العلاقات الدولية / واحترام العهود والمواثيق في الإسلام

الدكتور وهبة الزحيلي

 

احترام العهود والمواثيق مبدأ صريح شدّد عليه الإسلام. وإذا ساءت العلاقات بين المسلمين وغيرهم فالطريق المتعين هو المسالمة والموادة والمعاهدة والتسوية السلمية. واسترداد حقوق المسلمين يتطلب المقاومة طبعاً، ولكن يتطلب إلى جانب ذلك ثلاثة أمور أساسية هي: الاعتراف المتبادل المتكافئ بين الدول، والاعتماد على الثوابت في إغناء الحوار، وتفعيله، والموضوعية والحياد في الوسطاء.

والإسلام في تشديده على حفظ العهود والمواثيق ألزم بالوفاء حتى بأحلاف الجاهلية ذات الطابع الخيّر الإنساني الرفيع.



تقديم

واقع العلاقات الدولية المعاصرة بين المسلمين وغيرهم ليس ذا صفة حسنة، لأن هذه العلاقات تميزت بالاضطراب واهتزت معايير الاحتكام فيها، وحار المفكرون والعقلاء في شأنها، فبدلاً من ضرورة تنميتها والتزامها وتتويجها بقيم الحق، والعدل، والسلام، والاعتدال، واحترام العهود والمواثيق، وأصول الأخلاق، ورعاية حقوق الإنسان سواء للفرد والدولة، واستقلال الأوطان، والدفاع المشروع عنها، وموازين الشريعة الإلهية والدولية، أصبحت هذه القيم تتعرض للهزات والنكسات، والعودة إلى الوراء، والاغترار بالقوة الجبارة، والاتصاف بالاستكبار العالمي، وسيطرة الأهواء والنزعات الخاصة، والتفسيرات الغريبة، والعصف بكل ماورثته الإنسانية، وقرره الحكماء، وأكدته التجارب العلمية، واستفاده البشر قاطبة من هدي الوحي الإلهي ورسالات الأنبياء الخالدة.

وكأن الحق صار باطلاً، والعدل ظلماً، والاعتدال تهوراً، والسلام بطشاً وحرباً مسعورة، والاستقلال تبعية، ومقاومة المحتل إرهاباً، والعهود والمواثيق حبراً على ورق، والأخلاق والفضائل رذائل وعيوباً، والمواثيق والمفاهيم الدولية غائبة عن الوعي والحسّ، وحقوق الإنسان مهدورة أو مجرد شعارات لحماية مصالح وأطماع الأقوياء والمستكبرين والمتهورين، و
الحوار الحضاري المتعدد الأنحاء أضحى صراعاً عنيفاً وتوتراً موجّهاً.

ولم يعد هناك أي تقديس للمفهوم الديني الصحيح، وأصبحت المقدسات والمعابد مجرد مبان حجرية لا حرمة لها ولا اعتبار أو احترام لروادها إلا في أذهان أتباعها، لأن العداء الديني، والتعصب الممقوت، والأحقاد السوداء طمس الحقائق كلها، وأعلن المخربون والمدمرون ودعاة الإباحية والفوضى بكل وقاحة أن هذه المقدسات لا قيمة لها، فليس لها في أنظارهم أي تقديس أو تعظيم وحماية.

فهل من صحوة تعيد الحق لنصابه، والأوطان لأهلها، والكرامة الإنسانية للشعوب المستضعفة، وتصان الثروة لأصحابها؟!

أو هل يبقى النفوذ والسيطرة والاستعلاء لمن يملك القوة وحدها، ويزيّف المعايير، ويقلب المفاهيم، ويفسر المبادئ لصالحه وأعوانه؟

نحن – المسلمين المؤمنين إيماناً ثابتاً راسخاً كالجبال الشامخة – نعرف بأن هذه الهزة العنيفة الآنية للعلاقات الدولية، ولاسيما بين المسلمين وغيرهم مجرد غمامة سوداء، لابد من أن تزول، فإن الخلود والبقاء للحق لا للباطل، وللصدق لا للكذب، وللعدل لا للظلم، وللإيمان بالله الواحد القهار لا للشيطان والإلحاد والضلال والأهواء.

ويقيننا ثابت قاطع بأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم، إن اعتراها شيء من التشويه والتزييف والأباطيل، فإن كل ذلك غبار لا يحجب ضوء الشمس الساطعة.

إننا جازمون بأن كل علاقة اجتماعية وإنسانية كريمة سوف يكتب لها النصر والبقاء، وهذا ما يدعونا إلى صياغة واضحة للعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، من خلال التصورات والمنطلقات الإسلامية والثوابت الإلهية. ويكون التعرف على المحاور العلمية في هذا البحث سهلاً فيما يأتي:

ـ نمط العلاقات الدولية في العصر الحاضر.

ـ طبيعة العلاقات الخارجية في ضوء الإسلام.

ـ ضرورة تنمية العلاقات الدولية وتصحيحها بما يحقق الخير للإسلام والإنسانية.

ـ وجوب احترام العهود والمواثيق في الإسلام ومقارنته بالأعراف الدولية السائدة.



نمط العلاقات الدولية في العصر الحاضر:

فكرة العائلة أو الأسرة الدولية تحددت منذ مؤتمر وستفاليا سنة 1648م عقب انتهاء العصور الوسطى 1453م، وكانت مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوروبا، ثم انضمت إليها سائر الدول الأوروبية المسيحية، ثم شملت الدول المسيحية غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856م، فشملت تركيا – الدولة الإسلامية، ودولاً أخرى غير مسيحية وإنما هي بوذية كاليابان والصين، أو هندوسية كالهند.

وأركان الدول الحديثة ثلاثة: الإقليم أو الوطن، والشعب، والسيادة العليا السياسية أو السلطة، فصارت الإقليمية ذات الحدود المعيَّنة في أرض محدودة، هي السمة البارزة لهذه الدول، وتتطلب الاعتراف بها أو إقرار الدول المنضمة لهيئة الأمم المتحدة بها، وعددها الآن (165)، دولة منها (56) دولة إسلامية.

ويتضمن الاعتراف بكل دولة ناشئة احترام استقلالها ومنع الاعتداء عليها، ولها الحق بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة الدفاع عن شعبها وأراضيها، فذلك حق من حقوق الدولة الطبيعية المعترف بها في القانون الدولي المعاصر، وهي حق البقاء وحق الدفاع الشرعي، وحق المساواة وحق الحرية، وحق الاحترام المتبادل (1).

وقد قبلت الدول الإسلامية بهذه الحقوق، وانضمت إلى الأمم المتحدة، ولم يعد مشروعاً لأية دولة الاعتداء على أراضي دولة أخرى أو ضم أراضيها بالقوة أو الاحتلال العسكري، إلا إذا أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الذي تهيمن عليه الدول دائمة العضوية والتي لها حق الفيتو (النقض) (2) مشروعية التدخل للسلامة الإجماعية أو الدفاع عن الإنسانية في حالة اضطهاد دولة للأقليات من رعاياها(3). وليس منها الآن احتلال أفغانستان أو العراق أو فلسطين.

وليس الجهاد المفروض في الشريعة الإسلامية أو حق المقاومة في حالات ثلاث

إلا صورة من صور الدفاع المشروع، وهذه الحالات هي:

أـ حالة الاعتداء على دعاة الإسلام، انطلاقاً من مبدأ أو حق الحرية الدينية المعترف به دولياً في ميثاق الأمم المتحدة، وهو المصرح به في القرآن الكريم: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ( (البقرة:256).

ب – الحرب المناصرة للمظلومين أو المستضعفين، وليس هذا تدخلاً في شؤون الغير، لأن التدخل اعتداء، والاعتداء محرم دولياً، لأن هذا التدخل مشروع في حال الدفاع عن الإنسانية، كما تقدم، أو عن الحقوق المغتصبة، أو بسبب الاعتداء على رعايا الدولة

أو الشعب المقهور كأهل فلسطين.

ج – الدفاع عن النفس أو الوطن، أو لصد عدوان أجنبي غير مشروع، أو احتلال بعض أراضي الدولة أو محاولة طرد السكان الأصليين من ديارهم وممتلكاتهم.

وتدخل هذه الحالات في مشتملات الآية القرآنية:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190).



طبيعة العلاقات الدولية الحديثة:

العلاقات الدولية بين مجموعة الدول الحديثة قائمة على أساس من الاعتراف بالدولة، والاحترام المتبادل، ولكل دولة حق المساواة مع الدول الأخرى، ولها سيادة أو سلطة عليا على أراضيها وشعبها، وفيها سلطات ثلاث: تشريعية وقضائية وتنفيذية (4)، ويعني ذلك الاعتراف باستقلال كل دولة على حدة، ولا يسمح لأية دولة بالتدخل في شؤون دولة أخرى، ويكون الاستعمار البغيض مرفوضاً جملة وتفصيلاً، وإنما لابد من احترام مقتضيات السلم والأمن الدولي، وهذه نظرة حضارية رفيعة، وإنسانية رشيدة، ولها أهميتها الملموسة من أجل رقي واستقرار الشعوب والأمم، وتمكين كل دولة من حل مشكلاتها وقضاياها بنفسها.

وتهيئة هذا المناخ السلمي والأمني يجعل العلاقات الدولية الخارجية قائمة على أساس من التعاون والتضامن والتكافل بين الأقوياء والضعفاء، والإسهام في مساعدة أية دولة تتعرض لكوارث طبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير وفياضانات وأمراض فتاكة وغير ذلك.

وهذا ما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((الحجرات:13).

ويؤكد القرآن الكريم على أن رسالة الإسلام هي الرحمة العامة بالعالمين في آية:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( (الانبياء:107).

وأصول التعاون الدولي بين المسلمين وغيرهم في خارج العالم الإسلامي هي المبادئ الدولية المعروفة وهي الحفاظ على السلام العالمي، والوفاء بالعهد والميثاق، واحترام كرامة الإنسان والحفاظ على حقوق الإنسان، والتزام معايير الأخلاق الكريمة والفضائل الإنسانية السوية، والتعامل بين المسلمين وغيرهم على أساس من المحبة والود، والرحمة، والعدالة، والحرية والمعاملة بالمثل.

وما أعظم التوجيه القرآني في هذا السبيل في حال وجوب التزام العدل مع الآخرين، حتى ولو كانوا أعداء، في قوله تعالى: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( (المائدة:8) أي لا يحملنكم بغض قوم وكراهيتهم على إلحاق الظلم بهم وترك ظاهرة العدل معهم، فالعدل أوجب وأقوم وأرضى لله ورسوله.

أما الكرامة الإنسانية: فهي مصونة في الإسلام، سواء في داخل الدولة أو خارجها، لعموم قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ …( (الاسراء:70) ، وتكريم الإنسان في شريعة الإسلام يشمل حالتي الحرب والسلم على السواء.

والمعاملة بالمثل المعروفة دولياً مقيدة في الإسلام بالتزام السمو الخلقي والأدبي الكريم، فلو ارتكب العدو ما يسمّ هذه القيم الخلقية والمبادئ السامية كالتمثيل بالقتلى أو التعذيب الوحشي، أو قتل الأسرى، أو تجويعهم وإهانتهم، أو الاعتداء على الأعراض ونحوها، أو معاملتهم معاملة غير كريمة، فإن الإسلام يمنع أتباعه من مجاراتهم أو مبادلتهم بما يكون دنواً أو حطّة في الأخلاق والمعاملات، لأن مبدأ المعاملة بالمثل في شريعة الإسلام مقيد باعتبارات الفضيلة وتقوى الله (عزوجل)، ومن أمثلة ذلك:

«.. ولا تغدروا ولا تمثلوا»(5). فقد نهى النبي(ص) عن التمثيل بالقتلى. وجاء في وصية أبي بكر الصديق لقائد جيوشه يزيد إلى الشام: «وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً، ولا تغرقنه، ولا تغلل ولا تجبن»(6) ومثل ذلك وصية الخليفة الراشدي عمر بن عبدالعزيز إلى عامله أو واليه.

السلام العالمي والأمن الدولي:

الإسلام دين السلام العادل والأمن والاستقرار، ونبذ الحروب، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، لأن دعوته العالمية لا تنتشر إلا بأرضية راسخة من السلم والتفاهم والإقناع، ولأن الإسلام دين الفطرة السليمة الوادعة الهانئة التي تتلقى العلوم والمعارف، وتكتسب الخبرات والمهارات، وتبني كل مقومات الحضارة والمدنية ليعيش الإنسان في هناءة ورخاء واستقرار.

غير أن الإسلام عزيز قوي منيع لا يقبل لأتباعه إلا العزة والقوة والكرامة، وصون الحقوق، وإقامة صرح العدل، على قاعدة وطيدة من السلم، وقائمة على أساس المساواة مع الآخرين، فلا يتوافر السلام من جانب واحد، وإنما من الجميع، ويستحيل أن يسمى هذا السلم الذي يكون لصالح الأقوياء والمتسلطين والغاصبين والمعتدين سلماً عادلاً أو صحيحاً متزناً ومستقراً، فيكون الدفاع عن الحقوق والمستضعفين واجباً مقدساً وشريفاً، وهو ما يقره العقلاء وتعترف به الشرائع الدولية، لذا كانت المقاومة للمحتل حقاً مشروعاً من غير أي شك.

فإن امتنع العدوان من الآخرين، ورفع الضرر والظلم، وتوقف الأعداء عن أطماعهم وتدخلاتهم المتكررة في التاريخ، كان المسلمون أشد الناس احتراماً لقاعدة السلم والأمن الدوليين، كما تقدم، بل وإشاعة المودة المتبادلة، وغرس المحبة والثقة، وانتزاع

فتيل الحرب.

ومن أجل هذا كان الأصل الطبيعي أو القاعدة العامة بين المسلمين وغيرهم هو السلم وليس الحرب، فالله هو السلام، وتحية المسلمين على الدوام السلام، والجنة دار السلام، والدنيا مهد السلام، ودعوات جميع الأنبياء والمرسلين هي دعوة الحق والعدل والسلام، والقيم العليا القائمة أساساً على الوسطية والاعتدال.

وما أكثر النصوص التشريعية في القرآن الكريم الداعية والآمرة بالسلام، وأن الحرب استثناء، وأن العالم كله كما قرر الإمام الشافعي دار واحدة، وتقسيمها إلى دارين أمر طارئ بسبب نشوب الحرب، وهو عين ما قرره فقهاء القانون الدولي: يترتب على قيام الحرب وجود فريقين: متحاربين، ومسالمين أو محايدين.

ومن آي القرآن الكريم الآمره بالسلام قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( (البقرة:208)، وقوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( (لأنفال:61). وقوله (عزوجل):

( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً( (النساء:90) (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (الممتحنة:8).

والسلم في هذه الآيات: الصلح والسلام ودين الإسلام الحق المنسجم مع العقل والمنطق والحكمة والقيم السامية، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام(7).

ولماذا ينكر الأعداء الاقوياء على المسلمين حقهم في الدفاع عن أنفسهم وأوطانهم وهم يتدخلون صراحة في شؤون الدول والشعوب الأخرى، ويعيثون في الأرض فساداً، ويشنون حروباً ظالمة على غيرهم من المسلمين ويحتلون دولهم، وينهبون ثرواتهم، ويدمرون تاريخهم وحضارتهم، تحت مظلة ما يزعمون من مقاومة الإرهاب، والإرهابيون مجرد أفراد لا يحتاجون لحرب دولية؟ وهل نجحت هذه الحروب وتحالف أمريكا مع دول كثيرة في أوروبا وغيرها بالقضاء على الإرهاب بعد أربع سنوات؟ إن كل هذه الحروب الضروس إنما هي في الدرجة الأولى لخدمة مصالح إسرائيل والصهاينة الغاصبين، ولتحقيق سيطرتهم وبسط نفوذهم على العالم، وتفردهم بتوجيه الآخرين من منطلق زعامة أو سيادة القطب الواحد، وإقامة إمبراطورية عالمية فريدة متحكمة في شؤون الدول الأخرى المستضعفة أو الموالية لهم خوفاً أو مجاملة على حساب العالم الإسلامي.

وتؤكد السنة النبوية مضمون الأوامر القرآنية الآمرة بالسلام لنبي الرحمة العامة بالعالم، وكذلك واقع الأنظمة الإسلامية وتاريخ المسلمين.

فمن النصوص النبوية: قولـه(ص): «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»(8) أي من أجل الثبات في المعارك الحربية التي تتطلب القوة والبأس والشجاعة، كما هو معلوم من طبيعة الحرب وحب الانتصار.

وأما تاريخ المسلمين في العهد النبوي والخلافة الراشدية والأموية والعباسية وغيرها: فواضح من تتبع هذا التاريخ، أنه لم يكن المسلمون يوماً ما المهاجمين المبتدئين بالاعتداء أو الحرب، وإنما كان غيرهم هم الذين اعتدوا على المسلمين، وشنوا عليهم الحروب، ويعذر بعض القادة المسلمين في الرد الحاسم على الأعداء إن فتحوا جبهة حربية في مواقع متعددة غير مباشرة مثل مصر والمغرب العربي، فتلك استراتيجية عسكرية مشروعة ومعلومة.

وأما الآيات الداعية إلى القتال على الإطلاق مثل: ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( (التوبة:36) ومثل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِر( (التوبة:29) فهي كما صرح النص فيهما في حال الحرب المعلنة من العدو، أو قيام حالة الحرب، والحرب لا تعرف عادةً الهوادة أو اللين، وإلا كان ذلك سخرية وعبثاً إن لم تتوافر الشدة والثبات، ويتقيد إطلاق هذه النصوص العامة بالآيات الأخرى مثل قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( (البقرة:190) فهذه الآية مقيد فيها تشريع القتال بحال رد العدوان، والآيات الأخرى مطلقة عن التقييد، ومن القواعد الأصولية في شرعنا: أنه يحمل المطلق على المقيد، أي يفسر المطلق في ضوء النص الوارد بالتقييد.

الباعث علىالقتال في الفقه الإسلامي في رأي أغلب الفقهاء ليس هو الكفر أو المخالفة في الدين، وإنما هو الاعتداء والحرابة أو دفع العدوان، والعمل على تمكين البشرية من ممارسة الحرية التي يصادرها قادتهم وحكامهم، وللعدوان مظاهر مختلفة، فكان في عهد النبي(ص) ذا منهجين أو صورتين:

إحداهما: أن يهاجم الأعداء جماعة المسلمين، فلابد من إحباط الهجوم وقمع العدوان، وقد خاض النبي(ص) سبعاً وعشرين معركة (9). كان المشركون ,وأعوانهم ومنهم الروم والفرس هم المعتدين، وقد صبر النبي وصحابته بأمر الله تعالى قرابة خمسة عشر عاماً (13 عاماً في مكة ونحو عامين في المدينة) على أذى الأعداء، والتزموا ظاهرة العفو والصفح عنهم، وآثر السلام معهم، حتى أذن للمسلمين بالقتال في قوله تعالى:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ( (الحج:39).

والثانية: أن يَفتنوا المسلمين عن دينهم أي إنهم يحاولون ارتدادهم عن الدين، فكان على النبي وصحبه أن يمنع ذلك الاعتداء الواقع على حرية الفكر والعقيدة(10).

وأما الفقهاء المسلمون الذين يخطئ المستشرقون بفهم مذاهبهم وادعائهم أن مشروعية الجهاد في الإسلام قائمة على الهجوم لا مجرد الدفاع، فيكفيني أن أنقل تلك الكلمة الرائعة للفقيه المشهور عمرو بن الصلاح حيث قال مقرراً مذهب جمهور العلماء في أن الباعث على الحرب أو القتال في الإسلام هو الاعتداء لا الكفر: «إن الاصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم، لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وجد منهم، لا أن ذلك جزاء على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست جزاء، بل الجزاء في الآخرة. فإذا دخلوا في الذمة (المعاهدة السلمية مع المسلمين) والتزموا أحكامنا (السيادة التشريعية أو سيادة القانون الداخلي الإسلامي) انتفعنا بهم في المعاش في الدنيا وعمارتها، فلم يبق لنا أرب في قتلهم، وحسابهم على الله تعالى، ولأنهم إذا مكنوا من المقام في دار الإسلام (الوطن الإسلامي) ربما شاهدوا بدائع صنع الله في فطرته، وودائع حكمته في خليقته.. وإذا كان الأمر بهذه المثابة، لم يجز أن يقال: إن القتل أصلهم»(11) أي إن الأصل أو القاعدة العامة هو السلم وليس الحرب أو القتال.



ضرورة تنمية العلاقات الدولية وتصحيحها بما يحقق الخير للإسلام والإنسانية:

إن توتر العلاقات الدولية أو الخارجية بين المسلمين وغيرهم ليس في الصالح الإسلامي، ولا سيما في وقتنا الحاضر، لأن المصلحة الإسلامية لا تقتصر فقط على تحقيق الانتصارات مثلاً في حرب ما، أو دفع الشر والعدوان، ووضع العراقيل أمام نشر الدعوة الإسلامية، لأن ما يتحقق في حال السلم أعمق وأوسع وأرسخ مما يتحقق في حال الحرب التي تتطلب توافر القوة المكافئة لقوى الأعداء، بمقتضى التوجيه القرآني:

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ( (لأنفال:60).

وإذا ساءت العلاقات بين المسلمين وغيرهم في عصرنا، فالطريق المتعين أمامهم لإعادة هذه العلاقات لطبيعتها الأصلية هي المسالمة العادلة والموادة، والمعاهدة، وتسوية المنازعات بالحلول السلمية والمساعي الحميدة، ونزع فتيل الأزمة أو شرارة الحرب.

و
الحوار الحضاري وإيثار حل المشكلات سلمياً هو سبيل إزالة التوتر أو سوء التفاهم أو تشويه سمعة جماهير المسلمين، لا بعض أفرادهم، واتهامهم باتهامات باطلة كالإرهاب والتعصب والتزمت والتشدد أو الأصولية ونحو ذلك من عبارات إعلامية منشؤها الحقد والكراهية والعداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أكبر.

إن 
حوار الحضارات واللجوء إلى التسويات السلمية لاسترداد حقوق المسلمين المغتصبة وطرد المحتلين من ديارنا يتطلب عدا المقاومة المشروعة ثلاثة أمور أساسية وهي ما يأتي:

الأول: الاعتراف المتبادل على قدم المساواة بين الدول: فلا ينجح أي 
حوار أو مسعى سلمي إلا باعترافنا بوجود الآخر، واعتراف الآخر بنا، لأن هذا الاعتراف دليل الاحترام المتبادل، وتوفير حسن الظن والثقة، وأي حوار مسموع للضعفاء أمام الأقوياء المستكبرين والذين يريدون فرض هيمنتهم على غيرهم من الدول الضعيفة أو المستضعفة؟!

إن 
الحوار الناجح هو النابع من حسن النية، والحرص على حل المشكلات على أساس من الحق والعدل، والترفع عن الأطماع، والنيات الماكرة والبواعث الخبيثة.

و
الحوار الذي يحقق نتائجه سريعاً هو النابع أيضاً من مظلة العدل والإنصاف والمساواة،ونبذ التعنت والتنطع، والانطلاق من الشعور بالقوة الطاغية والاستكبار العالمي.

الأمر الثاني: الاعتماد على الأساسيات والثوابت والمرجعية في إغناء 
الحوار وتفعيله، أما إذا كان المراد من الحوار أو المفاوضات لحل المشكلات القائمة بين المسلمين وغيرهم هو إملاء الشروط وفرض الحلول الجاهزة، فهذا مرفوض لدى أي عاقل أو منصف.

ولا مانع لدى الجانب الإسلامي من الانطلاق من مبادئ الحق والعدل والشورى، وتسوية مشكلات حقوق الإنسان، واتباع الأساليب الديمقراطية التي يزعمون تصديرها للعالم الخارجي غير الغربي، بل ويقبل المسلمون في مبدأ الأمر ومع بعض التحفظات ما تقرره المواثيق والشرائع والقوانين الدولية دون إلحاق الظلم والتعسف وهضم الحقوق الأصيلة والعريقة.

الأمر الثالث: الموضوعية والحياد في الوسطاء ولا سيما أصحاب القوة والنفوذ والفوقية والعنصرية والتعصب من الآخرين بحيث لا يكون هناك تحيز لجانب على حساب آخر، ولا الكيل بمكيالين أو الوزن بميزانين.

وهذا معروف من سياسة أمريكا وحلفائها في الوقت الحاضر، حيث إنهم في القرارات الدولية قبل إصدارها أو بعد صدورها على استحياء في مجال التنفيذ والتطبيق، أو من أجل حل الصراعات في الشرق الأوسط يتحيَّزون بنحو واضح لصالح دولة (إسرائيل) حيث يمنحونها كل الإمدادات العسكرية المتطورة والأموال الضخمة السخية، ويحظرون أي محاولة لتملك المسلمين بعض مصادر أو وسائل القوة الدفاعية، الصناعية أو المستوردة بقيود شديدة ورقابة صارمة.

فهل هذه السياسة الازدواجية تحقق نجاحاً على مستوى 
الحوار، أو حل المشكلات العالقة بالوسائل السلمية، والمفاوضات، والخطط الكثيرة المعلنة مثل اتفاق أوسلو، وخارطة الطريق بين العرب وإسرائيل والتي هي للتخدير في الغالب، ثم تجميدها

في الواقع؟!

إننا نحن المسلمين وإن كنا ضعافاً في أنظار الآخرين، فإننا نملك قوى خالدة

لا تتزعزع، منها الإيمان بالله تعالى وقدراته، والصبر على الكفاح، والطاقات الكامنة لدينا، سواء كانت طبيعية، أو موقعية استراتيجية، أو ثوابت الحق الخالد والعدل والراسخ، أو المواقف السلبية المؤثرة، ومرور الزمان، فإن المستقبل بمشيئة الله لنا، والنصر في النهاية مهما تكاثفت الظلمات سيكون لأهل الحق: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي» وقال تعالى: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحج:40)،

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( (الشعراء:227).

بهذه الأصول أو المعايير يمكننا تنمية العلاقات الخارجية أو الدولية، والمسلمون حريصون على توطيد العلاقات فيما بينهم وبين غيرهم لتحقيق الغايات المشروعة، والمصالح المشتركة، ولإثبات مدى حسن النية، مع صون الحقوق واسترداد المغتصب أو المحتل منها، سواء الأوطان أو غيرها.



احترام العهود والمواثيق في الإسلام:

أـ تعريف العهد والميثاق والمعاهدة

العهد أو الميثاق في فقهنا الإسلامي لـه معنى أعم أو أوسع من كلمة «معاهدة» في القانون الدولي الوضعي.

ففي الشريعة أو الفقه: العهد: هو كل ما يتفق فيه شخصان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقاً، وإن أكداه باليمين خاصة سمي «يميناً». وسمي عقد الزواج في القرآن الكريم ميثاقاً غليظاً، أي مؤكداً شديد التأكيد.

والمعاهدة: هي أساساً اتفاق الإرادتين بصرف النظر عن الشكل أو الإجراء.

والعرف السائد اليوم يدل على تمييز «العهد» عن «العقد» بإضفاء سمة الإجلال والسمو والتعظيم للعهد، وتخصيصه بالعقد الموثق بقصد الوفاء به بنحو مؤكد، سواء تم توثيقه بالكتابة أو باليمين، أو بغيرهما من وسائل التوثيق، فكل اتفاق هو عقد، وليس كل «عقد» هو «عهد».

والعرف الدولي يميز «العهد» عن «المعاهدة» فإن «العهد» أوسع معنى من «المعاهدة» كما في فقهنا فكل معاهدة هي عهد، وليس كل عهد معاهدة. والمعاهدة محصورة عرفاً بالاتفاق بين دولتين، بين الأفراد والجماعات، وموضوعها محصور في حكم علاقة دولية ذات طابع قانوني، أي إنها ذات معنى خاص ضيق من حيث الطرفان والموضع. فيقال للانفاقيات الدولية في معاملة الأسرى وقواعد الحرب وأحوال مشروعية القتال أو استخدام القوة: إنها معاهدة.

والمسائل الجزئية الجانبية ذات الأهمية المحدودة لا تنظمها المعاهدة التي لها طابع العنصر الدولي المهم، وإنما توصف بأنها اتفاقية مثل أمر الحاكم بإنهاء الحرب مع مدينة معينة أو شعب مجاور، ومثل اتفاقية تبادل الأسرى ونحو ذلك.

ب – أهمية المعاهدات والمواثيق ومشروعيتها

تضفي المعاهدات والمواثيق على أعمال الأمم والشعوب والدول والأفراد عنصر الثقة والاطمئنان، وتعمل على تخفيف حدة التوتر في العالم، وتكفل إلى حد بعيد تنفيذ الشروط والبنود وتحقيق المصلحة في وقت محدد، يعود على الطرفين بالخير والهدوء والراحة النفسية والاجتماعية.

وبالمعاهدة يحل مبدأ السلم محل الحرب، والأمن محل القلق والخوف، والحب والصفاء بدل الكراهية والكيد، وينعم الناس بنعمة الحرية التي لا قيود عليها، فيتفرغون لشؤون المعيشة، وتقدم المدنية والعمران، وتنشيط الصناعة وتطورها وتوجيهها وجهة لخير الإنسان وصالحة ونفعه، ولإنعاش الزراعة وحفظ المواسم، وتنمية التجارة، وفتح الأسواق أمام الصادرات والواردات، وتبادل المنتجات، فتكون المعاهدة أداة تفاهم وودّ، وتقدم وحضارة، ورفاه وسعادة.

والمعاهدة فضلاً عن كل ذلك أداة حاسمة وموثقة لتنمية العلاقات الدولية، وفض المنازعات والخصومات الخارجية. لذا عظّم الإسلام العهود والمعاهدات ورغب فيها، وشرعها وسيلة متعينة لتنظيم العلاقات الخارجية، وآثر فض المنازعات الجماعية بالوسائل السلمية، سواء في داخل الدولة المسلمة أو خارجها، ولتحقيق الأغراض الكريمة والغايات الإنسانية االنبيلة، بل إن نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة

لا يتم إلا في ظلها وفي ربوع الأمن والسلام وإشاعة الاستقرار والرخاء المتحقق بها.

والنصوص الشرعية في الإسلام كثيرة دالة على مبدأ مشروعية المعاهدات مع الأعداء حال السلم أو الحرب، في إطار من الشروط المتفق عليها بالتراضي والاختيار، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( (المائدة:1)، وقوله سبحانه:

( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (

(لأنفال:72) أي إن حق الميثاق فوق حق الإخوة الإسلامية، حيث ينصر المعاهد غير المسلم، ولا ينصر المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق(12).

وقولـه (عزوجل): (إِلاّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ( (التوبة:4).

وهذا كله دليل في الشريعة الإسلامية على قدسية المعاهدات ووجوب احترامها وإلزام الوفاء بها، قال النبي(ص): «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طبيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»(13).

وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس بن مالك(رضي الله عنه)، عن رسول الله(ص) قال: «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»(14).

ج – الوفاء بالعهد

الوفاء بالعهود والمواثيق فرض واجب لازم في الشريعة الإسلامية كأداء الفرائض الأخرى من العبادات وغيرها، فعلى المسلمين تنفيذ التزاماتهم التي تعهدوها في معاهداتم دون تلكؤ ولا تباطؤ ولا تسويف، ولم يسمح الإسلام بالغدر والخيانة أو نقض العهد والتحلل من الالتزامات أو بنود المعاهدة، لأن ذلك شيء مهين يخل بالثقة والاحترام، ولأن المسلمين يمثلون سمو الرسالة الإلهية وشرف الكلمة النابعة من الدين.

لذا لم تكن المعاهدات في الإسلام مجرد قصاصة ورق، كما هو الشأن المعروف عند الدول غير الإسلامية في الماضي أو الحاضر، ولا وسيلة لخداع العدو ولا ستاراً لتنفيذ أغراض معينة، ولا شعاراً لفرض القوي سلطانه على الضعيف أو المغلوب كما يفعل غير المسلمين عادة، حتى إذا قوي الضعيف نبذها، وقاتل للتحلل من قيودها والتخلص من سلطة العدو الأقوى، وهي أيضاً كانت عند غير المسلمين صورة أو مظلة لقوة الأقوياء لإملاء شروطهم غالباً وليست إجراء لتنظيم السلم العادل، وإنما كانت المعاهدات في شريعة الإسلام وتاريخ المسلمين مصونة عن أي غدر أو خداع أو قهر، أو لتحقيق مصلحة مادية رخيصة، أو من أجل فتح منافذ أسواق لتصريف السلع والمنتجات الصناعية، وفائض الزراعة، أو المواد الاستهلاكية الزائدة عن الحاجة، وبشرط عدم التأثير على أسعار السلعة محلياً، وإلا ألقي الفائض في البحار، ولم يصدَّر لأحد، كما تفعل بعض الدول الغربية المعاصرة من إلقاء فائض البن مثلاً في البحر.

ولم يستثن الفقهاء المسلمون من مبدأ الوفاء بالعهد إلا عقود الهدنة الحربية مع العدو عند توافر القرائن القاطعة على تحركات جيشة المريبة، والاستعداد لحرب جديدة، أو حال المعاملة بالمثل وحال نقض العدو المعاهدة من جانب واحد، وذلك لقول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(

(لأنفال:58) أي إن قامت القرائن على خيانة العدو عهده، نقض العهد وأعلم العدو بالنقض حتى يكون المسلمون وغيرهم متساوين في العلم بذلك.

وصرح فقهاء الحنفية بأن الهدنة لا تنتقض إلا باتفاق العدو على نقضها، أي لا عبرة بنقض الأفراد(15).

والإلزام القرآني باحترام العهود والمواثيق هو من أجل إقامة حالة سلم ثابتة تقوم على أقوى الدعائم، سواء في الداخل أو الخارج.

والبراهين على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق متوافرة متضافرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.

فمن آيات القرآن: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ( (النحل:91)، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً( (الاسراء:34)، ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ( (التوبة:4)،

( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ( (التوبة:7)، أي إن الوفاء بالعهد من أصول الإيمان، وهو شأن المؤمنين خلافاً للمنافقين، لقوله تعالى في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ( (الرعد:20) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ((البقرة:177).

ومن الأحاديث الصحيحة في احترام العهود: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»(16)، «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة»(17).

بل إن الإسلام ألزم بالوفاء بأحلاف الجاهلية ذات الطابع الخير والإنساني الرفيع، فقال عليه الصلاة والسلام: «أوفوا بحلف الجاهلية، فإنه لا يزيده – أي الإسلام – إلا شدة، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام»(18) أي إن الإسلام يقر التعاهد علىنصرة الحق والخير أياً كان مصدره، ويمنع التحالف على الشر والفتنة، والقتال القبلي، والعدوان الهمجي.

ولا يسمح الإسلام بالإخلال بالعهود أو الغدر، حتى ولو غدر العدو بالمسلمين وقاعدة الفقهاء في ذلك: «وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر»(19) وهذا مأخوذ من قول أبي عبيدة الجراح حين غدر الروم بالمسلمين، فأمر ألا يعاملوا بمثل أفعالهم.

وجاء في الحديث «في العهود وفاء لا غدر»(20).

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 - القانون الدولي العام، أ.د. علي أبو هيف، ص 206.

2 - وهي أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة) وروسيا (الاتحاد السوفياتي سابقاً) وبريطانيا، وفرنسا، والصين الشعبية الآن، والصين الوطنبة سابقاً.

3 - أصول القانون الدولي أ.د. حامد سلطان، وعبدالله العريان: ص 583، أبو هيف، المرجع السابق.

4 - السيادة: خاصية أو صفة تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، ومقتضاها أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسمو عليها شيء، ولا تخضع لأحد، وهي سلطة أصلية لا تستمد وجودها من سلطة أخرى، ولها مظهران: أحدهما السيادة الخارجية المرادفة للاستقلال، والثاني السيادة الداخلية وهي سلطة الأمة في تنظيم شؤونها الداخلية الخاصة.

5 - أخرجه الترمذي.

6 - شرح الزقا على موطأ مالك، ط الاستقامة بمصر، تنوير الحوالك على موطأ مالك 2/6.

7 - تفسير المنار للشيخ رضا: 2/256.

8 - أخرجه الإمام أحمد وغيره.

9 - تسمى «غزوة» في الاصطلاح الشرعي: وهي كل ما شارك النبي نفسه في القتال مع بقية المسلمين.

10- بحث أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة في المجلة المصرية للقانون الدولي عدد (1958): ص 8، والقانون الدولي العام في الإسلام لـ أ.د. محمد عبدالله دراز: ص 6، آثار الحرب – للباحث : ص 90.

11 - فتاوى ابن الصلاح مخطوط في دار الكتب المصرية: ق 224.

12 - تفسير الرازي 4/ 390، تفسير النار 10/ 108 وما بعدها.

13 - أخرجه أبو داود والبيهقي.

14 - وهو حديث حسن.

15 - شرح السير الكبير 4/ 6 الفتاوى الهندية 4/197، تبيين الحقائق للزيلعي 3/346.

16 - أخرجه أحمد وابن حبان عن أنس بن مالك، وهو حديث صحيح.

17 - أخرجه أحمد ومسلم عن علي(رضي الله عنه).

18 - أخرجه أحمد والترمذي.

19 - مغني المحتاج 4/362.

20 - أخرجه أبو داود.

المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=641&SearchSt...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك