استراتيجية الحوار لدى النبي المختار

الحوار مع المشركين في السنة النبوية
بعنوان: استراتيجية الحوار لدى النبي المختار
"صلح الحديبية أنموذجاً"
الدكتور نور الدين عباسي
الأستاذ المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي ص. ب: 50106

لم يُكتب للحوار نجاحٌ باهرٌ كحوار النبي مع قومه من المشركين، ونحن لا نريد في هذا المقام أنْ نُدلل على صدق نبوة محمد  من خلال نصر الله تعالى له، وبسط رسالته في فترة وجيزة فقط، بل نريد في هذه الورقة أنْ نقف على الاستراتيجية التي سلكها الرسول الأعظم  في قبول وتنفيذ بنود صلح الحديبية بعد هجرته إلى المدينة المنورة، وقد كانت الحرب سجالاً بين الفريقين.
واستثنائية الحوار الذي جرى في صلح الحديبية تتمثل ـ في نظري ـ في عدة أمور من أهمها:
1ـ أنه لم يكن على سَنَنِ الشورى؛ إذ كل ما كان يسلكه الرسول  من الأمور الاجتهادية كان يتقيد فيه بالشورى، فالشورى ملزمة له؛ لعموم قوله تعالى وشاورهم في الأمر  ( ) .
2ـ أن حواره  فيها ـ أي في صلح الحديبية ـ لم يكن فقط بينه وبين ممثل قريش، بل تعدى ذلك إلى كبار الأركان من الصحابة عليهم الرضوان، مِمَّا صعب مهمة الرسول الكريم.
3ـ أنه بسبب ما آل إليه من اتفاق على بنود الصلح التي يدل ظاهرها على كثير من الإجحاف والتنازل الملفت للانتباه، أظْهَرَ أغلبُ الصحابة شيئاً من الرفض و عدم التسليم بما جاء في الصلح، كاد يصل بهم إلى العصيان.كل ذلك وغيره، دعاني إلى أن أقف على حادثة صلح الحديبية، وأجعلها أنموذجاً يُقتدى به في كل حوار هادئ وهادف، سواء أكان الحوار بينياً ـ فيما بين المسلمين ـ أم كان الحوار مع الغير؛ إذ لم يعدم الحوار في صلح الحديبية مع جميع الأطراف. وحوار الأطراف الخاص كان فتحاً ومدخلاً لحوار عام وشامل خلص منه صحابة رسول الله  نجياً إلى بث الدعوة والمناظرة جهاراً نهاراً، وقد كانوا من قبل لا يأمنون على أنفسهم من ذلك، بل خروجهم من ديارهم من قبل كان بسبب ذلك.
ولا ينبغي أن يعزب عنا قوله  في هذا المقام لما اضطرته قريش إلى الهجرة فقال مخاطباً بلده مكة المكرمة:(ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولو لا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك.)( ) .
فدل على أن النبي  كان يحرص لتحقيق هدفٍ طالما كان غائبا على الجميع؛ إذ هو مُفْتَاحُ الوصول لنجاة العباد بهدي الرسول، فَعَمِلَ على انتزاع حق العباد في الاستماع إلى الدعوة والرشاد، ولا يتم ذلك إلا في جو من السلِّم والسلام، والمصالحة والوئام، جريا على قاعدة مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
هذا هو التفسير الأقرب في نظري لفعل الرسول  واستراتجيته في الحوار أثناء إجراء صلح الحديبية، والله تعالى أعلم.
وسوف يتم تقسيم خطة البحث على النحو التالي:
المقدمة
المبحث الأول: حديث صلح الحديبية الخاص بالحوار الذي دار بينه وبين قريش تخريجاً وشرحاً.
المبحث الثاني: استراتيجية النبي  في صلح الحديبية وانتهاجه لسياسة الحوار في عقد المعاهدة.
المبحث الثالث: الفوائد والأحكام الشرعية المستنبطة من صلح الحديبية.
الخاتمة.
المبحث الأول
حديث صلح الحديبية الخاص بالحوار الذي دار بين الرسول  وقريش تخريجاً وشرحاً.
لعل المقام لا يتسع لذكر كل الأحاديث الواردة في صلح الحديبية استقصاءً وتتبعاً، لذا فإني أكتفي بذكر الحديث الخاص بالحوار الذي دار بين الرسول  وقريش؛ لما له من علاقة بموضوع المداخلة.
وأريد أن أشير هنا إلى الخلاف الحاصل في تسمية حادثة الحديبية، وأن تسميتي لها بالصلح، إن هو إلا ترجيح شَدَّني إليه موضوع المداخلة، فضلا عن أنَّ أحداً لا يماري في أنها كانت مقدمة الفتح المبين، فوجب العدول عن غيرها من التسميات؛ إذ سماها البعض بأمر الحديبية( ) ، وبعضهم بقصة الحديبية( ) ، وبعضهم بعمرة الحديبية( ) ، وثمة من سماها بغزوة الحديبية( ) .
ولعل كل فريق من هؤلاء كانت تسميته لها باعتبارٍ مَا، وَوَفْقَ مُرجح توصل إليه، وأحسبُ أنَّ جميع التَّسميات لا تتعارض مع ما ذهبت إليه، وإن كان قد يشكل على من سمَّاها بالغزوة؛ إذ الغزو فيها لم يقع حقيقة، وأنَّ الفتح الذي يتحقق بالغزو، غير الفتح الذي يتم بالصلح، وأنَّ العبرة في التسمية لفعل الشارع وإلى ما قضى به لا إلى ما اعتاده الغير من الأفعال والتصرفات والتسميات.
وعليه فقبل أن ننظر في موافقة التسمية لاصطلاح أهل السير والحديث، وأنه تم إطباق الصحابة  على ذينك الاسم والاصطلاح( ) ، كان لا بد أن ننظر ابتداءً وانتهاءً إلى مآلات أفعال الشارع وتصرفاته، وأنه كما نتقيد بأمر الشارع ونهيه في عموم التكاليف الشرعية، فإنه يجب أيضا التقيد بأوامره ونواهيه في شؤون الحرب والسلم أيضاً وإن كان مجتهدا؛ لأن الله تعالى لا يُقره على خطأ؛ لذا قال تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى ( ) .

ومهما يكن من أمر هذا الخلاف، فإنه لا يعدو أن يكون خلافاً في اللفظ والتسمية ليس إلاَّ.
هذا وقد اخترت من الأحاديث الصحاح ما كان بلفظ صحيح البخاري، لأنه هو الأقوى والأنقى، فضلاً عن شروحه التي هي الأكثر تداولاً واستيعاباً لمجريات حوادث ووقائع قصة صلح الحديبية.
لقد ساق الإمام البخاري نص الحديث على طوله بعدِّه حواراً دار بين الرسول  والطرف الذي طلب منه الوساطة بينه وبين قريش، وما تم في الأخير من صلح ومصالحة، وإن كان المصنف قد اختصر صدر هذا الحديث في غير هذا الموضع، فإني أنقل هذا الحديث بطوله وتمامه؛ لما أفاده من نقل دقيق، ورصد لجميع فصول قصة صلح الحديبية، مشفوعاً بذكر ما جاء من شرح لجمله وفقراته ـ التي غالباً ما أرمز لها بالخط الأسود العريض ـ من شرح ابن بطال وشرح الخطابي وفتح الباري ، هذا وقد وجدت نفسي مضطراً إلى أن أقوم بسوق الحديث في أطراف ومقاطع، كل طرف منه يُتبع بشيء من الشرح والبيان.
الطرف الأول من متن الحديث: قال الإمام البخاري: " حدثني عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدٍ حدثنا عبد الرَّزَّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ قال أخبرني الزُّهْرِيُّ قال أخبرني عُرْوَةُ بن الزُّبَيْرِ عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ ـ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ ـ قالا: "خَرَجَ رسول اللَّهِ  زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قال النبي : ( إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ( ) في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً( ) ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ.)( ) .
طليعة المشركين قدمت بمائتي فارس إلى كراع الغميم وعليهم خالد بن الوليد ، ودخل بشر بن سفيان الخزاعي مكة، فسمع كلامهم وعرف رأيهم، فرجع إلى رسول الله  ، فأخبره بذلك، ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله ، فأمر رسول الله  عباد بن بشر فتقدم في خيله فأقام بإزائه، وصلى رسول الله  بأصحابه صلاة الخوف، وصرف أصحابه، وأخذ بهم إلى طريق غير طريق خالد، وما جاوزوها إلا بمشقة كبيرة، حتى يتحاشى القتال، فأفضى بهم إلى ثنية أنزلتهم على الحديبية( ) .
الطرف الثاني من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... فَوَاللَّهِ ما شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حتى إذا هُمْ بِقَتَرَةِ( ) الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النبي  حتى إذا كان بِالثَّنِيَّةِ التي يُهْبِطُ عليهم منها بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فقال الناس: حَلٍ حَلْ( ) . فَأَلَحَّتْ. فَقَالُوا: خَلَأَتْ( ) الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، فقال النبي : (ما خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وما ذَاكَ لها بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) ثُمَّ قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.)( ) .
"قال الخطابي: "وقوله: وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، يريد والله أعلم المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدماء فيه، وهو معنى تعظيم حرمات الله."( ) .
الطرف الثالث من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قال: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حتى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ على ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ الناس تَبَرُّضًا، فلم يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حتى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إلى رسول اللَّهِ  الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا من كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فيه، فَوَاللَّهِ ما زَالَ يَجِيشُ لهم بِالرِّيِّ حتى صَدَرُوا عنه،..."( ) .
قال ابن حجر: "قوله: ثم زجرها، أي الناقة، فوثبت، أي قامت، قوله: فعدل عنهم في رواية ابن سعد فولى راجعا، وفي رواية ابن إسحاق فقال للناس: انزلوا، قالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ننزل عليه، قوله: على ثمد، بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل، وقوله قليل الماء تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول أن الثمد، الماء الكثير، وقيل: الثمد، ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف"( ) .
قال الخطابي: "وقوله: يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، أي: يأخذونَهُ قليلاً قليلاً. والبَرَّضُ: اليَسِيرُ منَ العَطَاءِ."( )
قال ابن حجر: " قوله: فلم يلبثه بضم أوله وسكون اللام من الالباث، وقال ابن التين: بفتح اللام وكسر الموحدة الثقيلة، أي لم يتركوه يلبث أي يقيم، قوله: وَشُكِيَ بضم أوله على البناء للمجهول، قوله: فانتزع سهما من كنانته أي أخرج سهما من جعبته، ...قوله: يجيش بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة أي يفور وقوله بالري بكسر الراء ويجوز فتحها، وقوله: صدروا عنه أي رجعوا رواء بعد وردهم "( ) .
الطرف الرابع من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "... فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جاء بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ من قَوْمِهِ من خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ( ) رسول اللَّهِ  من أَهْلِ تِهَامَةَ ـ فقال: إني تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ( ) الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ( ) ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عن الْبَيْتِ. فقال رسول اللَّهِ : (إِنَّا لم نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قد نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ( ) وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الناس، فَإِنْ أَظْهَرْ، فَإِنْ شاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيه الناس فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا( ) ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بيده لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أَمْرِي هذا حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى( ) وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ).
فقال بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ ما تَقُولُ. قال: فَانْطَلَقَ حتى أتى قُرَيْشًا، قال: إِنَّا قد جِئْنَاكُمْ من هذا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يقول قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا. فقال سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لنا أَنْ تُخْبِرَنَا عنه بِشَيْءٍ. وقال ذَوُو الرَّأْيِ منهم: هَاتِ ما سَمِعْتَهُ، يقول: قال سَمِعْتُهُ يقول كَذَا وَكَذَا. فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قال النبي .
فَقَامَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ، فقال: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: أوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: فَهَلْ تَتَّهِمونني؟، قالوا: لاَ. قال: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ( ) أَهْلَ عُكَاظَ، فلما بَلَّحُوا( ) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟، قالوا: بَلَى.
قال: فإن هذا قد عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ( ) اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قالوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي ، فقال النبي : نَحْوًا من قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ."( ) .
قال الخطابي: "قوله: وكانوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله ، يريدُ: أنه كان موضع سِرِّهِ، وثِقَتِهِ، الذي يأتمنُهُ على أمره، وذلك أن الرجلَ إنما يودعُ عيبته حرَّ المتاعِ، ومصون الثيابِ، فَضُرِبَ
المثَلُ في ذلك بالعيبةِ."( ) .
قال ابن حجر: "وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي  أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام،."( ) .
الطرف الخامس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: " فقال عُرْوَةُ عِنْدَ ذلك: أَيْ محمد، أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هل سَمِعْتَ بِأَحَدٍ من الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَإِنِّي واللهِ لا أَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْواباً( ) مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ.
فقال له أبو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عنه وَنَدَعُهُ؟.
فقال: من ذَا؟، قالوا: أبو بَكْرٍ. قال: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَوْلاَ يَدٌ كانت لك عِنْدِي لم أَجْزِكَ بها لَأَجَبْتُكَ.
قال وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي ، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ كَلِمَةً أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ على رَأْسِ النبي  وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النبي ، ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ( ) وقال له: أَخِّرْ يَدَكَ عن لِحْيَةِ رسول اللَّهِ  فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فقال: مَنْ هذا؟ قالوا: الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ. فقال: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى في غَدْرَتِكَ؟.
وكان الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جاء فَأَسْلَمَ. فقال النبي : (أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ منه في شَيْءٍ).
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النبي  بِعَيْنَيْهِ. قال فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رسول اللَّهِ  نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ فقال: أَيْ قَوْمِ، والله لقد وَفَدْتُ على الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأْيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ ما يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ  مُحَمَّدًا، والله إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له.
وَإِنَّهُ قد عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فقال رَجُلٌ من بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: آئْتِهِ. فَلَّمَا أَشْرَفَ على النبي  وَأَصْحَابِهِ قال رسول اللَّهِ : (هذا فُلَانٌ، وهو من قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ)، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قال: سُبْحَانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ. فلمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ قال: رأيت الْبُدْنَ قد قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فما أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ.
فَقَامَ رَجُلٌ منهم يُقَالُ له مِكْرَزُ بن حَفْصٍ فقال: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ فلمَّا أَشْرَفَ عليهم قال النبي : (هذا مِكْرَزٌ، وهو رَجُلٌ فَاجِرٌ). فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي . فَبَيْنَمَا هو يُكَلِّمُهُ إِذْ جاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو. قال مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جاء سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو قال النبي : (لقد سَهُلَ لَكُمْ من أَمْرِكُمْ)( ) .
قال ابن بطال:" وقول عروة للنبي:" أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَك" دليل على أن النبي  كان يومئذ في جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم. وخوف عروة إن دارت الدائرة في الحرب عليه، أنْ يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض، حتى إذا كانت أخلاطاً فرَّ كل واحد ولم ير على نفسه عاراً، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذي عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبوبكر: " امصص بظر اللات" وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار،... وقوله: فكلما أخذ بلحيته، يعني: على ما جرت به عادة العرب عند مخطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم، ...، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبي  وإجلاله." ( ) .قال ابن حجر: " قوله: أخر، فعل أمر من التأخير، زاد ابن إسحاق في روايته قبل أن لا تصل إليك، وزاد عروة بن الزبير، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه...، قوله: فقال: من هذا؟، قال المغيرة وفي رواية أبي الأسود عن عروة فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب وقال ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة، وفي رواية ابن إسحاق فتبسم رسول الله  فقال له عروة من هذا يا محمد؟، قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، وكذا أخرجه بن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه بن حبان"( ) .
قال الخطابي:" قوله: أي غُدَرُ، يريد، المبالغة في وصفه بالغدر."( ) .
جاء في شرح ابن بطال:" وقوله: "ألست أسعى في غدرتك" يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذي قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده في دار الكفر.
وقول النبي : " أما المال فلست منه في شيء " يعني: في حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا تحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحباً لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور."( ) .
قال ابن حجر: " قوله: فجعل يرمُق (بضم الميم) أي يلحظ، قوله: فدلك بها وجهه وجلده، زاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وقوله: وما يُحِدُّونَ (بضم أوله وكسر المهملة) أي يديمون...، قوله: "ووفدت على قيصر" هو من الخاص بعد العام، وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان...، قوله: فابعثوها له، أي أثيروها دفعة واحدة، وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله ، لكن في مغازي عروة عند الحاكم: فصاح الحليس، فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عُمَّارًا، فقال النبي  أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم بذلك، فيحتمل أن يكون خاطبه على بُعْد، قوله: فما أرى أن يصدوا عن البيت، زاد ابن إسحاق: وغضب، وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟، فقالوا: كف عنا، يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى، "( ) .
الطرف السادس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "...قال مَعْمَرٌ قال الزُّهْرِيُّ في حَدِيثِهِ. فَجَاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو فقال: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا. فَدَعَا النبي  الْكَاتِبَ، فقال النبي : (بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ)، قال سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ ما أَدْرِي ما هو، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهم، كما كُنْتَ تَكْتُبُ.
فقال الْمُسْلِمُونَ: والله لانَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ.
فقال النبيُّ : (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ).
ثُمَّ قال: (هذا ما قَاضَى عليه مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّهِ).
فقال سُهَيْلٌ: والله لو كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رسولُ اللَّهِ ما صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ ولا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ محمد ابنُ عبد اللَّهِ.
فقال النبي : (والله إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، أُكْتُبْ محمد بن عبد اللَّهِ) قال الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ (لاَ يسألونَني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) فقال له النبي : (على أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ).
فقال سُهَيْلٌ: والله لاتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً( ) ، وَلَكِنْ ذلك من الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ. فقال سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ـ وَإِنْ كان على دِينِكَ ـ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا.
قال الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ؟ كَيْفَ يُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وقد جاء مُسْلِمًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دخل أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلِ بنُ عَمْرٍو يَرْسُفُ( ) في قُيُودِهِ، وقد خَرَجَ من أَسْفَلِ مَكَّةَ حتى رَمَى بِنَفْسِهِ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ.
فقال سُهَيْلٌ: هذا يا محمد أَوَّلُ ما أُقَاضِيكَ عليه أَنْ تَرُدَّهُ إليَّ.
فقال النبي : (إِنَّا لم نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ). قال: فَوَاللَّهِ إِذًا لم أُصَالِحْكَ على شَيْءٍ أَبَدًا.
قال النبي : (فَأَجِزْهُ لي).
قالَ: ما أنا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قال: (بَلَى فَافْعَلْ).
قال: ما أنا بِفَاعِلٍ.
قال مِكْرَزٌ: بَلْ قد أَجَزْنَاهُ لك. قال أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وقد جِئْتُ مُسْلِمًا؟ ألاَ تَرَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟ وكانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في اللَّهِ.
قال: فقال عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ  فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟.
قال: (بَلَى).
قُلْتُ: أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا على الْبَاطِلِ؟.
قال: (بَلَى).
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ( ) في دِينِنَا إِذًا؟.
قالَ: (إنيِّ رسول اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وهو نَاصِرِى).
قلت: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَاتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟.
قال: (بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟).
قال: قلت: لاَ.
قال: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ).
قال: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هذا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟.
قالَ بَلَى.
قُلْتُ: أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا على الْبَاطِلِ؟.
قال: بَلَى.
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إِذًا؟.
قالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ  وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ، وَهُو نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ( ) فَوَاللَّهِ إنَّهُ عَلى الْحَقِّ.
قلت: أَلَيْسَ كان يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟.
قال بَلَى.
أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟.
قُلْتُ: لاَ.
قالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
قال الزُّهْرِيُّ قال عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قالَ: فَلَما فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قال رسول اللَّهِ  لِأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا.) قال فَوَاللَّهِ ما قام منهم رَجُلٌ، حَتىَّ قالَ ذلك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لم يَقُمْ مِنْهُم أَحَدٌ دخل على أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لهَا ما لَقِى من النَّاسِ.
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذلك؟ اخْرُجْ، لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ.
فَخَرَجَ فلم يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتىَّ فَعَلَ ذلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فلما رَأَوْا ذلك قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حتى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.
ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ( حتى بَلَغَ ) بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ( ) ، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا له في الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَانَ وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ.
ثُمَّ رَجَعَ النبي  إلى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وهو مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا: الْعَهْدَ الذي جَعَلْتَ لنا، فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حتى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ من تَمْرٍ لَهُمْ، فقال أبو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: واللهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هذا يا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ فَقالَ: أَجَلْ واللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَد جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ.
فقال أبو بَصِيرٍ: أَرِنِى أَنْظُرْ إليه، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حتى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ حتى أتى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فقال رسول اللَّهِ  حين رَآهُ: (لَقَد رَأَى هذا ذُعْرًا( ) ).
فلما انْتَهَى إلى النبي  قال: قُتِلَ والله صَاحِبِى وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أبو بَصِيرٍ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ والله أَوْفَى الله ذِمَّتَكَ قد رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِى الله مِنْهُم. قال النبي : (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ( ) لو كان له أَحَدٌ)، فلما سمع ذلك عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ؛ فَخَرَجَ حتى أتى سِيفَ الْبَحْرِ( ) .
قال: وَيَنْفَلِتُ منهم أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ من قُرَيْشٍ رَجُلٌ قد أَسْلَمَ إلا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حتى اجْتَمَعَتْ منهم عِصَابَةٌ( ) ، فَوَاللَّهِ ما يَسْمَعُونَ بِعِير( ) ٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلى الشام إلاَّ اعْتَرَضُوا لهَا. فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى
النبي  تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لما أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النبي  إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى وهو الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ من بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عليهم" حتى بَلَغَ ) الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ( ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لم يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ ولم يُقِرُّوا ببسم اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ"( ) .
قال ابن حجر:" قوله: فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا في رواية بن إسحاق فلما انتهى إلى النبي  جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم بعضا وأن يرجع عنهم عامهم هذا...، قوله: فدعا النبي  الكاتب هو علي ...ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو ...، ، قوله قال المسلمون سبحان الله كيف يرد ... لأنه كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي  أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي  على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال في تلك المدة إلا رده، وقائل ذلك يشبه أن يكون هو عمر،...، فلما لاَنَ بعضهم لبعض في الصلح وهم على ذلك، إذ رمى رجل من الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فتصايح الفريقان وارتهن كل من الفريقين من عندهم، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين، وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه، ودعا رسول الله  إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله، فأرسلوا من كان مرتهنا ودعوا إلى الموادعة وأنزل الله تعالى:  وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية ( ) ... ، قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب زاد ابن إسحاق في روايته فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمود بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص وهو مشرك، قوله: قال رسول الله  لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا في رواية أبي الأسود عن عروة فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله  بالهدى فساقه المسلمون يعني إلى جهة الحرم حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه فأمر رسول الله  بالنحر، قوله: فوالله ما قام منهم رجل قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام؛ لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا أَلْهَتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور، قوله: فذكر لها ما لقي من الناس في رواية ابن إسحاق فقال لها ألا ترين إلى الناس إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه؟، وفي رواية أبي المليح فاشتد ذلك عليه فدخل على أم سلمة، فقال: (هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا) قال: فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة، قوله: قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم ...وعرف النبي  صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر، ، قوله: فأرسلت قريش في رواية أبي الأسود عن عروة فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله  يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه، وقالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج."( )

المبحث الثاني
استراتيجية النبي في صلح الحديبية وانتهاجه لسياسة الحوار في عقد المعاهدة.
لا يمكن القول بأن الاستراتيجية التي سلكها النبي  في صلح الحديبية بدأت فقط عندما أمضى على بنود الصلح مع سهيل بن عمرو موفد قريش الأخير، بل إن استراتيجيته  كانت مرسومة لديه منذ أزمع الخروج مع صحبه إلى مكة؛ إذ كيف يفكر أن يدخل عليهم لو لم يكن قد أعدَّ استراتيجية تملك قوة المنطق لا منطق القوة فقط؛ إذ استعمال القوة قبل صلح الحديبية كان هو ملاذ قريش واستراتيجيتها، وخيار الحرب مُضرٌ بالجميع، فالحرب السجال تؤدي إلى الاستنزاف، وهذا الذي أراد النبي  أن يعدل عنه لما أقدم على صلح الحديبية؛ إذ هو صانعها والمخطط لها من البداية إلى النهاية؛ لذا قال  :(إِنَّا لم نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قد نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الناس، فَإِنْ أَظْهَرْ، فَإِنْ شاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيه الناس فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بيده لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أَمْرِي هذا حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتى ولَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ) ( ) .
فقريش لم تكن لها المبادرة فيها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يسهل أمر القبول بها على قريش ؟.
إنها قوة منطق الاستراتيجية السلمية التي بادر بها النبي  والتي أحرجت العدو، ففصول صلح الحديبية أشبه ما تكون بالحرب الباردة التي يكون فيها النصر للمبادر والمقبل على عدوه، وغزوه في عقر داره. ألا ترى كيف أدركت قريش للوهلة الأولى انهزامها إعلامياً إن هي قبلت بدخول النبي  وصحبه إلى مكة لأداء النسك؟، وهي تدرك أنه لم يأت رغبة في الحرب، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، وقالوا: "والله لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذلك من الْعَامِ الْمُقْبِلِ" ( ) ؛ لذا لا يقال: إن قريشاً لما اشترطت على النبي  أن يرجع من فوره، ولا يدخل مكة إلا في العام القادم، كان كاشتراط الطرف القوي على الطرف الضعيف الذي يقبل بكل شيء، بل إني أقول: إن العكس هو الصحيح؛ لأن النبي  لما رأى تحقق الهدف الأساس والمتمثل في قبول قريش بالصلح، جنح معها في حواره للمرونة، وأخذ الأمور معها بالرفق واللين، لاسيما وأنه قد أعلن عن الهدف العام الذي تحمله استراتيجيته في محاورته لقريش؛ إذ قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.)( ) .
هذا وقد كان أمره بالسير إلى مكة مراعياً فيه تلافي المواجهة مع قريش؛ إذ خالف طريقهم المعتاد، حتى يدلل لقريش بأنه جاء محاوراً بالقول والفعل، وليعلم الناس حقيقة مقصده من الموادعة وتأمين الناس، وتحمَّل من أجل تحقيق هذا المقصد هو وصحبه المشقة والعنت؛ إذْ " أَمَرَ الناس فَسَلَكُوا ذَاتَ اليَمِينِ بين ظهري الْحَمْضِ على طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ على ثَنِيَّةِ الْمِرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ من أَسْفَلِ مَكَّةَ، قال: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ فلما رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ فترة الْجَيْشِ قد خَالَفُوا عن طَرِيقِهِمْ نَكَصُوا رَاجِعِينَ إلى قُرَيْشٍ فَخَرَجَ رسول اللَّهِ  حتى إذا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمِرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فقال الناس خَلأَتْ فقال رسول اللَّهِ  : (ما خلأت وما هو لها بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عن مَكَّة،َ والله لاَ تدعوني قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلى خُطَّةٍ يسألوني فيها صِلَةَ الرَّحِمِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا)"( ) .
فما أعظمه من رسول كريم، لم يعظم أحد قط البيت الحرام مثل تعظيمه له، وهذا دليل آخر يدل على نيته الصادقة في الإقدام على الصلح، وعن مدى اقتناعه بالحوار وجدواه في حل المشكلات والأزمات؛ إذ لا يخفى على المتبصر ما لهذه السياسة الحكيمة الراشدة المحكمة مِنْ أثرٍ بالغٍ على الموقف المتأزم بين دولة الإسلام الفتية وبين قريش.
"كان لهذه السياسة الحكيمة الحازمة المسالمة التي ساس بها رسول الله  الموقف أثرها في توجيه الأمور إلى نهايتها التي قصد إليها رسول الله  من هذه السياسة التي تحمّل فيها على نفسه ومجتمعه المسلم، وامتحن فيها أصحابه رضي الله عنهم أشد الامتحان، فصبروا للمحنة بعد أن مُحِّصوا تمحيصاً أخلص أنفسهم للتأسِّي التسليم لما يراه رسول الله  ولو خفيت عليهم حكمته وأسراره."( ).
هذا وهو كمحاور بارع ـ يحمل معه استراتيجيته المبنية على الصدق والعزم على عقد الصلح وإجراء التفاوض وبدء الحوارـ لم يستعجل المشركين من قريش في القبول بعرضه للصلح، بل قابل أسلوبها في الخداع والغدرـ الذي سلكته في الجولات الأولى من التفاوض والحوار من خلال ممثليها و المفاوضين عنها ـ بأسلوب التهدئة والحل السلمي، وذلك عندما عرض عروة بن مسعود على المشركين أن يأتي النبي  فيكلمه فيما جاءهم به بديل بن ورقاء، ثم بعثوا إليه الحليس...، وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله  ، قال: (هذا فُلَانٌ، وهو من قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ)، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قال: سُبْحَانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ. فلمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ قال: رأيت الْبُدْنَ قد قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فما أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ.( )
وبذلك بَدَءَ النبي  كسب حلفاء قريش إلى صفه، وكل من رشحته للتفاوض عنها الواحد تلو الآخر، بفضل الله تعالى ثم بفضل استراتيجيته التي أحكم تطبيقها في الواقع، وبمعرفته بدقائق الأمور وحقائق الأشياء؛ إذ عمد إلى فضح مخططات قريش، وأرغمها على إعادة حسابها، والتفكير بجد في قبول الصلح، وأن تنظر بعين الاعتبار في خطة الرشد التي عرضها عليها عندما بعثت إلى رسول الله  عروة بن مسعود الثقفي، فَقَامَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ، فقال:"أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: أوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: فَهَلْ تَتَّهِمونني؟، قالوا: لاَ. قال: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ َهْلَ عُكَاظَ، فلما بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟، قالوا: بَلَى.
قال: فإن هذا قد عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْد اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قالوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي ، فقال النبي : نَحْوًا من قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ.".( )
وقد علمت من قَبل ـ في حديث الحوار ـ ما دار بينه وبين رسول الله  من حوار أدى في الأخير إلى الاعتراف بما جاء به النبي  من قوة الحجة والبرهان على صدق طرح خطة الصلح التي لا مناص منها لقريش، إن هي رضيت لنفسها النجاة، و إلا فَلِمَ جعل مقام النبي  يفوق مقام ملوك ذلك العصر؟؛ إذ قال لمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ:" أَيْ قَوْمِ، والله لقد وَفَدْتُ على الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأْيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ ما يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ  مُحَمَّدًا، والله إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له. وَإِنَّهُ قد عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا."( ).
ولم يكن ليحصل من عروة مثل هذا الاعتراف، والتصوير الدقيق لمحمد  وصحبه، لولا جودة عقله ويقظته، فضلا عما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي  وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل، وقد كان عروة بن مسعود شاهداً على ذلك، لذا لم يأل جهداً في النصح لقريش.
ولما أراد النبي  أن يبعث بعمر بن الخطاب  ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له باعتباره من أركانه ومن قادته، دله عمر على عدم نجاح المحادثات بينه وبين قريش لما تحمله قريش عليه من ضغينة، واقترح عليه عثمان بن عثمان  بديلاً عنه، وهذا الموقف من عمر  يدل على مدى حرص صحابة رسول الله  في نجاح الحوار مع قريش،
وأنهم يشاركون في صُنْعِ استراتيجية الحوار مع الآخر، و على هذا ينبغي أن يُفسر تنازل عمر  لمأمورية السفارة لعثمان بن عفان ، لا سيما وأنه قد أخذ النبي  بمشورة
عمر بن الخطاب .
وفي الأخير، ولمَّا أرسلت بسهيل بن عمرو ممثلاً عنها، أدرك النبي  بما خبره من شؤون الآخرـ الذي طالما ناصبه العداء، بل وقد حاولوا مراراً وتكراراً تصفيته وقتله، حتى اضطر للخروج من بلده، لماَّ أذن الله له بذلك ـ، أنَّ قريشاً تُريد من الصلح حفظ ماء الوجه؛ إِنْ بقي لها أمام العرب ماء أو وجه، وعلى هذا ينبغي أَنْ يُفَسَّر قبوله  بالتعديلات التي طاَلَبَ بها سهيل بن عمرو إدخالها في كتاب ووثيقة الصلح.
ولم تكن ثقل شروط المعاهدة التي تحمَّل فيها رسول الله  على نفسه أمراً عظيماً، بحيث لا يقوى على تحمل وقعها أحد من العالمين، بالسبب المسوِّغ له في عدم التوقيع على عقد هذه المعاهدة، فكانت بحق أساساً لسياسة علاقة الدولة والمجتمع الإسلامي بسائر المجتمعات البشرية حرباً وسلماً.
والدليل على عدم تحمل وقع هذه المعاهدة لأحد من العالمين، عدم تحمل الصحابة لها؛ إذ أظْهَرَ أغلبُ الصحابة شيئاً من الرفض و عدم التسليم بما جاء فيها، كاد يصل بهم إلى العصيان بسبب ما آل إليه من اتفاق على بنود الصلح التي يدل ظاهرها على كثير من الإجحاف والتنازل الملفت للانتباه.
أقول: ولولا أنَّ رسول الله  جاء رحمة للعالمين، مصداقاً لقوله تعالى  وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( ) ، وأنه رؤوفٌ بالمؤمنين رحيمٌ بأصحابه، مصداقًا لقوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حرص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم( ) ؛ إذاً لهلك كل من تحرك حركة مغضبة، كعمر بن الخطاب  وغيره من الصحابة الكرام؛ إذ لم تتحمل أجواؤهم النفسية البشرية، هذا الموقف الذي يستعصي تحمله من لم يكن صديقاً أو نبياً؛ لذا انفرد عن الصحابة بثباتٍ راسخٍ، وإيمان صادق، الصحابي الجليل أبو بكر الصديق ؛ لأنه نال من دون الصحابة مقام الصديقين، وهو سيد الراسخين بعد النبي .
ومن هنا أخذ حوار النبي  وجهة أخرى؛ لأن حواره  كما أسلفت ، لم يكن فقط بينه وبين ممثل قريش، بل تعدى ذلك إلى كبار الأركان من الصحابة عليهم الرضوان، مِمَّا صعب مهمة الرسول الكريم ( ) .

المبحث الثالث
بعض الفوائد والأحكام الشرعية المستنبطة من صلح الحديبية.
لقد التزمت في ذكري للفوائد والأحكام الشرعية المستنبطة من صلح الحديبية، في الغالب الأعم بما صدر عنه ، وأما ما أذكره من أفعال الصحابة فإنه يؤول في الغالب إلا ما أقرهم عليه، فلا يخرج عندئذ عن أن يكون من قبيل إقراره لهم.
على أني وجدت نفسي مضطرا إلى ذكر شيءٍ من مناقب الصفات ومحاسنها لدى بعض المشركين في ذلك الوقت ممن حاور الرسول  ، إتماماً للفائدة، وبياناً لمدى تأثير التقارب بين المتحاورين في نجاح أي حوار.
1ـ معجزاته  الظاهرة وفيه بركة سلاحه وما ينسب إليه وقد وقع نبع الماء من بين أصابعه في عدة مواطن( ) .
2ـ وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي r وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل والتبرك بآثاره.( )
3ـ أنَّ كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام، والحرم وينكرون على من يصد عن ذلك تمسكا منهم ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، مثلما ورد في قصة الحليس وهو رجل من بني كنانة.( )
4ـ فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، وجواز مشاورة المرأة الفاضلة، مثلما ورد في قصة أم سلمة رضي الله عنها.( )
5ـ حاجة المؤمن إلى المدد الرباني، فلولا أن الله أنزل السكينة على الصحابة رضوان الله عنهم، لم يقو إيمانهم على تلك الفتنة.( ) .
6ـ عدم تحمل وقع هذه المعاهدة لأحد من العالمين؛ إذ أظْهَرَ أغلبُ الصحابة شيئاً من الرفض و عدم التسليم بما جاء فيها، كاد يصل بهم إلى العصيان. مثلما ورد في قصة الأمر بالنحر، مع أنهم أعلم الناس وأتقاهم.( )
7ـ قد يبتلي الله بما تعجز عنه عقول كبار العلماء؛ لذا يصير التسليم الأمر للشارع فضيلة، بل منجاة من الحيرة والعذاب.( )
8ـ رأفته  ورحمته حيث لم يغضب من كلام و صنيع محاوريه.( )
9ـ قيام المغيرة على رأسه ليس من القيام المكروه"، وإلا لنُهي عن ذلك.( )
10ـ فعل الصحابي بعمه عروة بالسيف ليس مما يُكره، وإلا لما ضحك النبي  من ذلك.( )
11ـ قول أبي بكر لعروة ليس من الفحش المذموم، وإلا لنهاه النبي  عن ذلك.( )
12ـ قولهم: خَلأت القصواء ليس من الخطاب المذموم، أقول: إن استغرابهم لأمر القصواء مبني على معرفتهم بأن الحيوان والجماد وسائر الموجودات هي في خدمته ورهن إشارته، والتي هي من مشمولات المعجزات المؤيد بها؛ لذا قال في تمام الجواب عنهم: (وما ذَاكَ لها بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ).
13ـ فعلهم في النخامة والوضوء والشعر ليس من الغلو المذموم، بل هو من التبرك المشروع.( )
14ـ شكواهم قلة الماء ليس من الشكوى المذمومة، وفيه دليل: أنَّ التعب أخذ منهم مأخذه.( )
15ـ جواز الاستعانة والانتفاع بالكفار في بعض الأمور، مثلما ورد في قصة الخزاعي، بناء على القول بأنه لم يسلم بعد.

16ـ أن الكافر قد يسأل المسلم ما يعظم به حرمات الله.( )
17ـ أن الرفق بالرعية والإحسان إليهم لا ينافي تحميلهم ما يكرهون عند الحاجة.( )
18ـ بدء الكتاب: "باسمك اللهم" عادة محمودة عند المشركين، على خلاف أكثر الناس اليوم.( )
19ـ كاد أن تحصل حرب فيما بين المشركين، بسبب وجود من عظّم منهم الهدي وحرمة الصد عن البيت، مما ساعد ذلك في الأخير على إبرام الصلح.
20ـ استقباح المشركين للقطيعة؛ لقول عروة: " هل سَمِعْتَ بِأَحَدٍ من الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟"، وكذا فعل بني أمية مع عثمان.( )
21ـ جواز استعمال الفأل، واستحبابه له، وأنه مغاير للطيرة. ( )
22ـ ما كرمه الله به وشرفه على الأنبياء بنزول سورة الفتح التي فيها التخصيص له ولأصحابه.( )
23ـ صبره على أذى عروة الذي لم يصبر عليه المغيرة وأبو بكر، وإزالته المشكلات عن أصحابه.( )
وأخيراً يهمنا في هذا المقام أن نبحث عن مدى توافق المصلحة ـ التي راعاها الرسول  لنجاح الصلح ـ لمعاقد أصول هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم  ، وأنه لم يوافقهم إلا بناء على ما تقتضيه المصلحة الشرعية، لأنه إذا كان قد تجرأ البعض فوصف ما جاء في صلح الحديبية بإعطاء التنازلات لصالح التجار والمرابين في مكة( ) ، ... إلى غير ذلك من سقط الكلام، الذي ينبو الذوق عن ذكره فضلاً عن تدوينه، فإنه يوجد أيضا ممن تستهويه حادثة الحديبية، فيخلص منها إلى أنَّ مصلحة الدعوة هي الأساس في التعامل مع الآخر.
والحق أن علماء الحديث والفقه قد بينوا جميعاً إلى ما كان يستند إليه الرسول  في مجمل ما وافق عليه أثناء كتابة بنود الصلح، فقد بيَّنَ الإمام النووي فقهه في الموازنة بين المصلحة والمفسدة، وبُعد استراتيجيته التي لا ولن يحيد فيها عن الهدي والحق؛ لقوله تعالى
 وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( ) ، وأنَّ ذلك يدخل في مشمول معجزاته، التي تظهر وتتنزل على الوقائع والحوادث، وما صلح الحديبية إلا حادثة من الحوادث التي كان النصر والفتح فيها للمسلمين.
قال النووي في شرح صحيح مسلم:
"وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد وكذا قوله محمد بن عبد الله هو أيضا رسول الله  وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه أيضا  هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك، وأما شرط رد من جاء منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي  الحكمة فيهم ... بقوله: (من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا) ثم كان كما قال  فجعل الله للذين جاءونا منهم وردهم إليهم فرجا ومخرجا، ولله الحمد، وهذا من المعجزات، قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجا وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي  كما هي ولا يحلون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه وسمعوا منهم أحوال النبي  مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فما زلت نفوسهم إلى الإيمان حتى بَادَرَ خَلْقٌ منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي."( ) .
أقول: و لعله يقصد بالعلماء علماء السلف من الصحابة والتابعين، كقول: الْبَرَاءِ رضي الله عنه: "تَعُدُّونَ أَنْتُمْ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وقد كان فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يوم الْحُدَيْبِيَةِ... "( ) .
وقول الإمام الزهري لما قال:" فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك."( ) .

الخاتمة
وتتضمن خلاصة ما توصلت إليه من نتائج، أوجزها فيما يأتي:
1ـ إنَّ الخلاف الحاصل في تسمية حادثة الحديبية، وإن كان في حقيقة الأمر من جهة اللفظ والتسمية، إلا أني رجحت تسميتها بالصلح؛ لتوافقها مع موضوع المداخلة، فضلا عن أنَّ أحداً لا يماري في أنها كانت مقدمة الفتح المبين، فوجب العدول عن غيرها من التسميات.
2ـ لا يمكن القول بأن الاستراتيجية التي سلكها النبي  في صلح الحديبية بدأت فقط عندما أمضى على بنود الصلح مع سهيل بن عمرو موفد قريش الأخير، بل إن استراتيجيته  كانت مرسومة لديه منذ أزمع الخروج مع صحبه إلى مكة.
3ـ لقد تمَّ للنبي  إعداد استراتيجية تملك قوة المنطق لا منطق القوة فقط؛ إذ استعمال القوة قبل صلح الحديبية كان هو ملاذ قريش واستراتيجيتها، وخيار الحرب مُضرٌ بالجميع، فالحرب السجال تؤدي إلى الاستنزاف، وهذا الذي أراد النبي  أن يعدل عنه لما أقدم على صلح الحديبية؛ إذ هو صانعها والمخطط لها من البداية إلى النهاية.
4ـ إن قريشاً لما اشترطت على النبي  أن يرجع من فوره، ولا يدخل مكة إلا في العام القادم، لم يكن كاشتراط الطرف القوي على الطرف الضعيف الذي يقبل بكل شيء؛ لأن النبي  لما رأى تحقق الهدف الأساس والمتمثل في قبول قريش بالصلح، جنح معها في حواره للمرونة، وأخذ الأمور معها بالرفق واللين، لاسيما وأنه قد أعلن عن الهدف العام الذي تحمله استراتيجيه في محاورته لقريش؛ إذ قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.).
5ـ تمثلت براعة النبي  كمحاور بارع ـ يحمل معه استراتيجيته المبنية على الصدق والعزم على عقد الصلح وإجراء التفاوض وبدء الحوارـ في أنه لم يستعجل المشركين من قريش في القبول بالصلح، بل قابل أسلوبها في الخداع والغدر ـ الذي سلكته في الجولات الأولى من التفاوض والحوار من خلال ممثليها و المفاوضين
عنها ـ بأسلوب التهدئة والحل السلمي.
6ـ حصول الاعتراف من المحاور والمفاوض العاقل عروة بن مسعود، بما جاء من أجله النبي  لم يكن ليحصل، لولا جودة عقله ويقظته، فضلا عما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي  وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل، وقد كان عروة بن مسعود شاهداً على ذلك، لذا لم يأل جهداً في النصح لقريش.
7ـ اقتراح عمر  للنبي  في أن يكون عثمان بن عثمان  بديلاً عنه، ليس فيه جُبْنٌ وتخل عن المسؤولية، بل هو موقف من عمر  يدل على مدى حرص صحابة رسول الله  في نجاح الحوار مع قريش، وأنهم يشاركون في صُنْعِ استراتيجية الحوار مع الآخر، و على هذا ينبغي أن يُفسر تنازل عمر  لمأمورية السفارة لعثمان بن عثمان ، وقد أخذ النبي  بمشورة عمر بن الخطاب .
8ـ ولم يكن ثقل شروط المعاهدة التي تحمَّل فيها رسول الله  على نفسه أمراً عظيماً،
ـ بحيث لا يقوى على تحمل وقعها أحد من العالمين ـ بالسبب المسوِّغ له في عدم التوقيع على عقد هذه المعاهدة، فكانت بحق أساساً لسياسة علاقة الدولة والمجتمع الإسلامي بسائر المجتمعات البشرية حرباً وسلماً.
هذا آخر ما مَنَّ الله بتسطيره في هذه الورقة، فأسأل الله أن يثيبني الثواب الجزيل فيما أصبت فيه، وأن يتجاوز عني فيما أخفقت فيه، وأن يجعل عملي هذا في ميزان الدرجات والحسنات.
b
كتابته بدبي مساء يوم السبت 13صفر 1427الموافق 03مارس2007.
الدكتور. نور الدين عباسي

المصادر والمراجع

1- أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطاَّبي (319هـ ـ 388هـ )، تحقيق ودراسة الدكتور محمد بن سعيـد بـن عبد الرحمن آل سعود، الطبعة الأولى(1409ـ 1988) المملكة العربية السعودية، جامعة أم القرى، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، مركز إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة.
2- بعض فوائد صلح الحديبية، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: د. ناصر بن سعد الرشيد، الطبعة: الأولى، مطابع الرياض ـ الرياض.
3- تاريخ الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية بيروت.
4- تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة(1405هـ/ 1985م) دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض.
5- تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، لمحمد بن أبي فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد بن يصل الأزدي الحميدي، تحقيق: الدكتورة: زبيدة محمد سعيد عبدالعزيز، الطبعة: الأولى، مكتبة السنة، القاهرة، مصر(1415ـ 1995)،
6- تهذيب اللغة، تأليف: الإمام محمد بن أحمد الأزهري، أبو منصور، تحقيق: الأستاذ محمد عبد المنعم الخفاجي، الأستاذ محمد البجاوي، الأستاذ محمود فرج العقدة ، (د.ر.س.ط) الدار المصرية للتأليف والترجمة.
7- الدرر في اختصار المغازي والسير، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1386هـ,
8- زاد المعاد في هدي خير العباد، لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، أبو عبد الله، مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلامية، بيروت ، الكويت، (1407ـ 1986)، الطبعة الرابعة عشر، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، عبد القادر الأرؤوط.
9- سنن ابن ماجه، للإمام أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه، تحقيق: الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت 1395هـ ـ 1975م.
10- سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي.
11- سنن الترمذي، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: وشرح أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
12- سنن الدارمي، للحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق: السيد عبدالله هاشم، الناشر حديث أكاديمي نشاط أباد، فيصل أباد، باكستان، 1404 هـ ـ 1984م.
13- السيرة النبوية لابن هشام، لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، الطبعة الأولى، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.
14- شرح ابن بطال على صحيح البخاري، للشيخ العلامة أبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال البكري القرطبي ثم البلنسي المتوفى سنة 449هـ ، حققه وخرّج أحاديثه مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى (2003ـ 1424) دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
15- شرح المواهب اللدنية، محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي، الطبعة: الثانية(1393هـ)، دار المعرفة، بيروت.
16- الصحاح ـ تاج اللغة وصحاح العربية ـ للإمام الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار (د.ر.س.ط) دار الكتاب العربي بيروت.
17- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تأليف: محمد بن حبان بن أحمد، أبوحاتم التميمي البستي، دار النشر: مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1414ـ 1993، الطبعة: الثانية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط.
18- صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، طبعة دار الفكر 1401هـ ـ 1981م.
19- صلح الحديبية " الفتح المبين"، لشوقي أبو خليل الطبعة: الأولى(1983) دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق.
20- غريب الحديث، لأحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، أبو سليمان، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم العزباوي. جامعة أم القرى، مكة المكرمة(1406).
21- غريب الحديث، للقاسم بن سلام الهروي، أبو عبيد، تحقيق: د. محمد عبد المعبد خان، الطبعة: الأولى، دار الكتاب العربي، بيروت(1396).
22- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، قام بشرحه وتصحيح تجاربه وتحقيقه محب الدين الخطيب، رقّم كتبه وأبوابه وأحاديثه، واستقصى أطرافه ونبه على أرقامها في كل حديث الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، راجعه قصي محب الدين الخطيب، الطبعة الأولى(1407هـ/1986)، دار الريان للتراث، القاهرة.
23- فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الطبعة الحادية عشرة( 1411هـ/1991م)، دار الفكر بدمشق.
24- فقه السيرة، للشيخ محمد الغزالي، خرَّج أحاديث الكتاب محدث الديار الشامية العلامة محمد ناصر الدين الألباني.
25- القاموس المحيط، للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي. (د.ر.س.ط) دار الجيل بيروت.
26- لسان العرب، للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري دار إحياء التراث العربي، دار صادر ـ بيروت.
27- المحكم والمحيط الأعظم، تأليف: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، دار النشر: دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 2000م الطبعة: الأولى، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي.
28- محمد رسول الله  منهج ورسالة ـ بحث وتحقيق، بقلم محمد الصادق عرجون، الطبعة الأولى(1405هـ/1985م)، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق.
29- مرويات غزوة الحديبية ، د.حافظ محمد الحكمي، الطبعة الأولى(1411هـ/1990م)، دار ابن القيم، الملكة العربية السعودية.
30- الـمستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى(1411 هـ ـ 1990م).
31- الـمسند للإمام أحمد بن حنبل، وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط: 4، 1403هـ ـ 1983م.
32- النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت(1399هـ/1979م)،

الأكثر مشاركة في الفيس بوك