العالم الإسلامي ... بين الغزو العسكري والغزو الفكري

العالم الإسلامي ... بين الغزو العسكري والغزو الفكري

بقلم: الدكتور عدنان علي رضا النحوي

يتعرَّض العالم الإسلامي إلى غزو واسع من العالم الغربي منذ زمن غير قليل، إلا أنه في هذه المرحلة أخذ صورةً جديدةً فيها جرأةٌ على الإسلام والمسلمين، واستخفاف بهم وتحدٍّ لهم. وجمعت هذه الصورة الجديدة قسوة الغزو العسكري ووحشيّته وامتداد الغزو الفكري واتساع أثره وفتنته.

إنَّ وحشيّة الغزو العسكري في فلسطين وأفغانستان والعراق ومناطق أخرى ظاهرة للعيان. والعالم الإسلامي يقف أمامها مشلول القوى خائر العزائم غير قادر على صدِّها، بين ضجيج الشعارات واضطراب الخطوات وتمزُّق المحاولات، فنزل بالمسلمين من الهزائم ما لم يشهده تاريخ المسلمين أبداً.
ولا نقول إنَّ هذا الغزو جاء مفاجئاً، إلا للغافلين النائمين، يستيقظون على هوله وسرعته. لقد جاء هذا الغزو على سنن لله ماضية عادلة حقٍّ لأن الله لا يظلم أحداً ولا يظلم شيئاً. وفي الوقت نفسه جاء على خطّة مدروسة ونهج معدٍّ لدى الغرب.

ونعتقد أن ملامح هذه الخطة بدأت تظهر مع أوائل القرن السادس عشر في هجمة على جنوب شرق آسيا، حين انطلقت البرتغال إلى"مالاقا"، وحين قال قائد الحملة يخاطب جنوده: ".. وأؤكد لكم إذا استطعنا تخليص مالاقا فستنهار القاهرة... وبعدها مكة نهائيّاً..."! وعندما سقطت "مالاقا" أقامت روما قدَّاس شكر! وخطب أحدهم أمام ليو العاشر فقال: "إنَّ هذا النصر سيسهِّل استعادة القدس"! وامتدَّ الغزو مع القرون إلى شمال أفريقيا وإلى عدن ومصر والسودان والبحرين ومسقط والكويت، والقوقاز وطشقند وسمرقند وبخارى وأوزبكستان. وتقسم العالم الإسلامي إلى قطع متناثرة في تاريخ يحمل من المآسي الشيء الكثير.

وفي هذه المرحلة الطويلة، صادف أن انطلق هذا الغزو العسكري والمسلمون في بداية وهن وضعف آخذ بالازدياد، لا يستيقظون من مأساة إلا على مآس جديدة متلاحقة.

ورافق هذا الغزو كذلك غزو فكريّ مدروس، تتسلل معه الفتنة في ديار المسلمين، تكتسب كلَّ يوم جنوداً لها من المنتسبين إلى الإسلام. وكما فشل المسلمون في صدِّ الغزو العسكري، فقد فشلوا كذلك في صدّ الغزو الفكري، حتى عمَّ العالم الإسلامي حركاتٌ منظمة تجاهر بحرب الإسلام، وحركات تتخفَّى وراء زخارف لتنفث سمومها، وحركات هجمت على نصوص الكتاب والسنَّة تفسد تأويلها وتنشر فتاويها وتلبّس على الناس دينهم، وتلقي بينهم قضايا تشغلهم عن مجابهة الخطر الحقيقي الذي يُهدِّد الأمة كلِّها.

وتعاون الغزوان العسكري والفكري في إضعاف الأمة وتمزيقها وشلِّ قواها، ونشر الفتنة بعد الفتنة.
إنك تجد اليوم من يعلن أنه لا يرضى بتدخل الدول الأجنبية في شؤون دولهم، دون أن ينتبه إلى أن هذه الدول الأجنبية قد اخترقت الأمة بفكرها وزخارفها، وأصبح لها موالون ودعاة مؤيدون، ودون أن يتنبه إلى أنه هو من الداعين للفكر الغربي والحياة الغربية ولو تحت شعار الإسلام.
يُفترض أنَّ من يدعو إلى الإسلام، ويعلن عن نفسه أنه داعية مسلم أن يلتزم هو بالإسلام ديناً وفكراً ومنهج حياة، وأن تتناسق مصطلحاته مع نصوص دين الله وشرعه. لقد اختلطت مصطلحات الوطنية والإقليمية والقومية مع مصطلحات الإسلام، دون أن تبيّن حدود كل مصطلح ومفهومه وتطبيقه.
فالإسلام يصوغ جميع هذه المصطلحات صياغة جديدة لترتبط كلها من خلال تشريعه: العائلية والرحم، الوطنية والإقليمية، والقومية مع قواعد الإسلام، ومن خلال تشريع ربَّانيّ يجمع البشريّة كلَّها في ظلاله وتتناسق الروابط كلها من خلاله كذلك، لتأخذ كل واحدة من هذه الروابط مـعنى وحدوداً من شرع الله، حتى لا تتحوّل أيٌّ منها إلى عصبيّة جاهليّة حرَّمها الإسلام، ودون أن يدَّعي أحد أن أيَّاً منها يمثّل شرعاً جديداً أو منهج حياة جديداً، ويظل في الإسلام بين جميع هؤلاء أخوّة واحدة هي أخوّة الإيمان التي شرعها الله:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن الرسول قال:

( المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر) [رواه أحمد ومسلم، صحيح الجامع الصغير وزيادته: رقم 6667
و عن الرسول (ص ) قال:

(المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كلّ المسلم على المسلم حرام: عرضه وماله ودمه. التقوى هاهنا -وأشار إلى القلب- بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم) [رواه الترمذي. صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 670
وأحاديث أخرى كثيرة تحدّد حقوق الأخوة الإيمانية وواجباتها، وتنظم علاقاتها في منهج متماسك، لتكون هي الرابطة الربَّانيَّة الوحيدة التي تجمع الناس كلّهم على الحقِّ. ولقد حرص الغرب على إثارة العصبيات الجاهلية بين المسلمين، واستجاب كثيرون من الناس عامة ومن الدعاة وغيرهم، حتى تمزَّقت أخوة الإيمان بين المسلمين، وحتى سهُل على المسلم أن يتقارب مع غير المسلم وينأى عن أخيه المسلم، وتوالت الدعوات إلى الاعتراف بالآخر والتقرُّب إلى الآخر وإقامة الحوار والسلم مع الآخر، وتناسوا المسلم وحقوقه، ووجوب الحوار بين المسلمين أولاً لإعادة الرابطة الربَّانيَّة بينهم أُخوَّة الإيمان.
ويرى بعضهم مع دعوة الإصلاح الحالية أنَّها مطلب وطنيّ وقومي وإسلاميّ، ولكن خلط هذه المصطلحات على هذه الصورة يُغيّب الطريق والهدف والوسيلة إلى الإصلاح، فالإسلام وحده يقدم منهجاً كاملاً مترابطاً للإصلاح، منهجاً لا نجده مع الشعارات المختلطة، والإسلام يقدم الوسيلة والهدف ويحدّد الرابطة، وبغير ذلك يصبح الإسلام شعاراً وتصبح الممارسة العمليّة أهواءَ ومصالحَ وعواطفَ، فتتمزَّق الأمّة، ويصبح لكلّ بلد إسلام خاص به لينحرف به إلى مصالح دنيوية مخالفة لشرع الله، ويصبح هنا أخوّة جديدة وهناك أخوّة ثانية وأخوة ثالثة، وأخوّة وطنية على غير ما شرع الله، وأخوّة مع النصارى أو اليهود أو غيرهم، حسب الحاجة وتحت شعار الإسلام.
وقد ينادي بعض الدعاة المسلمين بأنَّ الإصلاح يجب أن يبدأ بالإصلاح السياسي! فإذا بدأ بذلك فإلى أين ينتهي، ولقد قامت دعوات ومحاولات لبدء الإصلاح بالإصلاح السياسي، وقامت انقلابات وثورات، فإلى أين انتهت وماذا حققت من إصلاح؟!

وقد تجد الداعية المسلم يدعو إلى المصالحة الوطنية كأساس لعمليّة الإصلاح الشامل، وأساس لتحديد العلاقات والحقوق والواجبات، طارحاً عرض الحائط بكل نصوص الكتاب والسنَّة، منطلقاً من الدعوة الغربيّة العلمانيّة الديمقراطيّة، حتى جعل من الإسلام مجرَّد شعار لا رصيد له في الواقع. والأسوأ من ذلك أن يفتري بعضهم على الإسلام فيخفي أخوّة الإسلام ويدَّعي أن الإسلام يدعو إلى الأخوّة الوطنيّة والأخوّة القومية والأخوة الإنسانيّة، فجمع الماسونية والعلمانية وغيرها في خليط غير متماسك. وكان أحرى بالمسلمين أن يعلنوا أنَّ الإسلام صاغ جميع هذه العلاقات صياغة إيمانيّة، ونظّم لكلّ حدودها ودورها في منهاج ربَّاني متكامل. ونشير هنا إلى أنَّ محمداً (صلى الله عليه واله وسلم) حين بُعِثَ نبيّاً ورسولاً كان يحيط به من أعداء الداخل والخارج ما هو أشدّ مما نلاقي نحن اليوم، فلم يكن منهج الإصلاح الذي دعا إليه منهج وحدة مع قريش أو أيّ فئة في الأرض، ولم يكن منهجاً وطنياً ولا قومياً، وإنما كان منهجاً ربَّانيّاً ودعوة ربَّانيّة يدعو إليها قومه قريشاً دون مساومات على دين ودعوة، ويدعو أهل المدينة وأهل الجزيرة العربيّة، ويدعو إليها الناس كافَّة، ليصلح بها حال قومه وحال العرب كلهم وحال البشريّة جمعاء.

هذه هي دعوة الإسلام، ولا نرى أنه يحلّ لأحد من الناس إذا انتسب إلى الإسلام داعية أن يخالف نهج الإسلام، أو يبدّل فيه ويحرَّف، ويجعل مخالفته وانحرافه كلّه تحت شعار الإسلام!

المصدر: http://www.rohama.org/ar/content/726

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك