الإسلاميون يتصالحون مع الديمقراطية

الإسلاميون يتصالحون مع الديمقراطية

جمال سلطان

 

 

يبدو أن الأمور تتجه نحو مصالحة تاريخية بين الحركات الإسلامية وبين الديمقراطية، بعد طول خصام وتمنع وتردد وجدال.

التوجس الإسلامي نحو الديمقراطية كان قديمًا منذ بواكير القرن الميلادي العشرين المنصرم، عندما كان الشيخ حسن البنا – رحمه الله – يخاصم بعض المظاهر الديمقراطية مثل التعددية الحزبية ويراها آلية غير شرعية، ثم تصالحت جماعته بعد ذلك وقبلت في السنوات الأخيرة بفكرة التعددية الحزبية. وبعد أن كان هناك موقف سلبي واضح تجاه فكرة الانتخابات والعمل النيابي في مختلف صوره، حتى إن بعض الإسلاميين في مصر وغيرها – على سبيل المثال – وضعوا مؤلفات في كفر البرلمان ومن ينتسبون إليه، عاد الجميع بعد ذلك وغيروا الرؤية وأعلنوا قبولهم بالفكرة والمنطق الديمقراطي.

وقد سرت في السنوات الأخيرة موجة من الإقبال الإسلامي على  الممارسة الديمقراطية بكافة صورها، من المغرب إلى الجزائر إلى مصر إلى اليمن والأردن إلى الخليج، ومؤخرًا قفز بعض إسلاميي الكويت قفزة جديدة بتأسيس حزب سياسي رغم أن النظام السياسي الرسمي لا يسمح بذلك.

للأمانة كانت هناك هواجس منطقية لدى الإسلاميين تجاه الديمقراطية، هواجس مشروعة بسبب السطحية الشديدة التي تم بها تقديم الديمقراطية في عالمنا العربي من قبل بعض المثقفين والسياسيين العلمانيين. كانت الصورة التي تقدم تصر على أن الديمقراطية تعني عدم وجود أية مرجعية سوى مرجعية صندوق الانتخاب، وكان هناك إصرار على أن كل القيم والأفكار والعقائد والأخلاقيات والنظم والقوانين لا تخضع إلا لرأي الناخب، حتى لو اصطدمت بنصوص الشريعة، بل إن هذه النقطة الأخيرة كان هناك إلحاح غريب عليها، فكلما طرحت المسألة كان السؤال: هل ستقبلون بحزب يدعو إلى الإلحاد؟ وهل ستقبلون بحزب يدعو إلى الإباحية الجنسية؟! فعلق في الأذهان مباشرة أن الديمقراطية تعني نشر الإلحاد ونشر الإباحية.

وظل هذا هو المدخل الأساس لرؤية الإسلاميين للديمقراطية، ولذلك كنت تجد مفارقات مدهشة في سلوك الإسلاميين الذين غامروا بالمشاركة الديمقراطية وسط هذه التحرشات الفكرية والنفسية، فعلى سبيل المثال عندما قررت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر دخول الانتخابات النيابية - وهي حركة ذات طابع سلفي بالأساس – كان هناك إصرار من الشيخ علي بلحاج – أحد أبرز قيادات الجبهة – على أن ينشر دراسة مسلسلة في صحيفة الجبهة تحت عنوان "الدمغة القوية في كفر الملة الديمقراطية"، وكانت مفارقة مثيرة أن حزبه وبدعم كامل منه يخوض بكل شراسة التجربة الديمقراطية، في حين أن التنظير الفكري يتهم الديمقراطية بالكفر، ومع ذلك لم يكن لدى ناشطي الجبهة أي إحساس بالتناقض الذي وجده الناظر في الخارج، حيث إن الرجل كان يتناول بالأساس الجانب الفلسفي النظري من الديمقراطية الغربية بالصورة التي قدمها له العلمانيون العرب، وهو إلغاء مرجعية الوحي تمامًا وعزل الدين عن الدولة بكاملها، وهو أمر لا يستقيم مع أصول الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي دعا غير واحد من العلماء المسلمين مثل الشيخ القرضاوي إلى التأكيد على أن الديمقراطية – في نسختها الإسلامية – لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً، أي أن الجبهة كانت تقبل بالآليات الديمقراطية كالانتخابات العامة والترشيح والقبول بإرادة الناس واختيارهم، في حين ترفض الأساس الفلسفي الغربي لها الذي يمثل لدى المسلمين عدوانًا على قدسية الوحي ومرجعية الشريعة.

ومعظم الجدل الذي دار بين الإسلاميين بخصوص قضية الديمقراطية، وقد شارك كاتب هذه السطور في بعضه، كان مداره حول هذه الإشكالية، فلما اطمأن الجيل الإسلامي الجديد إلى إمكانية حماية الشريعة في ظل حياة ديمقراطية سليمة اندفع في ممارسة الخيار الديمقراطي بكل قوة، حيث تم تفكيك عقدة العقد لديه، كما أن حسابات المصالح والمفاسد في تلك الموازنة كانت كلها تصب في زاوية ترجيح المشاركة الديمقراطية.

والحقيقة أن موقف الإسلاميين من هذه القضية كان موقفًا أخلاقيًا أمينًا مع النفس، ومع قناعاتها الفكرية، وأجمل ما فيه أنه تنزه عن روح "الانتهازية"، وذلك أن القبول الشعبي واسع النطاق للإحياء الإسلامي الجديد، كان مما لا تخطئه عين، كما أن مختلف التحليلات السياسية كانت تؤكد على أن الإسلاميين إذا خاضوا أية تجربة انتخابية شفافة فسوف ينجحون بسهولة، ومع ذلك كانوا - إلا قليلاً – يحجمون عن "انتهاز" الفرصة، اتساقًا مع مبادئهم وقناعاتهم الفكرية والدينية.

على كل حال، فالواقع العربي الجديد يشهد على أن المصالحة التاريخية بين الإسلاميين والديمقراطية قد وقعت (عند الأعم الأغلب)، وبقي عليهم بذل المزيد من الجهد في مضمار المران الديمقراطي بكل تحدياته، من القبول بالتعددية واتساع الصدور للرأي الآخر والعودة إلى فقه الواقع، وأيضًا البراءة من العنف كبديل لفرض الإرادة السياسية، كذلك هناك ضرورة ماسة لبناء جسور من الفهم والتفاهم والثقة بينهم وبين بقية التيارات السياسية والفكرية في مجتمعاتهم، لأن التجربة الواقعية أثبتت أن هناك بالفعل سوء ظن عفوي موجود، وأن ثمة هواجس مشروعة لدى الأطراف الأخرى لابد من تفكيكها واحتوائها بالبرهان العملي والسلوك، وليس بمجرد الدعاية النظرية.

 

* المجلة: 1309

المصدر: http://www.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=84303

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك