بين الصورة والأصل: الالتزام بالفكر لا للتعصب للأشخاص

بين الصورة والأصل: الالتزام بالفكر لا للتعصب للأشخاص

محمد حسين فضل الله

أينما تجولت في شوارع مدن لبنان وأزقة قراه تجد صوراً لشخصيات دينية وسياسية وأمنية، بحيث يستطيع الناظر أن يحدد هوية المنطقة من خلالها... فهل يعتبر هذا التركيز الدعائي حال طبيعية صحّية؟ أم أنه يمثل حالاً مرضية ينبغي علاجها والسعي لاقتلاعها أو التخفيف من غلوائها. * الصورة وعملية الترويج:

 

هناك من يعتبر هذا الواقع طبيعياً، لأن كل من يدعو إلى فكر معين يسعى إلى تأكيد رموزه من خلال نشر صورهم وتعزيز حضورهم في أذهان الجماهير، لأن تأكيد هذا الحضور يقتضي التركيز على الوسائل التي تؤدي لذلك، وخصوصاً في ظل حالات الصراع والتنافس حيث يسعى كل فريق لتعزيز وسائل الإعلام والدعاية الخاصة به.

 

ولا شك في أن استخدام جميع الوسائل الإعلامية من مقروءة ومرئية ومسموعة، يحتاج إلى امكانات كبيرة، قد لا تتأمن للكثيرين، أو إلى ظروف قد لا تتوفر دائماً، لذلك تعد وسيلة تعليق الصور الأقل كلفة والأكثر شعبية، وقد لا يكون من الضروري أن تنتجها الجهة التي تتولى الترويج لهذه الشخصيات ولتوجهاتها، بل قد يتولاها أفراد يتعصبون لهذه الشخصيات أو يلتزمون بها ويحرصون على ترويجها في الواقع العام.لأجل ذلك، يرى هؤلاء الذين لا يمانعون في ترويج الصور ونشرها، أن الوقوف في وجه هذه الظاهرة يعني التنازل عن عمل إعلامي فاعل ومؤثر، ويعتبرون أن المنطق يفرض أن تنشر الصور لنشر توجهات أصحابها وأفكارهم وآراءهم واتجاهاتهم السياسية والعامة، والساحة هي التي تفرز بعد ذلك الفكر الأقوى والتوجه الأفعل، والأكثر تأثيراً بين الناس.

 

وإذا كان البعض يعيب على الشخصيات الدينية أن تستخدم أسلوب نشر الصور باعتباره وسيلة من الوسائل للزعامات السياسية التي تسعى إلى البروز، فإن أصحاب هذا الرأي لا يعيرون هذه الحجة أي انتباه، باعتبار حق الشخصيات الدينية في تأمين حضورها في الوجدان الشعبي لتأكيد فكرها الديني في المجتمع وتقوية أمكانية تأثيرها، وذلك للحؤول دون إخلاء الساحة للشخصيات الخارجة عن الإطار الديني، وتفعيل ارتباط الناس بالشخصيات الدينية.

 

لكن هناك من يعتبر أن هذا الأسلوب لا يتناسب مع تطورات العصر، ولا يتناسب مع الروحية التي يدعو إليها الدين، حتى أنه لا يستخدم في البلدان المتقدمة بحيث لا يلحظ وجود الصور في تلك المواقع حتى في حالات الصراع فيما بينها، وهي إن برزت وظهرت في بعض المواقع فإنها لا تمثل ظاهرة عامة، بل هي استثناء دعت إليه الحاجة.إذ يبقى الصراع محكوماً هناك بالياته الفكرية والسياسية والتنظيمية لا لعمل دعائي شخصاني. * صنمية الظاهر:

 

ويصر هذا التوجه على أن تكون هذه الظاهرة مواكبة لآليات هذا العصر وأساليبه، وخصوصاً أنها لا تتناسب أيضاً مع التوجه الديني الذي يقف من ناحية المبدأ ضد إنشاء التماثيل، حيث أن الهدف الأساسي من ذلك هو إلغاء الصنمية والوثنية التي برزت في التاريخ، لكن من نتائجها أيضاً إلغاء الارتباط بالأشخاص، ليكون الارتباط بالفكر الذي تعبر عنه هذه الشخصيات.

 

وقد حرصت الأحاديث الشريفة على التأكيد على النهي عن ذلك، انسجاماً مع المنهج الفكري والتربوي الذي يربي الناس على الارتباط بالفكر وبالقضية لا برموزها، وإن كان للأشخاص دورهم في التعبير عن الفكر والسياسة والاجتماع والدين، لكن المنهج يدعو إلى جعل العلاقة مع هؤلاء فكرية وعلمية.

 

هذا المنهج التربوي هو الذي دعا الله سبحانه وتعالى إلى اعتماده عندما تحدث عن رسوله(ص) حيث قال:{وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}، وقد حرص القران على التأكيد على الخصوصيات الأخلاقية لرسول الله(ص) بحيث لم يشر إلى أي شأن ذاتي فهو قال عنه {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}. {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

 

وعندما تحدث القران عن أهل البيت(ع) أشار إلى خصالهم الدينية وحركتهم في الحياة، وذلك بقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، كما دعانا الأئمة الأطهار إلى الارتباط بهم ارتباط الدين والعمل: «لا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع».

 

وقد دعا الإسلام في برنامج بناء الشخصية الإنسانية، إلى عدم تعصب الإنسان إلى أي شخص، بل أن يلتزم فكره ما دام يسير في الاتجاه، فإن انحرف فإنه لا ينحرف معه، لأن القيم هي الأساس في الارتباط، وهي مقياس العلاقة بالأشخاص.

 

وبناء لهذا الرأي، يجب الابتعاد عن تشجيع ظاهرة الصور التي تعني تقديس الأشخاص وتحويلهم إلى أصنام تعبد، ليكون البديل هو تعزيز حضور فكر الأشخاص في كلماتهم ومواقفهم إن أردنا أن نركز حضورهم في الأذهان وفي الحياة. * بين الخطين:

 

إننا أمام هذين الاتجاهين لا بدّ من رعاية أمور عدة:

 

1 - الحرص على إبراز الشخصيات التي تملك دوراً فكرياً وسياسياً واجتماعياً بحيث يمتدون في الواقع ولا يتهمش دورهم في ظل وجود الإمكانات الإعلامية الهائلة التي تعمل على تسويق الأشخاص الذين قد يسيئون إلى سلامة المجتمع وقوته من خلال أساليب الدعاية لهم.

 

2 - الحرص الدائم على جعل ارتباط الناس الناس بالأشخاص من خلال فكرهم وإمكاناتهم لا من خلال إبراز الجوانب الذاتية التي تحبب الناس بهم، بحيث يكون حب الناس لهم بسبب فكرهم وإمكاناتهم. فإذا أبرزت صورهم فلا بدّ أن تلمس في الصور الجوانب التي تمثل شخصياتهم بحيث يرى الناس في هذه الصور التعبير عن فكرهم.

 

3 - الحرص على عدم جعل الصور هي الهاجس الدائم لتسويق الأشخاص، بقدر ما ينبغي الحرص على إبراز حضورهم الفكري والاجتماعي والعلمي حتى لا يستطيع الذين يملكون تقنيات الصور ووسائل الإعلام أن يملكوا الساحة بسبب امتلاكهم لهذه الوسائل، ولعل الحث على إزالة التماثيل والصور يؤكد هذا المضمون التربوي.

 

4 - العمل على إزالة فكرة التعصب للذات التي قد تمثلها الصور بشكل جلي، بحيث تصبح الذات هي المحور، ذلك أن على الأمة أن تراقب حركة قياداتها في الواقع، فإذا أحسنت حمدت وإذا أساءت حوسبت، فلا يتحول العمل الدعائي الذي يتمثل بالصور أو بغيرها إلى وسائل تمنع توجيه نقد لهذا الشخص أو لذاك.

 

5 - التأكيد على الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الأشخاص، فالإسلام لم يلغِ الارتباط بالأشخاص كالأنبياء والأئمة والعلماء والشهداء والقادة، فقد دعا إلى زيارتهم أحياءً وأمواتاً، والتواصل معهم وتقدير أدوارهم، لكن الارتباط المطلوب هو الذي يتجاوز كونه علاقة محصورة بذواتهم، وإن كانت ذوات بعضهم كما هو الأمر بالنسبة للأنبياء والأمة والمعصومين لا تنفصل عن الرسالة.

 

6 - الحرص على عدم تقليد الآخرين في أساليبهم، بحيث لا يتحول الأسلوب الذي يعتمد في ربط الناس بالزعامات هو الأسلوب عينه لربطهم بالرسالة والرساليين.

 

المصدر: نشرة بينات ، العدد 83 (صادرة عن موقع موقع بينات)

المصدر: http://www.alwihdah.com/fikr/scholar/2010-04-26-1689.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك