها تعتمد على المباحث الكلامية أساساً لها ، وبهذا تميزت كل فرقة عن الفرقة الأخرى ، وهو في هذا يضع منهجاً واسعاً ، والهدف منه كما يبدو هو جعل مساحة البحث والعرض واسعة ، لكي تمكنه من الحركة بيسر وسهولة ، وهذه الميزة لا نجدها في الكتب المناظرة لكتاب ابن حزم( ) .
أما فيما يخص الفرق الغالية ، فلا يجعلها ابن حزم ضمن دائرة الإسلام ، بل هي لا تحمل من الإسلام إلا الاسم ، يقول في ذلك : (( وقد سمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام أنه ليس مسلماً ، مثل طوائف من الخوارج غلو فقالوا : إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط ، وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة وبنات بني الأخوات ، وقالوا : إن سورة يوسف ليست من القرآن ... )) ( ) ، فهذه الطوائف من الغلاة ، وسيفرد لها ابن حزم في نهاية بحثه مبحثاً خاصاً يحدد فيه مقالات الغلاة ويحمل عنوان : (( ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو المحال من أقوال أهل البدع )) ( ) .
من خلال ما مر يتضح أن ابن حزم قد قسم الفرق الإسلامية إلى قسمين رئيسيتين : الفرق التي تنتمي لأهل الإسلام ، ولم تخرج عن إطاره بحثها وفق المباحث الكلامية ، والقسم الثاني : التي تنتمي لأهل ، ولكنها برأيه ليس من الإسلام في شيء ، وهم الغلاة .

تباين مفهوم الفرقة :
لقد حاولنا فيما تقدم من هذا المبحث عرض وجهات نظر مختلفة للفرقة الإسلامية ، ولذلك ليس هناك اتفاق كبير بين العلماء في تحديد إطار عام يمكن أن تستقر عنده الفرق من حيث العدد والتكوين ، ولكننا على أي حال وجدنا أن علماء الملل والنحل يتباينون في نظرهم إلى هذه الفرق م حيث مسمياتها ، إذ أن التسمية قد تكون مدار المباحث عند تناول العلماء لفرق الشيعة – خاصة الأشعري والبغدادي – وهذا بتقديرنا نابع من وضوح التسميات التي شاعت عن فرق الشيعة ، خاصة مجموعة الفرق التي تنتمي لصنف الإمامية ، كما لعبت الظروف الآنية في ذلك الوقت من اعتماد مثل هذه التقسيمات .
لكن عند العودة إلى الفرق الأخرى نلاحظ أن المباحث الكلامية قد تطغى على الفرقة نفسها ، كما في معظم مقالات المعتزلة ، ويبدو الأمر أكثر وضوحاً للمطلع على كتاب ابن حزم ، ومع ذلك فإن الفرقة بقيت في أكثر الأحيان حبيسة شخص أو مقالة ، مثل النظامية والجاحظية وغيرها ، على أن ذلك يعطينا في الوقت نفسه انطباعاً واضحاً بأن الفرقة قد بقيت حبيسة المعتقد أكثر من ارتباطها بمؤسسها أو المنسوبة له ، ولكن هذا الأمر تطور خاصة مع تباعد الزمان ، فإذا نظرنا إلى كتاب الشهرستاني نجد أن تسمية الفرقة عند تأخذ وضوحاً أكثر وأكبر ، إذ استقرت المصطلحات والمسميات ، وبدا واضحاً أن هذه الفرق قد أخذت الإطار العام لها .
وهكذا نستطيع أن نبني رؤية واضحة تحاول أن تميط اللثام عن التباين في مفهوم الفرقة ، إذ أن هذا المفهوم له إطار عام يتكون منه المعتقد ، ثم يأخذ التسمية التي له ، سواء كان من اسم مؤسسها كما في فرق الشيعة ، أو كان هذا الإطار العام يتوجه نحو المعتقد ، مثل فرق المرجئة والمشبهة وغيرها، وقد خضعت هذه التسميات لآراء العلماء أيضاً ، فاشتهوا في إطلاقها ، وحالوا إيجاد أرضية مشتركة لها .

المبحث الثالث
الفرقة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
حديث الافتراق :
إن المنهج الذي يتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد النطاق العملي للفرقة في الإسلام ، يعتمد بالدرجة الأساس على نظرته الواسعة للأدلة الشرعية ، وفهمه الواسع للكتاب والسنة ، وهو عندما يبحث في تحديد مفهوم الفرقة لا يبتعد عن هذين الإطارين ، فهو ينظر إلى حديث الافتراق باعتباره حديثاً مشهوراً كثر كلام العلماء الناس حوله ، ومع ذلك فإن تحديد الفرقة عند ابن تيمية يتعدى تعداد هذه الفرق إلى بيان الفرقة الناجية ، إذ يقول في تعليقه على حديث الافتراق : (( ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم ، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء ، ولا تبلغ من هؤلاء قريباً من مبلغ الفرقة الناجية ، فضلاً عن أن تكون بقدرها )) ( ) .
وينبه شيخ الإسلام على ضرورة التحري في إطلاق تسمية ( الفرقة الناجية ) جزافاً وبدون دليل، فيقول : (( وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كتب المقالات ، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل ، فإن الله حرم القول بلا علم عموماً ، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً )) ( ) ، وهذا البيان الذي يقدمه شيخ الإسلام يبين نظرة أهل السنة والجماعة إلى الفرق الأخرى ، إذ أن الغالب في تعاملهم معها التحري والتدقيق ، في حين أن الفرق الأخرى تطلق هذه المصطلحات جزافاً ودون ورع .
ولذلك فكل فرقة من هذه الفرق تدعي أنها هي الفرقة الناجية وأن ما عداها في ضلال وغواية ، قال ابن تيمية : (( فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى ، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة ، ويجعل من حالفها أهل البدع ، وهذا ضلال مبين فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم )) ( ) .
ويعتني شيخ الإسلام عناية كبيرة في تحديد الفرقة الناجية والأدلة الدالة على ذلك ، ومن خلال تناوله لحديث الافتراق ، يحرص ابن تيمية على تحديد الفرقة الناجية بالمفهوم الصحيح لها ، وذلك بالاستشهاد بالكلام النبوي فيقول : (( إنه صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الفرقة الناجية قال : من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ، وفي رواية أخرى قال : هم الجماعة )) ( ) ، وهذا التحديد للفرقة الناجية هو الراجح من خلال النظر إلى الأدلة الشرعية ، ويعد ابن شيخ الإسلام أهل السنة هم الفرقة الناجية ، وإن كان ذلك لا يعني أن جميع الفرق الأخرى هالكة ، فيقول : (( وهذه الفرقة الناجية ( أهل السنة ) وهم وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل )) ( ) ، وبعد هذا التقرير يستند إلى الحديث نفسه .
ويمكن الإشارة هنا إلى تفريق شيخ الإسلام بين مصطلحين مشهورين هما مصطلح ( النحلة ) و ( الملة ) ، فالنحلة لغة انتحال شيء ونسبته لشخص معين ، يقال ك انتحل فلان شعر أو قول فلان إذا ادعى أنه قائلاً ، واصطلاحاً تعني انتحال الشيء واعتقاده والدعوة إليه ، وغالباً ما يكون في الاعتقاد( ) ، وكذلك استعمال ابن تيمية لمصطلح ( الملة ) والتي تعني الشريعة أو الدين ، قال ابن منظور : (( هي معظم الدين ، وجملة ما يجيء به الرسل )) ( ) ، وهذا التفريق هو المشهور عند العلماء، وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المصطلح للدلالة على تعبير الفرقة ، كما هو متبع عند علماء الملل والنحل .
ويقرر شيخ الإسلام أخيراً الفرقة الناجية بنظره فيقول : (( إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة ، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها ، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها ، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة ، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول ، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه )) ( ) .

نطاق الفرقة :
من المسائل المهمة التي نالت اهتمام العلماء تحديد الإطار العلمي للفرقة ، دون النظر إلى التفرعات الحاصلة في الفروع ، لأن مفهوم الفرقة قد يتشعب عند بعض العلماء بحيث لا يمكن أن يعمم بأي حال من الأحوال ، وينبه شيخ الإسلام إلى ذلك بقوله : (( الجماعة هي الاجتماع ، وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد اسماً لنفس القوم مجتمعين )) ( ) ، وهذا التمييز قد نبه إليه قبل قليل عند تناوله لحديث الافتراق ، كما أنه نبه على ضرورة عدم تعميم الأحكام فيما يخص مقالات هذه الفرق وشبهاتها ، فقال : (( ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات ، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة )) ( ) ، وهذا التقرير حسن منه رحمه الله تعالى ، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في مقالاتها واعتقادتها ، فلا يمكن إصدار حكم يشملها كلها ، ومع ذلك فالأصل الذي ينبغي أن يبنى عليه – في تحديد هذه الفرق - هو أتباع الكتاب والسنة .
وعند تعيننه للفرق الإسلامية فإن شيخ الإسلام يتبع منهج السلف في ذلك ولا يحيد عنه ، فيقول : (( وأما تعيين الفرق الهالكة ، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين ، قالا : أصول البدع أربعة : الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة ، فقيل لابن المبارك : والجهمية ؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد )) ( ) ، وهذا التقسيم للفرق هو المشهور بين العلماء ، إذ يقسمون الفرق إلى أربعة أصناف ، أو خمسة على اختلاف فيما بينهم في عد الجهمية من الفرق الإسلامية .
ومن خلال تناول شيخ الإسلام ابن تيمية للعدد المحدد في الفرق نراه يعتمد حديث الافتراق في تقسيم أصول الفرق المتقدمة، فيقسمها بالتساوي وفق الأصول المذكورة : (( وجعلوا أصول البدع خمسة ، فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة ، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة )) ( ) ، ولكننا بواقع الحال لا يمكن أن نسلم بهذه القاعدة ، إذ أن هذه الفرق تتفاوت في التقسيم ، فأكثر فرق تقيسماً هم الشيعة وأقلهم هم المرجئة والجهمية ، على تفصيل مذكور في كتب الملل والنحل ، ولكن يمكن القول أن هذا هو التقسيم يأخذ هذه الفرق بإطارها العام .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك