الحوار مع الآخر تذليل العوائق والتحديات: حالة العرب والمسلمين

الحوار مع الآخر تذليل العوائق والتحديات: حالة العرب
والمسلمين
الدكتور عبد الملك منصور حسن المصعبي
________________________________________
تمهيد: الحوار سنه الهية و فطرة بشرية
لقد خلق الله الانسان مهيئا للحوار و قادرا عليه اذ علمه الكلام الذي لا يتم حوار لفظي بدونه، و جعل له الحواس التي تمكنه من التواصل مع من يحاوره، ووهبه العقل الذي هو اساس الحوار و معتمده، و ميزه بحرية الحوار ليحاور، من شاء بما يشاء، او لا يحاور؛ وحبب اليه الحوار بان جعله وسيلة لتحقيق اهدافه بتكلفة اقل من نقيضه الصراع و الاقتتال الذي كرهه اليه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... }البقرة216،  ثم - من خلال رسالاته- أرشده ووجهه الى نهج الحوار و بيّن له احكامه و بعض اسسه ومقوماته و آدابه و فضله او جدواه.
واقترن مجيء الانسان الى هذا الوجود بسلسلة من الحوارات تتيح القول بان مجيئه كان محفوفا ببيئة حوارية. فقبيل خلق الإنسان كان الحوار الالهي مع الملائكة بخصوص استخلاف الإنسان، وبعيد خلق الانسان امتد و اتسع الحوار الالهي- و ما زال موضوعه الانسان- ليشمل الانسان نفسه و ، في نفس الوقت، عدو الله وعدو الانسان: ابليس. بل يبدو ان ذلك الحوار الالهي مع الملائكة والانسان و ابليس  اقترن بحوار الهي اخر مع الكون كله، بما فيه الجمادات من مثل الارض والسماء و الجبال كما توحي بذلك بعض الايات من مثل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72 {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11. ثم كان حوار ابليس والانسان و الذي نسي خلاله الانسان وصايا الله له بشأن ابليس فدفع ثمن ذلك النسيان، و اعقب ذلك حوار العتاب الذي جرى بين الله و الانسان و الذي انتهى- في ما يشكل درسا عظيما في المسألة الحوارية- بتبادل الطرفين التوبة حيث تاب الانسان فتاب عليه الله بل وتفضل عليه بان قضى  بان يتواصل حواره مع الانسان عبر رسله و كتبه{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة38
وسواء اعتبرنا ذلك الحوار الالهي مع الانسان، عند مجيء هذا الاخير الى الوجود لاول مرة، حوارا جرى في الماضي مع أبينا آدم أو  اعتبرناه  حوارا رمزيا يتكرر مع مجيء او قدوم كل فرد من البشر الى هذا الوجود  فان في القرآن ما يوحي بان كل فرد في هذا القاعة، بل كل انسان، قد حظي بشرف الحوار الالهي معه ربما فردا فردا {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172
و كما توحي الاية  الاخيرة، و تصرح آيات اخرى كثيرة، ليس الحوار، من منظور الاسلام، ظاهرة دنيوية فقط بل انه يتواصل و يمتد الى الحياة الاخرى و التي ستشهد حوارات، ربما مباشرة، بين الله و الانسان و،   لاول مرة، بين الانسان و اعضائه، و بين الانسان و الانسان،  و بين اصحاب الجنة واصحاب النار و... الخ.  و قد نقل الينا الوحي مشاهد معبرة من بعض تلك الحوارات المستقبلية.
ولعل في مجمل الايجاز الآنف ما يشير الى ان الحوار- اولا-  سنة الهية ماضية تقوم عليها علاقة الله مع خلقه كلهم سواء من والاه او عاداه اشد ما يكون الولاء و العداء، و من اطاعه او عصاه، و من شكره او جحده  و- ثانيا- فطرة فطر الله عليها الانسان فهو يثوب اليه، متى ما سلمت فطرته و سلم هو من ان تجتاله شياطين الصدام و الصراع، دون عناء كبير. و لا يقدح في ان الانسان حواري بالفطرة كونه قد، ولو كثيرا، يعدل عنه الى الصراع و الاقتتال اذ انه  قد يعدل كثيرا ايضا عن- مثلا-  الاسلام الى الكفر دون ان يعني ذلك ان الاسلام ليس فطرة و هو قد يعدل كذلك عن أي من غرائزه المعروفة دون ان يشكك ذلك في غريزية ما عدل عنها.
بيد انه و ان كان الحوار سنة إلهية و فطرة بشرية و توجيها الهيا، فان الواقع هو ان الانسان، عوضا عن ان يقتدي بسنة الله و يتبع فطرته و يلتزم بتوجيه الله له، كثيرا ما عدل و يعدل عن الحوار بان تارة ينحرف عنه الى الصدام والصراع العنيف و الاقتتال، و تارة يقعد عنه او يرفضه لمانع او آخر، و تارة اخرى ينحرف بالحوار عن مقاصده السليمة و المشروعة و يوظفه لاغراض غير سليمة مثل التآمر و العدوان على الآخر و التناجي بالإثم و عصيان الله.
وقد جاء اختلال الحوار البشري  اختلالا شاملا حيث شمل هذا الاختلال حوار الانسان  مع النفس/ الذات و حواره مع الله و حواره مع اخيه الانسان  كما شمل مختلف جوانب الحوار و مجالاته بما فيها المجال الاجتماعي و الديني و السياسي. و شكل و يشكل هذا الاختلال، وان بدرجات مختلفة، سمة عامة لتفاعلات وعلاقات مختلف المجموعات و الجماعات و الاجيال البشرية عبر التاريخ البشري و الى يومنا هذا.
قضايا الحوار مع الاخر: تذليل العوائق و التحديات
  يثير الحوار مع الآخر قضايا او مسائل عدة بعضها عامة و مشتركة و لا تختلف كثيرا من  مكان او زمان الى اخر بينما بعضها، و لعلها البعض الاقل، تختلف مع اختلاف الناس و ازمانهم و ثقافاتهم ومراحل تطورهم. و الذي يستقرئ مسار الحوار مع الاخر عبر التاريخ البشري يلاحظ انه و بفضل عوامل عدة  لعل اهمها الرسالات السماوية، و جهود الرسل و اتباعهم الرساليين، و تقدم الوعي البشري عموما، و ازدياد فعالية الشعوب في تقرير الامور العامة، اصبح البشر اليوم عموما ليس فقط اكثر وعيا باهمية الحوار و انما ايضا اكثر تمسكا و التزاما به في التفاعل مع الاخر و حل الخلافات و النزاعات معه و اكثر وعيا بالتكلفة العالية  والعواقب الوخيمة للصدام والصراع - خاصة مع التطور المرعب في اسلحة الصراع و الاقتتال - و ، بالتالي، اكثر نفورا منه. و من مظاهر تنامي الوعي باهمية الحوار و التمسك به و رفض الصدام و النفور منه التكاثر الملحوظ للجهات و المنظمات و المؤسسات المحلية والدولية التي تتبنى الحوار دعوة اليه و- وان باقدار مختلفة من الالتزام و النجاح- ممارسة له، و توالي النشاطات والفعاليات التي تدعم الحوار و التي يمثل هذا المؤتمر الذي تنظمه مشكورة جامعة الشارقة احد حلقاتها المتميزة.  ومن المظاهر ايضا  تكاثر الجهات و المؤسسات المناهضة لنهج الصدام و الاقتتال ليس في المجال السياسي و انما في المجال الاجتماعي ايضا( منظمات مناهضة العنف الاسري و العنف ضد الاقليات مثلا)،  و التزايد الملحوظ في المشاركة الفعالة للشعوب في مناهضة التوجهات و الاعمال الصدامية لبعض الحكومات على نحو غير مسبوق في التاريخ (  قارن ، مثلا، مواقف الشعوب من الحرب على العراق، كما تعبر عنها التظاهرات والاحتجاجات الجماعية و الفردية المعارضة للحرب و نتائج الاستفتاءات ذات الصلة، بمواقف الشعوب قديما من الحروب ).
والجدير بالملاحظة هنا هو ان مجمل التطورات  و المستجدات المشار اليها قد احدث تغيرا ينبغي الانتباه اليه في الاهمية النسبية للقضايا والمسائل المتصلة بالحوار مع الاخر. و من ذلك، مثلا، انه و إن كان الحديث عن قضايا من مثل اهمية الحوار و مفهومه قضايا مهمة و من المفيد استمرار الحديث عنها الا ان ما تحقق سلفا من تطور ملحوظ في الوعي باهمية الحوار و التمسك به يجعل القضية الأوْْلى بالتركيز عليها  في المرحلة الحالية هي ترجمة هذا الوعي القائم، على نطاق واسع، باهمية ولزوم انتهاج الحوار مع الاخر الى ممارسة واقعية  تثمر امثلة عملية ناجحة تقدم  برهانا عمليا على فعالية نهج الحوار مع الاخر على مستوى الواقع، وليس على المستوى النظري فقط، في حل الخلافات و النزاعات و تبرز ميزته و افضليته العملية على نهج الصدام و القوة المادية في هذا المجال. ومن هنا تبرز الاهمية المرحلية القصوى لقضية تذليل العوامل التي تعوق او تحد من الممارسة العملية الناجحة لنهج الحوار لأن مع الفشل في تذليلها يمكن لتلك العوامل ان تحول دون النجاح الفعلي لنهج الحوار على ارض الواقع؛ وهو – أي عدم النجاح- ما لا شك سيعطي للبعض المتشكك او المشكك في الفعالية الواقعية لنهج الحوار مزيدا من المبررات و الادلة لما يذهبون اليه من ان الحوار مع الاخر وان كان نهجا مقبولا بل مفضلا الا انه نهج مثالي لا يجدي في واقع  اليوم الذي تقوم فيه العلاقات و التفاعلات مع الاخر اساسا على القوة المادية/ العسكرية و لا يجدي فيه مع الاعداء سوى الصدام و القتال. و لا يخفى ان فشل نهج الحوار على مستوى الممارسة و الواقع يمكن ان ينعكس سلبا على ما تحقق من تنام في الوعي باهمية الحوار و التمسك به  و يؤدي الى تثبيط دعاة الحوار على نحو ليس من المستبعد ان يتسبب في انتكاسة البعض منهم الى التشبث بنهج الصدام و الصراع. ولذلك نحسب ان من المهم الان بالنسبة لمؤسسات و جهات دعم نهج الحوار مع الاخر نقل بؤرة تركيزها  من عموميات المفاهيم و الاهمية الى خصوصيات الممارسة الناجحة الكفيلة باثبات الفعالية الواقعية لنهج الحوار و ابراز دوره كبديل عملي فعال، و ليس حلما طوباويا، للصدام والاقتتال في معالجة الخلافات و النزاعات. و لن يتحقق ذلك الا بنقل مركز الاهتمام الى  قضايا الحوار مع الاخر الاكثر صلة بتفعيل ممارسة نهج الحوار على ارض الواقع و خاصة قضية تذليل العوائق و التحديات العملية للحوار مع الاخر.
ويتمثل الاساس المنطقي للحديث عن عوائق و تحديات  ممارسة نهج الحوار في ان كون الحوار، كما سبق القول، سنة الهية و فطرة بشرية و توجيه الهي يرجح القول انه لا بد ان عدول الانسان عن الحوار الى الصدام و الصراع عبر التاريخ كان بسبب عوامل دفعت هذا الانسان الى العدول عن الحوار الى الصدام رغم ما في هذا العدول من مخالفة للسنة الالهية و التوجيه الإلهي و مناقضة لفطرته الحوارية. و تتمثل هذه العوامل في مجموعة من العوائق والتحديات التي تحد من انتهاج مختلف المجموعات و الجماعات البشرية و افرادها  و مؤسساتها نهج الحوار مع الاخر.
ومن الواضح ان معالجة و تذليل عوائق و تحديات الحوار مع الاخر  يستلزم بدءا التحديد العلمي الدقيق، وبناء على دراسات ميدانية متخصصة، لتلك العوائق والتحديات وترتيبها من حيث الاهمية و تحديد طرق و آليات عملها. و حيث ان ذلك لا يمكن ان يتم على النحو الامثل الا من خلال جهود علمية جماعية منظمة لا يمكن لهذه الورقة- رغم دعوتها للانتقال من العموميات الى الخصوصيات و من الاشكالات النظرية الى المشكلات العملية - عمليا ان تطمح الى اعطاء اكثر من فكرة عامة عن تلك العوائق والتحديات تمهيدا لاعطاء فكرة اولية عامة عن تذليلها و معالجتها.
وتختلف عوائق و تحديات الحوار مع الاخر مع اختلاف طرفي او اطراف الحوار و بيئة الحوار بل و مجاله او موضوعه. بيد انه و نظرا للقواسم المشتركة بين اطراف الحوار و القواسم المشتركة للبيئة و تماثل السلوك البشري عموما و تشابه او تكرار ذات المجالات و المواضيع فان الاختلاف في عوائق و تحديات الحوار مع الاخر من مجموعة حضارية/ ثقافية الى اخرى ليس اختلافا كبيرا او حادا. و يفيد الاستقراء ان عوائق و تحديات الحوار مع الاخر تنطوي، وخاصة في عناوينها العامة، على تماثل كبير و ان الاختلافات تكاد تنحصر في  تفاصيلها.
ومع الاخذ في الاعتبار ما يعنيه ذلك من تماثل/ اختلاف عوائق و تحديات الحوار مع الاخر من مجموعة بشرية الى اخرى، يقتصر الاستعراض الوجيز التالي  للخطوط العريضة لعوائق و تحديات الحوار مع الاخر على العوائق و التحديات التي تواجه بشكل خاص حوار العرب/ المسلمين مع الاخر.
حوار العرب/ المسلمين مع الآخر: عوائق و تحديات
لغة، يتسع مدلول لفظ الآخر ليشمل كل ما هو غير الذات و بالتالي فان الاخر في الحوار الذي يكون احد طرفيه بشر يمكن ان يكون طرفا/ اخرا غير بشري، كالله جل جلاله او بعض خلقه من غير البشر مثل ابليس، او طرفا/ اخرا بشريا. بيد ان الحديث هنا سيتركز على  عوائق و تحديات حوار العرب/المسلمين مع الاخر البشري و يشمل حوار العرب/ المسلمين مع  الاخر الداخلي/ القريب، أي حوار العرب و المسلمين مع بعضهم البعض، و حوارهم مع الاخر الخارجي/ البعيد أي حوار العرب و المسلمين مع غير العرب و المسلمين. 
   و لغرض تسهيل العرض فقط ، ودون ان يعني ذلك التقليل من التداخل و التشابك بينها، يمكن تقسيم هذه العوائق والتحديات الى:
-          عوائق وتحديات الوضع العام او البيئة 
-          عوائق و تحديات ثقافية
-          عوائق وتحديات نفسية و اجتماعية
عوائق وتحديات الوضع العام:
            تتمثل عوائق و تحديات الوضع العام/ البيئة  اساسا في- اولا- ما يتسم به الوضع العربي الاسلامي من تخلف عام  و – ثانيا- قيام عموم العلاقات المحلية(في المجتمع العربي الاسلامي) و الدولية اساسا على القوة المادية/ العسكرية.
التخلف العام:
ان مصدر تأثير التخلف العام على الحوار هو  ان التخلف و التقدم ظاهرتان مجتمعيتان او شموليتان أي يتأثر بهما، وان بدرجات مختلفة، سائر نواحي المجتمع. ولذلك فان تخلف المجتمع العربي الاسلامي لا يقتصر على جانب دون آخر و لم يسلم منه سلوكه الحواري او ثقافته الحوارية او حتى لغته الحوارية. و من اوجه تأثير التخلف على الحوار:
1- التخلف يرتبط عموما بزيادة نزوع افراد و جماعات المجتمع المتخلف الى التفاعل الصراعي اكثر من اهتدائهم الى التفاعل الحواري. و يدعًم هذا القول الاستقراء المقارن لسلوكيات المجتمعات في عصر ما  و الاستقراء المقارن لسلوكيات مجتمع معين عبر مختلف مراحله التاريخية.
2- التخلف يقلل من قدرة المتخلف - مجتمعا او دولة او جماعة او فردا كان- على المبادرة في أي مجال كان، بما في ذلك مجال الحوار. و لأن المتخلف يكون متخلفا ايضا في إدراك اهمية الحوار و أفضليته و المبادرة اليه و كيفية ادارته، بل انه كثيرا ما يتصور الحوار ضعفا، فان المتخلف عادة ما يتخلف في اللجوء الى الحوار عن المتقدم  وغالبا ما لا  يلجأ للحوار الا كرد فعل لفعل او مبادرة من المتقدم. و هكذا فان التخلف يؤدي الى ان يكون تفاعل/ حوار المتخلف مع الاكثر تقدما غالبا تفاعلا او حوارا ارتداديا. و يمكن بهذا الصدد ملاحظة ان سائر ما تم من حوارات بين العرب/ المسلمين من جهة و الغرب من جهة اخرى في التاريخ المعاصر، بدءا بالحوارات السياسية و انتهاء بالحوارات الدينية، جاءت بمبادرة من الغرب.  و الحوار الارتدادي( اللجوء للحوار كرد فعل) ليس اكثر من حوار عابر لا ينم عن تجذر او اصالة الحوار في سلوك صاحبه والذي غالبا ما  يقعد به التردد و تستبد به الهواجس حول الاهداف الخفية لمبادرة الآخر للحوار معه. و لذلك فان الحوار الارتدادي  يكون عادة اقل من حوار المبادرة  كفاءة وعائدا. و كلما قل عائده من الحوار قلت رغبة المتخلف في الحوار و نزع ، كلما أمكنه، الى محاولة وسيلة اخرى غير الحوار.            
3- من شأن التخلف ان يضعف دور الشعب في ادارة او تقرير الشأن العام و مراقبة القائمين عليه و محاسبتهم، و كلما ضعف دور الشعب و فعاليته لا تجد  حكومته دافعا لها للحوار معه او تنظيماته في مسائل النزاع و الخلاف و جنحت الى حسم تلك المسائل عن طريق القوة لانها- او هكذا يبدو لها- أضمن،على الاقل على المدى القريب، للاستمرار في  الانفراد بالسلطة وريعها او مغانمها. و الحكومات التي لا تنتهج نهج الحوار في ادارة شؤونها او علاقاتها الداخلية تكون عادة اقل انتهاجا للحوار في ادارة شؤونها و علاقاتها الخارجية و تكون اكثر تعرضا للاستجابة لإغراء محاولة حسم نزاعاتها الدولية ايضا بـغير و سيلة الحوار و- متى ما توفرت لها- القوة خاصة و انها تستبعد او لا تعطي اعتبارا كبيرا لاحتمال محاسبة شعوبها لها.
قيام  العلاقات على القوة:
من الملامح الظاهرة للمجتمع العربي الاسلامي قيام علاقاته و تفاعلاته اساسا على القوة المادية ليس فقط على المستوى السياسي و انما ايضا على المستوى الاجتماعي. و من مظاهر تغلغل القوة المادية في بنية العلاقات السياسية في المجتمع العربي الاسلامي  التكرار الملحوظ للتفاعل الصدامي و احيانا الدموي بين الانظمة و المعارضة او بعض فئاتها في كثير من دوله، ووصول بعض انظمته الحالية الى السلطة، وخاصة لاول مرة، عن طريق القوة المسلحة و لجوء المعارضة ايضا في بعض الحالات الى القوة المسلحة. و  من تمظهرات القوة المادية في البنية الاجتماعية الاستخدام المتكرر للقوة المادية/البدنية في  معالجة النزاعات الفردية و القبلية و الحضور الفاعل للقوة البدنية في تحديد انماط العلاقات و التفاعلات  في بعض المؤسسات الاجتماعية  كالاسرة كما يعكس ذلك- مثلا- انتشار العنف الاسري. و من شأن كون القوة المادية تشكل ملمحا عاما بارزا في علاقات و تفاعلات المجتمع العربي/ الاسلامي ان يضخم  لدى افراد و جماعات هذا المجتمع  اهمية امتلاك القوة المادية/ المسلحة كما ظهر ذلك جليا من - مثلا- الميل الشائع لامتلاك الاسلحة الشخصية و- الى حد ما- تفضيل الذكور على الاناث  كما ان من شأنه تكريس النزوع  الى  محاولة معالجة النزاعات و الخلافات باستخدام القوة المادية و ليس بالحوار. و من الطبيعي ان تقل في هكذا مجتمع الثقة في فعالية نهج الحوار في معالجة الخلافات و النزاعات.
ولان القوة المادية/ المسلحة ملمح اساسي ايضا في العلاقات و التفاعلات الدولية الراهنة فانها تقلل من سقف توقعات نجاح النهج الحواري في معالجة الخلافات و النزاعات و رفع المظالم او العدوان على المستوى الدولي  و هو ما يكرس النزوع للقوة المادية/ المسلحة في السلوك الدولي كما يعكس ذلك ارتفاع ميزانيات الجيوش/ التسلح مقارنة بالميزانيات الاخرى وغلبة النمط الصراعي على معالجة النزاعات الدولية.
و يشكل ما يتعرض له العالم العربي الاسلامي  من بعض حالات الاحتلال العسكري و التدخلات و الاجتياحات العسكرية و التهديدات العسكرية و العقوبات الدولية الجماعية ، و الازدواجية في مواقف القوى الدولية العظمي من تطبيق قرارات الشرعية الدولية لصالح القوى المعتدية على العالم العربي الاسلامي، كما هو الحال في- مثلا -العدوان الاسرائيلي،  و تعثر ان لم نقل فشل محاولات معالجة نزاعات العالم العربي الاسلامي مع القوى الاخرى عن طريق الحوار وضعا ضاغطا على التفكير العربي الاسلامي نحو الاستياء من أي فعالية محتملة لنهج الحوار في معالجة النزاعات الدولية و رفع مظالم العالم العربي الاسلامي. و يسوء الامر اكثر عندما تتخذ بعض التيارات والانظمة العربية/ الاسلامية من ذلك مبررا لتغييب نهج الحوار عن الساحة او العلاقات الوطنية ايضا.
و بالاضافة الى انه يكرس النزوع الى القوة و، من ثم، الصراع في التفاعلات المحلية و الدولية فان قيام العلاقات على القوة و ما يقترن به عادة من عدم توازن القوى و الانقسام الى قويّ و ضعيف يولد لدى القويّ غطرسة القوة التي تجعله يستنكف عن الحوار مع الضعيف بينما يولد لدى الضعيف التخوف من ان تعكس نتيجة الحوار نفس ميزان القوى الذي يميل لصالح القويّ، و بين غطرسة القويّ و تخوف الضعيف تكون الضحية الاولى هي الحوار.
اذن الوضع العام او البيئة، سواء المحلية و الدولية، عموما له دور كبير في دفع العرب و المسلمين الى تبني النهج الصراعي و يشكل احد العوائق امام انتهاجهم نهج الحوار في علاقاتهم و تفاعلاتهم مع الآخر سواء القريب او البعيد.
العوائق والتحديات الثقافية
            للثقافة دور كبير في توجيه و تشكيل السلوك الفردي و الجماعي عموما. و تشوب الثقافة العربية الاسلامية مضامين سلبية عدة تكرس نزوع العرب و المسلمين الى التفاعل الصراعي و ليس الحواري  مع الاخر، و من تلك الجوانب:
الصورة السلبية للآخر:
تشوب تصور العرب والمسلمين للاخر مضامين تصور الاخر تصور سلبيا لا يشجع على الحوار معه كأن تصوره  عدوا متربصا يلزم التربص به، او كافرا شريرا يتعين جهاده قتالا و اهانته، او،على الاقل، مجهولا يتعين الحذر و التوجس منه و لو بدا ملاكا( جني تعرفه و لا ملاكا لا تعرفه). و صحيح ان التصور السلبي و ما يترتب عليه من الحذر والتوجس من الاخر و سوء الظن به لا يكون بذات القدر مع كل آخر بل يتباين مع تباين عوامل عدة لعل من اهمها الخلفية التاريخية و الخبرة الواقعية. و من الواضح ان توجس العرب/ المسلمين من  ،مثلا، الاخر الغربي  اكبر و اشد من توجسهم من ، مثلا، الاخر الاسيوي او الافريقي ولكن يبقى هناك دائما في الثقافة العربية الاسلامية  قدر من سوء الظن و الحذر والتوجس حتى من الاخر العربي او المسلم بل حتى من الاخر الوطني ليس فقط على المستوى السياسي بل على المستوى الاجتماعي ايضا.  فعلى المستوى السياسي يلاحظ الحضور المؤثر للتوجس و سوء الظن في العلاقات بين بعض الحكومات و بينها و بين  التنظيمات المعارضة بل و المواطنين او الشعب عموما، و مما يعكس ذلك بشكل واضح  تضخم اجهزة الاستخبارات سواء الحكومية او الحزبية و حرص الكثير من الحكام على ابقاء مفاصل السلطة الحساسة في ايدي الاقرباء فقط.  و من مظاهر التوجس و الحذر على المستوى الاجتماعي التردد الشائع من الزواج من الاخر القطري او حتى الاخر القبلي او العائلي احيانا، و شيوع الامثال و الحكايات التي تعبر عن الحذر من الاخر او الغريب بما فيه الاخر او الغريب العربي او المسلم.  و من الطبيعي ان يدفع مثل هذا التوجس او الحذر و سوء الظن العرب و المسلمين الى الشك في سلامة او جدوى الحوار مع الاخر بسبب الشك في اهدافه من الحوار و مقاصده منه. و من الملاحظ  بهذا الصدد اننا لا نكاد نجد حوارا بادر الغرب الى طرحه و لم يساور الكثير من المسلمين الشك في اهداف ذلك الحوار، فالحوار الديني يعتبر في نظرالبعض محاولة للتبشير او، على الاقل، لصرف المسلمين عن دينهم، و الحوار السياسي يهدف الى التطبيع مع اسرائيل و تمكين النفوذ الغربي، و الحوار الثقافي يهدف الى استبدال الثقافة الغربية  بالثقافة الاسلامية،  و الحوار الاجتماعي يهدف الى خلخلة القيم الاجتماعية و تفكيك الاسرة و...الخ. و صحيح ان لهذه الشكوك او بعضها مبررات موضوعية و ادلة ظاهرة الا ان للهواجس و التصور السلبي للاخر دور في تضخيم تلك الشكوك و تعميمها لدرجة تكفي للدفع الى الوقوع في خطأ جعل تلك الشكوك مانعا من الحوار. و مع استبداد الحذر والهواجس و الظنون بهم يصبح العرب و المسلمون في وضع لا يشجع على الحوار مع الاخر  و يقوى عندهم الميل الى العزوف عن  الحوار مع الاخر – في ما يعتقدون- اتقاء لشره او لعدم ترجي فائدة من الحوار معه. و لعله لولا  ربط الاخر الغربي لحواراته ببعض الاغراءات/ الضغوط لتدنت اكثر رغبة العرب و المسلمين في الاستجابة لمبادراته الحوارية.
  المفاهيم والقيم اللاحوارية:
            لعل ما من ثقافة الا و لها حظوظ مختلفة من مفاهيم و قيم تشجع على الحوار و اخرى لا تشجع على الحوار. و تتباين الثقافات من حيث أيُّ تلك المفاهيم و القيم اكثر و اوسع حضورا و تأثيرا على سلوك السواد الاعظم من اصحابها، بل تتباين حظوظ الثقافة الواحدة من تلك المفاهيم والقيم من مرحلة الى اخرى. و يبدو ان الثقافة العربية الاسلامية تشهد في مرحلتها الحالية حضورا اقل للمفاهيم و القيم التي تشجع على الحوار، وربما غيابا لبعضها، بينما تطفوا على سطحها بعض المفاهيم و القيم و الميول التي لا تشجع على الحوار. و مما تتضمنه الثقافة العربية الاسلامية من المفاهيم و المقولات  التي لا تشجع على الحوار مع الاخر مقولات عدم فاعلية الحوار في رفع المظالم او استرداد الحقوق، عدم مشروعية/ جدوى حوار الاديان، انحصار الحق او الحقيقة، و...الخ.  و في نفس الوقت يقل حظ الثقافة العربية الاسلامية من بعض المضامين والقيم المطلوبة لتشجيع السلوك الحواري و انجاح عملية الحوار مثل ثقافة التسوية والحلول الوسطية( لنا الصدر دون العالمين او القبر) و ثقافة التسامح( رواج بعض الارث الفقهي المتشدد ليس فقط مع غير المسلم و انما حتى مع المسلم المخالف ايضا).
العوائق والتحديات النفسية والاجتماعية
للعوامل النفسية والاجتماعية، بالمعنى الواسع للاجتماعي و الذي يشمل السياسي و الاقتصادي، أثرها على السلوك البشري بما فيه سلوكه الحواري. و مصدر العوائق و التحديات النفسية للحوار هو المشاعر غير المشجعة على  الحوار، وعلى سبيل المثال فان الخوف النفسي( كخوف المولود من والده) قد يحد من الحوار، و الخجل - كما في الامور الجنسية مثلا- قد يحد من الحوار حتى بين الازواج، و الكبرياء التي توهم لكثيرين ان الحوار ضعف قد يحد من الحوار، و الطمع في الانفراد بشيء، كالسلطة، يحد من الدخول في حوار جاد مع من يرغب او يحق له المشاركة فيه. و لعل من اهم ما يحد من الاقبال   على الحوار لمعالجة الخلافات و النزاعات:
تكلفة الحل الحواري:
صحيح ان محاولة معالجة الخلافات و النزاعات عن طريق القوة المادية او الطرق غير الحوارية ايضا لها تكلفة غالبا ما تكون اعلى من تكلفة الحل عن طريق الحوار و الاساليب الودية.  بيد انه بينما محاولة المعالجة عن طريق الصدام والقوة المادية عادة ما تنطوي على اغراء احتمال تحقيق الغلبة على الاخر دون تقديم أي تنازلات تتعلق بموضوع الخلاف او النزاع فان المعهود هو ان الحل الحواري لا يتحقق الا بتسوية غالبا ما تستلزم تقديم تنازلات من الطرفين. و لان النفس الانسانية جبلت على الطمع و رفض التنازل عن حقوقها او ما تعتقد انها حقوقها الا اضطرارا فان هكذا تنازل من شأنه ان يحدث شعورا نفسيا بالخسارة و ربما ايضا بالهوان و المذلة يصعب على النفس تحمله. و تزداد هذه الصعوبة النفسية مع عوامل منها تشديد الثقافة المعنية على قيم من مثل الشرف و كرامة النفس و تقدير الذات وعزة النفس وعلوها. ومع ما هو معلوم من ان الثقافة العربية الاسلامية من الثقافات الاكثر تشديدا على قيم عزة النفس وعلوها  فان من الطبيعي ان يواجه العرب / المسلمون  صعوبة نفسية في تحمل تكلفة الحلول الحوارية التي تنطوي على تسوية تستلزم تنازلات و هو  الامر الذي يدفع البعض الى تجنب الحوارمع الاخر في الحقوق المتنازع عليها تجنبا للتنازلات المحتملة .  ولعل مما له صلة بصعوبة تحمل التنازلات التي تستلزمها الحلول الحوارية في التاريخ العربي الاسلامي ان الحالة الوحيدة التي يروى ان  الصحابة عليهم رضوان الله  ابدوا فيها ترددا جماعيا  في المبادرة الى قبول او تنفيذ اوامر الرسول (ص)  لم تكن متعلقة بالصراع مع الاخر و قتاله- رغم كره القتال الى النفس و تكلفته العالية-  و انما بحوار الاخر  و التصالح معه– في الحديبية-  على تسوية رأى بعض الصحابة عليهم رضوان  ان  فيها تنازلات مذلة
القيود على الحوار:
يصبح الحوار اقل جذبا حيث يتعرض لقيود تحد من ممارسة بعض اساليبه او تحد من سلطات مؤسساته او تحد من مجالاته. و لعل هذه القيود اظهر ما تكون في الحوار السياسي و لكنها لا تقتصر عليه بل تشمل مختلف انواع الحوار بما فيها الحوار الديني و الحوار الاجتماعي. و هذه القيود غالبا ما تُختلق من الفئة او الجهة الاكثر نفوذا او سلطة في المجال المعني مثل الحكومة و مراكز القوة في التنظيم السياسي في مجال الحوار السياسي، و الغلاة من الفقهاء و المتشددون  في مجال الحوار الديني، و اصحاب النفوذ الاجتماعي، كالوجهاء  او ارباب الاسر، في مجال الحوار الاجتماعي.
و من الواضح ان القيود على الحوار تعاني منها، وان بدرجات و صور مختلفة، مختلف المجتمعات البشرية، كما تعاني منها  الساحة / السياسة الدولية حيث نجد- مثلا- منظمات دولية تقوم على مبدأ اللا- مساواة بين اعضائها، كما في  تمتع بعض الدول، دون البعض الاخر، بالعضوية الدائمة و بسلطة النقض في مجلس الامن الدولي، و هو الامر الذي، مشفوعا بسوء ممارسة سلطة النقض، قلل من ثقة كثير من الدول في المجلس و في حواراته و، بالتالي، اعاق فعالية الحوار الدولي  من خلاله.  
            و معلوم ما يواجهه الحوار السياسي في المجتمع العربي الاسلامي من قيود عديدة منها القيود التي تفرضها بعض الحكومات لاجهاض او منع بعض اساليب الحوار السلمي و التعبير عن الرأي مثل العمل الحزبي و التظاهرات السلمية و العصيان المدني او للحد من  فاعلية مؤسسات الحوار العامة كالبرلمانات؛ و القيود الحزبية  مثل تعسف بعض القيادات الحزبية في مناهضة الاراء المعارضة داخل الحزب. و بالاضافة الى حالات القيود التشريعية او التنظيمية او المالية التي تحد من مشاركة بعض الفئات و خاصة الأقليات هناك القيود الاجتماعية، احيانا باسم الدين، التي تحد من  مشاركة  البعض و خاصة المرأة في الحوار السياسي.
و من القيود الشائعة على الحوار اشتراط البعض على الآخر شروطا مسبقة، اتيانا لسلوك ما او امتناعا عنه، لمجرد بدء الحوار معه. و مع ان اشتراط  شروط مسبقة لبدء الحوار يمكن ان يكون مكلفا  حتى في النزاعات الاجتماعية، سواء الفردية كما في بعض حالات نزاعات الازواج او الجماعية كما في بعض حالات النزاعات القبلية، الا ان أسوأ و أوسع ما تكون الآثار السلبية للاشتراطات المسبقة عندما تكون في النزاعات السياسية سواء داخل الدول او بينها.
و عندما تحيل القيود، ايا كانت، الحوار الى سلوك او إجراء غير ممكن اصلا  او ممكن و لكنه  غير مرغوب او محفوف بالمخاطر او محدود/عديم الجدوى، يكتسب عزوف العرب و المسلمين عن اسلوب الحوار في تفاعلاتهم المزيد من المبررات. و مع تواصل عزوفهم عن الحوار يخسر العرب و المسلمون الفرصة للتعرف على الحوار و التدرب عليه و اكتشاف فعاليته و تنمية القدرة على حسن ادارته  كاسلوب للتفاعل بينما يضطرون الى اللجوء الى اسلوب الصراع ، اقتتالا او تآمرا، للوصول الى اهدافهم. و لافتقارهم الخبرة في ادارة الحوار فانهم حتى اذا ما اتيحت لهم الفرصة للحوار مع الاخر  غالبا ما يكونون الطرف الاقل كسبا او الطرف الخاسر بسبب ضعف إدارتهم للحوار و هو ما يزيد سببا اخر قويا الى اسباب عزوفهم عن الحوار و نفورهم منه تخوفا من نتائجه.
إنماء نهج الحوار
لعل في ما سبق ما يكفي لاعطاء فكرة عامة عن عوائق و تحديات الحوار مع الاخر عند العرب و المسلمين. و كما تقدمت الاشارة لا تكفي الفكرة العامة بل و لا حتى التحديد الدقيق لعوائق و تحديات الحوار مع الاخر  عند الذات – هنا العرب و المسلمون- لتحديد كيفية تذليل و معالجة عوائق و تحديات الحوار مع الاخر ناهيك عن تحقيق الانماء الامثل لنهج الحوار، بل يتطلب الامر، في ما يتطلب، فهم طبيعة الحوار و مدخلاته و طبيعة و آليات عمل العوائق و التحديات التي تواجهه وتبين الفرص المتاحة للانماء. و قد يفيد بهذا الصدد  ان نشير الى ان:
الحوار مع الاخر فعل تبادلي: 
            ان الحوار مع الاخر فعل تبادلي يتعذر إكماله، وان كان من الممكن ابتدره و الدعوة اليه، من قبل طرف واحد. و لا تكتمل للحوار اسباب النجاح حتى يحظى بمشاركة الطرفين. و مما يعنيه ذلك:
1- لا يمكن للحديث عن عوائق و تحديات  الحواران يكتمل دون ان  يتسع لتناول عوائق و تحديات الحوار لدى كل من الطرفين أي الذات و الآخر. و ربما اوهم  تقدم الاخر و خاصة الغربي على العرب و المسلمين- اوهم البعض ان الاخر الغربي لا يواجه عوائق و تحديات ذاتية في الحوار مع الاخر، والواقع ان للاخر الغربي ايضا عوائقه البيئية و النفسية و الاجتماعية و الثقافية بل وحتى الاسطورية ( لاحظ  ما يقال عن ايمان بعض دوائر صنع القرار في الغرب باسطورة هرمجدون التي تكرس نهج الصراع و القتال في الشرق الاوسط) في الحوار مع الاخر.  و لعل اكثر عوائق و تحديات الحوار مع الاخر مشتركة بين مختلف المجتمعات البشرية على نحو او آخر،  و إن كانت بعض العوائق والتحديات تؤثر تأثيرا مباشرا على  طرف دون آخر فان تأثيرها - من خلال ذلك الطرف- على عملية او سير الحوار ينعكس سلبا على الطرف الآخر مما يعني ان الطرف الآخر تأثر بذات التحديات و المعوقات تأثرا غير مباشر.
2-  يمكن لكل من الذات و الاخر الاسهام بمفرده، او من طرف واحد، في معالجة بعض عوائق و تحديات الحوار مع الاخر و لكن  تبقى تلك المعالجة معالجة جزئية يتطلب اكمالها تعاون وتكامل جهود طرفي او اطراف الحوار أي الذات و الاخر.
اتساق/ منظومية السلوك الحواري:  
يتسم السلوك  الحواري بقدر عال من الاتساق و الترابط أطرافا و مجالا مما يجعله يشكل منظومة متكاملة. و من تمظهرات ذلك ان من يتوافر على التوجه او السلوك الحواري عادة ما يميل الى الحوار في كل أمر يستدعي الحوار دون تمييز سلبي بين  الأطراف او في مجالات الحوار و الذي لا يتوافر على التوجه او السلوك الحواري يميل عادة الى الصراع في كل امر متنازع او مختلف عليه. و من هنا فان من لا يسلك نهج الحوار مع الاخر القريب/ الداخلي فهو ابعد من ان يسلك نهج الحوار مع الاخر البعيد او الغير بل ان من لا يتقن حوار الذات او النفس و الحوار مع الله لا يحسن الحوار و لا يستحسنه مع الاخر البشري قريبا كان ام بعيدا.  و بالمثل، مجالا، متى ما ارتضى المرء الحوار نهجا فان ذلك ينعكس على سائر تفاعلاته سواء الاجتماعية او الثقافية او السياسية، و من لا يمارس الحوار في- مثلا- المجال الاجتماعي( كالحوار داخل الاسرة)  او المجال الثقافي او التعليمي ( كتبني المنهج التبادلي الحواري و ليس التلقيني في التدريس او في الخطاب الثقافي)لا يتوقع منه كثيرا ممارسة الحوار في المجال السياسي او الديني.
و مما يترتب على هذه السمة أي سمة اتساقية / منظومية السلوك الحواري :
1- التأثير الكلي لعوائق و تحديات الحوار يكون عموما تأثيرا شموليا أي يؤثر على السلوك الحواري ككل و مع سائر الاطراف و في سائر المجالات. و من هنا فان تاثير مختلف العوائق والتحديات يمتد، وان بدرجات مختلفة، الى الحوار بمختلف مجالاته بما في ذلك الحوار السياسي و الحوار الاجتماعي و الحوار الديني و الحوار بمختلف اطرافه  بما في ذلك الحوار مع الآخر الداخلي/ القريب،  و الحوار مع الآخر الخارجي/ البعيد.
2- يتعين ان تتسم معالجة عوائق و تحديات الحوار بالشمولية و بحيث لا تقتصر المعالجة على محاولة معالجة عوائق و تحديات – مثلا- الحوار السياسي دون معالجة عوائق و تحديات – مثلا- الحوار الاجتماعي و الحوار الديني و الحوار الثقافي و الحوار الاقتصادي و لاعلى معالجة عوائق و تحديات- مثلا- الحوار مع الاخر البشري دون – مثلا- الحوار مع الله و الحوار مع الذات.
ارتباط الحوار بالبيئة:
يرتبط الحوار ارتباطا و ثيقا و لكن ليس حتميا بالبيئة حوله. و لا يقتصر هذا الارتباط على البيئة الاجتماعية او المجتمع فقط كما يتبين مما سبق قوله عن تأثير الوضع العام  بل يمتد، وان بدرجة اضعف او اقل، الى البيئة الطبيعية حيث يتأثر السلوك الحواري بما يتأثر به السلوك البشري عموما من عوامل الطبيعة بما فيها- كما لاحظ قديما ابن خلدون و حاول تعليلها- الحرارة / البرودة.
هذا الارتباط البيئي للحوار يتطلب ان تأخذ جهود انماء النهج الحواري في الاعتبار انه لا يمكن استكمال اسباب انماء النهج الحواري بمعزل عن انماء المجتمع ككل و بمختلف جوانبه المادية و الروحية.
آلية التأثير:
المؤثرات على الحوار سواء سلبا ( العوائق و التحديات) او ايجابا( المقومات و المعززات)، ومهما تنوعت و تعددت، يكون تأثيرها من خلال التأثير على ارادة / رغبة و/ او قدرة الطرف او الاطراف المعنية بالحوار و هما، أي الارادة و القدرة، ما يمثلان الركنين المعنويين الاساسيين الذين لا يقوم حوار مع الاخر بدونهما( بينما يشكل طرفي الحوار الركنيين الماديين للحوار مع الاخر).
و مما يعنيه ذلك ان جهود انماء نهج الحوار ينبغي ان تتوجه اساسا الى انماء الرغبة في الحوار و بناء و انماء القدرة على الحوار من خلال معالجة و توظيف المؤثرات عليهما.  و الرغبة في الحوار تتأثر، سلبا و ايجابا، بعوامل عدة منها التكوين الثقافي، و التكوين النفسي، و مواقف و ممارسات الطرف الاخر، و العائد/ التكلفة المتصورة للحوار، والتصور للطرف الاخر و ... الخ. اما القدرة على الحوار، و خاصة اللفظي، فتقوم اساسا على القدرة على التخاطب و خاصة من خلال لغة رمزية و العلم بموضوع الحوار.  و تقوى القدرة على الحوار بناء على عوامل عدة منها العلم باسس و تقنيات الحوار و ادارته و التدرب عليه والعلم بالطرف المحاور و الاستيعاب الكافي لموضوع الحوار و ما يخضع له من مؤثرات  و ..الخ  
الطبيعة الاستراتيجية:
ان استلزام انماء نهج الحوار- كما سبق التوضيح-  لإنماء رغبة الانسان في الحوار و انماء قدرة الانسان على الحوار يعني ان انماء نهج الحوار هو اساسا  انماء للانسان و تزكية له. وانماء الانسان و تزكيته ليس بالامر الممكن انجازه بين عشية و ضحاها  بمجرد التمني او باصدار قرار او بجهد اتفاقي او عشوائي من قبل طرف او اخر بل يتطلب الامر اهتماما و اسعا و جهدا علميا جماعيا و منظما ومؤسسيا يجمع و ينسق بين الجهد الرسمي والشعبي والجهد الفردي و الجماعي، و يشمل جميع مستويات الحوار بما فيها المستوى الاسري و المستوى المحلي و المستوى القطري و المستوى الاقليمي ومستوى المجموعة الحضارية/ الثقافية والمستوى الدولي، ويستهدي - في مختلف مستوياته المذكورة آنفا- باستراتيجيات شاملة تتناغم مع بعضها البعض و تندرج الاقل وسعا ضمن الاكبر وسعا و على ان يكون لكل مستوى من مستويات الجهد الرسمي و الجهد الشعبي الجماعي المنظم استراتيجيتان اولاهما بعيدة المدى و الثانية قصيرة المدى. و من اهم ما يمكن ان تركز عليها الاستراتيجيتان:
الاستراتيجية بعيدة المدى:
-     تعبئة مؤسسات و اجهزة التنشئة نحو تنشئة وتربية الصغار و الكبار على السلوك الحواري من خلال الالتزام بنهج الحوار في نشاطاتها و تفاعلاتها بالاضافة الى بلورة و تطبيق برامج خاصة للتنشئة الحوارية لمنتسبيها او اعضائها تؤمًن بيان اهمية الحوار و فعاليته و التدرب عليه و علي حسن ادارته. و من اهم تلك المؤسسات  للصغار مؤسسات التعليم الرسمي و غير الرسمي و الاسرة و الاندية الرياضية و الثقافية، وللكبار الاحزاب و التنظيمات السياسية و منظمات المجتمع المدني و المؤسسات الرسمية.
-     معالجة الجذور الثقافية و الدينية لعوائق و تحديات الحوار مع الاخر من خلال معالجة المضامين الثقافية- كالامثال والقيم و الاساطير و الحكايات الشعبية و تعميمات الدراسات الثقافية والحضارية و الانثروبولوجية- السلبية من منظور الحوار في كل ثقافة و معالجة الاحكام الفقهية و النصوص الدينية التي تكرس النظرة السلبية للاخر و التعامل السلبي معه في مختلف الاديان و العقائد
-      تعزيز الثقافة الحوارية من خلال نشر وتعميق المفاهيم المساندة لنهج الحوار كحقيقة ان الاختلاف سنة اجتماعية كونية لا تستلزم الصراع و لا تمنع التعاون و ان الحوار سنة الهية و فطرة بشرية، و تعزيز المبادئ و القيم المشجعة على الحوار مثل المساواة و الاحترام المتبادل و حرية الاختلاف، و بناء و تقوية مقومات الحوار مثل الثقة المتبادلة و المصداقية و ثقافة السلم و التعارف و آليات او وسائل الحل الحواري كالتسوية و المشاركة و الصلح و العفو.
-     تعزيز الترابط و المصالح المشتركة على مختلف المستويات المذكورة سواء اجتماعيا من خلال- مثلا- تشجيع التزاوج بين مختلف الاعراق و الثقافات والاديان و تشجيع تشكيل منظمات مدنية متعددة الاعراق و الثقافات، او اقتصاديا من خلال- مثلا- تشجيع الاستثمارات الخارجية و المشتركة و تبادل الموارد البشرية، أو ثقافيا من خلال تعميق الوعي بالمصالح المشتركة و المصير المشترك و...الخ
-     تفعيل دور الشعوب، و منظماتها و مؤسساتها الدستورية و المدنية، في تأمين حرية الحوار و منع الاعتداء عليها و في تقرير الشئون العامة و خاصة المتعلقة بالحروب و استخدام القوة العسكرية في حل النزاعات الداخلية و الدولية 
الاستراتيجية قصيرة المدى:
-     تشجيع الحل السلمي  للخلافات والنزاعات، و تعميم و تفعيل المواثيق و الاتفاقيات الثنائية و الاقليمية و الدولية التي تلزم اطرافها بالتزام الوسائل السلمية ونبذ اللجوء للعنف و القوة المادية
-     إزالة ما يواجهه تعميم وتفعيل نهج الحوار من قيود وخاصة القيود القانونية المعيقة كالقيود المعيقة لحرية التعبير بمختلف اشكاله وحرية التنظيم السياسي والمدني والقيود التي تحد من شرعية او مقبولية و فاعلية مؤسسات الحوار العام سواء القطرية كالمجالس التشريعية و الشورية او الاقليمية والدولية كالجمعية العامة و مجلس الامن الدوليين، و القيود الاجرائية كالشروط المسبقة للحوار، والقيود القانونية و السياسية التي تحد من مشاركة بعض الفئات كالمرأة او بعض الاقليات في الحوار و مؤسساته
-     ضبط وترشيد و منع سوء استخدام سلطات استخدام القوة المادية او العسكرية كسلطة اعلان الحرب وسلطة التدخل العسكري و سلطات استخدام القوة العسكرية عموما و سلطة العقاب و التأديب و ... الخ و الحد من التسلح العسكري و منع انتشار الاسلحة لدى المواطنين و الحوار مع الجماعات المتشددة لتصحيح مفاهيمها الخاطئة و منع هذه الجماعات من استخدام القوة المادية او التهديد بها ضد الاخر و ضد اصحاب الآراء المخالفة.
المصدر:
http://www.atida.org/makal.php?id=122
 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك