الدور الحضاري للعقل (الفكر) الإنساني

الدور الحضاري للعقل (الفكر) الإنساني

 

يتمتع الفكر الإنساني بقدرات ذهنية متنوعة تشكل طيفاً واسعاً لا متناهياً من العمليات الفكرية المتعددة، مثل التفكر والتدبر، والتذكر والحفظ، والتعلم والتفقه، والتعرف والتفهم، والاستيعاب والاستقراء، والاستنباط والتخيل، والتأمل والاستغراق، والاستشراف والاستنتاج والإلهام وغيرها الكثير.

فالفكر هو المعين الذي لا ينضب ولا يتوقف ليل نهار، ليمد الإنسان طيلة حياته بما يلزم ويحتاج من آراء أو وجهات نظر أو تحليلات، فحتى الأحلام تعتبر لوناً من ألوان هذا الطيف الواسع والتي هي ذات صلة بالحياة، فإما أن تكون استرجاعاً أو استغراقاً أو استشرافاً.

ونستطيع أن نجمل مهام الفكر على اتساعها، بخمسة مهام حياتية هامة تغطي تقريباً حياة الإنسان وهي:

التفكر – التذكر – التدبر – التعلم – التعقل

الدور الذاتي للفكر والدور الاجتماعي للعقل

الفكر هو الانفعال الواسع الذي يتولد في الكيان الإنساني نتيجة لتواجده وتماسه في محيطه البيئي والاجتماعي ولاحتياجاته المتنامية واللامتناهية، وهذا ما يميزه بأنه إنسان حي يتمتع بالفكر الدائم والمستمر طيلة حياته،في يقظته ونومه، وعمله وراحته، وصور الطيف الفكري واسعة جداً جداً وعملية ممارسة الإنسان للفكر تسمى التفكير .

فالتفكير أو الفكر هو توليد الأفكار، والتذكر هو استدعاء الأفكار واسترجاعها، وطالما أن التفكر والتذكر لا يزالان في حيز الإنسان في كيانه ولم يصدر عنه أي استجابات، أو ردود أفعال وانفعالات مختلفة، فطالما هي في حيز الذات ولم تترجم لقرارات، أو أفعال أو أقوال، أو موافقات أو رفض، أو إيحاء أو إيماءات وإلى ما هنالك من صور عديدة، فهذا هو فكر ذاتي مجرد. وحينما تصدر على شكل ردود واستجابات بأقوال أو أفعال أو سلوكيات مختلفة وذات مساس مع الآخرين، تتحول إلى عقل يتدبر هذه الأفكار ويحللها مستفيداً مما تعلمه أو تدّبر به أمره، فالعقل أوامر تُلمس آثارها، والعقل هو إخضاع التفكر والتذكر الإنساني لمجال التحكم والسيطرة على تحويل الأفكار إلى أفعال ومواقف سلوكية، فمجال التحكم والسيطرة هو العقل الذي له دور القيادة في الحياة الإنسانية.

والعقل مجال واسع غير معروف، كما هي الروح أيضاً، ولكن آثاره تدل على دوره ومهامه ووظيفته. فالعقل هو إخضاع التفكر والتذكر والتعلم والتدبر إلى مراحل متسلسلة من العمليات وهي (التحليل والمطابقة)، (والتركيب والمفاضلة)، والتعقل والأوامر بالفعل أو النهي .

فالتحليل والمطابقة يعني إخضاع الأفكار وما يذكره الإنسان إلى عمليات المطابقة مع ما تعلمّ من معارف ومهارات، أو اكتسب من خبرات وسلوكيات، أو مع ما رسخ في كيانه من وجدانيات، أو مع ما استحوذ عليه من مران أو مراس، أي ممارسة إسقاط ما تعلم على ما تفكر به من خلال موازنات ومطابقات ومقارنات.

وبذلك قد تخضع الأفكار للتعديل أو الإضافة، أو الحذف أو التعديل والاستبدال.الدور الحضاري للعقل (الفكر) الإنساني

وهنا تلعب التقديرات الشخصية، والاستعانة بجهود الآخرين ذوي الصلة والاختصاص بهذه الفكرة أو تلك، الدور الحاسم للوصول إلى الأفكار أو الفكر الصحيح، بعدها تخضع الفكرة إلى المرحلة الثانية وهي:

التركيب والمفاضلة

وفي هذه المرحلة بناءً على الفكرة التي توصل إليها الإنسان، يتم تحديد شكل ونوع وحجم الرد أو الاستجابة أو التعبير أو الفعل المعبر عن هذه الفكرة، أي تحديد الموقف التنفيذي وتوقيته بعد التدبر المناسب لهذه الفكرة أو تلك أو لهذا الموقف أو ذاك، أي توظيف التدبر المناسب وسيلة وأسلوباً، فالتدبر قد يلجأ إلى عوامل مادية أو معنوية أو روحية أو ثقافية أو اجتماعية أو تقنية وغيرها الكثير. فنجاح الموقف التنفيذي يتوقف على حسن التركيب والمفاضلة في اختيار أفضل المواقف شكلاً وحجماً ونوعاً ووسيلة وأسلوباً، وهذا تدبر ناجح للوصول إلى أفضل موقف استجابة لحاجة أو واجب أو ردود فعل ليخضع للمرحلة اللاحقة وهي:

التعقل وإصدار الأوامر

إنه تمرير هذا الموقف قبل تنفيذه من خلال موشور العقل، أي من خلال المنطق والإرادة المتلائمين مع طبيعة الموقف أو القضية، أي استبعاد العوامل العاطفية والمجاملة والقرابة والصداقة والمعرفة والواسطة، أي الابتعاد عن المزاجية والأهواء وتنفيذ الموقف بما يخدم المصلحة العامة، أو المصلحة الشخصية، أو كلاهما بعد إعطاء أمر الإقدام أو الإحجام .

الإنسان عقل

العقل هو الوجه القيادي للفكر، وهو الذي يحافظ على الذات الإنسانية بألاّ تخرج عن مسار إنسانيتها، وهو الملزم للإنسان بمحيطه الاجتماعي، فالفكر نبع الأفكار والعقل قنوات تصريفها، والفكر شمول والعقل تحديد وتخصيص وانتقاء وفقاً للموقف، والفكر مشاعر واحتياجات نفسية واجتماعية والعقل استجابات وردود محددة، الفكر أفق واسع والعقل طريق واضحة المعالم، الفكر جموح والعقل لجام، الفكر دواعٍ نفسية واجتماعية والعقل التزامات اجتماعية وذاتية، الفكر منهج إنساني والعقل تطبيق حياتي.

الفكر كم والعقل كَيْفْ، الفكر أشياء مختلفة والعقل جوهرها، الفكر يغذي والعقل يربي، الفكر يقدم والعقل يبني، الفكر يُعرِّف والعقل يمايز ويباين، الفكر حياة والعقل جمالها وجدواها، الفكر معرفة الله والعقل عبادة الله.

لذا فبقدر ما يكون الفكر منبثقاً من مصدر وراثي ذي إمكانيات علمية وثقافية راقية، وبقدر ما يجد من بيئة أسرية ترعاه باهتمام، وبقدر ما تحنو عليه مؤسسات اجتماعية تربوية وتعليمية متخصصة ومقتدرة، تكون الشخصية الإنسانية ناجحة في حياتها، ناجحة في عطائها، لأنها ستترسَّم من هذه البيئات والمورثات خطاها، وتنهل من ثقافتها ما يروي النفس ويشبع الروح والعقل، فالإنسان الذي ينشأ في بيئات اجتماعية وأسرية صالحة لابد أن يكون مميزاً بفكره وعقله، وسيحقق من الأعمال ما هو غير مسبوق.

أجل فالوقت كفكر هو المعين الذي يمد الإنسان بالأفكار، أما العقل فيمثل القيادة التي قد تفضي بالإنسان إلى النعيم أو الجحيم. فالفكر لا ينتهي والوقت لا ينتهي، ولا عدمية مع الوقت إنما العدمية مع الفكر العقيم الميت، الذي يعيش ويموت ميتاً، وهذا الحال في الإنسان الذي يعيش ليأكل ويتمتع فقط.

أما من يعيش حياً بفكره الذي يتمثل الماضي بما فيه من عبر ورؤى، ويستشرف المستقبل، لابد من أن يخلد فكراً لا يموت.

والحياة تقوم وتستمر على الدورات المتعاقبة المستمرة لمقوماتها التي تضمن البقاء للحياة، كما تضمن الحياة التجدد والديمومة لهذه المقومات، فكل الأشياء في حركات دائرية متعاقبة والدوائر هي أتم الأشكال الهندسية اكتمالاً.

(وجمال الإنسان الظاهر بالصورة، وجماله الباطن بالعقل، والصورة ليست الإنسان، بل الإنسان العقل).

 

 

- الحياة مادة وروح والإنسان عقل

الوقت حياة، والحياة وقت، وحياة الإنسان تتم في إطار الوقت، والحياة مادة وروح لها متطلباتها ومعطياتها المادية، ولها متطلباتها ومعطياتها الروحية. وحياة الإنسان تتطلب قيادة تنظم وضبط حركة الإنسان سيما أن الإنسان في تماس دائم وعلاقات مباشرة مع محيط بيئي واجتماعي، فإذا لم تكن حياته منقادة لقيادة عقلية تحولت حياته إلى عفوية الأهواء وعشوائية الأمزجة، وهذا ما يميز العاقل عن المجنون فالمجنون يتصرف بتخبط وعشوائية وسذاجة، فلا تنظيم ولا تقدير ولا استيعاب لما يصدر عنه فهو كالحيوان الهائم على وجهه، وكل هذا يتحول إلى دقة وتنظيم واستجابة ولباقة وتقدير واحترام بوجود العقل.

فالإنسان مادة وروح وعقل (صورة ومضمون ومعنى) لأن المادة تعطي الصورة لديه، والروح تعطي المضمون، والعقل يعطي المعنى السامي للإنسان. والإنسان بالمعنى لا بالصورة، وحتى المضمون يبقى ناقصاً من غير معنى يميزه عن الحيوانات، وبالعقل فقط يتمايز الإنسان عمن سواه، والأفضلية له والقيادة له، ومعنى الإنسان به وهو فيض من نور الله ورحمته بالإنسان، به يستعمر الإنسان الأرض، وبه يشيدّها ويعمرها، وبه جمالية الإنسان وهو زينة الإنسان، به يعيش سعيداً أو به يشقى، ومن دونه ُيحرم الإنسانية، فصفات الأشياء تدل على مسمياتها، والمسميات تدل على معانيها، ويبقى العقل المعنى الأسمى لكل المسميات.

جعلنا الله بالخلافة جديرين وللإعمار مجيدين ولعبادته منقطعين.

"فالعقل أشرف الأحساب، ولا مال أعوز من العقل، وأشد الفاقة ذهاب العقل، وكل شيء إذا كثر رخص إلا العقل كلما كثر علا وغلا"، فهو مقّوم الحياة، وهو ميزانها واعتدالها، وهو قوامتها واستقامتها، فحلاوة الدنيا لجاهلها لكنها مع العقل أحلى رغم أنها معه أشد ألماً. والسعادة يظنها الناس بالأكل فيأكلون وسرعان ما يصابون بالتخمة ويفقدون السعادة، ويظنونها بالشراب فيحول كالضباب بينهم وبينها، ويظنونها بالجاه فإذا به عذاب مستتر وأي عذاب، ويظنونها باللباس والزينة لكن نفوسهم تبقى مكفهرة، يظنونها بالزهر فيقطفونه فسرعان ما يذبل لأنهم اعتدوا عليه، فالسعادة أضاعها الناس لأنهم لا يحبون المرارة والمرارة هي الدواء، والمر هو أنفع الغذاء وأنفع الدواء، لذا لا يجدها إلا القلة الملتزمون بالمجتمع والإنسانية أبناء هابيل لا أبناء قابيل.

تفردت بالألم العبقري وأنبغ ما في الحياة الألم

وهل هناك أكثر فائدة من قول العقلاء، أو أنجع عملا ً، أو أجمل سلوكاً والتزاماً منهم (العقلاء).

"ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ " 34 فصلت"، وهل يستطيع ذلك غير العقلاء، (فهم الذين أنفسهم منهم في عناء، والناس منهم في راحة)، إنهم أصحاب الصبر والحظ العظيم.

أولى مهام الفكر (العقل)

من أولى مهام الفكر الإنساني تحقيق الاستقرار والتوازن

أ – الاستقرار:

لا تتم حياة الإنسان إلا بالاستقرار، والاستقرار هو انسجام الفكر مع النفس، وهذا الانسجام لا يعني التوافق التام، وإنما التقارب أو التجاذب، مع غلبة إحداهما على الآخر، والتوافق التام لا يمكن أن يتم في الطبيعة البشرية، لأن طبيعة الفكر غير طبيعة النفس، إنهما السالب والموجب ومهام الموجب غير مهام السالب، فالنفس (الجسم والروح) تتوق للرغبات، وتشتاق للشهوات، ومنها تنبع الأهواء والأمزجة، إنها مصدر الشهوة وتسعى للحصول عليها حتى ولو بالغضب، والغضب جاهلية وعصبية. بينما الفكر ديوان محاكمة دائم العمل بالتحليل والفرز، والاستيضاح والاستنباط، والاستقراء والاستدلال، والتقويم وغيرها. فهو يشكل الكابح لرغبات النفس، وشهوات الجسم التي لا تنتهي. والصراع قائم بينهما لكن لدرجة لا تسمح للانفصام عن الذات، وحفاظاً على وحدة الذات الإنسانية نرى أن الفكر رغم أنه لا تخفى عليه رغبات النفس ينساق وراء النفس، لذا مما تجد أن غالبية البشر أنفسهم راضية عن فكرهم (عقلهم) أما الفكر فغير راضٍ عن النفس، ولا يستطيع إلا أن يجاريها كالأب الذي لا يستطيع إلا أن يجاري رغبات الابن والتغطية عليها حتى ولو كانت خاطئة.

فالاستقرار الداخلي يحدث بنوع من القسر والإجبار حفاظاً على وحدة الذات الإنسانية، وكي لا يصل الإنسان لدرجة الانفصام أو الجنون، ولكن يمكن لهذا الاستقرار أن يتوجه تدريجياً نحو القطب الموجب، نحو الفكر رويداً رويداً وتنحسر مطامع النفس أيضاً قليلاً قليلاً، وهذا يتوقف على الإرادة الذاتية، والأمانة والتقوى، وعلى الثقافة الذاتية والمجتمعية المحيطة. الأمر الذي يعطي الاستقرار الذاتي في الإنسان طيفاً واسعاً من درجات الانسجام وتذبذبه باتجاه السالب أو الموجب، وعادة كلما كان المحيط الاجتماعي واعياً ملتزماً، ومع تقدم العمر للإنسان، وزيادة معرفته واتساع ثقافته، كلما اتجه هذا الاستقرار باتجاه الفكر أكثر، وهناك قلة قليلة من البشر من تجد فكرهم غير راضٍ تماماً عن أنفسهم، وبالطبع فالأتقياء والأولياء والأنبياء والأوصياء هم صفوة هذه القلة، الذين لا يسمحون لأنفسهم بأي أعمال مادية إلا ما يحافظون بها على استمرارية الحياة، حينها ترى أن الفكر تحول إلى فكر متعقل له السيطرة على النفس، وليس هذا فحسب فالنفس التي هي (جسم وروح) وتتوق للرغبات تتحول بعد تمثل قيم الإنسان إلى نفس متعلقة تتوق للفضائل .

ويصبح الإنسان حينئذ عقلاً (فكر متعقل) ونفساً متعقلة منقادة للعقل، بينما الاستقرار في الإنسان العادي قائم بين فكر منساق للنفس (الجسم والروح).

لذلك تجد الغالبية الساحقة من البشر يعيشون باستقرار داخلي منحاز لسيطرة الهوى على الفكر المتعقل، وإن أنفسهم راضية عن فكرهم (عقولهم)، بينما لا ترى واحداً من هذه الجموع الساحقة راضياً عن رزقه، والكل يسعى للمزيد وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لأن النفس لا تشبع من الماديات والحسيات والملذات. أما الاستقرار لدى القلة النادرة فهو قائم بين فكر متعقل (عقل) ونفس (جسم وروح) متعلقة به، أي أن النفس تتحول إلى نفس أكثر إنسانية وانقياداً للعقل، وتحاول أن تتمثل معاني الفكر، فتنحسر رغباتها وشهواتها وتزداد توقاً نحو تمثل معاني الفكر. هذا النوع من الفكر لا يشبع ولا يقنع ولكن من العلم الذي لا يُصيب بالتخمة والتعفن، فالحياة تصبح فكراً متعقلاً، والعقل غذاؤه العلم والمعرفة، والحياة الخالدة لا تتم إلا بالعلم، فالحياة علم والعلم هو الحياة.

وإن امرأً لم يحي بالعلم ميتٌ وليس له حتى النشور نشورُ

ب - التوازن

أما التوازن فهو مهمة الفكر الإنساني (العقل) الخارجية كي يستطيع العيش مع الآخرين في مجتمع ما، فإن هو شذَّ عنهم يوجهون إليه النقد واللوم، وإن هو استمر في عدم تحقيق التوازن الذي يحقق الأمن والسلام المجتمعي قد يعزل أو يعاقب أو يُنفى.

فالتوازن مع المجتمع هو الرضا بالعيش في هذا المجتمع أو ذاك، والقبول بقوانينه وأعرافه، وهذا يستوجب سيطرة العقل على النفس (أي سيطرة الفكر على النفس) أي ترويض النفس للتلاؤم مع الواقع الاجتماعي المتواجدة فيه.

لذلك نجد أن الإنسان كلما تقدم به العمر أصبح أكثر ينوعاً، وأشد نضوجاً، وكلما اكتسب أكثر من المعارف والخبرات والمران ما يحقق به توازناً أكبر؛ يلقى الاحترام والتبجيل من قبل المجتمع.

أولى الأعمال التي يقوم بها العقل

إن أولى الأعمال التي يقوم بها العقل هي (عبادة الخالق)، والعبادة هي مسار أدائي ومسار معرفي في آن واحد .

فالإنسان صورة مادية ذات مضمون شفاف روح إنسانية مستجيبة لدعوة الحق أو لدعوة الباطل، فتحولها استجابتها للحق إلى مضمون ذي معنى، أما استجابتها للأهواء تجعلها منغمسة في حياة الملذات والماديات، وهذا هو التخبط الشيطاني المتكبر الذي لا يرى إلا نفسه، فتصل به الأهواء إلى تأليه الأنا فيسعى إلى امتلاك كل شيء، فيقع في عبودية الأشياء والماديات والحسيات كافة.

أما العبودية لله فهي تحرر من كافة أشكال العبودية للماديات، فحينما يُعبد الله بعلم ومعرفة فهذه هي الحرية الكبرى التي تحرره من أي خضوع لأي قوة، حينها يرتقي الإنسان من مجرد صورة ونفس وأنا إلى صورة ومضمون ومعنى، فالصورة هي ذاك الجسد المادي المحتوي على ما يؤهله أن يحيا إن دبت به الروح، والروح هي مضمون الجسد أي مضمون المادة، والمادة وعاؤها.

والمضمون إما أن يكون مستجيباً متفاعلاً ومنساقاً للخير والحق، أو معرضاً عنهما يبحث عما يهمه في الحياة عن متاعها فقط. والإنسان في هذه الحالة عبارة عن صورة ونفس، أي عبارة عن مادة وروح قد يعيش مستقراً مع نفسه ومتوازناً مع المجتمع، لكنه منساقاً للغضب والشهوة (لأنا النفس) والحياة هنا مادية بحتة قريبة من الملامح الحيوانية. أما حينما ترقى النفس الإنسانية إلى نفس متعلقة بالعقل، فتتحول إلى نفس ذات معنى، أي ذات فكر متعقل (العقل), فيصبح الإنسان صورة (مادة)، ومضمون (روح) ومعنى (عقل)، وهذا لا يعنى انتفاء الغضب والشهوة وقتل رغبات النفس في الحياة، ولكنها تنحسر تدريجياً أمام النزاهة والحكمة، فالنزاهة تحتل المساحة الأكبر على حساب الشهوة، والحكمة تحتل المساحة الأكبر على حساب الغضب. وهذا لا يعني الاتهام الظالم لأهل الفكر والنفس والأنا بأنهم لا يمتلكون من النزاهة والحكمة ما يجمّل حياتهم المادية، لكنهم يعيشون بما يماثلها تحت مسميات الالتزام الاجتماعي وسيادة القانون كما نرى غالبية دول العالم المتقدم، لأن الإنسان مادام حياً فهو بحاجة للشهوة والغضب، وهما دليلا صحة على إنسانيته وانسجامه مع طبيعة تكوينه، والمسألة تكمن في تقلص مساحات هذه المفاهيم لحساب أخرى تتوسع وتنمو وتكبر.

أما أهم سمات العقلاء وصفاتهم هي:الحلم، العلم، الذكر، الفكر والنباهة

فهم المتنبهون لكل شيء، وهذا يعني امتلاكهم إضافة للملكات السابقة، ملكات إضافية من الحاسة السادسة، والفراسة والتوقع والتنبؤ والاستنباط والاستدلال والاستشعار والاستقراء والاستدراك والاستشراف وغيرها.

جدلية النفس والعقل

إن أصحاب العقل يدعون إلى الوسطية التي تحقق الكفاية المادية للإنسان، وتحقق الأماني الروحية، والتواصل الفكري الذي ينير جوانب العمر وظلمة الأنفس وظلام الحياة. فالوسطية انعتاق من زهدٍ مفرط يحرم الذات الإنسانية مما أتاح لها الله ومنحها الحق في العيش الرغيد، والوسطية تحرر من الأهواء وألا يفتتن الإنسان بها، وكوابح تمنع التمسك بالحياة لدرجة ألا يرى الإنسان غير الماديات والمحسوسات في الحياة.

فالوسطية حقوق وواجبات، أخذ وعطاء، شهوات ونزاهة، غضب وحكمة، فالحياة لا تستقيم بقطب واحد وبضد واحد.

لكن الحياة بحاجة إلى ترجيح العقل على النفس في الحياة، وهذا ما يضمن استمرار الحياة نقيه صافية، لا ضرر ولا خلل ولا إفساد ولا فسوق فيها، لأن العقل ميزان الحياة وميزان الحياة نظامها الذي يحد من الهدم لصالح البناء، ومن الخطأ لصالح الصواب، ومن البهرجة والمظاهر لصالح القيم والمضمون.

وعلّم العقل أشياءً وميزه عما سواه فأضحى العقل ميزانا

فبالعقل يتمايز الإنسان عن الحيوان، والإنسان عقل وليس صورة، والإنسان عقل وليس أهواء ورغبات نفسية. لذا فالنفس رغبات وشهوات والعقل رضا وتسليم، النفس طمع وجشع وحسد والعقل قناعة واكتفاء، النفس عربة والعقل كوابحها، النفس احتياجات والعقل انتقاء واصطفاء لهذه المتطلبات والرغبات، النفس طلب وأخذ والعقل عرض وعطاء، النفس موافقة والعقل خلاف وممانعة، النفس فقر مذل ولو كانت تملك الثروات الطائلة والعقل غنى لأنه معرفة وبصيرة مترفعة عن الماديات.

يُعَزُّ غنيُّ النفس إن قلَّ مالهُ ويُغنى غَنى المال وهو ذليل

النفس شجاعة والعقل رأي، النفس لهو ولعب والعقل جد والتزام، النفس توبة والعقل أوبة، النفس ظلمة والعقل ضياؤها، النفس مفسدة ومهلكة والعقل حياة حياء، النفس مملوكة والعقل مالك، النفس محكومة والعقل حاكم، النفس شح وبخل والعقل كرم، النفس لوامة والعقل لائم، النفس مطمئنة والعقل ذكرها المطمئن (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد 28، النفس غي والعقل رشدها، النفس ظلم والعقل عدل، النفس عجب والعقل تواضع، النفس ذليلة والعقل رفعة، النفس حديقة والعقل سياجها.

إذا طالبتك النفس يوماً بحاجةٍ                  وكان عليها للخلاف طريقُ

فخالف هواها ما استطعت فإنما                هواها عدو والخلاف صديقُ

والنفس تعلم أني لست أصحبها                 ولست أرشد إلا حين أعصيها

النفس كالفرس الجموح                          وعقلها مثل اللجام

 

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله                   فقد كمُلت أخلاقهُ ومآربه

ومن كان غلاّباً بعقلٍ ونجدةٍ                   فذو الجد في أمر المعيشة غالبه

وللعقل القيادة ولو كان مغلوباً وانغلابه هذا من قبل أصحاب الجد في أمر المعيشة عبقرية القيادة .

 

د. كمال الحمصي 

http://albahethon.com/?page=show_det&select_page=49&id=622
 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك