فشل المشروع العلماني (حوار الأديان نموذجاً)

علي ملحم حسن

 

كان الحضور السياسي الكبير في مؤتَمر حوار الأدْيان للعام الفائت - إضافةً إلى الشَّخصيَّات الدينيَّة - أمرًا مُلْفِتًا للنَّظر، في ظلِّ ما تردَّد عن تَحقيق الكثير من الدُّول للفصْل التَّامِّ بين السياسة والدين.

 

ولستُ هنا بصدَد قراءة ورصْد نتائج مؤتَمر حوار الأديان، أو النَّظر إلى الأسباب الباعثة عليْه، بقدْر ما يهمُّني قراءة حضور الدِّين في السياسة، وإن تفاوَتَتْ درجة ظهوره بيْن دولةٍ وأُخْرى، وفي مرحلةٍ دون أخرى، ويؤكِّد شواهد ذلك في كلِّ مرَّة يحتاج فيها أصحاب القرار إلى علاج المشاكل المستعصية.

 

مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية سابقًا علمانيَّة عريقة، صرَّحت بعلمانيَّتها في مقابلة مع شبكة "أخبار سويسرا اليوم" في شهر إبريل 2007 م، والغريب أنَّها قالت في نفس المقابلة - وهنا الشاهد -: أعتقد أن تفهُّم التأثير الذي تُمارسه العقيدة الدينية في الكثير من الصراعات والنزاعات يُعدُّ متطلبًا أساسيًّا، يُعين على إيجاد الحلول لها، وتتابع: أنا أعتقد في الواقع أنَّنا بحاجة إلى إشْراك الزُّعماء الدِّينيين في حل الصراعات، ليس كأطراف مشاركة على مائدة المفاوضات، ولكن كمصادر للتفهُّم، ولكسْب مساندتِهم في نِهاية المطاف للقرارات التي يتم التوصُّل إليْها في المفاوضات؛ لأنَّه لا يمكن فصْل النَّاس عن معتقداتهم الدِّينية.

 

وذهب "روس داوت" في مدوَّنته "أزمة الدين" إلى مدى أكثر وضوحًا، حينما قرَّر أنَّ "أوروبَّا تتحوَّل إلى مزيد من التديُّن".

 

الجملة الأخيرة من كلام أولبرايت تدلُّ عن وضوح وواقعيَّة في مقاربة موضوع تأثير الدين في حياة الناس، وهي بِهذا الكلام تسجِّل موقفًا أكثر عمقًا ووعيًا من العلمانيِّين العرب، الذين صدَّقوا أكذوبة فصْل الدين عن الحياة، فكرَّسوا جهودَهم لفصْل المسلمين عن دينِهم دون نتيجةٍ تُذْكَر، خلا بعض النماذج الشاذَّة أو المصطَنَعة التي استجابت للطَّرح العلماني من هنا وهناك، الأمْر الذي يؤكِّد على فشَل الطَّرح العلماني الجزئي، الذي يهدف إلى فصْل الدين عن الدَّولة، وفشَل الطَّرح العلماني الشَّامل الذي يهدِف إلى فصْل القيم الإنسانية والأخلاقيَّة والدينيَّة عن مجمل حياة الإنسان.

 

يقول د عبدالوهاب المسيري: إنَّ العلمانيَّة الشاملة ليست فصْلاً للدين عن الدَّولة؛ بل فصْل لكل القيم عن مجمل حياة الإنسان، ونزع للقداسة عنْه، بحيثُ يتحوَّل العالم إلى مادَّة استِعْمالية يوظِّفها القويُّ لحسابه، وهو ما يؤدِّي إلى الحداثة الداروينيَّة، وتَحويل العالم إلى حلبة صراع، فهي علمانيَّة تنكر إنسانيَّة الإنسان.

 

العلمانية بطرْحَيْها الجزئي والشَّامل اصطَدَمتْ بِحقيقةٍ طالَما أنكرت وجودَها وتهرَّبت منها، وهي تأثير الدين في السياسة الداخليَّة أو العالميَّة، وشواهد هذا التأثير لم تتَّضح فقط في الانتِخابات الأمريكيَّة الأخيرة؛ بل برزت في دول عريقة في العلمانيَّة منذ وقت ليس بالقصير.

 

فبحسب موقع وكالة الأنباء الألمانيَّة: يُعدُّ الفصْل بين الدين والدَّولة أحدَ أهمِّ الركائز الأساسيَّة للنِّظام السياسي الألماني، ورغْم الفصل بينَهُما، إلا أنَّ الكنيسة تلعب دورًا غير مباشر في صياغة القرار السياسي عبْر تأثيرِها على الأحزاب السياسيَّة وتوجُّهات الرأي العام.

 

فهل يبقى بعد هذا شكٌّ في أهمِّيَّة الدين ودوره الكبير في صياغة السياسات؟!

 

إنَّ ما سلف لا يعنِي بالضَّرورة تحوُّل المجتمع الغربي إلى مُجتمع متديِّن خالص، فكما أنَّه لا يصح اعتبارُه علمانيًّا خالصًا، لا يَجوز اعتباره مُتَدينًا صرفًا[1]، لكن ربَّما يكون هذا الحراك الديني مسوغًا لنا لكي ندعو التَّغْريبيِّين لمراجعة خطابِهم، بعد أن بدأ مثلهم الأعلى - الغرب - بالعودة شيئًا فشيئًا إلى تعاليم الإنْجيل، والتخلِّي عن العلْمنة بعد قرون من الخضوع لها، أو على الأقل إفساح مجال أوسع للدِّين والمتدينين.

 

فمن العجيب أنَّ بعض العلمانيِّين العرب الذين استوردوا أفكارًا معلَّبة من الغرب تَهدف إلى فصْل الدين عن الدولة - لا زالوا ينظِّرون لتلك الأفكار ويدعون إليْها، في الوقْت الذي بدأ الغرب يُعْرِض عنها ويتخلَّى عنها رويدًا رويدًا؛ لأنَّه أدرك ضرورةَ الحاجة إلى الدين.

 

فهل بقِي بعد هذا ما يسوِّغ للعلمانيِّين العرب أن يروِّجوا لدعوى فصْل الدين عن الدَّولة، واستِمْرار بعض مَن وصل منهم إلى مواقِع النفوذ والقرار في العمل جاهدًا على محاربة الدين، ناسيًا أو متناسيًا أنَّ الإسلام دينٌ ودولة، وعقيدة وشريعة، وأنَّ الإسلام هو خيار هذه الأمَّة، وأنَّ المسلمين لن يتخلَّوا عن دينهم، مهما زخرف الباطل قوله وزيَّن ضلاله.

 

المصدر: https://www.alukah.net/sharia/0/4628/

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك