التسامح والتعايش جوهر الحريات الدينية في العالم المعاصر

التسامح والتعايش جوهر الحريات الدينية في العالم المعاصر

تشير اغلب التقارير الصادرة من الهيئات والمؤسسات الدولية المعنية بشؤون حقوق الانسان، الى ان الحريات الدينية باتت عرضة للقمع في دول كثيرة من العالم، وتكاد اكثر المناطق التي تتصدر قائمة الدول القامعة لكل دين ما عدا الاسلام، هي المنطقة العربية والاسلامية، ولعل في هذا الامر ما يثير الغرابة بعض الشيء، خصوصاً ان الاسلام كشريعة ومنهج ورؤية اكد على مسألة غاية في الاهمية، وهي ان (لا اكراه في الدين) وهي الفكرة التي طالما سعى دعاة الاسلام وعلماؤه الى ابرازها تأكيداً على سماحة الاسلام وسعة ساحته الفكرية والاخلاقية والاجتماعية والانسانية. ولا شك ان ظاهرة غياب الحرية الدينية لها اسباب شيوع واتساع، وقد تنم عن ممارسة منهجية لسياسة كبت الحريات بالعموم، التي يمكن ان تمارسها انظمة مستبدة، وبالتالي ان هذه الانظمة اذا تمارس القمع السياسي على جميع النشاطات الدينية، والتجويع الاقتصادي على شعوبها وهو الامر الذي يعزز وسائل القمع السياسية، فان حرية الاعتقاد بالنسبة لها ميدان من ميادين القمع ايضاً، فكما ان الحرية كل لا يتجزأ فأن الحكم الاستبدادي كلي لا يقف عن حد.

ولكن ما يميز غياب الحرية الدينية في الدول العربية والاسلامية انه جاء ليس كنتيجة لوجود ايديولوجية معادية للدين، مثلما في ممارسات حدثت في دول اخرى سابقاً، بل ان في بعض الدول العربية والاسلامية يتم تبرير مصدر القمع، كونه  ينطلق من ادبيات وتعاليم الشريعة الاسلامية وقد يجد سنداً له في ثلة جماهير ذات مزاج ديني متزمت يؤيد اشكال هذا القمع، وبهذا يؤشر الى حالة واضحة من كبت الحريات الدينية بأدوات دينية، ولعل تساؤلات كبيرة تنشأ من هنا، منها هل ان غياب الحرية الدينية يعود الى طبيعة البناء السياسي لهذه المنظمة ام بسبب التشريع الديني ذاته الذي يحكم عمليه انتاج القانون في تلك الدول، على الاقل فيما يخص طريقة التعاطي مع الاديان الاخرى؟!.

 ملامح ثقافة التسامح

وعلى الرغم من اهمية هذا التساؤل وما تتوقف عليه الاجابة من بيان قوة الرأي وحيثياته وابعاده وتأثيراته، الا  اننا آثرنا البحث في قيم التسامح الديني لما يتركه من اثر جوهري في الواقع الاجتماعي المعاش، كونه ضرورة وجودية تتيح متسعاً لخلق اجواء ومناخات اوفر للحريات الدينية، وما تنتجه من استقرار حقيقي لمجتمع آمن ومتحرك بعيداً عن حلقات الصراعات والاقتتالات الطائفية والدينية والمذهبية.

ان تسليط الضوء على اهمية التسامح الديني تتمثل في كونه حقيقة ملموسة يجب تعاطيها، انطلاقاً من سنة الوجود التي اقتضت ان يكون المجتمع الانساني في شكل تجمعات بشرية وهي ان اتفقت فيما يجمع بينها من وحدة الاصل والحاجة الى التجمع والحرص على البقاء والرغبة في التمكن من مقومات الحياة والسعي في اقامة التمدن والعمران والتوق الى الارتقاء والتقدم، فانها قد تباينت في ما تنفرد به  كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وثقافية وقد اقر القران الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

 

تنوع وتجانس وتنافر

اكدت هذه الفكرة ما كان قد توصل اليه الحكماء والفلاسفة من قبل واثبته الواقع التاريخي بان الانسان مدني بطبعه، بمعنى انه لا تتحقق حياته ولايبني كيانه ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو اليه قدراته الا داخل وسط اجتماعي متشابك فيه الخير والشر وفيه التحابب والتباغض وفيه التجانس والتنافر وفيه الانا والانا الاخر، فالانسان ابن بيئته التي أنشاته وأقلمته، وهي التي توفر له احتياجاته الاساسية، كما انها هي التي تظفي عليه عاداتها وشعائراها، لذلك لا يمثل التنوع بين الناس افراداً وجماعات انحرافاً او شذوذاً بل هي من طبيعتهم البشرية ومن اصل خلقتهم الآدمية، فامر طبيعي ان تتنوع الطبائع والامزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات وانه تنوع في انماط الممارسات الاعتقادية وتباين في التمثلات الطقوسية وتغاير في التجليات السلوكية وتمايز في المنطلقات الفكرية وانه تنوع ايجابي فيه ثراء وخصوبة وتلاقح يحفز على الاضطلاع بالمسؤوليات الجسام ويدفع الى جعل الوفاء بالحاجات النفسية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والحضارية واقعاً مرئيا وخيارا متاحاً امام القدرات والكفاءات.

وهكذا نلحظ ان الغاية من اختلاف الناس الى شعوب وقبائل وتنوعهم الى ثقافات ومدنيات انما هو التعارف لا التناكر، والتعايش لا الاقتتال، والتعاون لا التطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً ان اهمية التسامح الديني تتمثل في كونه ضرروياً ضرورة الوجود نفسه، يقر الاختلاف ويقبل التنوع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الافراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله هي سبب وجوده وسربقائه وعنوان هويته ومبعث اعتزازه، كما ان التسامح الديني يقتضي التسليم -اعتقاداً وسلوكاً وممارسة- بانه اذا كان لهؤلاء وجود فلأولئك وجود، واذا كان لهؤلاء دين له حرمته فلاولئك دين له الحرمة نفسها، واذا كان لهؤلاء خصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك فلاولئك خصوصية ثقافية لا تقبل المس ابداً.

 

حرية المعتقد... اساس المجتمع المدني

في هذا الاطار يبدو ان التسامح الديني يعد أرضية اساسية لبناء المجتمع المدني وارساء قواعده، فالتعددية والديمقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الانسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، تعد خيارات وقيم انسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط  ولا المساومة، فالتسامح عامل في بناء المجتمع المدني ومشجع على تفعيل قواعده، يستوجب الاحترام المتبادل ويستلزم التقدير المشترك ويدعو الى ان تتعارف الشعوب وتتقارب، ويفرض التعامل في قطاع الدائرة الموضوعية من دون المساس بدائرة الخصوصية ومن غير اثارة لحساسيتها وانتهاك لحرمة ذاتيتها، وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح ذات السمات الفاعلة التي يعود مردودها بالخير للجميع، الى ذلك تلاقي التقارير الصادرة عن الهيئات والمنظمات الانسانية بشأن مسألة الحريات الدينية في منطقة الشرق الاوسط والعالم الاسلامي ردود فعل متباينة.

 

حوار الاديان وحقوق التعايش

ثمة حاجة ملحة للنظر على نحو جدي وعلني بتفعيل الحريات الدينية وايلاء الاهتمام لهذه المسألة، وكذلك لموضوعة حوار الاديان وحقوق التعايش بين المواطنين على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وطوائفهم في الوطن الواحد، كما ومن الضروري ايضا ايضاح مفهوم التعايش على اساس احترام حق الغير في ممارسة عباداتهم داخل اماكن العبادة من دون تدخل الاخرين، وعليهم ايضا احترام حق الغير في معتقداته ومقدساته ورموزه من دون الهجوم والتهجم عليه باي شكل من الاشكال.

والسؤال يبقى يتردد، هل ستقوم الانظمة العربية والاسلامية بتصحيح مفهوم حوار الاديان ام سيظل الامر بمحمله حواراً لا يفضي الى حل، حتى تصبح العلاقة بين طوائف المجتمع وشرائحه في ازمة خانقة وبالغة التعقيد، تتربى فيها وتتعاظم الفتن الطائفية والمذهبية والدينية برمتها على ما بقي من امن وسلامة من يعيشون في هذه المنطقة بالذات؟ في الوقت الذي يرى فيه علماء الاسلام ام مفهوم الحرية في الاديان عامة، والدين الاسلامي خاصة على قدر كبير من السعة والشمولية، ولكن بمقدار تلك السعة والشمولية هناك جوانب لا يكون الانسان حراً مطلقاً فيها من قبيل الحق في التشريع او امتثال التكليف على خلاف الصورة المطلوبة او الاعتراض على ماهو شرع وغيرها من الامور، في حين ان هناك مساحة واسعة للحريات الفردية كما تقدم ذكره. ويشير فيه هؤلاء العلماء الى ان الشريعة الاسلامية وان لم تختلف عن الانظمة الوضعية في الحد من تدخل الفرد في امور كهذه الا ان مخالفي الاديان وخصوصاً الدين الاسلامي لم يقبلوا من الحريات في هذه الاطر من الانظمة الارضية في حين ردوا على الاديان ذلك، بل اتخذوا منها وسيلة للنيل من الاديان وخصوصاً الدين الاسلامي.

 

رؤية الشريعة الاسلامية

اذن فالحرية وفق المنظور الاسلامي والكلام للباحث الاسلامي (جعفر الشايب) هي تكليف الهي يقع في جانبين، الاول: جانب الفرد ذاته، فلا يحق للانسان التنازل عن اسباب حريته فقد ورد في هذه الشأن قول الامام علي (ع) (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا). اما الجانب الثاني فهو الحرية الاجتماعية فلقد تجاوزت الحرية في النظرة الاسلامية نطاق الفرد، الى النطاق الاجتماعي اي الحرية الاجتماعية للامم والجماعات. ويعتقد باحث اسلامي اخر هو مالك مسلماني، ان الحرية هي في سلم اولويات الاسلام وتحتل مقاماُ متقدماً جداً، بل اكثر من ذلك، عد الاسلام الحرية بمثابة الحياة في عهد الرق الذي هو ضد الحرية موتاً وهذا ما نستفيده من تفسير قوله تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة).

ثم يضيف الباحث الاسلامي الى قوله، بل اكثر من ذلك تذهب الشريعة الاسلامية شوطا ابعد في مجال الحريات لم تصل اليه الانظمة الاخرى ولهذا البعد اثراً كبيراً في صلاح الفرد، ثم في صلاح المجتمع، وهي الحرية الحقة التي تنطلق منها بقية معاني الحرية وهي تحرر الفرد من شهوات نفسه.

وثمة من يرى من الباحثين في الشؤون الاسلامية ان مفهوم الحرية يمكن النظر اليه من جانبين وبذلك ينشأ نوعان من الحريات ينضوي تحت كل منها اصناف:

اولاً: ينظر اليها انها قيود توضع ازاء الحكام تحول بينهم وبين التجاوز على حقوق المحكومين وينقسم هذا النوع من الحريات الى ثلاثة اصناف هي:

1. الحرية الشخصية او المدنية: وهي الحريات التي تكفل للفرد حماية الذات والضمانات ذد التوقيف التعسفي ومن امثلة هذا الصنف حرية السكن وحرمته وحرية المراسلات كما تدخل فيها الحريات العائلية.

2. الحريات الاقتصادية: وتشمل حق الملكية وحرية العمل وحرية التجارة والصناعة... الخ.

3. الحرية الفكرية وتشمل الحريات الفلسفية والدينية والفنية والادبية.

اما ثانياً: فيمكن ان ينظر الى الحرية من جهة توفرها في الفرد واثر هذه الحرية في المجتمع، ويمكن التعبير عنها بأسم حريات المعارضة ويشمل هذا النوع من الحريات حرية الرأي وحرية الصحافة والطباعة وحق الاجتماع والتظاهر وحق تاليف الجمعيات.

 

الارهاب والتسامح... رؤية معاصرة

يرى الباحث حسين درويش العادلي ان قضية التعايش بين الاسلام والاديان والقوميات المختلفة تحتل مركز الصدارة لدى الباحثين والساسة، ويبرز هذا الاهتمام على خلفية الاحتقان والتضاد الذي يتمظهر من خلال طروحات حرب الحضارات او حرب الارهاب المتبادلة، ومع تزايد وتيرة الصراع طرحت اسئلة جوهرية عن الاسلام كديانة فيما اذا كان مصدراً معرفياً للعنف والتصادم الانساني ام لا؟ ويضيف العادلي ان تسأولات عميقة عن الاسس البنيوية للتعايش من وجهة نظر الاسلام وفيما اذا كان بمقدوره التأسيس لتجارب انسانية متناغمة ومنسجمة ومسالمة داخل اطاره الخاص او في تعاطيه مع الاديان والقوميات الاخرى ويقول الباحث: ان تجارب العنف المنتج للتصادم بدل التعايش حقيقة متجددة، ومصاحبة للجنس البشري عبر التاريخ، فهي ليست حكراً على اتباع ديانة او مذهب معين، ولعل الثورات والحروب واشكال الاحتلال عبر التاريخ ليست سوى تعبير عن كونها مسألة انسانية مشتركة كانت ولا تزال وستبقى.

ويحدد الباحث العادلي المشكلة في انها عبرت عن اقتران الاسلام بالعنف وتضاده مع التعايش وذلك بحسب اعتقاده يعود لعدد من العوامل منها:

اولاً: الجهل البسيط او المركب البريء والمغرض بالاسلام كمظومة متكاملة من القيم والمبادئ والتشريعات.

ثانياً: اتساع حلقات الانغلاق الانساني المتبادل نتيجة عمق الهوة بين الحضارات الانسانية.

ثالثاً: عدم اكتمال البناء الحضاري على مستوى الهوية والدولة للمجتمعات الاسلامية بسبب ارث الماضي وفشل مشروع الدولة الوطنية وتناحر المدارس القومية واليسارية والاسلامية في بناء الانسان والمجتمع والدولة.

رابعاً: اعطاء صبغة التقديس لفكر سياسي ديني محدد.

خامساً: عدم التفريق بين الدين والتجارب الانسانية المؤسسة على اساسه، اضافة الى عدم ادراك الاسلاميين لحركية الواقع بانساقه وآلياته المعقدة، فضلاً عن تنامي مغذيات العنف وانزواء مقومات التعايش بسبب الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلدان الاسلامية وبروز صور الاختلاف الديني على انها حرب حضارات وغيرها من امور تقع في المقدمة والمحصلة منها ازدهار نزعات الانعزال وصعوبة التلاقح الحضاري المنفتح مع الاخر، واشكالية التعامل والتعاطي مع مفاهيم الاختلاف والتنوع بين ابناء النوع الانساني وضرورة تحديد فهم كامل لها بوصفها اهم التحديات التي تحول من دون التعايش ونشر فكرة التسامح والحرية والاستمرار في التقدم الحضاري.

المصدر: http://www.shaaubmagazine.com/view.331/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك