العمل التربوي آلام ... وآمال ... تطلعات مستقبلية

العمل التربوي
آلام ... وآمال ... تطلعات مستقبلية
جمع وإعداد
جماز بن عبد الرحمن بن عبد الله الجماز
المقدمة
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله,  وبارك عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،
فإن التربية اليوم, هي المنطلق الصحيح لبناء الإنسان, خاصة في هذا الزمن الذي طغت فيه فتن الأهواء والشهوات، فلا سبيل لإنقاذ الأمة إلا بالتربية, ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, والمتأمل في سيرة المربي الأول محمد  , يجد اهتمامه البالغ بأمر التربية منذ البداية, بل كانت هي الوسيلة الأولى والأساس, في البناء الصلب في تلك الفترة, فأثمرت جيلاً فريداً جاهد في الله حق جهاده, وامتاز عن العالمين.
إن العمل التربوي, الدعامة الرئيس لنهضة الأمة وعزتها، ومن أسباب حدوث الكبوات والأزمات لهذه الأمة, ضعف التربية في واقعنا, وجمود آليات العمل التربوي المعمول بها في كثير من المؤسسات التربوية, وعدم الاهتمام بالتجديد في المحاضن التربوية.
لذا, أحببت أن أشارك في هذا الأمر الهام, جاهداً توصيف هذه المشكلة, وبيان الحلول المناسبة الممكنة.
ولا يفوتني أن أشكر كل من أسدى إليَّ ملاحظة أو توجيه بعد قراءته لهذه الرسالة .
عسى الله أن يوفقني فيما أردت, وأن يكتب النفع فيما زبرت, والله أسأل, أن يجعل أعمالنا كلها صالحة, ولوجهه خالصة, ولا يجعل لأحد فيها شيئاً, والله المستعان, وعليه التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, والله ولي التوفيق, والهادي إلى الصراط المستقيم.
الرمز البريدي 11961/ ص.ب 524
البريد الإلكتروني jamaz55@gmail.com

تعريف العمل التربوي
معنى العمل:
العَمَل محرّكة, المهنة والفعل, والجمع أعمال, عمِل عَمَلاً
وقيل: العمل لغيره, والأعتمال لنفسه ( )
والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيئة, قال تعالى [ ومن يعمل من الصالحات..] سورة النساء آية 124.
وقال تعالى[من يعمل سوءاً يجز به..] سورة النساء أية 123 ( ) والعمل يختلف عن الفعل إذ العمل هو إيجاد الأثر في الشيء.
يقال: فلان يعمل الطين خزفاً. ( )
معنى التربية:
الرب يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم
يقال: رب فلان ولده, يربه ربا, وربّبه ورباه, كله بمعنى واحد ( )
وربَّ الولد ربَّا: أي وليه وتعهده بما يغذيه وينميه ويؤدبه ( )
والرب يأتي على أنواع, منها: الرب المصلح, رب الشيء إذا أصلحه ( )
يعني: تولى أمره, وساسه وقام عليه ورعاه.
قال الأصفهاني ((الرب في الأصل التربية, وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام))( )
وقال البيضاوي ((الرب في الأصل بمعنى التربية, وهي تبليغ الشيء إلى كماله, شيئاً فشيئاً, ثم وصف به تعالى للمبالغة)) ( )
والتربية تتكون من عناصر أربعة ( ):
1. المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
2. تنمية مواهبه واستعداداته كلها, وهي كثيرة متنوعة.
3. توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب كلها, نحو صلاحها وكمالها اللائق بها.
4. التدرج في هذه العملية التربوية.
ونستخلص من هذا نتائج أساسية في فهم التربية ( )
1. أن التربية عملية هادفة, لها أغراضها وأهدافها وغايتها.
2. أن المربي الحق على الإطلاق, هو الله الخالق: خالق الفطرة، وواهب المواهب, وهو الذي سنَّ سنناً لنموها وتدرجها وتفاعلها .. كما أنه شرع شرعاً لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها.

3. أن التربية تقتضي خططاً متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد, ينتقل مع الناشئ من طور إلى طور, ومن مرحلة إلى مرحلة.
4. أن عمل المربي تالٍ وتابع لخلق الله وإيجاده, كما أنه تابع لشرع الله ودينه.
وهذا التحليل لمعنى التربية ونتائجها, يؤدي بنا إلى معنى الشرع والدين, لأن التربية تستمد جذورها منه.
والتربية: نظام اجتماعي يحدد الأثر الفعال للأسرة والمدرسة في تنمية النشء من النواحي الجسمية والعقلية والأخلاقية حتى يمكنه أن يحيا حياة سوية في البيئة التي يعيش فيها والتربية أوسع مدى من التعليم الذي يمثل المراحل المختلفة التي يمر بها المتعلم ليرقى بمستواه في المعرفة في دور العلم ( )
مفهوم العمل التربوي
هو البرامج التربوية المأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية وآثار السلف, في المحاضن التربوية, مثل البيت والمدرسة, والبيئة والمجمتع كالمساجد والمكتبات والمحاضرات والأندية والجمعيات ووسائل الإعلام باختلافها وتنوع أساليبها, لترسيخ العقيدة الصحيحة وإعداد الإنسان المسلم الحق علماً وعملاً, وتفتيح استعداداته وتوجيه قدراته, وتنظيم طاقاته, ليتمكن من ممارسة النشاطات وتحقيق الغايات التي يحددها الإسلام ( )

واقع العمل التربوي
تمهيد:
إن الناظر في واقع العمل التربوي, وخاصة ما يتعلق بالمحاضن, يجد خللاً وتراجعاً ظاهراً على مستوى الأفراد والجماعات, على نحوٍ مما نرى أو نسمع,وهكذا انتقاص العمل التربوي وإثارة عدم أهميته عبر الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، مما أدى إلى ضعف عمل المؤسسات التربوية, وقلة إنتاجها والتربية التي لا تتحسن مثل الطفل الذي لا ينمو, كلاهما يعاني من مشكلة ( ) فلا بد من الوقوف على هذه المشكلة. وسوف نعرض لهذا الواقع, ببيان مظاهره وأسبابه وسبل العلاج.
ويجدر التنبيه إلى أن المظاهر والأسباب بينهما تداخل كبير, فمن المظاهر ما قد يكون سبباً, ومن الأسباب ما قد يكون مظهراً, فليعلم ذلك.

مظاهر ضعف العمل التربوي
1. ندرة المحاضن التربوية في بعض الأقطار والأمصار .
2. عدم الاهتمام بالمحاضن التربوية من حيث إنشائها وتحديثها وتزويدها بما تحتاجه.
3. عدم اهتمام بعض العلماء وطلاب العلم والدعاة بالعمل التربوي وإدارك حاجة الناس إليه.
4. اقتضاب الكتابات والرسائل حول أهمية العمل التربوي وضرورته.
5. قلة العاملين في المحاضن التربوية من الكفاءات المتخصصة وغيرها وتمركزهم في أماكن معينة, قد تكون أحياناً غير مؤثرة .
6. قلة البرامج التربوية المقدمة في المؤسسات الدعوية والخيرية, وضعف بعض المقدم منها.
7. الرتابة وعدم التجديد في وسائل العمل التربوي وأساليبه.
8. بروز الطرح التربوي النظري الأكاديمي, وقلة الطرح العملي المناسب.
9. وجود بعض المؤسسات التربوية القوية السلبية, ولها تأثيرها وحضورها غير المرضي شرعاً.
10. التباطؤ في تحرير بعض المسائل الشرعية التربوية, وخاصة ماله علاقة بواقع العمل, مثل مسائل الثوابت والمتغيرات من حيث النواحي التطبيقية المعاصرة.
11. عدم ضبط بعض المربين لبعض المسائل الشرعية وخاصة ما يتعلق بالعلم ومكانة العلماء، والدعوة وأحوالها ووسائلها, والتربية ومراحلها وضوابطها.
12.ضعف التدين لدى بعض المربين و العاملين في بعض المؤسسات التربوية, مما يعكس صورة غير لائقة.
13.فشو الاختلاف والتفرق بين بعض الأفراد والمؤسسات في الحقل التربوي, وتجاوز بعض ذلك إلى الهمز والسباب والبهتان.

أسباب ضعف العمل التربوي
تمهيد:
إن أسباب ضعف العمل التربوي كثيرة ومتنوعة, ويصعب حصرها, ومجملها مشترك بين المؤسسة والمربي والمتربي, ولكلٍ نصيب,
وقد قسمتها على النحو التالي:
1. أسباب خاصة بالمؤسسة التربوية.
2. أسباب مشتركة بين المربي والمتربي.
3. أسباب خاصة بالمربي.
4. أسباب خاصة بالمتربي.
أولاً: أسباب خاصة با لمؤسسة التربوية(1)
1. عدم وجود أصول ثابتة رافدة مالية للمؤسسة التربوية, وعدم الاهتمام بتنمية الموارد المالية, وابتكار الأساليب والوسائل الرافدة الممولة كالأوقاف والوصايا ونحوها, مما يؤدي غالباً إلى إفلاس وانهيار المؤسسة.
2. عدم أهلية العاملين في المؤسسة, والوقوع في بعض الأخطاء مثل:
‌أ- عدم البحث عن كوادر وطاقات متميزة فاعلة.
‌ب- عدم وضع الفرد المناسب في المكان المناسب.
‌ج- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل وإهمال الطاقات،عدم الالتزام بالضوابط الشرعية أثناء تنفيذ البرامج.
3. ضعف الإمكانات والطاقات لدى المؤسسة،ويتجلى ذلك في:
‌أ- ضعف التخطيط والمتابعة والتقويم لبرامج ومناهج المؤسسة التربوية.
‌ب- غياب الأهداف الرئيسة عن العاملين لعمل المؤسسة.
‌ج- توقف بعض المحاضن التربوية وانقطاعها عن العمل, وعدم استمرارها, مما يجعلنا نمارس الإهدار التربوي.
‌د- إخراج الأعمال التربوية خالية من الإتقان والتطوير،وهذا يضعف حضورها وتأثيرها ومنافستها لغيرها.
‌ه- عدم الارتقاء بمستوى العاملين في المؤسسة التربوية من حيث إقامة الدورات والأنشطة والزيارات والرحلات اللازمة لهم.
‌و- إشباع بعض الجوانب لدى المتربي وإهمال جوانب أخرى.
‌ز- عدم القدرة على احتواء المتربي وتوجيهه.
‌ح- عدم متابعة الأفراد, وإيجاد الحلول لمشاكلهم.
4. ندرة الكتابات والرسائل والاستبانات والدراسات حول مشاكل وعوائق العمل التربوي.
5. الصراعات الداخلية بين بعض العاملين في المؤسسة التربوية, فهي تسمم الأجواء وتكهربها, وتفسد علائقهم الأخوية, وتورث الجدل والمراء والنقد الهادم للبناء, فيتفرق المربون ويتضرر المتربون.
6. اعتماد بعض المؤسسات التربوية في بعض الأقطار مجانية الانضمام في المحضن التربوي, حيث يتساهل المتربي في الحضور والمواظبة والاستفادة, بخلاف إذا دفع أجراً فإنه يهتم بذلك كله، والحاجة تُقدر بقدرها.
7. قيام بعض المؤسسات التربوية, وتشغيل بعض العاملين لديها بدون أجر, وعليه فلا تستطيع محاسبته ولا متابعته ولا لومه على تقصير, ولسان مقاله ما على المحسنين من سبيل.
8. انخفاض المكافآت والمرتبات للعاملين في المؤسسة التربوية ،وعدم كفايتها لهم, مما يجعلهم لا يهتمون بالعمل, أو يعملون في مجالات أخرى تزاحم عملهم, وأحياناً لا تتناسب مع شهاداتهم وخدماتهم ومستوياتهم.

ثانيا: أسباب مشتركة بين المربي والمتربي
1. الانشغال في دروب الدنيا ومتاهاتها, والاهتمام بالأمور غير المهمة، والتغيير لما كان عليه, كتبديل السلوك وتغيير النوايا .
2. إهمال تزكية النفس,وترك الأجواء الإيمانية، والانقطاع عن مجالس الذكر والصالحين النافعة،واستبدالها بصحبة ذوي الإرادات الضعيفةوالهمم الدنيّة.
3. ترك بعض الفرائض والواجبات, والوقوع في المعاصي والسيئات, وخاصة الصغائر،وهذه تثخن القلب بالجراح.
4. ضعف التأسيس العلمي والتربوي, وحصيلته تكاد تكون ضعيفة, مما أظهرت خللاً كثيراً ونقصاً كبيراً أثناء ممارسته لعمله.
5. طغيان العلم أو الدعوة على التربية، أو العكس، ومنه فقد التوازن، فإما تطرّف وغلو مثل: تحميل النفس ما لا تطيق، أو تساهل وترخص في بعض القضايا الشرعية المنصوص عليها .
6. الوقوع في فتنة الزوجة والولد والمال, وعدم التفطن لخطورة مثل هذه المحبوبات،حيث تصرفه عن عمله وتربيته .
7. ضغط البيئة ومن ذلك:
‌أ- المجتمع, فلا يسمع إلا كلمات تُردِي عزمه, وتوجيهات تُثنِي همه, فضلاً عن الأذيّة من أبويه أو زوجه أو ولده.
‌ب- ضغط الحركات والتيارات والتوجهات في الساحة الدعوية والتربوية, فتراه يعمل بجد ونشاط, وفجأة إذا هو يشكك في منهجه, وينتقد عمله, وتبّدع دعوته وتربيته, والنتيجة المؤلمة, ترك العمل والانكفاء.
8. انتشار بعض الأمراض القلبية مثل:
‌أ- الإعجاب بالنفس والغرور وحب الظهور،فتراه مطالباً غيره بالتوقير والاحترام والطاعة, مستعصياً على النصيحة،ويعظم ذلك الداء حين يكون مفتياً أو قاضياً أو علماً بارزاً, فيرى نفسه في مكان, أفضل من غيره, ويتصدر في كل شيء وما درى أن ذلك قاتله.
‌ب- الغيرة من الآخرين، فيرى أقرانه متفاوتون في القدرات والمؤهلات الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية والعلمية والتربوية والدعوية, بعضهم مبدع, وآخر مرموق, وآخر ذكي, وآخر علم، وهكذا, وهو لا إلى هؤلاء, ولا إلى هؤلاء، فيعمد إلى أن يتسلق ويدخل البيوت من غير أبوابها, والنتيجة إما أن ينتقم بالقول أو الفعل, وإما أن يقدح في غيره.
9. التنصل من المسؤولية ، وإلقاء اللائمة والتبعية على غيره، خلف ستارٍ كثيف من المبررات .
ثالثا: أسباب خاصة بالمربي(1)
1. توقف المربي عن الأخذ والتلقي, وبفعله هذا يبتعد عن الارتقاء والتطور الذاتي,والنتيجة فقدان الجِدَّة والإبداع .
2. عدم حضور المربي أو تأخره أو كثرة غيابه مما يترك أثراً سلبياً على جودة المتربي, وإحساساً لديه بعدم أهميته, وغالباً يؤدي ذلك بالمتربي إلى الغياب والانقطاع أو ترك الاستمرار في المحضن التربوي .
3. توسيع نطاق إشراف المربي المتميز على أكثر من محضن تربوي, ومن ثم زيادة نطاق المسؤولية عليه, مماينتج عنه الملل والسآمة،وعدم إتقانه لمهامه المناطة به،وعدم قدرته على إستيعابها،وقلة تقديم العطاء، ويصير الهدف هوالإنجاز فقط.
4. إهمال صناعة الطموحات والآمال المباحة أو المشروعة لدى المتربي, وعدم الاهتمام بترشيدها وتوجيهها إذا وجدت, وجعلها أكثر عقلانية وواقعية تتناسب مع إمكاناته ومواهبه.

رابعاً: أسباب خاصة بالمتربي(1)
1. التلقي السلبي والاستماع الخالي عن التفكير والتقويم والحوار.
2. تقليد المتربي لمن يكبره من المربين في جوانب فيها التساهل, ويرى أن ذلك مبرراً لتساهله.
3. ظهور التنشئة الراجعة لدى المتربي, وذلك بتطبيقه مامورس معه حيال تنشئته على ضعفه وعلاته, مما ولد لدينا مخرجات أقل فعالية, وأضعف كفاءةً وأداءً.

العلاج والدور المطلوب
تمهيد:
إن معرفة أسباب ضعف العمل التربوي, بشتى أشكاله وصوره, والعمل الجاد على تجنبها, والحرص على تخطّيها, من أهم العلاج.
ومن العوامل المعينة على نجاح العمل التربوي, الصبر على مرارة العلاج, مع المواصلة دون الانقطاع.
وقد جعلنا العلاج على النحو التالي:
• المبحث الأول:القناعة بأهمية العمل التربوي وضرورته.
• المبحث الثاني:وجوب الالتزام بالضوابط الشرعية في المناشط التربوية.
• المبحث الثالث:الدور المطلوب من المؤسسات التربوية.
• المبحث الرابع:الدور المطلوب من العلماء.
• المبحث الخامس:وصايا للمربين.

المبحث الأول:
القناعة بأهمية العمل التربوي وضرورته
لاشك أن تربية النشأ, هي أساس التغيير , بل هي الحل الوحيد للإنسان المسلم من أجل سعاته دنيا وأخرى, وما تحققه هذه التربية لا يحققه التعليم, إذ التربية تعتمد في تحقيق أهدافها على القدوة والسلوك والمثل الحي, أما التعليم فهو تلقين وتبليغ معلومات (1).
وحقيقة دور المعلمين من الأنبياء وأتباعهم هي دراسة العلم الإلهي وتعليمه, قال تعالى [ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله, ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون](2) فهذه تربية القرآن, وقد أشار الله تعالى إلى أن من أهم وظائف الرسول  تعليم الناس الكتاب والحكمة وتزكية الناس أي تنمية نفوسهم وتطهيرها, بقوله تعالى[ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم](3) .
وقد بلغ من شرف مهنة التربية أن جعلها الله تعالى من جملة المهمات التي كلف بها رسوله  , قال تعالى [ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين](4)وقد أشارت الآية إلى أن المربي له وظائف, أهمها :
1. التزكية, أي التنمية والتطهير والسمو بالنفس إلى بارئها وإبعادها عن الشر, والمحافظة على فطرتها.
2. التعليم أي نقل المعلومات والعقائد إلى عقول المؤمنين وقلوبهم ليطبقوها في سلوكهم وحياتهم. (5)
فالتربية ضرورة مُلحّّة لا تستغني عنها المجتمعات, وبها تستقيم أمور الناس وأحوالهم, وتصلح أخلاقهم بل هي الوسيلة, لنقل الأحكام الشرعية من الحيّز النظري إلى العمل والتطبيق.
والتربية واجب الأب والشيخ والمعلم والأستاذ, وواجب كل من ولاّه الله مسؤولية أحد من الناس وواجب على مستوى الأمّة جمعاء ( ) وقد بلغ اهتمام معظم دول العالم في السنوات الأخيرة بالتربية مبلغاً مما جعلها تسمي مؤسساتها ووزاراتها المهتمة بشؤون التعليم، بالتربية بدلاً من التعليم, وبعضهم قَرَنَ التربية بالتعليم, حرصاً منهم على أهمية التربية, وعلى أن التعليم جزء من التربية, والتربية أعمّ وأشمل( ).
والملاحظ لبعض مناهج التعليم يجد أنها لا تهتم بالتربية, والأجيال تتخرج وتنقصها التربية، وهذه حقيقة أدركها سلفنا الصالح إذ كانوا يسمّون معلم الأولاد :المؤدِّب والمربي، ويحرصون على أن يتحلى أولادهم برونق العلم من حسن السمت والهدي الصالح من دوام السكينة, والوقار والخشوع والتواضع ولزوم المحجة بعمارة الظاهر والباطن والتخلي عن نواقضها ( )،قال ابن شهاب " إن هذا العلم أدب الله الذي أدَّب به نبيه  , وأدب النبي  أمته, أمانة الله إلى رسوله, ليؤديه على ما أُدِّي إليه, فمن سمع علماً فليجعله أمامه، حجة فيما بينه وبين الله عز وجل" ( ) ،وقال ابن سيرين " كانوا يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلمون العلم, قال: وبعث ابن سيرين رجلاً, فنظر كيف هدي القاسم وحاله؟ ( )،وقال حبيب بن الشهيد لابنه ((يابني, ايت الفقهاء والعلماء, وتعلم منهم, وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم, فإن ذاك أحب إليّ لك من كثير من الحديث)) ( ) ،وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك (( نحن إلى كثير من الأدب،أحوج منا إلى كثير من الحديث)) ( ) ،وقال بعضهم لابنه (( يابني، لأن تعلم باباً من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم)) ( ) ،وقال إبراهيم ((كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله)) ( ) ،هذه الآثار ونحوها, تدل دلالة صريحة على ضرورة تربية النشأ على الأخلاق الحسنة, وأنها ملازمة لتعلم العلم, لا تنفك عنه, فإذا أخفق البيت في تربيته، أو أهمل الشيخ ذلك, أولم تهتم به المدارس النظامية, فلا مناص من القيام بهذا الواجب عبر الوسائل الممكنة، وفق برامج تربوية هادفة نافعة, عبر المحاضن التربوية, قال الحسن (( إن كان الرجل ليخرج في أدب يكسبه السنين ثم السنين))( ) ،وقال ابن المبارك(( تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً وتعلمنا العلم عشرين)) ( ) ،وقال ابن المبارك ((طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون)) ( ) ،وقال ابن المبارك (( كاد الأدب يكون ثلثي الدين)) ( ) .
ومتى تُرِك الأدب وأهمل تربية الناس على الأخلاق الحميدة, وأخذهم بما ينفعهم, صار تعلمهم كما يقول أبو زكريا العنبري ((علم بلا أدب, كنار بلا حطب, وأدب بلا علم, كروح بلا جسم.. ( )
فلا بد من العمل التربوي المنظم المخطط له, حتى يؤتي العلم ثمرته, وتؤتي التربية ثمارها, ونصنع جيلاً متعلماً متربياً, ومن الأهمية بمكان, أن يكون القائمون على برامج العمل التربوي وآلياته وأساليبه ومتابعته, العلماء والدعاة وطلاب العلم, كل بحسبه, ولا يخلو محضن من هؤلاء أو بعضهم, ويكونوا قدوات مربون, صالحون مصلحون, أقوالهم وأفعالهم تحدث في نفس السامع والناظر والمتردد والزائر آثاراً قد لا يحدثها قراءة ألف كتاب ( ) وقد جاء (( أنه كان يجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون, والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت)) ( )
((وقال أبوبكر بن المطوعي: اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة, وهو يقرأ "المسند"على أولاده, فما كتبت عنه حديثاً واحداً إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه)) ( )
ومتى اقتصرت الدعوة على العلم وترك التربية أو إهمالها، فهذا يؤدي إلى آثار سلبية تشبه في مجملها الآثار الناجمة عن فصل القول عن العمل، ومن جملتها:
1- قصور الرؤية لدى المتربي, وضعف الإبداع والتعامل الحسن مع مختلف المواقف لضعف مساندة بقية الجوانب المختلفة الأخرى في الشخصية للجانب الذهني, وفي حديث النعمان بن بشير-رضي الله عنهما- قال،سمعت رسول الله  يقول (( ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب)) خرّجه البخاري ( ) ومسلم ( )
وغيرهما.
2- بقاء بعض العلل والأمراض في شخصية المتربي, نتيجة الخلل في التوازن بين مخاطبة كافة جوانبها, والله عز وجل يقول [ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم](3)،والمرض إذا طال بقاؤه استفحل وصعب علاجه.
3- القابلية لاكتساب المزيد من الأمراض في الجوانب القلبية والسلوكية, نتيجة ضعف التحصين بالتربية والتهذيب العمليين، وفي الصورة المقابلة:
فإن الاهتمام بالكيف, أو بالجانب التربوي فقط, وإهمال الكم, أو المادة العلمية, أو غض الطرف عن تثبيتها في أذهان الطلاب, له مثالب عديدة, منها:-
1. تخريج نماذج حسنة السلوك, ضعيفة الثقة في النفس, لا يقوم سلوكها على أساس راسخ من العلم, وقد قيل "فاقد الشيء لا يعطيه".
2. سريان هذا الضعف إلى الأجيال القادمة, مما يؤثر سلباً على المجتمع بأكمله، وقد يؤدي إلى ضياع العلم بفقد أوعيته من الحفاظ والعلماء والمحققين ((4)) .
فظهر بذلك أن العمل التربوي ضرورة, والحاجة إليه ماسة،ومتى اقتنع القائمون على مسيرة العمل التربوي بهذا ،فهذا جزء من العلاج،حيث تُشمّر السواعد، وتُسخّر الإمكانات،وتُوجّه الطاقات،لتفعيل المحاضن التربوية،وإبراز دورها في الساحة الإسلامية،وسدّ ثُلمة طالما تناشد التربويون إلى رتقها.

المبحث الثاني:
وجوب الالتزام بالضوابط الشرعية في المناشط التربوية
تمهيد
إن المتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل التربوي مخالفة للشريعة, ومن أهم أسباب ذلك:
1. ضعف العلم الشرعي, وقلة العناية به, وتجاوز بعضهم ذلك, إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه.
2. الغلو والمبالغة في تعظيم دور المربي وبيان واجباته, مما يضطر المربي إلى تجاوز الحدود الشرعية لتأدية الدور الذي يعتقد وجوبه عليه.
3. ضعف الورع ورقة الدين, مما جعل بعض العاملين في الحقل التربوي يتجرأ على بعض المحرمات,أو يتهاون في تأدية بعض الواجبات.
4. الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص لله تعالى.
وإذا تاملنا واقع العمل التربوي وجدنا أن المخالفات كثيرة،إلا أن هناك صوراً رئيسة تجمعها،ومنها:
أولاً/ الاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة, دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة, ومن ذلك (( درء المفاسد أولى من جلب المصالح)) والمعنى الإجمالي للقاعدة: ( أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد في فعل شيء أو الكف عنه, فإنه يقدم دفع المفاسد على جلب المصالح, وبعض المربين يمارس التجسس, والاستماع لحديث الآخرين دون علمهم, والاطلاع على ما يخصهم دون إذنهم باسم المصلحة، والمبدأ الشرعي,الأخذ بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك, فالمربي عليه أن يحرص على إصلاح القلوب ومخاطبة الباطن ويدعو لتنقية السرائر, لكنه بعد ذلك يتعامل مع الظاهر لا مع السرائر, وبعض المربين يدفعه حماسه إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء الظاهر، حرصاً منه على إصلاح المربي، وهذا داخل في التجسس وتتبع العورات وتلمّس العثرات.
ثانياً/ التهاون في اتباع الأحكام الشرعية حلاً وحرمة, ومن ذلك ما يحدث في بعض مسائل الاجتهاد وضمن وسائل الدعوة والتربية, فإذا كان الخلاف يسع, فيرى بعض المربين أن الأمر على مصراعيه دون ضوابط, فيسلك ما يتناسب معه.
وهكذا مسائل الخلاف, ترى بعض المربين يترخص في الأخذ بالأيسر على الإطلاق.
ثالثاً/ إهمال الورع:
فبعض المربين يتوسع في بعض القضايا, فقد يتحدث عن طالب بما يكرهه ولا حاجة لذلك, وقد يخوض في أعراض بعض الناس, ولا مصلحة من ذلك, فضلاً عن نشرها وتعميمها, ولا ضرورة تدعو لذلك.
إن العمل التربوي الضخم الذي يمارس في المحاضن التربوية يجب أن يكون موافقاً للشرع، ولا يجوز التهاون في هذا أو التغاضي, لأسباب عدة منها:
1. أن التربية عبادة لله عز وجل, وما كان عبادة فلا بد أن يُحاط بسياج الشريعة.
2. أن التربية تعتمد على القدوة والعمل, والمربي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله, وإذا خالف قوله فعله, واستهان بحدود الله رَبّى من وراءه على الاستهانة بالضوابط الشرعية, وغرس فيه الجرأة على ارتكاب المحرمات وتجاوز الحدود, وجعل الفرصة مواتية للطعن فيه وفي تربيته وفي بيئته التي يعمل فيها.
3. أن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده, بل, إلى توفيق الله وعونه وتأييده, ومن أعظم ما يستجلب به توفيقه وتسديده عز وجل, رعاية المربي لحرمات الله في قوله وعمله, فالذين لا يراعون الحرمات، حريّون بالبعد عن توفيقه وتأييده سبحانه وتعالى ( ) .قال تعالى[...ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه... ](2) ومتى كان العمل التربوي مُعظّماً بألا يكون مخالفاً للشرع،وذلك بترك المحرمات واجتناب المحظورات،فذلك التعظيم خير من خيراته يُنتفع به،
وهي عِدة بخير(1)،فالعمل الشرعي النقي موعود بالخيرية،ومنها جودته ونجاحه،ومن هنا يظهر جلياً أن الالتزام بالضوابط الشرعية في ميدان العمل التربوي هو السبيل إلى نجاحه وتقويم اعوجاجه، بل هو لبِنة كبرى في علاج ضعفه،فلا سبيل إلى خرمه بالمخالفات والمحرمات.
ولهذا ولغيره سوف نعرض لبعض الضوابط الشرعية في العمل التربوي،وهي كثيرة ومن أهمها:
أولاً:وجوب اتباع الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع
إذ هي مبنى دين المسلمين, وهي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء, ليس لأحد خروج عنها ولا منازعة فيها.وهذا هو الذي يميز أهل السنة من أهل البدعة, إن العمل بهذه الأصول يُحقّق الاستقامة على المنهج, ويكفل بقاء العمل التربوي على الجادة, وانتساب أصحابه إلى أهل السنةوالجماعة,ويقيهم من الوقوع فيما وقعت فيه الفرق الضالة المتوعدةعلى لسانه  لأن شعارهذه الفرق هومفارقة الكتاب والسنةوالإجماع (2). والمربون يربون الناس بوسائل وأساليب يتفق الناس عليها, وكل وسيلة وأسلوب جائز ما لم يرد نص من الكتاب أو السنة بالنهي عنه, لأن الوسيلة ليست عبادة, لكنها طريق إلى هدف مقصود. وهذه الوسائل المرغِّبة للمتربين, تُفعل أحياناً مع تربية الناس وتوجيههم إلى الكتاب والسنة (3).
ولا يمكن لعمل تربوي راشد أن يقر أحداً على شيء من الشرك أو الكفر, قال تعالى[ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ](4).
والتربية التي لا تتضمن استيفاء هذا القدر في أفرادها, بل وفي كل من ينتسب إليها, ويتصل بها من الناس, مدعوة للمراجعة والتدارك الفوري لهذا الخلل, إذ لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً, إلا إذا صح إقراره بالإسلام تصديقاً وانقياداً وصحت شهادته لله تعالى بالوحدانية, ولمحمد  بالرسالة, على الوجه الذي أراده الله في كتابه وبينه رسوله  في سنته (5) .

ثانياًً:ضرورة الاهتمام بالتربية والعلم معاً:
والواجب البدء بالعلم, ثم الاشتغال بالدعوة والتربية, وقد بوَّب البخاري في صحيحه: باب العلم قبل
القول والعمل.
قال تعالى [ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات..](1).
وإلا فكيف يكون الداعية والمربي دليلاً إلى الشريعة وهو لا يعرف الشريعة, ومن يهتم بالدعوة والتربية ولا يهتم بالعلم,فهذا اتجاه خاطئ ويجب تركه.
وطالب العلم يجمع بين العلم والدعوة والتربية, ولا تنافي بينها, بل كل طالب علم فإنه يجب عليه أن يكون داعياً إلى الله عز وجل, فالدعوة إلى الله تعالى من ثمرات العلم (2) .
ثالثاً:ضرورة مراعاة فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد
وهو أحد المعالم الأساسية للتربية الراشدة في هذه المرحلة, وهو من الثوابت المحكمة في هذا الباب, ذلك لكي يدرك القائمون على أمر هذه التربية ومن انتسب إليها كافة, من القادة وصناع القرار أومن العامة, أن الشريعة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها, وأنها ترجح خير الخيرين, وشر الشرين, وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما, وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما, وأنه إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما, فقدَّم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً،ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركاً لواجب في الحقيقة, وإذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمها إلا بفعل أدناها, , لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً على الحقيقة, وإن كانت المنازعة في مجرد التسمية، فهو خلاف يسير لا يضر, ولكن المقصود هو نفي الإثم عن هذا وذاك.
إن إحياء وتجديد المفاهيم علماً وعملاً, ضرورة مهمة، لأنه في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة يكثر هذا التعارض.
وتختلط الحسنات بالسيئات, وتزدحم المصالح والمفاسد, وتتلاقى في مناط واحد, وإذا حدث هذا الاختلاط وقع الاشتباه والتلازم, فمن المربين من ينظر إلى الحسنات فيرجح جانبها وإن تضمن سيئات عظيمة, ومنهم من ينظر إلى السيئات فيُرجح الجانب الآخر, وإن أفضى إلى ترك حسنات عظيمة, ومن المربين من ينشد التوازن ولكن قد لا يتبين له مقدار المصلحة والمفسدة, أو يتبين له فلا يجد من يعينه على فعل الحسنات وترك السيئات, لكون الأهواء قد قارنت الآراء, ويقع في ذلك من التجاذب والتهارج ما لا يعرف مداه إلا الله تعالى.
إن الموازنة بين المصالح والمفاسد هي المدخل إلى فقه هذه المرحلة, وهي مفتاح الرشد في التعامل مع واقعنا المعاصر بكل علله ومتناقضاته, وهي السبيل إلى مد جسور التواصل مع مختلف فصائل العمل التربوي على تفاوت مناهجها في العمل وأساليبها في التغيير.
إنها تتضمن الإجابة على كثير من المقالات والأعمال التي تنسب لبعض القادة من العلماء والدعاة والمربين, وتعسر على الفهم, وتأبى التأويل فيمتهد بهذه القاعدة سبيل إلى حسن تأويلها, وحملها على أحسن وجوهها, والتماس العذر لأصحابها, في إطار من الاستمساك بمقاصد الشريعة ( ) .
رابعاً: حتمية شمول العمل التربوي على مستوى مجموع العمل الإسلامي
فالتربية يجب أن تكون شاملة, والبلاغ يجب أن يكون عاماً ومبينا, وهذا الشمول لا يلزم تحققه في كل تجمع تربوي بعينه, وإن كان يحسن ذلك, لا سيما إذا اتسعت قاعدته وتعددت مجالاته, ولكنه يلزم أن يتحقق على مستوى العمل الإسلامي كله, إذ لا يحل للعمل الإسلامي في شعب من الشعوب, أو في دولة من الدول أن يترخص في إغفال جانب من جوانب الإسلام, وتعطيله من التربية والبيان ( ).

المبحث الثالث:
الدورالمطلوب من المؤسسات التربوية
1. تخصص بعض المؤسسات الخيرية في الجانب التربوي والاهتمام به.
2. إصدار الرسائل والكتب الخاصة بالفرص والوسائل التربوية وتجارب العمل التربوي.
3. الاهتمام بإجراء الدراسات والأبحاث حول العوائق التربوية والأساليب والحلول المناسبة للمشاكل التربوية.
4. إقامة الدورات الطويلة والقصيرة التأهيلية للعاملين في حقل التربية بمختلف أنواعها.
5. استقبال أسئلة واستشارات المربين, وإيجاد الحلول المناسبة لها.
6. الرصد والمتابعة لفنون التربية الحديثة وأساليبها، والقيام بدراستها ومدى ملائمتها للعمل التربوي والاستفادة منها, والعمل على التجديد والمراجعات لكل برنامج نافع مفيد.
7. الاهتمام باختيار قيادات تربوية فاعلة مؤهلة ومدربة، قادرة على إدارة المحاضن مع التوجه نحو الإدارة بالفريق, والاعتماد على أسلوب تنمية الإبداع وحل المشكلات.
8. الاهتمام بتطوير العمل التربوي وتحسينه وتوجيهه نحو تحقيق الأهداف المأمولة.
9. تقديم خطط تربوية تطويرية تواكب متطلبات المستقبل مع المحافظة على ثوابت المجتمع الإسلامي، تزامناً مع التطور العلمي, والانفجار المعرفي الملحوظ.
10. منح فريق العمل التربوي المكلف بعمل ما، الصلاحيات اللازمة التي تمكنه من اتخاذ القرارات المفعلة للعمل, دون انتظار التعليمات من الجهة العليا. ( )

المبحث الرابع:
الدور المطلوب من العلماء:
1. ضرورة دخول العلماء في مجالس المؤسسات التربوية لتصحيح مسارها وصبغها صبغة شرعية تؤهلها للقيام بدورها, وتوثيق للمؤسسة وبرامجها،ومرجع للمربين والمتربين.
2. قيام العلماء بمراجعة الأهداف والخطط والاستراتيجيات التربوية, وتأصيلها تأصيلاً شرعياً صحيحاً, للعمل بها، بعد إعدادها وصياغتها من المتخصصين.
3. العمل على استخراج النصوص الخاصة بالتربية من الكتاب والسنة وآثار السلف,والبحث والتنقيب في كتب السلف الأوائل عن موروثهم التربوي، وتقديمه للمؤسسات التربوية لنشره وتعليمه.
4. ضرورة اهتمام العلماء بالمربين في دروسهم ومحاضراتهم ولقاء اتهم وكتاباتهم, ومن ذلك:الحوار معهم،ورحابة الصدر في مناقشتهم، واتخاذ بعضهم صديقاً وعدم إهمالهم .
5. العمل الجاد على إعداد نشأ متميز في تربيته وتعليمه ودعوته من خلال الدروس وغيرها, ليكونوا مربين ناضجين.

المبحث الخامس
وصايا للمربين
تمهيد
المربي الناجح الذي ينشد صلاح مجتمعه ورقي عمله التربوي، هو الذي يسعى إلى معرفة( أصول التربية الإسلامية وأساليبها ( )) ويحرص على تطبيق ( منهج التربية الإسلامية ( ) ) ويتدارس ( الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ( ) ) ويعرف كيف تكون ( فاعلية المسلم المعاصر ( ))ويطلب ( الهمة العالية ( ) ) ويحذر من الكسل ( حتى لا يكون كلا ( ) ) ومن خلق ( الفوضوية في حياتنا ( )والتي نعيشها ونمارسها, ونجده دائماً يطلب ( الحماس الذي نريد) ( )ويشعر أن ( التربية الجادة ضرورة) ( ) ويحذر أن يكون ممن عناهم صاحب رسالة ( عجز الثقات) ( ), المربي الناجح جدير أن يطّلع على ( الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات) ( )لعله يفقهها, ويراجع ( تأملات في العمل الإسلامي) ( ) لعله يستوعبها, ويطلب جوهر التربية ( حول التربية والتعليم) ( ) فإنه عزيز، ويبحث عن تشخيص بعض مرضه في ( ظاهرة ضعف الإيمان) ( ) و(الفتور مظاهره وأسبابه وعلاجه) ( ) ويكثر في مطالعة ( آفات على الطريق) ( ) ليخرج بالتشخيص الدقيق والعلاج المفيد, وتراه دائماً يجدد العهد بـ( الأخوة) ( )
ويجتهد في ( الثبات) ( ) ثم تراه شامخاً منطلقاً بـ( 92 وسيلة دعوية ( ) ) و ( 46 طريقة لنشر الخير في المدارس ( )) حريصاً على ( فتح آفاق للعمل الجاد) ( )مصطحباً (دليل الفرص والوسائل الدعوية) ( )مهتما دائماً بـ ( الدعوة العائلية ( ) ) غير غافل عن الاهتمام بالمسجد ( من أجل مسجد فاعل) ( ) فإنه يرى أنها من الأولويات و القواعد المهمة الفاعلة.

وهذه وصايا للمربين:
1. استشعر أيها المربي مسؤوليتك أمام الله عز وجل, وأن بينك وبين عامة المسلمين فرق, ولا يغرنك تراجع بعض المربين عن أدائهم أو مبادئهم, فأنت قدوة لغيرك, وواجب التربية متعين عليك.
2. رب نفسك تربية ذاتية, وتعاهدها بما ينفعها, وزكّها بالطاعات, ونقها من الذنوب, ورقّها بطاعة الله تعالى, وعلّها بالعلم النافع والعمل الصالح, واعلم أن حبّالة الشيطان التي تقعدك عن عملك هي الذنوب وإن صغرت, فاحذر تسلم.
3. اهتمّ بتكميل جوانب النقص في شخصيتك التربوية،واحرص على تطوير ذاتك وزودها بالجديد.
4. ليكن شعارك"الجدية طريق الجودة" وعليك بالعزم الصادق في التغيير, واترك الترخص والتساهل والتميّع.
5. اعلم أن التربية الناجحة تعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال, لأن الحق يؤخذ من كل أحد, والرجل لا تؤمن عليه الفتنة, فإذا فقدته التربية لأي سبب كان, استمر أنت على عملك, وليس الحق دوماً عند رجل لا يتعداه.
6. ارسم الأهداف،وبيّن الخطط، وأبرِز الإستراتيجيات التربوية، مع اهتمامك بالجوانب المهمّة المهملة.
7. تذكر دائماً أن العمل المناسب, والمكان المناسب, والزمان المناسب، هو طريق النجاح, فاجتهد في تحقيق ذلك.
8. احترم رأي المتربي, ونمّ فيه روح البحث والإبداع, واهتم بالاتجاهات والقيم والمهارات,كما تهتم بالمعلومات.
9. اترك الفرصة للمتربي كي يتربّى بنفسه, راقبه وهو يبحث ويتعلم, قدّم له الخبرة التي يحتاجها, وجّهه وصحّح سلوكه, استكشف المواهب لديه وعززها ونمّها.
10. تواصل مع المتربي، وزوّده بالتغذية الراجعة عن أدائه .
11. لا تُغفل التلقين، وأكثر من التوجيه، وشاركه موقفه بجدية وفاعلية.
12. انبذ التعصب وشدّ آصرة التآخي على أساس الكتاب والسنة على رسم منهاج النبوة، لا غير, واعلم أن كل آصرة يتداعى الناس بها دون ذلك،فهي عصبية وحمية جاهلية, فالعلاقة بين المربين من حمد وذم, وقرب وبعد، وعداوة وولاية, ومحبة وبغض, وتعارف وتهاجر, لايجوز عقدها إلا على أساس الكتاب والسنة, حتى لا تخترق سياج الأخوة الإيمانية بين المربين, باجتهادات فرعية أو انتماءات حزبية, إن آفة الآفات وعلة العلل في واقعنا المعاصر, تتمثل في ربط الولاء والبراء بما هو أخص من أخوة الدين, من الآراء والاجتهادات الفرعية, لما يسبّبه ذلك من تشقيق الأمة, والتغرير باجتماع كلمتها, إن واجبك أيها المربي تجاه إخوانك المربين، سلامة الصدر واحترام عبوديتهم لله عزوجل، وتقدير ما يقومون به من أعمال حسب اجتهاداتهم وطاقاتهم, من أجل إقامة الدين والتمكين لشرعة الله, وإشاعة أجواء التواد والتراحم وخفض الجناح في التعامل مع المؤمنين كافة, على اختلاف فصائلهم التي ينتمون إليها, وطرائقهم التي ينتهجونها في السعي لإيجاد عمل تربوي راشد, والعناية بمهارات الحوار، وذلك ليتجاوز العمل التربوي عقدة التشرذم, والتمحور حول الذات وكراهية الآخرين ( ) ،وليس لأي مرب أن يسعى لإحباط الجهود التي يبذلها المُربَّون، ولا يزرع الألغام في طريق المصلحين، بل يجب عليه بذل ما يستطيعه للاجتماع على الخير، والتعاون مع الغير ، ومن ذلك تنمية القدرة على التعاون والتواصل مع من لا يتفق معه في الرأي والاجتهاد،وتجاوز النظرة الحزبية. وتنمية القدرة على التعايش مع المخالفين بصورة يتحقق فيها الاعتدال والتوازن بين الصراع والمواجهة غير المجدية،وبين المجاملة والمداراة على حساب الحق(2)، إن معالجة هذا الخلل في مناهج التربية وفي واقع المربين أحد معالم الرشد الأساسية في هذا المجال, وأحد الثوابت المحكمة في كل عمل تربوي معاصر (3) .
13. تضافر مع إخوانك المربين في موارد الإجتهاد فإنها بمثابة ما تنوعت فيه شرائع الأنبياء, وهي كل مالم يرد فيه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح (4)،ومن أصول أهل السنة والجماعة في المسائل الخلافية, أن ما كان الخلاف فيه صادراً عن اجتهاد,وكان مما يسوغه الاجتهاد, فإن بعضهم يعذر بعضاً بالخلاف, ولا يجعلون هذا من الاختلاف الموجب للتفرق والعداوة, ومن يخالف بمقتضى الدليل, فالحقيقة أنه لم يخالف, لأن المنهج واحد, فهم متفقون في الواقع, لكنهم مختلفون في فهم الدليل ,وما زال الخلاف في الأمة منذ عهد الرسول  إلى اليوم ( )،فالإنكار على المخالف في المسائل الاجتهادية لا يسوغ.
قال النووي (( ... وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه, لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب...)) ا.هـ . ( ) وقال السيوطي (( لا ينكر المختلف فيه, وإنما ينكر المجمع عليه ( ) )) ا.هـ .
ومن ذلك خلاف العلماء في الوسائل والبرامج التربوية, مثل: هل تنطلق التربية من كتب التراث, وتكون هي المحور, أم من الكتب الحديثة التي اقتبست من هذه الكتب،لسهولة التعامل معها من قبل العامة والمبتدئين؟ هل ينظّم الناس في حلقات وشعب, أم يُكتفى بلقائهم العام في المسجد, ابتعاداً عن الحزبية, وإبعاداً لشبهة التنظيم والتجمعات السرية ؟ هل تتمحور المحاضرات والدروس والبرامج حول كشف الواقع وتعرية جرائم القائمين عليه,أم يُكتفى بالبناء العقدي والعلمي الهادئ بعيداً عن هذه التوترات, حتى ينضج المتربي؟ ما هي الصيغة التي يجب أن تحكم علاقة العمل التربوي بالمؤسسات الشرعية الرسمية, هل هي التجنب والاعتزال, أم التنسيق والتعاون؟ وما الموقف بالنسبة لما تمارسه في بعض الأحيان من مواقف المداهنة والتخاذل؟ هل يشنّع عليها بذلك, وتنشر هذه المواقف على الملأ, أم الأفضل هو الإعراض والتجاهل وعدم إثارة الناس على المؤسسات؟ كيف تُنظِّم المؤسسات التربوية علاقتها بأجهزة الحكم المحلية؟ هل هي المفاصلة وإعلان البراءة, أم الاختراق ومحاولة الاستمالة؟ هل نتعاون مع من يتعاطف مع العمل التربوي في هذه الأجهزة,ونقوم ببعض البرامج التربوية أو الاجتماعية, أم أن ذلك يشوش على طبيعة العمل التربوي ويعمق الالتباس؟
هل وسائل التربية وأساليبها توقيفية؟ أم هي جائزة ما لم يكن منهياً عنها في الكتاب أو السنة.
إن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها من موارد الاجتهاد, ومسائل السياسة الشرعية, التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد, ولا وجه فيها لتبديع المخالف أو القدح في دينه وعدالته,ويجب أن ينطلق العمل التربوي فيها بما يقرره أهل الشورى من أهل العلم والخبرة, وأن يُدرَك أن تفاوت الاجتهادات فيها, إنما هو من قبيل التفاوت في تقدير المصالح والمفاسد, وهو جهد بشري لا عصمة فيه لأحد, ولا قداسة فيه لاجتهاد دون اجتهاد, ولا ثبات على اجتهاد فيه إلى الأبد, بل هو مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال.
وإن من الرشد ألا يُتنازع بسببه, وأن يفوض النظر فيه إلى أهله, وأن يُعلم أن خطأ الجماعة في هذه المسائل, أولَى من صوابه لنفسه, وأن ما يكره من الطاعة والجماعة خير مما يحب من الفرقة والمعصية, وأن النزول عن اجتهاده إلى اجتهاد الجماعة فضيلة ومنقبة، وأن رعاية معنى الاجتماع أولى من رعاية ما يظن رجحانه من هذه الفروع, فإنه بهذا يرشد المسار, ويُسدل على الفتن الستار! ( )
وينبغي التنبّه إلى المقولة الشائعة [ نجتمع فيما اتفقنا فيه, ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه] فكوننا نجتمع فيما اتفقنا فيه هذا حق, وأما يعذر بعضنا بعضاَ فيما اختلفنا فيه,فهذا فيه تفصيل, فما كان الاجتهاد فيه سائغاً فإنه يعذر بعضنا بعضاً فيه, ولكن لا يجوز أن تختلف القلوب من أجل هذا الخلاف, وأما إن كان الاجتهاد غير سائغ, فإننا لا نعذر من خالف فيه, ويجب عليه أن يخضع للحق.
ولا يجوز للمربين أن يتهاجروا فيما بينهم, بسبب اختلاف أساليب التربية, ولكن على كل واحد منهم أن ينتفع بأسلوب الآخر, إذا كان أجدى وأنفع. ( )

مستقبل العمل التربوي وآفاقه
تمهيد:
لا تزال الأمة الإسلامية بحاجة إلى المربي المتميز, المنتج, ذي الكفاءة العالية, والأداء المتقن, لأنه الأولى بحمل راية الإصلاح التربوي لأوضاعها المتردية, ومن ثم, فهو يفرض نفسه على الآخرين بتميزه وإنتاجه, ويتصور أنه هو المعول عليه دائماً في إنجاح الأعمال وإتمامها, وهو كذلك ( ).
والناظر إلى مخرجات العمل التربوي, يرى أنه حقق انجازات متميزة, ومن ذلك:
1. تدين فئام من الشباب والشابات,والفتيان والفتيات, وحرصهم على دعوة ذويهم, وولَعهم بتربية النشئ الصاعد.
2. إنشاء المؤسسات التربوية ودعمها عبر المؤسسات الدعوية الأخرى.
3. شمول العمل التربوي لمناحي الحياة في أغلب مؤسساته وتخصص بعضها, وبروز الاهتمام بالقضايا التربوية على الساحة الدعوية.
4. ظهور الصوت التربوي المتنوع كالكتاب والشريط ونحو ذلك.
5. إحياء روح الاحتساب في كثير من مجالات العمل التربوي.
6. تقويم بعض المؤسسات التربوية القائمة وإبداء الرأي الناضج حول بعض القضايا التربوية الساخنة.
7. إعادة صياغة بعض النظريات التربوية الغربية, وعرضها من منظور إسلامي, وإبداء الرأي الشرعي حول بعض النظريات التربوية الغربية المحرمة.
هذا, ويُعدّ العمل التربوي من أنجح مجالات العمل الدعوي المعاصر، إلا أنه لا زال يفتقر إلى رؤية واضحة شاملة حول معناه وأهميته وأهدافه وأدواره وطبيعته ومنهجه وأطره, وتحتاج إلى مزيد دراسة وبحث, لأنه يطفو فوق الساحة تبايناً متفاوتاً, ورؤى مختلفة, وممارسات تقليدية غير مدروسة, وخواطر حاضرة خطيرة, حول بعض القضايا التربوية, وهذا الخلل قد ظهر في الميدان بصورة جلية.
إن الرؤية المؤملة لدفع عجلة العمل التربوي, يجب أن تتسم بقدر من الشمول والتكامل التي ترسم الأطر العامة للمنهج التربوي, وفق دراسة مستفيضة عميقة, يجمع لها فحول التربية وعظمائها من كل مصر وقطر.
وتمهيداً لهذا، سوف نعرض لبعض التطلّعات المستقبلية المرجوّة، ومن أهمها:
أولاً: أهمية النظر إلى المستقبل
إن التطلع إلى المستقبل ضروري للخروج من أية معضلة, إذ أنه الكوة الصغيرة التي نتنفس منها.
إن التفكير بالمستقبل, قد يكون هو الوسيلة لتنظيم الاستفادة من الإمكانات الحاضرة, وبعض الناس ينظر إلى المستقبل بروح الأمل والرجاء دون أن يحسن من وضعه الحاضر, فتزداد أحواله سوءاً, يوماً بعد يوم, وكأن ما يحصد, يمكن أن يكون من غير جنس ما يزرع!
علينا أن ندرك أن كل ما نتطلع إليه ونتمناه, لن يكون كاملاً ما دامت أحوالنا غير كاملة, وإن المشكلة حين تحدق بالمجتمع كله, فإن المربين وحدهم, لا يستطيعون إنجاز الكثير، ولذا فإن ما ندعو إلى إنجازه في حقل التربية, لن يتحقق مالم نحسن من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
فالنهوض الشامل هو الذي سيهيئ الفرص لكل الإمكانات أن تتفتح, ولكل الأيدي أن تعمل ( ).
ثانياً: حتمية الدقة في تصوير الأزمة
إن وجود أزمات وطموحات وتطلعات, من الأمور الطبيعية في حياة البشر, لكن المشكلة تكمن في عدم فهم الأزمات على نحو صحيح, وفي بناء تطلعات كبيرة على إمكانات هشة غير ملائمة, وهذا ما يحدث لدينا بكثرة.
إننا كثيراً ما نرتبك في توصيف موضع المعاناة بدقة, إننا بحاجة إلى أن نتعلم مهارات توصيف الأزمات وشرحها وتحديدها وبيان ارتباطاتها وتاريخها, إن كل مشكلة يمكن توصيفها على نحو جيد, هي مشكلة محلولة جزئياً, ولو أنا أحسنا الاستفادة مما بين أيدينا من إمكانات, لقضي الأمر, ولكن ..
ومما يساعدنا على ذلك أن نقارن بين مالدينا وبين ما لدى الآخرين، فالوعي بالذات كثيراً ما ينبع من الوعي بالآخر.
والمهم دائماً أن نفرق بين المرض وأعراضه, فمثلاً الإخفاق التربوي قد يكون سببه سوء طريقة التربية أو سوء المنهج أو ضيق سوق العمل, والأهم من ذلك, ألا نضخم المشكلات حتى نرى أنفسنا عاجزين عن عمل أي شيء لها, وألا نبسطها إلى درجة الشعور بأنه ليس هناك ما يستدعي القلق.
وليس لنا أن نكون تصورات عن مشكلاتنا, انطلاقا من أفق محدود أو محيط ضيق – كما يحدث دائماً – وإذا رأينا حالات سيئة في محضن تربوي أو بيئة تربوية, ليس لنا أن نعمم الحكم على جميع المحاضن والبيئات في منطقة أو دولة, إذ العوامل التي تتحكم في وجود ظاهرة ما, كثيرة جداً, والوقوف عليها وتقديرها ليس بالأمر اليسير كما يظنه البعض.
والواجب علينا أن نتريّث كثيراً في إطلاق الأحكام المصورة لمعضلاتنا, لأن فهم الواقع على نحو دقيق, شيء نسبي وخاضع لاعتبارات كثيرة, ولا سيما في ظل شح المعلومات وقلة الدراسات في معظم ما يخص المؤسسات والأنشطة التربوية. وعلينا أن نهيئ أنفسنا لتقبل وجهات نظر عديدة
- وأحياناً فجة – في كل ما يمتّ إلى تصوير الواقع وفهمه ( ).
ثالثاً: المنهج المطلوب في التعامل مع المشكلات
إذا شعرنا أن هناك معضلة, فإنه يجب البحث عن حل لها, وما اخترعه البشر من مناهج وأساليب لفهم المشكلات, يمر هو الآخر بمعضلة, وهذا طبيعي, إذ كل ما يخضع لقواعد وقوانين محددة, يتعرض لخطورة التصلب والقصور عن أداء مهامه, إن العقدة في حقل حل المشكلات دائماً, هي: العثور على منهج ملائم لطبيعة المشكلة.
إن من سمات النظرية الجيدة, والمنهج الجيد, فتح الطريق أمام العمل والتطوير, ولا تكون النظرية جيدة إلا إذا كانت منتجة – أي قابلة للدراسة والنقد وتوليد المزيد من البحث العلمي – وعلى هذا, فليس لنا أن نحمّل الأفكار التي نتوصل إليها من الجزم والقطع, أكثر مما تتحمله طبيعتها, واللائق بنا أن نصوغ أحكامنا بأسلوب اجتهادي مرن, ومنفتح على ما يمكن أن يستجد من خبرات ومفاهيم جديدة, ومن المهم ونحن نعالج مشكلاتنا التربوية أن نملك القدرة على الانتظار, والصبر على التصحيح,إذ المسائل التربوية ذات بعد إنساني عميق, وكل ما يتصل بالإنسان يتسم بالتعقيد والعناد, ويحتاج علاجه إلى وقت, فضلاً عن الاهتمام بالقضية ورحابة الأفق وإعمال الذكاء في التعامل مع أطراف المشكلة, فهل نفهم ذلك ( ) ؟.
رابعاً: لنتحدَّ الدفق المعلوماتي
إن الدفق الهائل للمعلومات في عصرنا الحاضر يزداد شدة, ولا يدري أحد حجم التحديات التي ستنبثق عنه خلال السنوات العشر القادمة, وهذا التواصل المعلوماتي هو سلاح ذو حدين, مما يوجب على المؤسسات التربوية أن تركز جهودها, وتساعد منسوبيها على التعامل مع هذا السيل الجارف من المعلومات بحكمة وفاعلية, ومن الأمور المتعينة:
‌أ- تدريب المتربي على التعامل مع مصادر المعلومات, كالمراجع والمصادر ودوائر المعارف وبنوك المعلومات وشبكات المعلومات، مع اعتبار الثورة الهائلة التي تتفجر اليوم في تخزين المعلومات واسترجاعها نتيجة استخدام الوسائط الضوئية ذات سعة التخزين الهائلة وأسلوب النص الفائق ( ).
‌ب- تربية الشباب والناشئة على التعاطي الإيجابي مع الانفتاح، ومعطيات التقنية، وتنمية القدرة على التكيف مع الأوضاع التي تفرض نفسها، وعلى أن تتحول النظرة المتوجسة من الجديد، أو النظرة التي تختزل الجديد في السلبيات والمشكلات، إلى الرؤية الإيجابية المتفائلة التي تبحث عن الفرص، وتسعى للتوظيف الإيجابي للمستجدات، وليعلم المربي أن كثيراً من المستجدات ليست من صنعنا،

ولا نملك إقصائها من واقعنا أو رفضها،ومن ثمَّ فالخيار العملي لنا هو التعاطي معها بإيجابية(1) .
‌ج- الاعتناء بالبناء الداخلي للمتربين، وهو ما يُعرف بـ"بناء العقول" وتكوين عقلية راشدة لدى المتربي, قادرة على الفهم الموضوعي للأشياء,وعلى النقد والربط بين العلة والمعلول, والسبب والمسبَّب, وعلى الانتقاء, واستخراج المغزى الذي تُلمح إليه الأفكار والمعلومات المتداولة,وتنمية الاتجاه نحو ممارسة التفكير مع القدرة على الحكم على الأخبار الواردة, وغربلتها وتمييز الغث من الثمين منها, وتعليم المتربي, الدقة في الفهم والتعبير, ومحاولة تمليكه مهارات التفكير، ومن ذلك القدرة على رؤية الأشياء بطرق جديدة خارج الطرق المألوفة, وترويضه على الوضوح والإنصاف والمرونة، مع ملاحظة جعل خطابنا وحديثنا مُقنعاً مبرِّراً، ومالم تفعل المؤسسات ذلك, فإن كثيراً من الشباب سيكونون معرضين للغرق في بحار المعلومات والمعارف المتقاطعة والمتضاربة, والتي تذاع بدوافع مختلفة المشارب، وتخلو من الدقة والموضوعية كثيراً، وليس للمؤسسات التربوية تغييب العقل وتهميشه، كما يحدث في النمط التقليدي في التربية والتعليم والذي يعتمد على التلقين والعطاء المباشر، ويتجاهل بناء المهارات العقلية وتنميتها (2).
د- تحصين الشباب من الانزلاق إلى أوحال الثقافة الغربية, فالتدفق المعلوماتي, لا ينقل إلينا أسرار التقنية أو التفوق الغربي, وإنما ينقل مظاهر التفوق الغربي, كما يشيع بيننا معالم ثقافة أجنبية ومغايرة لثقافتنا, وهي ثقافة متسقة داخلياً, وذات جاذبية في أجزاء عديدة منها.
والمؤلم أن أداء بعض المحاضن في هذا الشأن ليس على الوجه المطلوب, حيث نرى لدى كثير من المتربين إحساساً ضعيفاً بهويتهم الإسلامية إلى جانب سيطرة النزعة الاستهلاكية عليهم, مع ما يعانونه من الضياع والعزلة والفقر الروحي, ولم يقف الأمر عند هذا, بل ظهر الانبهار بالتقنية, وشاع حب التقليد, وساد التعلق بالقشور والمظاهر الفارغة!

هـ - الاهتمام بتقوية الإرادة، والقدرة على ضبط النفس وتحمل المسؤولية حتى لا يتراجع ويتقهقر المتربي أمام الشهوات أو المؤثرات (1)، إن المتربي بحاجة إلى نوع من الإحياء الكلي: العقلي والنفسي والروحي والشعوري, مع ملاحظة التوازن والانسجام بين هذه الجوانب, مع محاولة زيادة فاعلية التعلم لدى المتربي, واستثمار كل طاقاته, مع المحافظة على كرامته وحريته, إلى جانب إشاعة روح المشاركة والتعاون بين المتربين, والتركيز على أن يتحمل المتربي المزيد من المسؤولية في تثقيف نفسه وإثراء شخصيته (2).إن الذي يحتاجه المتربي هو ما يعينه على الصمود والتفوق في حومة (( العولمة)) من القدرة على التفكير السليم وحل المشاكل, والإبداع في مواجهة ظروف الحياة الجديدة (3).
خامساً:ضرورة إنشاء محاضن المستقبل الذكية
إن حاجة العمل التربوي إلى محاضن ذكية فريدة, حاجة ملحّة حيث تقوم المؤسسة التربوية ببناء المتربين بناء شاملاً.
وتهدف إلى ترجمة غاية التربية وأهدافها إلى سلوك وقيم, وتسهل عملية التربية وإدارة المحاضن بشكل فاعل عبر معامل الحاسب الآلي ذات المواصفات العالية.
ومن المهم عند اختيار موقع المحضن الذكي مراعاة معايير التخطيط والأسس الهندسية للمباني التربوية, ويتم تصميمه وتحديد متطلباته وشكله المعماري والخدمات الملحقة به, بناء على موقعه والبيئة المحيطة به, وبمشاركة فريق تربوي بغيّة تطوير المعايير التربوية وملائمتها.
وإن نجاح العمل التربوي يقاس بسرعة استجابة المحاضن وتجاوبها مع المتغيرات الاجتماعية, والتقنيات من أهم الأهداف والوسائل الإستراتيجية لمحاضن المستقبل, ومن ذلك (المحضن الإليكتروني) وهو إيجاد موقع إليكتروني يخدم القطاع التربوي مرتبط بشبكة الانترنت, وتبنى فيه المعلومات على شكل صفحات تربوية متنوعة شاملة لجميع احتياجات المتربي (4).
إن محاضن المستقبل الذكية لأجيال الغد, يجب أن تتوافر فيها الكفايات الأساسية الضرورية للتعايش في العالم المعقد الذي نحسن ارهاصاته, مثل حيازة اللغة المنظمة, نمو القدرات العقلية, توسعة فهم الفرد للعالم المحيط به, مع أهمية تطوير المهارات المهمة مثل: الكفاية في استعمال اللغة ومهاراتها المتنوعة, كالقراءة والكتابة والكلام والإصغاء والملاحظة مع تأهيلهم لامتلاك لغة عالمية أخرى, والتمكن من العمليات العلمية الأساسية, كالقياس والتخمين والتقدير والعمليات التفاضلية والتمرين على استعمال المبتكرات الرمزية مثل: الحاسب الآلي والأدوات العلمية الأساسية, وهي أدوات التحليل الرمزي .
إن النموذج المعياري للتربية في العصر الجديد, هو ( التحليل الرمزي) وستقاس قوة الأمم العلمية في القرن القادم بعدد ( المحللين الرمزيين ) وستكون الأمة التي تمتلك أكبر عدد من المحللين الرمزيين, هي الأقدر على تحليل وتشخيص وحل مشاكل الاقتصاد والإنتاج, بل ستكون لها المعرفة والمعلومات اللازمة لتحليل المشاكل الاجتماعية والأوضاع العسكرية المحتملة أو المفاجئة, وسيكون في مقدورها بيع واستثمارات خبرات وكفايات محلليها الرمزيين في السوق الدولية لأغراض متنوعة.
وتقوم تربية ( المحلل الرمزي) على أربعة عناصر, يتوجب على التربية استيعابها: التجريد, التفكير – وفق منطق النسق- التجريب, العمل المشترك.
والمأمول من العمل التربوي أن يربي الأفراد عليه, هو استيعاب ما يمكن تحصيله من مفاهيم ونظم تفكير وخبرات ومهارات, تمكنهم كذوات فردية, وكأعضاء في كيانات اجتماعية, من منافسة الأمم الأخرى في ميادين الاقتصاد والتحليل الرمزي الذين هما نداء المعركة الحضارية في القرن القادم.
وحتى تتكامل المقاصد التربوية لهذه المحاضن, فإنه من الضروري تأسيس حق المتربي في فهم كيانه, حيث تستهدف التربية نموه الجسدي والوجداني والاجتماعي والمعرفي في تكامل وانسجام،بيد أن إغفال الجانب المادي من وجوده واحتياجات نمائه من مفسدات التربية.
ويجب أن تشتق غايات العمل التربوي من الرؤى الكونية لتربية القرن الحالي, ولما كان عصرنا محكوم بمبادئ علمية, فإنه يلزم أن تكون مهمة العمل التربوي في القرن القادم هو تهيئة الأفراد لتحقيق طاقاتهم الداخلية, والسعي من أجل دور نافع لهم في المجتمع.
إن العمل التربوي من خلال هذه المحاضن يجب أن يقود الناشئة إلى التطلع إلى مستقبل غامض, وتكون مهمة العمل التربوي مساعدة الناشئة على اكتساب المرونة لمواجهة هذا المستقبل, وفي عملية تشكيله.
ومن المساواة التربوية, فإنه يجب على المحاضن التربوية أن توفر لجميع الأطفال فرصاً تربوية, متكافئة, ولا يعني ذلك إعطائهم نفس الكمية من التربية والتعليم, ولا نفس العدد من السنوات المنهجية التربوية, ويجب أن تبدأ ممارسة المساواة التربوية قبل مجيء الطفل إلى المدرسة الابتدائية, باعتبار أنه جزء من نظام التربية الأساس. والعمل التربوي يجب أن يساعد الأطفال والراشدين على تفهم أفضل, لثقافتهم الخاصة, الماضي منها والحاضر. ( )
سادساً: أهمية إعادة النظر في المناهج
إن المناهج من أكثر العناصر التربوية حاجة إلى النظر المتكرر والمراجعة الدائمة,وأخصها الوسائل والبرامج وطرق التعليم والتوجيه، وأساليب الحوار، والبيئة التربوية(2)، فهي مرتبطة إلى حد كبير بعمليات إعادة التوازن للمجتمع, وتأهيل المتربين لمعايشة المستجدات في جميع مجالات الحياة, ولا يشترط أن يكون الجديد أجود من القديم, بل الفيصل هو التجديد والتطوير, مع ضرورة الوعي العميق بضرورة البحث العلمي في واقع المناهج السائدة وتحليلها, والتعرف على أوجه الجمود والقصور فيها.
ومما ينبغي أن يلاحظ, ما يلي:
أ‌- المناهج التي يدرسها الطلاب غير كافية لتأسيس معرفة دينية حسنة, وتاريخية وحضارية جيدة, وغير فعّالة في السواد الأعظم من الدول الإسلامية, والعجيب أن حاصل ما يتعلمه الطالب عن تاريخ الأمة وحضارتها, هو ضئيل, مع أن الأمم تتخذ من تاريخها وحضارتها أداة في تربية الناشئة, وأداة لتوكيد انتمائها, والوافدات الأجنبية تهدد الثقافة الإسلامية مما يستلزم تركيزاً جيداً على العلوم الشرعية والإنسانية, وصياغة مناهج على نحو يرفع من درجة التزام الشباب بالحلال والحرام, ويبصرهم بالتحديات التي تواجه أمة الإسلام في العصر الحديث ( ) .
ب‌- من الركائز الرئيسة في بناء منهج العمل التربوي, الجمع بين المنهج الشرعي وظروف الواقع وتحدياته, وطبيعة المهمة التي يعد لها الجيل المنتظر.
وإذا أمعنا النظر في هدف التربية في كل بلد ومؤسسة وجدناه عنواناً لسياسة ذلك البلد والمؤسسة, لكي يبني مجتمعاً يحقق له طموحاته وتطلعاته, وبدهي أن تختلف أهداف التربية من بلد لآخر, ومن مؤسسة لأخرى.
فالمناهج إذاً, يجب أن تصاغ وفقاً للأهداف من قبل متخصصين في المواد العلمية وعلماء النفس والتربية وذوي الخبرات الطويلة في سلك التربية العملية لا النظرية. وإذا فتشنا في المناهج التي بين أيدينا, نرى أنها مترجمة ومنقولة عن غيرنا بسلبياتها دون إيجابياتها, وبعض النظريات أو الفرضيات قد تركها أصحابها, ونحن ما زلنا متعلقين بها جموداً أو إهمالاً أو غير ذلك. ( )
ج- ضرورة إيجاد مناهج معاصرة في طبيعة تصميمها, وفي نوعية موضوعاتها, ودلالة المتربي على مواضع الخلل في المعارف المتداولة, والمشكلات التي لم تظفر بحلول ناجحة.
د- التخفيف من التزام الكتاب التربوي المدرسي, وإعطاء مساحات أوسع للحوار والنقاش خلال الحصص الدراسية أو الساعات التربوية, وتكليف المتربين بكتابة البحوث والتقارير العلمية عن بعض الموضوعات.
هـ- احتواء المناهج على معرفة رفيعة ورصينة, تقوم على التحليل والتعليل والربط, ليس فقط على الوصف والسرد التقريري ( ).
و- اِطلاع المتربي على ما يستجد في القضايا الكبرى الهامة, وخاصة ما يتعلق بالاتجاه العام للنظم الدولية الجديدة ومسائل البيئة والصراع على الموارد, ومسائل العنصرية والهندسة الوراثية, حتى يكتسب المتربي وعياً عاماً بالتطورات الكبرى ذات الأثر في حياة البشرية، وغير ذلك.
وهناك مجالات ومسائل تتطلب معارف جديدة, وخاصة في المجال الأخلاقي والإنساني, ومع التغيرات السريعة في كل شيء, فإن المتربي يحتاج إلى أن يتعلم من خلال المناهج:
كيف يتخذ القرارات الراشدة المتعلقة بشخصه؟
كيف يتعامل تعاملاً صحيحاً مع المتغيرات؟
إن زماننا هذا, يتطلب جيلاً واعياً يعرف خصوصيته الإسلامية والحضارية, ويتمتع بدرجة جيدة من العقلانية والمرونة إلى جانب النظرة البعيدة المدى, والاستعداد للعمل ضمن فريق, وهذا هو المحك الحقيقي لفعالية أداء المناهج لوظيفتها التثقيفية والتربوية ( ) .
سابعاً: ضرورة تطوير نظم التربية
لا يمكن أن نحل مشكلات التربية, وأن نزيد من فاعليتها من غير أن نطور نظمها, فالسكان في زيادة مستمرة, والمهارات التي يحتاجها الشباب, أكثر بكثير مما كان مطلوباً في السابق, والتسرب من المحاضن كبير, ولا سيما في البلاد الأشد فقراً والأكثر رفاهية, وهذا كله يتطلب أن يجد الناس أمامهم أطراً متنوعة, وبدائل عديدة, لما هو سائد اليوم من نظم التربية.
إنه من حق كل فتى و فتاة, أن يجد المؤسسة التربوية التي تقدم ما يحتاجونه من علم ومهارة، مهما كلف الأمر, فذلك شرط أساس للقضاء على الأمية بأنواعها, ولنفض غبار التخلف الذي نعاني منه.
إنه من الضروري إعمال المرونة في أوقات دوام المحاضن وأسلوب المناهج التي تقدمها, لتلائم أكثر قدر ممكن.
ويتعين على كل قطر أن يجرب ما تتطلبه أوضاعه الخاصة من تطوير وتجديد في نظمه التربوية, تلبية للحاجات المعرفية والعملية للشباب والناشئة.
إن جوانب القصور في العمل التربوي, مع ما يعانيه بعض المتربين من الظروف والأحوال الصعبة, تجعلنا نتساءل:
كيف يمكن أن نشبع الحاجات التربوية لأولئك الأشبال والشباب الذين يقعون خارج مسؤولية أية وزارة حكومية في البلد, وهم كثر؟ ونتساءل أيضاً:
كيف يمكن تطوير نظم التربية الرسمية, وتحقيق التعاون بينها وبين التربية غير الرسمية وغير النظامية, لمعالجة حالات التسرب بين المتربين, الشائعة والكثيرة في طول العالم الإسلامي وعرضه؟ ( ) إنه يتحتم تطوير نظم العمل التربوي, ومواكبته للعصر الحديث بكل ما نملك.
ثامناً: تفعيل المشاركة الاجتماعية في العمل التربوي
إن الضمان الوثيق لنجاح أي مشروع, تكمن في تبني المجتمع له, فلا نجاح لأية خطة مالم يستطع القائمون عليها, إقناع المجتمع بها ليجعلها جزءاً من همومه واهتماماته.
إن مشكلات التربية واكتساب المعرفة, ما هي إلا تجسيدات لمشكلات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية, تعاني منها أمة بأكملها, وينبغي أن يكون لكل فرد منها وظيفة ما, في التخفيف من وطأتها, وينبغي أن يكون من الهموم الكبرى لقادة الفكر والرأي والمشرفين على المؤسسات التربوية, النجاح في إقناع الفرد في مجتمعهم بتقبل المزيد من التثقيف والنمو المعرفي في المجال الذي يهمه, أو الحرفة التي يعمل فيها.
إن النهوض بالتربية بحاجة ماسّة إلى مساهمة الناس جميعاً وعلى جميع المستويات, وينبغي على ( الرأي العام) أن يشدد على المؤسسات التربوية, ويحملها على تطوير نفسها لما فيه المصلحة العامة, ومادامت المؤسسات التربوية قد قامت لخدمة أولاد الناس, فمن حق الناس أن يثمنوا تلك الخدمة, ويكشفوا عن مواطن الخلل فيها.
وأفكار التطوير, كثيراً ما تأتي من جهات بعيدة، ويحتاج مجال العلاقة بين البيت والمحضن إلى تنظيم وإيجاد آليات لتفعيل التشاور, وعلى المحاضن أن تسهل سبل الوصول إلى التعاون المثمر من خلال مجالس الآباء, ولجان أصدقاء التربية, والزيارات المتبادلة بين المحاضن والبيوت, ومتى شعر الأهالي أن اقتراحاتهم تؤخذ مأخذ الجد والاهتمام, جدّوا في المشاركة والتضحية.
نحن بحاجة إلى علاقة شفافة بين المجتمع والمحضن, لتحقيق الطموحات, وحتى يتعرف المحضن على مستوى أداءه المعرفي والسلوكي والتربوي, يتحتم مشاركة الأهالي وإبداء آرائهم, وفق استبانات وغيرها, وستكون الفائدة أعظم, إذا شكلت لجان مشتركة لتحليل تلك الاستبانات واستخلاص النتائج منها, ثم اتخاذ القرارات الإصلاحية المناسبة.
إن التربية بحاجة إلى العون المادي من الأهالي, والحكومات الآن, تواجه شحاً في الموارد المادية المخصصة للتربية والتعليم, وستزداد متطلبات العمل التربوي على مستوى الكم والكيف, والناس أمام خيارين:
إما انحطاط العمل التربوي وتراجعه, وإما إيجاد سبل وأطر لمشاركة الأهالي في دعمه.
والمتربي إذا دفع مبلغاً يسيراً من المال شهرياً, فهو يؤدي إلى تحسين مستوى خدمات المحضن, ويساعده على تنظيم برامج وأنشطة مفيدة وكثيرة, وهكذا تأمين بعض التجهيزات التربوية, مثل المكتبات والمعامل وأجهزة الحاسب ونحوها, وإذا قنع ولي المتربي أن النتيجة ستكون إيجابية متميزة في نوعية إعداد ابنه للحياة, فإنه يبادر ولا يتردد.
إن قرب أولياء أمور المتربين من المسؤولين عن المحاضن, سيمكنهم من إدراك حاجات المحاضن على نحو أفضل, وهذا سوف يسهل عملية البذل والدعم المادي المطلوب منهم ( ).
إن مشاركة جميع فئات المجتمع في دفع عجلة العمل التربوي إلى الأمام، ضرورة ملحّة في كل زمان ومكان.

تاسعاً: صناعة المربي والعناية به،مطلب أساس
المربي هو الرأس, إذا صلح صلح الجسد كله, وإذا فسد فسد الجسد كله, إذ يستطيع المربي الناجح أن يغطي سلبيات المناهج, كما أن المربي الفاشل يستطيع أن يغطي إيجابيات المناهج.
فصناعة المربي ليصنع جيلاً واعياً صالحاً من ضرورات العمل التربوي, والاعتناء بالمربين لا يزال دون المستوى المطلوب، وينبغي أن نعلم أن المتربي لا يتربى على يد المربي من خلال الدروس والتلقين والتلقي فقط, بل يأخذ عنه أضعاف ذلك, من خلال النشاطات والإعجاب الشخصي والمحاكاة, حتى في اللباس والمشي والكلام.
إن شخصية المربي المؤهل المتّزن, الشخصية الطيبة القدوة, الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر, الداعية إلى الله تعالى, التي تضع مخافة الله جل وعلا نصب عينيها, حاملةً هذه الأمانة,مدركة لآثارها, عارفةً بصعوباتها, شخصية نادرة يعز وجودها في بعض الأقطار, وحاجة العمل التربوي لمثل هذه القدوات والقيادات, أحوج من مائة موعظة أو توجيه.
والمؤهلات العلمية اللازمة للمربي هي نوعان:
1- المؤهل العلمي: وهو الإلمام الجيد بالمادة التي يُدرّسها.
2- المؤهل التربوي: وهو الإتقان لأمرين:
أ‌- طرق تدريس المواد, وكيفية إيصالها للطالب ومعرفة فن التدريس.
ب‌- اجتياز دراسة التربية وعلم النفس, وهي معرفة المراحل النفسية والانفعالية التي يمر بها المتربي, وطريقة التعامل الأمثل معها, وإدراك حاجات المتربي والنهوض به.
ومتى فقد المربي أحد المؤهلين فلا يعتبر مربياً, ولا يكتفى بذلك, بل لا بد من شخصية متزنة ناضجة،من صفاتها: إتقانها لمهارات التواصل الفعّال، والقدرة على التفكير الجيد، وعلى إدارة الأفراد والتأثير عليهم، شخصية سلوكها قويم, ومنطقها جميل, تظهر آثارها التربوية على أقواله وأفعاله, ويتم معرفة ذلك من خلال المقابلة الشخصية لمن يتقدم للعمل في المؤسسة التربوية, وإذا لم تسع المؤسسة التربوية لاختيار المربي الكفء, فهي تهدم بيتها بيدها, مهما طال الزمن أو قصر.
وعلى المؤسسة التربوية أن تأخذ حذرها من بعض المتقدمين للعمل التربوي في بعض المحاضن, فبعضهم تضيق عليه المهن الأخرى, وبعضهم الآخر يطمع في المرتبات العالية, وبعضهم له مقاصد سيئة, ومثل هذا المربي لا يصلح أن يكون مربيا صانعاً لجيل متميز.
إن مهنة التربية والتعليم على جميع الأصعدة, مهنة صعبة, يندر من يحسنها ويبدع فيها, فمسؤوليتها عظيمة, وشأنها كبير.ومن الأمور الضرورية فيما يتعلق بصناعة المربين :
أ‌- تأهيله قبل عمله،من تلقي للمعرفة والخبرات والمهارات اللازمة، ثم التدريب العملي المصحوب بالإشراف والتقويم .
ب‌- تدريبه وتطويره أثناء عمله، والارتقاء به إلى مرحلة النضج والمسؤولية والقيادة(1).
والطموح الذي نصبو إليه في العمل التربوي, أن يكون المتربي في جو تعلمي بين المزارع والمخابر, والمعامل والمنابر, تراه تارة يبحث في المعمل والمختبر, وتارة يعظ ويعلم ويربي على المنبر, وتارة أخرى يخترع ويبدع, وهكذا يتربى في الفصول والقاعات, لتلقي المحاضرات وعقد المؤتمرات,وفي الفيافي والقفار, يبيت اليوم واليومين, يروّض نفسه على الشدائد ومواجهة الصعاب, وهكذا يصحب العلماء وأولي النهى في الحضر والسفر, يتربى بأخلاقهم, وينهل من علمهم.
والمربي إذا أدرك هذا الهدف الأساس, وتصور حال المتربي المأمولة, نحسب أنه يحرص كل الحرص على متابعة عمله وإتقانه وإحسانه. وإظهاره بالمظهر اللائق به.
فاستشراف المستقبل يدعو جميع المؤسسات التربوية بجميع أنواعها, أن تولي المراحل التربوية والتعليمية وخاصة المتقدمة للصغار, اهتماما بالغاً, وتختار لها خيرة المربين المؤهلين ذوي المؤهلات العالية, وتكون حوافزهم متميزة, ورواتبهم أعلى الرواتب, واحترامهم واجب الجميع، لأن الأساس والبناء في هذه المرحلة للإنسان, أهم بكثير من بناء البنيان! ومتى لم ينل المربي المؤهل مثل هذه الميزات, فبأي نفسية يربي؟ !
وبأي عطاء يعطي؟!
وأي قدوة تُرى يكون؟!
بعد هذا, لنا أن نتساءل:
هل يمكن من خلال هذا الواقع, إعادة ترتيب الأوراق, وأن يقوم عمل تربوي متكامل, يجمع بين متطلبات الواقع, وآخر ما وصل إليه العالم من تجارب, وبين تعاليم ديننا الحنيف؟
الجواب/
نعم، بإذن الله، فإذا صيغت الأهداف صياغة جديدة لبناء مجتمع إسلامي، قائم على الفضيلة, آخذ بالأسباب والسنن الكونية, مواكب لركب العلم الحديث, غدت المناهج تخدم هذه الأهداف, واختير المربي الكفء الذي يتقي الله تعالى, ليحمل هذه الأمانة, وتعاونت كافّة المؤسسات المعنية بالتربية من بيت ومدرسة ومحضن, وإعلام وجمعيات ومساجد ومراكز, نحسب أن ذلك يحقق العمل التربوي المنشود. ( )

الخاتمة
وبعد هذا العرض السريع الموجز حول العمل التربوي, وإلقاء الضوء على بعض قضاياه المهمة, أرجو الله تبارك وتعالى أن يكون لبنة صالحة في بناء العمل التربوي، مع اعتقادي الجازم أني لم أوفِ الموضوع حقه, مع القناعة بالضعف والنقص, والاعتراف بأن هناك أشياء كثيرة مهمة لم أنتبه إليها, أو لم أوفها حقها من البحث والتأمل والمعالجة.
ولكن حسبي سلامة القصد وإفراغ الجهد, والله الموفق.
والمؤمل في الجهود الكثيرة المباركة التي تبذل في معالجة قضايانا التربوية, أنها تكمل النقص، وتسد الثغرات, وتقدم ما هو أفضل وأدق.
والحمد لله أولاً وآخراً, ظاهراً وباطناً, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك